يتابع محرر (الكلمة) مشاهداته لمسرحيات مهرجان أفينيون هذا العام، ويتوقف عند التجربة الصينية التي كانت من المحاور المهمة فيه، في حوار مع التجربة الروسية مرة والتجربة التشيكية أخرى. وعند عرض عن التجربة الكوبية لمسرح الوثيقة الحية، مما يجعل تفكيك التجربة الاشتراكية قاسما مشتركا بين تلك العروض.

مهرجان أفينيون المسرحي الثالث والسبعون

حضور الصين القوي .. وتفكيك التجربة الاشتراكية

صبري حافظ

 

كانت الصين مدار تركيز مجموعة من الاعمال التي استضافها المهرجان من الصين أو من غيرها من البلدان، ولكن كانت الصين هي مدار اهتمام العرض ومركز الثقل فيه. أهمها بالقطع هو العمل الذي جاء من الصين مباشرة، وهو: (بيت الشاي La Maison de The) الذي يعتمد على أحد أبرز نصوص المسرح الصيني للاو شي (1899-1966) Lao She، والذي أعده وأخرجه منج جينغهوا Meng Jinghui. وهو عرض يستغرق أكثر من ثلاث ساعات ويؤكد أن الصين لا تصعد في الاقتصاد والتكنولوجيا وحدهما، وإنما في الثقافة والقوة الناعمة أيضا. وقد عشت مع هذا العرض المدهش تجربة جديدة سأشارك القارئ معي في تفاصيلها. وكان هناك عرضا صينيا آخر بعنون (أناس عاديون Ordinary People) أعدته الصينية وين هوي Wen Hui مع التشيكية يانا سفوبودوفا Jana Svobodova. هذا بالإضافة إلى عمل ثالث جاء من موسكو بعنوان (في الخارج Outside) وأعده وأخرجه كيريل سيريبرينيكوف Kirill Serebresnnikov، ولكنه عن الصين بشكل مغاير. حيث يدير فيه حوارا مع أعمال الفنان/ المصور الفوتغرافي الصيني رين هانج Ren Hang الذي صوّر حياة المدينة وعرى أشخاصها، بطريقة تكشف عن الجوع للحرية، وعن الرغبة في التحدي والخروج على الأنساق والأعراف المهيمنة في هذا البلد الكبير والعريق، حتى في تصويره الطبيعة بطريقة جديدة هي الأخرى.

بيت الشاي .. بيت الصين:
لكن دعنا الآن نتريث قليلا عند هذا العرض الصيني الجميل والمدهش (بيت الشاي) والذي تعرفت معه على أحد أدوات التقنية الجديدة التي تتيح الاستمتاع بأي عرض أجنبي، وتجهز بالترجمة على حاجز اللغة، دون أن تنال من التركيز على الجانب المشهدي والبصري في العرض. هذه التقنية الجديدة التي تعرفت عليها هنا لأول مرة هي «نظارة الترجمة»، والتي لابد من استئجارها بعشرة يورهات لاستخدامها في العرض وإعادتها بعده. فقد أتاحت تقنيات الواقع الافتراضي، والتي تعرفت من قبل على جوانب منها في بعض معارض الفن التشكيلي التي شاهدتها مؤخرا في أوروبا، أن تدخلك إلى مرسم الفنان التشكيلي وتتيح لك التجول فيه وأنت واقف في المعرض أمام إحدى اللوحات، وقد سجلت رسمه لها. وقد تم تطوير هذه التقنية الآن كي تخدم العرض المسرحي.

وعندما تستأجر هذه النظارة فإنك تستطيع أن ترى فيها ترجمة فورية لما يقال على الخشبة. وكانت الترجمة متاحة في هذا العرض الصيني باللغتين الفرنسية والانجليزية فضلا عن لغة النص الصينية. وتتيح لك النظارة لا اختيار اللغة فقط، وإنما حجم حرف الترجمة، ولون الخط المكتوبة به، ومكانها فوق أو تحت المشهد. بصورة لا تحرمك من متابعة المشهد وأنت تقرأ الترجمة التي كانت تكتب غالبا فوق الخشبة أو على جانبيها كما هو الحال مع الأوبرا وغيرها من العروض التي تمثل بلغة غير لغة المشاهدين. حيث يتوزع انتباه المشاهد بين ما يدور على الخشبة، وبين قراءة الترجمة التي يصرفه النظر إليها فوق الخشبة عن مشاهدة ما يدور عليها، كما هو الحال مع هذا العرض لمن لا يستخدم نظارة الترجمة. أما بعد تجربة هذه النظارة فإنني أبشر بسرعة انتشارها في العروض الأجنبية، لأنها لا تحرم المشاهد من متابعة ما يدور بالمشهد وهو يقرأ الترجمة بأي حال من الأحوال. وقد مكنتني هذه النظارة من الاستمتاع بمشاهدة العرض الذي أنفق المخرج الكثير من الجهد في بلورة أبعاده البصرية والحركية، وقراءة ما يقوله الممثلون مترجما دون أن أرفع عيني عن المشهد كما هو الحال في الترجمة القديمة المتاحة فوق الخشبة.

ويعتمد عرض (بيت الشاي) الذي يستغرق أكثر من ثلاث ساعات ونصف، على نص مسرحي صيني شهير للكاتب الصيني لاو شي. والواقع أن أهمية كاتب النص الذي يعد أحد أبرز أعلام الأدب الصيني الحديث في القرن العشرين، فقد كتب القصة والرواية والمسرحية، وأمضى عشرين عاما من حياته (1940-1964) في العمل بالمسرح والكتابة له، حيث كتب له أكثر من عشرين مسرحية، بالإضافة إلى ثلاث أوبرات صينية. وتُرجمت أعماله الروائية خاصة منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى اللغة الانجليزية وحققت فيها رواجا كبيرا. أقول أن أهمية الكاتب والنص كانت أول عناصر قوة هذا العرض، خاصة وأن (بيت الشاي) من أشهر مسرحياته وأكثرها شعبية. لأنه يتناول فيها ثلاث مراحل مختلفة من تاريخ الصين منذ 1898 وعصر الامبراطور الصيني الأخير من دولة قينج Qing dynasty، مرورا بالاستعمار الياباني والثورة عليه ومقاومته، وصولا إلى الزحف الطويل وانتصار الثورة الصينية الشيوعية عام 1949.

وتدور أحداث المسرحية، التي يمكن اعتبارها مسرحية تاريخية، في «بيت الشاي» المسمى Yu-tai في بيكين القديمة، وهو أقرب مكان للمقهى الشعبي، حيث يتردد عليه الجميع لشرب الشاي الصيني، وللتجمع وتبادل الأخبار والأحداث، وهو مقهى يملكه وانج ليفا Wang Lifa ويتردد عليه مجموعة من الناس دائما كما هو حال رواد بعض المقاهي المنتظمين، بينما يمر عليه الكثير من العابرين. وتتخذ المسرحية من المكان ركيزة لرواية التحولات التي مرّ بها المجتمع الصيني على مد نصف قرن من الزمان بما فيها من عنف وعناصر دموية.

وتنقسم المسرحية إلى ثلاثة فصول، يدور كل منها في مرحلة من المراحل الثلاثة التي مرت بها الصين على مد نصف قرن. حيث يدور الفصل الأول في عام 1898 في ذروة فترة إصلاحات المئة يوم التي أنجزها الامبراطور الصيني الأخير من دولة قينج، وما أحدثته تقشفاتها من آثار، وكيف أنها لم تمنع أبناء المؤسسة الامبراطورية المناوئين لها من الثراء على حساب الغالبية التي ازدادت فقرا. وكيف تأثر رواد المقهى والعابرين فيه بإغراق السوق بالبضائع الأجنبية الرخيصة، وما أنتجته من بطاله، وأسوأها بالطبع الأفيون. وكيف عانى الفلاحون في الأرياف، واضطر بعضهم إلى إعلان إفلاسهم، بل وبيع أبنائهم وبناتهم.

أما سكان العاصمة فقد أخذوا يزدادون ثراء. وهناك مشهد دالٌ في هذا القسم يسعى فيه كبير خصيان القصر الامبراطوري لشراء بنت أحد الفلاحين الجميلة زوجة له. وقد حاول بعض رواد «بيت الشاي» الحديث عن ضرورة الإصلاح ودعم سياسات الإمبراطور ضد الحاشية الفاسدة، ولكن حديثهم كان يقابل باللامبالاة من المؤسسة التي ازداد تماسكها وعنفها بعدما انقضت على إصلاحات الإمبراطور وحاصرته. وحاول البعض الآخر البحث عن خلاص من خلال إنشاء المصانع، وتصنيع الصين بشكل واسع، وهو ما ينادي به قن Qin، صديق مالك المقهى المقرب، الذي يريد أن يملأ الصين بالمصانع، وهو الأمر الذي يعد استشرافا باكرا لما جرى للصين بعد نصف قرن من كتابة المسرحية. ويكشف لنا هذا الفصل عن تعاظم قوة الشرطة السرية الإمبراطورية، وانتشار الخوف، واستشراء العصابات، وتعاظم النفوذ الأجنبي، مما أدى بالطبع إلى نهاية الإمبراطور.

ويبدأ الفصل الثاني بعد عشرين عاما من بداية الفصل الأول، أي قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعد تأسيس الجمهورية الصينية الأولى عام 1912 بعدة أعوام وما عاشته الصين في سنوات تلك الجمهورية من تخبط وانقلابات عسكرية. لذلك كان طبيعيا أن حالة الناس لم تتحسن أبدا، بل ازدادت سوءا عما كانت عليه في زمن الإمبراطور. ونشاهد كيف يحاول صاحب «بيت الشاي» وانج ليفا بشتى الطرق الحفاظ على مقهاه مفتوحا، والتواؤم مع حراك الزمن الجديد الذي اندلعت فيه الحروب الأهلية بين الميليشيات العسكرية والمناطق، وعمت فيه الفوضى، وغاب القانون ولكن دون جدوى. غير أننا لا نخطئ أجنة الثورة على كل ما يدور بين جيل جديد من الشباب الذي يتململ مما يراه، ويرفض الواقع الراهن برمته. ويحلم بعالم جديد من الوطنية الصينية، يسود فيه العدل وتزدهر الديموقراطية.

وينتقل بنا الفصل الثالث مرة أخرى عدة عقود إلى الأمام، وقرب نهاية الحرب العالمية الثانية. بعدما عاشت الصين ثماني سنوات مريرة من الحرب ضد الغزو الياباني لها، وما كاد الصينيون أن يتنفسوا الصعداء احتفالا بالنصر على اليابان، حتى بدأ الكومنتانج Kuomingtang حربا أهلية جديدة. مما جعل المناخ السياسي في «بيت الشاي» أكثر قهرا وعنفا واستشرى الفساد في كل مكان، وبدأت أنهار الدم تتدفق أمامنا على الخشبة. وبدأ رواد المقهى، حتى من لم يتململ منهم من قبل من كل ما عاشوه من قهر وفساد يعبر عن ضيقه ورغبته في التغيير. وبلغ هذا التعبير ذروته، كما حدث في الفصل الثاني، بين الطلاب والشباب. أما صاحب «بيت الشاي» وانج ليفا والذي بلغ السبعين من العمر، فإنه يصل إلى حضيض من القهر واليأس يدفعه إلى الانتحار.

هكذا تقدم لنا المسرحية في فصولها الثلاثة دراما التحولات الصينية، وجرعة لا بأس بها من تاريخ الصين الحديث. حيث نتابع ما جرى للشخصيات من تحولات درامية ترودها اختياراتهم، الصائبة حينا، والخاطئة أحيانا، منذ السنوات الأخيرة لآخر امبراطور من أسرة قينج وتأثير إصلاحات أيامه المئة الشهيرة، وكيف تبدل تلك الإصلاحات بعض المصائر بينما تطيح بأخرى. ثم نتابع ما جرى أثناء الحروب الأهلية التي أعقبت سقوط الإمبراطور، ومصائب الغزو الياباني للصين، وحروب المقاومة لهذا الغزو ثم تلك الحروب التي عاشتها الصين في حلمها بالتغيير الذي لم يتحقق إلا مع الثورة الصينية وتأسيس جمهورية الصين الشعبية بعد فرار الكومنتانج إلى جزيرة فرموزا وتأسيسه لتايوان. وقد اتاح له استخدام مجموعة من رواد المقهى الدائمين، وما يدور في حياتهم مرآة للتعبير عما جرى للصين نفسها، ففي المسرحية سبعين شخصية، بعضها أساسي وكثير منها عابر. صحيح أنه كان لابد له من التركيز على بعض الشخصيات والأحداث من مالك بيت الشاي نفسه، وانج ليفا، وما تتسم به شخصيته من مرح وانتهازية معا، إلى صديقه المقرب قن Qin، الذي يريد أن يملأ الصين بالمصانع، وهو الأمر الذي انتُقدت المسرحية بسببه لأنه رأسمالي، وأهين كاتبها أثناء أحداث الثورة الثقافية، والعجوز تشانج Chang الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة، كما كان أبوه وجده، والذي يحظى بحب الجميع. ناهيك عن مجموعة الشباب التي تمثل روح الثورة والتغيير والتي لم تخمد أبدا في هذا البلد الكبير.

وتعد تلك المسرحية، في عرضها الصيني الذي جاء إلى أفينيون، جدارية تعبيرية، لا تفتقد لروح الدعابة والشاعرية، لواقع الحياة في الصين. حيث تعد ممثلة للدراما الواقعية، أو حتى للواقعية الشعرية في المسرح التي تمزج مفردات الأوبرا الصينية في التمثيل الإيمائي وتقنيات المسرح الواقعي، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالواقعية الاشتراكية التي كان يدعو لها كُتّاب الحزب. وهذا ما يفسر النهاية المأساوية لحياة الكاتب بعد إهانته على أيدي متحمسي الثورة الثقافية، مما دفعه للانتحار. جدارية تستخدم المقهى كمنطلق للتعبير عما وراءه من واقع اجتماعي وتاريخي معقد. إنه من هذه الناحية عمل أقرب إلى أعمال نجيب محفوظ المختلفة التي تستخدم المقهى منطلقا للحكايات التي تلخص الواقع الذي يصدر عنه ويسعى للتعامل معه. لكن تعامل المسرح مع هذا المكان يختلف عن تعامل الرواية بالطبع. فقد استخدم المخرج عجلة عملاقة قطرها عدة أمتار، وعرضها أيضا عدة أمتار بالصورة التي تتكون فيها خشبة مسرحية، تطل علينا داخل الخشبة التي تدور على مستوياتها المختلفة الكثير من الأحداث.

فنحن هنا بإزاء أكثر من خشبة مسرحية، وأكثر من مستوى يدور فيه التمثيل في نوع من الوعي بتراتبيات المكان المسرحي الضخم ودلالات تلك التراتبات. خاصة وأن العمل يدير جدلا بين الفضاءات الثابتة والمتحركة فيه، لأن العجلة الضخمة التي تفرض وجودها على المشهد، وقد ظلت ثابته في الفصلين الأولين من العمل، سرعان ما تدور في الفصل الثالث من العرض، بصورة ينقلب عاليها إلى أسفلها، وتنزاح مع تقلباتها، كتقلبات الزمن وتصاريفه، قطع الأثاث ويتناثر ما عليها أوراق ووسائد، وحتى الاشخاص، يعصف بهم هذا الدوران. أم تراه دوار الزمن الذي لا يرحم! فبيت الشاي هو الفضاء الذي تتفاعل فيه مختلف شرائح المجتمع وطبقاته. وهو الفضاء الذي نرى عبره تحولات المجتمع الصيني على مرّ تلك المراحل الزمنية المختلفة. فبينما تتحرك عجلة الزمن نتيجة لانقلابات التاريخ وصدماته الصعبة، فإن الإنسان يسعى دوما لتحقيق صبواته في المزيد من الربح تارة والمزيد من السلطة أخرى. لكن أهم ما أحسست به في هذا العرض بإمكانياته الحركية والبصرية العملاقة وحيله البصرية التي استطاعت تجسيد حمامات الدم التي عاشتها الصين على مد تلك الفترة، وكيف تختلف كل منها عن الإخرى مما يحتم اختلاف حيل نزيف الدم في كل منها، هو أن الصين تتقدم أيضا على الصعيد الفني. وتعي هذا التقدم وتشهره في وجه المشاهد. بدءا من استخدام تقنيات الأوبرا الصينية في القسم الأول الذي دار في زمن آخر امبراطور، مرورا بتغير تقنيات العرض والتمثيل معا في القسم الأوسط، وصولا إلى أبرز استراتيجيات الفنون الاستعراضية الحديثة في المسرح الغربي في القسم الأخير الذي يستشرف مستقبل الصين وحلمها بزمن جديد ومغاير لكل ما مرت به.

في الخارج .. أقصى حدود الاختلاف:
كان من صدف ترتيب مشاهدتي لمسرحيات هذا المحور الصيني، أنني شاهدت عرض (في الخارج Outside) الذي جاء من موسكو، وإن كان عن الصين، وأعده وأخرجه كيريل سيربرينيكوف Kirill Serebresnnikov، بعد مشاهدتي لـ«بيت الشاي». وهي مصادفات قد تلعب دورها في عملية التلقي والتأويل. فقد بدا لي ذلك العرض وكأنه امتداد لما أرهصت به المشاهد النهائية في «بيت الشاي» والعجلة الضخمة تقلب كل شيء بلا رحمة قرب نهاية العرض. فها هي نتائج بعض أقصى تقلباتها توحي لمسرحي روسي متمرد، خرج الممثلون في نهاية العرض وهم يتلقون إعجاب الجمهور وكل منهم يحمل دعوة لتحريره من فرض الإقامة الجبرية عليه ومنعه من السفر. ذلك لأن سيربرينيكوف، وهو مخرج روسي أثبت قدراته الإبداعية في الإخراج المسرحي والسينمائي والأوبرالي على مد سنوات هذا القرن الجديد، ويدير حاليا مسرح جوجول في موسكو، من الفنانين الذين يعبرون عن آرائهم الاجتماعية والسياسية بجرأة صادمة. حيث يشجع حقوق المثليين، ويعارض ضم جزيرة القرم لروسيا بعد استردادها لها من أوكرانيا، كما ينتقد بعض سياسات بوتين. ولهذا تحقق معه سلطات بوتين بتهم مثل اختلاس أموال من ميزانية المسرح الذي يديره، أو تبديد المنحة التي قدمتها الدولة لمسرحه، وتستخدم مثل تلك التهم لتحديد إقامته ومنعه من السفر. حتى ولو تعلق الأمر بتمثيل المسرح الروسي في أكبر مهرجانات المسرح الأوروبي المعاصر.

أما المصور الفوتغرافي والشاعر الصيني رين هانج (1987-2017) الذي انتحر قبل أن يكمل عامه الثلاثين، فإنه لا يقل خلافا وإشكالية عن المخرج الروسي الذي أراد الحوار المسرحي مع صوره وأشعاره. فقد ولد في أحدى ضواحي تشانجتشون Changchun بمقاطعة جيلين Jilin في شمال شرق الصين الفقير نسبيا. ومع ذلك أتاحت له الانترنت، وفنون ألعاب الفيديو التي تعرض لها منذ صباه أفقا مغايرا لما يحيط به، وثقافة مختلفة يبحر في أمواجها دون دليل. حيث أمضى سنوات تعليمه في مقاطعته، وتخصص في فنون الدعاية حتى عام 2007، وهو العام الذي اشترى فيه أول كاميرا، وبدأ يلتقط بها صور أصدقائه متأثرا بمصور فوتوغرافي ياباني معروف هو شوجي تيراياما Shūji Terayama (1935-1983) الذي بدأ حياته بكتابة الشعر والمسرح، ولكن إبداعه في التصوير الفوتوغرافي هو الذي ترك تأثيرا كبيرا على المشهدين الشعري والسينمائي في اليابان في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. غير أن الكثيرين ممن تناولوا أعماله في الغرب يربطونه بالمصور الأميركي المشهور روبرت ميبلثورب Robert Mapplethorpe (1964-1989) في نوع من التناظر لتقريب عالمه للمشاهد الغربي، فليس ثمة ما يؤكد معرفة هانج بعالم هذا المصور الأمريكي المشابه في بعض صوره الجريئة لعالمه.

وقد بدأ هانج حياته الإبداعية مثل تيراياما بكتابة الشعر، ثم اتجه للتصوير بداية بتصوير زملاءه في السكن أثناء لحظات عريهم. وبالتدريج بدأ يعيد ترتيب الأعضاء العارية في أوضاع يسعى لأن تخلق صورها الشعرية الفريدة. فقد كان يستخدم الكاميرا وكأنها أداته الجديدة لكتابة قصائد من نوع مختلف. وبالتدريج أصبح التصوير هو أداته للتعبير عن رؤاه، وكسر التابو الذي يربط بين الجسد العاري والعار في الثقافة الصينية، في نوع من الاحتفاء بجماليات الجسد العاري. حيث أدار بالجسد العاري حوارا مع الطبيعة المحيطة به، سواء أكانت في الشواطئ أو الغابات، أو على سطوح البنايات العالية.

واستطاع أن يخلق من خلال التجاور والتحاور بين الجسد البشري العاري، وهو في ألق شبابه وطزاجته، وما يشكله من هشاشة وصدمة معا لما يتحداه من الروادع التقليدية والأخلاقية على السواء، والمدينة المشاهدة من علٍ تكوينات بالغة الجدة والقدرة على التعبير. حيث نرى سطوح عماراتها العالية، وقمم غاباتها الخرسانية، أو بالأحرى الفولاذية والزجاجية كما هي الحال في مدينة شنغهاي التي ولع بالعمل فيها، وقد استحالت إلى خلفية مثيرة للجسد البشري العاري.

إنه شعر بصري وعمل بلا حدود لا نجد فيه التراتب القديم بين الرجل والمرأة، وإنما استكناه الجسد البشري وإمكانياته ونزعاته الشبقية كجزء من الطبيعة الأوسع حوله. صحيح أن البرنوجرافيا ممنوعة في الصين منذ عام 1949، ولكن من الإجحاف تصنيف أعماله تحت هذا البند. إنها أعمال تعبر عن جوع الجيل الجديد لتحدي تابو العري في الثقافة الصينية. لأننا بإزاء مصور فوتوغرافي يقدم لنا نوعا خاصا من الطبيعة الصامتة، ويرتب مفردات اللوحة، بنفس العناية التي اهتم بها الرسامون الكبار بترتيب مفردات لوحات الطبيعة الصامتة. لكن من منطلق جديد، ولغايات جمالية واجتماعية مختلفة. فنحن هنا بإزاء صور تنطق بالتمرد والوحدة معا، بالحلم بالحرية والتوق للانفلات من أي قيود. مثل قصائده المترعة بالحزن والوحدة والرغبة الشبقية العارمة، فهو يكتب الشعر بالكلمات، كما يكتبه بالكاميرا أيضا. وأخذت أعماله تحظى باهتمام معارض الفن في عدد من البلدان الأوروبية، كما نشرت دار تاشين Taschen المتخصصة في نشر كتب عن مشاهير الفنانين كتابة عنه ضمّ عددا كبيرا من لوحاته.

أما العرض المسرحي فقد بدأت فكرته حينما وقع الكتاب الذي نشرته دار تاشين لأعماله في يد المخرج الروسي سيريبرينيكوف، فطلب من ممثلة صينية تعمل معه في مسرح جوجول الاتصال به. وبدأ الحوار معه لخلق عمل مسرحي يستوحيه من أعماله. وتواصل الاتصال به طوال عملية خلق هذا العمل عن بعد، وما أن دبرا اللقاء معا في الصين، حتى انتحر رين هانج الذي كانت تنتابه موجات من القنوط والقهر والاكتئاب، لأنه بدأ يشعر تدريجيا، وخاصة بعدما أخذت السلطات الصينية في الاعتراض على أعماله التي لم يكن لها أي مضمون أو منحى سياسي، بأنه مطارد. وقد ترك انتحاره الذي حدث قبل استكمال العمل بصماته على العرض الذي لفّه الحزن وسيطرت عليه هواجس الموت والاضطهاد.

حيث يخبرنا المخرج بأن كل ما يحدث على الخشبة مستوحى من لوحات رين هانج أو من قصائده. وخاصة من عالمه الشعري وما كان يدونه على صفحته في الفضاء الالكتروني من تأملات مترعة بالحزن والوحشة، بالرهافة والبراءة أو حتى السذاجة، وتصوير العالم كمكان محبط كئيب، ولكنه مترع بالمفارقات المدهشة. وهي نصوص بدأت تلقى الاهتمام الجدير بها، وتظهر لها أكثر من ترجمة في عدد من اللغات الأوروبية. فما نشاهده على المسرح، فور أن ندخل للقاعة هي واحدة من لوحات رين هانج التي تصور جسدا عاريا على حافة سور أحد أسطح العمارات الشاهقة، ومن ورائه قمم تلك العمارات وأحراش المدينة الحديثة. وهو المشهد الذي ستنبثق منه أولى لوحات هذا العرض أو بالأحرى هذا التجسيد الدرامي لعدد من لوحات هانج، وهي تتخلق وتتحرك أمامنا على الخشبة في تتابع محسوب.

فالمخرج يعي أن ما يقدمه عالم هذا المبدع الصيني هو إطلالة على عملية التغيير الجذري التي تنتاب الفنون في قرننا الجديد. حيث يتخلى الفن عن العلاقات الرأسية التي كانت تحكم بنية العمل الفني بتراتباتها المحسوبة، والمبنية على علاقات جدلية مع الواقع، ويسعى إلى خلق مجموعة من الروابط الأفقية المتشعبة وعلاقات التجاور والتراكب بين المشاهد التي تبدو وكأنها لوحات منفصلة/ إبيسودات. وهو الأمر الذي يردنا في كثير من الأحيان إلى أفكار جيل ديلوز عن التشريش Rhizome والجذور التي تتمدد وتنبثق عنها تحويرات وولادات جديدة، ومفهومه الموازي عن التجميع والتركيب Assemplage الذي يرتبط بمفهومه عن اليوتوبيا. فمفهوم التجميع والتركيب عند ديلوز هو بنية قابلة لبلورة التجاور، وحتى الاتصال والضرورة، دون التناقض بينهما. لأن التركيب فيها قادر على تجسيد انزلاق نسق من التفكير إلى وهاد النسيان مع انبثاق نسق آخر من الهيمنة دون أن يبرر هذه الحركية بالتتابع أو التراكم أو النفي؛ وإنما ببلورتها كنوع من التبني الضمني لما يقرب من مفهوم باختين عن تعدد الأصوات في روايات ديستويفسكي.

بنفس هذا المنطق الديلوزي تتخلق اللوحات وتتشعب تجلياتها على المسرح بطريقة لا تتخلى عن أهمية المفارقات التهكمية في تخليق الدراما من ناحية، وتكشف عن تطورات العمل المسرحي المدهشة، وهي تستخدم الفضاء المسرحي حركيا وتشكيليا/ بصريا وسمعيا بطرقة مبهرة من ناحية أخرى. وفي خلق تكوينات فريدة قادرة على سبر أغوار العلاقة المعقدة بين الإنسان والجسد، وتجسيد توق الجسد الحسي للخروج على مواضعات الجنسانية الثابتة، وتخليق جسد بأربعة أرجل مثلا، أو المزج بين جسدين في تناغم تشكيلي فريد.

ويحاول المخرج أن يجسد في تلك اللوحات التناقض الذي يعمر كتابات رين هانج ولوحاته بين الإحباط المبكر والذي أدى به للاكتئاب ثم بالتالي للانتحار وهو في شرخ الشباب، ورغبة الشباب العارمة في الحياة والتحدي وطرح الجمال والحب والحرية في مواجهة القهر والقيود. فالحرية كلمة مفتاحية في شعر رين هانج وفي العرض الذي أبدعه سيربيرنيكوف عنه معا. كما أنه يختبر في كثير من اللوحات علاقة الإنسان المعاصر الخارج من بوتقة قيود النظم الاشتراكية القديمة وتحكماتها العتيقة في كل شيء، مع المدينة الحديثة التي لا تقل أحراشها غرابة وحوشية عن أحراش الغابات والأصقاع القديمة التي لم يسمع فيها وقع لقدم بشرية من قبل. صحيح أن المصور والشاعر الصيني قال أكثر من مرة أنه ليس لديه أي اهتمام بالسياسة، وحاول أن يبتعد عن عوالمها المباشرة قدر الإمكان، لكن جرأة تعامله مع الجسد ومع العلاقات الجنسية سواء بين الجنسين أو بين أفراد الجنس الواحد هي التي أدت إلى الصدام بينه وبين المؤسسة السياسية في بلاده.

لذلك لم يكن غريبا أن ينطوي العرض المسرحي المأخوذ عن أعماله على الكثير من الرؤى السياسية، لأن المسرح من أكثر الأجناس الفنية سياسة لأنه وهو يجسد العلاقات البشرية على الخشبة يُدخل المشاهد في علاقة تفاعل مباشرة مع ما يدور أمامه بشكل ملموس، ومع ما يعيشه هو نفسه في حاضره الذي يرجّع الكثير من أصداء ما يدور أمامه، أو يسترجع أمشاجا من ماضيه. صحيح أن هناك بعض المشاهد المتخيلة التي تفترض لقاء هانج مع روبرت ميبلثورب، لكن هذا المشهد أو اللوحة المتخيلة تنطلق من تكرار الربط بين أعمال المصورين في المخيال الغربي. ولا تنال من الجدل المستمر بين اللوحات التي تتجسد على الخشبة وما تستثيره في المشاهدين من تأملات وأفكار.

أناس عاديون برغم بعد المسافات:
كان العمل الأخير الذي شاهدته من أعمال هذا المحور الصيني هو (أناس عاديون Ordinary People) الذي أعدته الصينية وين هوي Wen Hui مع التشيكية يانا سفوبودوفا Jana Svobodova. وهو عمل يعتمد على مسرح المساحة الخالية التي يعمرها الممثلون ويحيلونها مع بعض الأدوات البسيطة إلى عالم كامل من الرؤى والتشكيلات والدلالات. فكل منهما تكتب المسرح وتخرجه، وقد تعرفا على بعضهما أولا في براغ حينما قدمت وين إليها بأحد أعمالها لعرضه هناك، ثم دعت جانا إلى مهرجان المسرح المستقل الذي تنظمه في بكين، وقد جاءت إليه يانا بمسرحيتها، وطوال هذه اللقاءات المهنية المشتركة اكتشفتا أن هناك الكثير من العناصر المشتركة بينهما. فكل منهما نشأت في ظل الحكم الشيوعي الشمولي، وأيديولوجيته الصارمة، وقبضته الحديدية على الرؤى والأفكار؛ ثم تفتحتا فنيا ومسرحيا مع التغيرات الجذرية التي انتابت مجتمعيهما، فنحا كل منهما، الصين والجمهورية التشيكية، نحو التحرر والتغيير كل بطريقته المختلفة. وهو الأمر الذي خلق نوعا من التناظر بين تجربتيهما في الحياة والمسرح معا، حيث تهتم كل منهما في مسرحها بالجوانب الحسية والحميمية في حياة أبناء وطنها، وتدعو في أعمالها المسرحية إلى الحرية والتغيير، دون أن ينال هذا التناظر مما فيهما من تغاير. ولهذا فقد قررتا العمل معا على عرض مسرحي مشترك. عمل ينطلق من شغفهما المشترك بوضع قصص حقيقية على خشبة المسرح.

وين هوي                                                  يانا سفوبودوفا

وقد انطلق العرض من ملاحظة يانا لجملة مهمة قالها رئيس الجمهورية التشيكية الحالي، ميلوش زيمن، في زيارته للصين: «إنني لم أجيء لأعظ الصين عن حقوق الإنسان، وإنما لأتعلم من الصينيين كيف أعزز النمو الاقتصادي، وأرسخ النظام الاجتماعي، وأخلق وظائف أكثر للناس العاديين». ونقلت هذه الملاحظة إلى وين التي كانت تشيكوسلوفاكيا بالنسبة لها هي فاسلاف هافل (1936-2011) Vaclav Havel ومسرحه وثورته المخملية. وانطلق عملهما من التساؤل: من هم هؤلاء «الناس العاديون» الذي يتحدث عنهم السياسيون؟ ماذا يعني أن تكون إنسانا عاديا؟ هذا هو السؤال الذي يحرك العرض والذي بدأ يصوغ بنية سرده الدرامي، وتلاحق مشاهده. فحينما ندخل إلى المسرح نجد خشبة عارية نسبيا، عليها حاجزان من حواجز الطرق المعدنية، التي عادة ما توضع بين «الناس العاديين» والأحداث. وبعض الصناديق الضخمة التي تنقل فيها معدات العروض والآلات الموسيقية ومبكرات الصوت، يستخدم بعضها كموائد، ثم بعض الصناديق الكرتونية المركونة بجوار الحائط والتي ستستخدم فيما بعد بطريقة مبتكرة.

ويبدأ العرض بمغن تشيكي وجيتاره، وهو يخبرنا كيف أنه عاد من الصين، وتجربته الشيقة فيها. وكيف أنه برغم زحام الملايين كان يقابل يوميا بابتسامات وتقبّل طيب له، ولهذا ألف أغنية عن هذه التجربة ويشرك المتفرجين فيها، بدعوتهم لترديد لزمتها معه. ثم يدعو زميله الموسيقي الصيني ويقدمه لنا، ويعزفان ويغنيان معا في نفس الوقت الذي يحرصان فيه على إشراك الجمهور. هكذا يكشف لنا العرض من البداية عن الكثير من استراتيجياته الدرامية، بدءا من تعرية العرض ووضع كل ما سيستخدم فيه من أدوات، والتي كانت تترك عادة في الكواليس، على الخشبة بطريقة تفكيكية، مرورا بأن التجربة التي ستعرض علينا تجربة حقيقية عاشها تشيكي في زيارته للصين، وصولا إلى أنه في البدء كانت الحواجز بين الناس العاديين وما يؤثر في حيواتهم من أحداث وسياسة، وحتى إشراك الجمهور فيما يدور أمامه بفاعلية، وطلب المشاركة في الغناء كمقدمة لمشاركة أهم في التفكيك والتأويل.

 

ثم تتابع إبيسودات العرض أمامنا، وبمنطق قريب من منطق ديلوز التجميعي التركيبي الذي أشرت إليه في تناولي للعرض السابق. وهي كلها مستمدة من تجربة الفريق المسرحي الذي يتكون من ممثلين من الصين يعملون مع وين في « ستوديو الرقص الحي» الذي تديره في بكين، ومن الجمهورية التشيكية وفريق العمل مع يانا، وما استقر في ذاكرتهم من أحداث. فالعرض يتكون من 4 صينيين: موسيقى رجل وثلاث نساء، ولا أقول ممثلات، لأنهن أقرب إلى الناس العاديين الذين يشركوننا في تفاصيل حياتهم وذكرياتهم. وموسيقي/ مغني تشيكي وأربعة تشيكيين آخرين معه: رجلان وامرأتان. وفي الصين يبدأ الموسيقي/ المغني التشيكي في التساؤل حول هويته كأوروبي، بل يبدأ بالبحث عنها وكيف تختلف حياته عن حياة زميله الصيني الذي يقول لنا في أغنيته أنه يذهب للمرحاض في الصباح، ويطلع على ما دونه أصدقاؤه على الفيس بوك في المساء، وكيف أنه لا ينتمي لهم ويعيش في شبه عزلة عنهم لأنهم يعتبرونه غريب الأطوار.

وتعقبه الممثلة الصينية التي تحكي لنا عن تجربتها في المسرح، وكيف أنه منذ أن دخلت الكاميرا إلى المسرح كعين مراقبة عام 2009 فقد المسرح بالنسبة لها أهميته كساحة للحرية. وكيف أنه بسبب كاميرات المراقبة تلك يتحول إلى صندوق كبقية الصناديق التي يحرص المجتمع على أن يضع كل فرد فيه في صندوقه/ مكانه وينزعج كثيرا حينما يخرج منه. وتليها صينية أخرى تحكي لنا عن كيف كانت أسرتها تصرّ على إدخالها معهدا للرقص وكيف أنها لم تشاركهم تلك الرغبة، ولكن كان عليها أن تدخل الصندوق الذي أعدوه لها. لكن رقصتها الحقيقية التي وجدت فيها نفسها، هي التي عاشتها في تجربة ميدان تيانمين الشهيرة عام 1989. وكيف ابتلعت الأرض صديقتها فجأة، لحظة اكتشفت تلك الصديقة أن هناك كاميرات تصورهم، فعادت إلى البيت لأن لديها طفل يحتاج إلى الرعاية.

هنا تتابع الإبيسودات التي تتحاور فيها الشخصيات التسع: الصينية والتشيكية في نوع من التناوب نتعرف فيه على مراحل تكوينها وتواريخ كل من البلدين مع النظام الشمولي والقمع. وقد حرص العرض، كما تقول لنا كاتبتاه، على ترتيب الإبيسودات المستمدة – في نوع من الكتابة الركحية التي بلورها المسرح التونسي – من ذاكرة فريق العمل المشترك من الصين والجمهورية التشيكية (ولد أكبرهم عام 1942 بينما ولد أصغرهم عام 1988) عن الأحداث السياسية المهمة في حياة كل منهم ترتيبا تاريخيا، تتكون عبره ما يمكن دعوته بالذاكرة الجمعية للأناس العاديين. وتتحول تلك التواريخ إلى مرايا تنشد خلق تناظر بين التجربتين الصينية والتشيكية، ونقد كل منهما لسلبيات التجربة الاشتراكية في بلدها.

وقد شعرت طوال هذا الجانب من العرض أنه لا يشير من قريب أو بعيد لمحاسن النظام القديم، وما كان يوفره من عمل مضمون وسكن وتعليم وثقافة؛ وإنما يركز على مسألة فقدان الحرية، ويحيلنا إلى ذكرى ميدان تيانمين والثورة المخملية والحرية الشخصية على الخصوص، وهي هنا حرية الشذوذ الجنسي الذي تقدم أحد الممثلات الصينيات تجربتها الصعبة معه، فقد ولدت عام 1992، واكتشفت وهي في الرابعة عشرة من عمرها ميولها المثلية، وتحكي لنا عن طبيعة الضغوط التي مارستها أسرتها كي تتزوج، رغم أنها سحاقية؛ وكيف تشعر وقد تخلت عنها أسرتها بأنها تحت ضغط باستمرار. في هذا المشهد استطاع العرض استخدام حاجز المظاهرات الحديدي وحده ببراعة لخلق المعادل البصري لما تقدمه لنا من وصف لأنها شاذة وتقلب معايير المجتمع، حيث نراها معلقة عليه ورأسها تحت وأرجلها فوق في وضع مقلوب ولكنه جمالي في تجريديته في نفس الوقت.

ويهتم العرض كما تؤكد يانا بدور الذاكرة في صياغة المستقبل وفي خلق الجسور بين الأجيال، وبين الثقافات في الوقت نفسه. ذلك لأن الجمهورية التشيكية تحتفل هذا العام بمرور ثلاثين عاما على الثورة المخملية 1989 وتحررها من أسر النظام الشمولي القديم، ومن قبضة الخوف الذي عاشته الأجيال التي نشأت قبل التحرر منه. لكن كثيرين من الشباب لا يتذكرون شيئا عن هذا التحول المهم في تاريخ بلدهم. وهذا ما دفعها إلى الوعي بمدى هشاشة الحرية، وضرورة التأكيد على أهميتها. وهو الأمر الذي جمعها مع زميلتها الصينية وين التي تعي ضرورة اليقظة لحماية كل حرية صغيرة تم اكتسابها.

والواقع أن هذا العرض حرص عبر تناوب إبيسوداته بين الصين والتشيك في عملية التركيب الديلوزية المرهفة، ومن خلال النسج والتضفير بين المشاهد المتتابعة على تحقيق نوع من التوازن بين وقائع التاريخ الاجتماعي والسياسي، وعدد من التجارب واللحظات الفردية الحميمة؛ وعلى بلورة ما يمكن دعوته بواجب إحياء الذاكرة الجمعية أو التاريخية. حيث من العسير الفصل بين الشخصي والاجتماعي، وبين الفردي والسياسي، في نوع من طرح دور المسرح الإبداعي في تكريس الحرية من ناحية، ومنع التاريخ من تكرار أخطاء الماضي من ناحية أخرى. وقد استطاع أن يحقق ذلك ببراعة حركية وبصرية وبأبسط الإكسسوارات، من خلال تقنيات مدهشة تستخدم الضوء والظل بحساسية. فقد استخدم مثلا مجموعة من عشرة صناديق كرتونية ضخمة خلق منها أمامنا عمودا طويلا ووراءه شخص يحرك الإضاءة التي يتحرك معها ظل العمود، وتتحرك في هذا الظل/ المجتمع الشخصيات، ومن تخرج منه تعاني من النبذ والتبكيت. كما تم استخدام نفس الصناديق بعد ذلك، ولكن بوضع كل صندوقين جانب الآخر، وخلق حائط عريض وبارتفاع خمس صناديق هذه المرة لا عشرة استخدمه في التجسيد البصري للرقابة وتكميم الأفواه، وحذف الجمل بوضع خط أسود عريض يقفل الفم، ويخفي ما يجب حذفه. وكان هناك أيضا التجسيد البصري للدم تحت سطح الغطاء الذي يغطي خشبة المسرح، وكيف يؤدي زحف الممثلة الصينية بمعاناتها فوقه إلى مسحه واختفائه، وغيرها من التقنيات المدهشة التي جعلت هذا العرض متعة بصرية في الوقت الذي قدم فيه زادا مسرحيا ومعرفيا للتأمل والتفكير.

 

وثائق درامية عن التجربة الكوبية:
كان العمل الآخر الذي شاهدته في دير الآباء الكرمليين، وأحسست أنه يتصادى مع (أناس عاديون) هو(الجدة وترمبون هافانا Granma les Trombone de la Havane) الذي قدمته فرقة ريمني بروتوكول Rimini Protokoll وهي فرقة سبق أن شاهدت بعض عروضها الوثائقية في مهرجانات سابقة، دار أحدها بمصر (المؤذن والراديو) عندما حاول وزير الأوقاف الأسبق توحيد الآذان، واستقدمت عددا من مختلف المؤذنين من القاهرة والأقاليم يروي كل منهم تجربته مع هذا الأمر عام 2010، وآخر جاءت به عام 2013 من نيجيريا بعنوان (ملائكة الأعمال في لاجوس). وها هي تجيء لمهرجان هذا العام بعمل من كوبا. حيث تسعى هذه الفرقة التي أسسها المسرحي السويسري الذي يعمل في برلين، ستيفان كايجي Stefan Kaegi، مع اثنين من زملائه عام 2000 إلى تقديم مسرح الحياة اليومية، أو المسرح الوثائقي. إنه نوع من المسرح الاستقصائي الذي يستخدم مجموعة من المقتربات والاستراتيجيات الدرامية في طرح أسئلته حول الواقع، ودعوة المشاهدين الأوربيين لتأمل ما يدور في البلدان الأخرى، وخلق جسور من الفهم مع أناسها العاديين.

وقد طور عرضه الأخير هذا في هافانا التي جاء منها بأربع شخصيات هي: دانيل وكريستيان وميلاجرو وديانا وهم جميعا بين (25-36 عاما) مازالوا يعيشون مع أسرهم، وبعضهم يعيش مع جدته أو جده. فهم كأغلب شبان كوبا يعانون من نقص المساكن. وهو أمر نعيشه جميعا في بلداننا العربية، ولكنه مستغرب في أوروبا؛ حيث يستقل الفرد بحياته الخاصة ما أن يتجاوز سن الرشد وأحيانا قبله. لكن ما شاقه في الأمر هو أن الجيل الجديد الذي عليه أن يصوغ مستقبل كوبا، يعيش سويا في نوع من التساكن الاضطراري مع الجيل الذي شكلت تجربته حاضرها، وشارك في ثورتها. لذلك فليس هناك خطر النسيان/ فقدان الذاكرة التاريخية الذي تشتكي منه المسرحية التشيكية في المسرحية السابقة. ولكن ربما هناك عكس هذا الخطر، وهو حضور الماضي الطاغي ودوره في التأثير على الحاضر، ناهيك عن التأثير على المستقبل، وربما تكبيله. ومن البداية كان في اختيار العنوان نوع من الجناس الذي يستخدم مفردة Granma وهي اسم السفينة التي استقدم عليها جد دانيل انصار الثورة الكوبية من المكسيك عام 1956 والذين كان لهم دور مهم في انتصار الثورة، ولكنها تعني أيضا بالعامية الكوبية الجدة.

والواقع أن هؤلاء الشبان الأربعة ليسوا ممثلين، ولكنهم كعادة تجارب فرقة «رميني بروتوكول» شبان عاديون: مترجم ومدرسة تاريخ ومهندس كومبيوتر وعازفة موسيقية (عازفة آلة النفخ النحاسية الترمبون). اختارهم كايجي من بين ستين شابا قابلهم في هافانا وطلب أن يحكي كل منهم له قصته التي يريد أن يقدمها للآخرين عن نفسه وعن بلده، وعن رؤيته لثورتها في عيدها الستين. وقد شاقه تكرار حديث الكثيرين منهم، وهم يروون قصتهم الذاتية، عن أجدادهم وجداتهم الذين شارك بعضهم في الثورة. وقد طرح هذا التكرار موضوع الجدة كمرتكز درامي، خاصة حينما اختار هؤلاء الأربعة حيث يعيش اثنان منهم مع الجد، والآخران مع الجدة.

جاءت بهم الفرقة وهيأت لهم فرصة إخبارنا بتاريخ بلدهم وبتجربتهم الحياتية فيها، أي هيأت لهم الاستراتيجيات والتقنيات الدرامية التي تمكنهم من وضع ذلك على المسرح بطريقة خلّاقة، استفاد فيها مخرج العرض ومعده، ستيفان كايجي، من مهارات بعضهم الشخصية. حيث كان دانيل ماهرا في لعب كرة البيس بول، وكان يلقي الكرة للمشاهدين، ويطلب منهم ردها له، كي يضربها بمهارة بمضربه المصنوع من زجاجة مياه فارغة، بطريقة خلقت حوارها الفريد بين المسرح والصالة. وقد استطاع العرض أن يتخلق بسلاسة من خلال المزج بين تجارب هذه الشخصيات الأربع الفردية، وأمشاج من الأغاني الكوبية الشائعة، وأفلام وثائقية عن تاريخ الثورة الكوبية، وأحداث بارزة في تاريخ كوبا وتجربتها القديمة ككازينو لترفيه أثرياء أميركا في زمن باتسيتا، واسترداد شعبها لكرامته، وبعض الأساطير التي أحاطت ثورتها، خاصة مع بطلها الشهير تشي جيفارا.

لأن أهم ما تقوم به فرقة «ريمني بروتوكول» هو أنها تضفي على وثيقة الحياة الفردية لمن تختارهم من شخصيات بنية درامية، تحيل أمشاج التجارب والذكريات وصبوات المستقبل لمجموعة متنافرة من الأشخاص إلى عمل فني متماسك، يلعب فيه كايجي دور المايسترو مع الفرقة الموسيقية. حيث يوظف كل أدوات المسرح الحديث وإمكانياته البصرية والحركية واللونية في بلورة ما تريد تلك الشخصيات طرحه، وما تنطوي عليه حياتها من دراما، بالمعنى الأرسطي الواسع للمصطلح.

وحينما ندخل المسرح المقام في ساحة الدير نجد بحق مساحة خالية، وإن استفادت من أقواسه التاريخية القديمة في خلفيتها في تأطيرها جماليا. وسوف تحيل المساحة التي يؤطرها كل قوس إلى شاشة لعرض جانب من جوانب الجانب الفيلمي أو التوثيقي من العرض. وليس في وسط الخشبة التي غطيت أرضها بغطاء معدني سوى منبر للخطابة، وعلى جانبي الخشبة علمين كوبيين: علم باتيستا القديم وعلم الثورة الكوبية.

وتبدأ أولى الشخصيات الأربعة وهي ميلاجرو (25 عاما) بتقديم نفسها فتخبرنا بأنها تنحدر من أسرة من العبيد السابقين، جاءت لكوبا من جاميكا. وتعيش مع جدتها في بيت الجدة الذي يحتاج إلى الكثير من الإصلاحات. وقد درست التاريخ وتريد القيام بتدريسه، لكنها تدرك أن راتب المدرس الشهري (400 بيزو لاتزيد عن 40 دولارا في السوق السوداء، وإن كانت تعادل 400 دولار في السوق الرسمية) لن يكفيهما لحياة كريمة، ناهيك عن إصلاح البيت. ورغم أنها تستطيع أن تكسب مرتب المدرس الشهري في يوم واحد لو عملت كمرشدة سياحية، فإنها تؤثر العمل بالتدريس. لأنها تريد أن تنقل للجيل الجديد ما تعلمته عن الثورة الكوبية، التي حررت أسرتها ولا تزال جدتها تلهج بمآثرها الملموسة، بما في ذلك البيت الذي الآيل للسقوط لو لم تدركه يد الإصلاح.

ثم يعقبها دانيل (36 سنة) وهو أكبر الأربعة سنا، والذي يخبرنا بأنه يعيش مع جده الذي شارك في الثورة الكوبية، وكان مسؤولا عن الثوار المكسيكيين الذين جاءوا إلى كوبا عام 1956 على متن السفينة «جرانما» للمشاركة في ثورتها. وقد أصبح والده دبلوماسيا ووزيرا، ولكنه أكثر ارتباطا بجده الذي يحدثه دوما عن خيبة أمله في النظام الذي شارك في صنعه، وهو يراه يتخلى عن كثير من المثل التي ألهمت ثورته، والتي تتجسد الكثير من مبادئها النبيلة في أعمال شاعره وكاتبه المفضل خوزيه ماتي (1853-1895). وقد تعلم من جده حب نبل هذا الشاعر والمفكر والبطل القومي الكوبي، وهو يتغنى أثناء العرض بعدد من قصائده التي يحفظها عن ظهر قلب. ومع أنه يعيش في بحبوحة من العيش من ترجمة موقع تعليمي كندي للرياضيات على الانترنت، فإنه إخلاصا منه لمبادئ جده الثورية يعمل متطوعا ضمن حملة محو الأمية الدولية التي تتبناها الاشتراكية الأممية.

ثم يجيء دور كريستيان (25 سنة) الذي يريد أن يقتفي خطى جده الذي يبلغ 79 سنة وحارب في صد الغزو الأميركي لكوبا في معركة خليج الخنازير الشهيرة عام 1961 ثم حارب، الجد، بعدها في أنجولا حينما أرسلت كوبا جنودها للمساهمة في تحريرها من الاستعمار البرتغالي. لكن الأمر المحزن في حياة كريستيان أنه رسب بالاختبار النفسي حينما أراد الالتحاق بالجيش، لأنه لن يكون مطيعا بالدرجة الكافية بسبب ولعه الذي تعلمه من جده بتعليل كل شيء، وطرح الأسئلة حول أسبابه. وهو ولع يبلغ حد الوله بالجد نفسه، حيث يعتقد كريستيان أن تضحيات جده الذي وهب حياته للثورة لا تحظى بالاعتراف الذي تستحقه.

ثم يجيء دور دايانا (30 سنة) وهي عازفة ترامبون العنوان – آلة النفخ النحاسية – وهي تعيش مع جدتها في بيتها، فقد كانت مغنية كوبية مشهورة. غنت إبان مسيرتها الفنية بعض قصائد خوزيه ماتي. وقد تعلمت ديانا آليات الثورة في حجر جدتها. وها هي تمارسها في الإعداد لهذا العرض. لأن جدتها هي التي غرست فيها روح الثورة والتي تعرف هناك بـ«الكتيبة المثالية» التي يُعلّم كل فرد فيها بقية المجموعة الشيء الذي يجيده. حيث علمت زملاءها الثلاثة في العرض العزف على آلتها المفضلة. وهو الأمر الذي يمكن الجماعة من العمل معا على تطوير حياة جميع أفرادها للأفضل.

هذه هي الشخصيات الأربع التي اختارها كايجي من بين الستين الذين استمع إليهم، وقد جلب لهم موسيقيا يدربهم على العزف وعلى غناء عدد من الأغاني والأناشيد الثورية الكوبية المشهورة، والتي استعادوها من تواريخهم. كما جمع لهم عددا من الأفلام التسجيلية للأحداث التي يستعيدونها في سردهم لتجربتهم مع أسرهم أو مع الثورة. كما سجل رسالتين مصورتين لجد أهدهم وجدة الأخرى وقد علما بالمشروع وأرادا توجيه رسالة لجمهوره. ثم أجرى عمليات التركيب والتقطيع والمزج والتقاطع بين سرود الشخصيات الأربعة ليخلق للعرض وحدته وبنيته المتماسكة. حيث نخرج من العرض وقد استوعبنا جزءا كبيرا من تاريخ كوبا الحديث، وكيف يتخلق تحت جلد حياة البشر العاديين فيها. كما تعرفنا على كثير من الأماني التي اثارتها تلك الثورة في أوروبا، واهتمام أوروبا سياسيا وشعبيا ببعض جوانبها. لكن أهم ما نخرج به من هذا العرض، هو مدى حضور التجربة الإنسانية البسيطة المُعاشة وقدرتها على خلق دراما من نوع فريد. دراما التوقعات والخيارات البشرية المفتوحة على آفاق لا تحد من التجريب والإمتاع البصري والحركي.

 

ولا يزال في جعبة ما شاهدته في هذا المهرجان من مزيد، وخاصة الأعمال القليلة التي تهتم بالشأن العربي، ناهيك عن بعض ما شاهدته في المهرجان الهامشي أو التجريبي، وهو ما سأتناوله في العدد القادم.