يتابع محرر (الكلمة) مشاهداته لمسرحيات مهرجان أفينيون هذا العام، ويتوقف عند التجربة الصينية التي كانت من المحاور المهمة فيه، في حوار مع التجربة الروسية مرة والتجربة التشيكية أخرى. وعند عرض عن التجربة الكوبية لمسرح الوثيقة الحية، مما يجعل تفكيك التجربة الاشتراكية قاسما مشتركا بين تلك العروض.

مهرجان أفينيون المسرحي الثالث والسبعون

حضور الصين القوي .. وتفكيك التجربة الاشتراكية

صبري حافظ

 

كانت الصين مدار تركيز مجموعة من الاعمال التي استضافها المهرجان من الصين أو من غيرها من البلدان، ولكن كانت الصين هي مدار اهتمام العرض ومركز الثقل فيه. أهمها بالقطع هو العمل الذي جاء من الصين مباشرة، وهو: (بيت الشاي La Maison de The) الذي يعتمد على أحد أبرز نصوص المسرح الصيني للاو شي (1899-1966) Lao She، والذي أعده وأخرجه منج جينغهوا Meng Jinghui. وهو عرض يستغرق أكثر من ثلاث ساعات ويؤكد أن الصين لا تصعد في الاقتصاد والتكنولوجيا وحدهما، وإنما في الثقافة والقوة الناعمة أيضا. وقد عشت مع هذا العرض المدهش تجربة جديدة سأشارك القارئ معي في تفاصيلها. وكان هناك عرضا صينيا آخر بعنون (أناس عاديون Ordinary People) أعدته الصينية وين هوي Wen Hui مع التشيكية يانا سفوبودوفا Jana Svobodova. هذا بالإضافة إلى عمل ثالث جاء من موسكو بعنوان (في الخارج Outside) وأعده وأخرجه كيريل سيريبرينيكوف Kirill Serebresnnikov، ولكنه عن الصين بشكل مغاير. حيث يدير فيه حوارا مع أعمال الفنان/ المصور الفوتغرافي الصيني رين هانج Ren Hang الذي صوّر حياة المدينة وعرى أشخاصها، بطريقة تكشف عن الجوع للحرية، وعن الرغبة في التحدي والخروج على الأنساق والأعراف المهيمنة في هذا البلد الكبير والعريق، حتى في تصويره الطبيعة بطريقة جديدة هي الأخرى.

بيت الشاي .. بيت الصين:
لكن دعنا الآن نتريث قليلا عند هذا العرض الصيني الجميل والمدهش (بيت الشاي) والذي تعرفت معه على أحد أدوات التقنية الجديدة التي تتيح الاستمتاع بأي عرض أجنبي، وتجهز بالترجمة على حاجز اللغة، دون أن تنال من التركيز على الجانب المشهدي والبصري في العرض. هذه التقنية الجديدة التي تعرفت عليها هنا لأول مرة هي «نظارة الترجمة»، والتي لابد من استئجارها بعشرة يورهات لاستخدامها في العرض وإعادتها بعده. فقد أتاحت تقنيات الواقع الافتراضي، والتي تعرفت من قبل على جوانب منها في بعض معارض الفن التشكيلي التي شاهدتها مؤخرا في أوروبا، أن تدخلك إلى مرسم الفنان التشكيلي وتتيح لك التجول فيه وأنت واقف في المعرض أمام إحدى اللوحات، وقد سجلت رسمه لها. وقد تم تطوير هذه التقنية الآن كي تخدم العرض المسرحي.

وعندما تستأجر هذه النظارة فإنك تستطيع أن ترى فيها ترجمة فورية لما يقال على الخشبة. وكانت الترجمة متاحة في هذا العرض الصيني باللغتين الفرنسية والانجليزية فضلا عن لغة النص الصينية. وتتيح لك النظارة لا اختيار اللغة فقط، وإنما حجم حرف الترجمة، ولون الخط المكتوبة به، ومكانها فوق أو تحت المشهد. بصورة لا تحرمك من متابعة المشهد وأنت تقرأ الترجمة التي كانت تكتب غالبا فوق الخشبة أو على جانبيها كما هو الحال مع الأوبرا وغيرها من العروض التي تمثل بلغة غير لغة المشاهدين. حيث يتوزع انتباه المشاهد بين ما يدور على الخشبة، وبين قراءة الترجمة التي يصرفه النظر إليها فوق الخشبة عن مشاهدة ما يدور عليها، كما هو الحال مع هذا العرض لمن لا يستخدم نظارة الترجمة. أما بعد تجربة هذه النظارة فإنني أبشر بسرعة انتشارها في العروض الأجنبية، لأنها لا تحرم المشاهد من متابعة ما يدور بالمشهد وهو يقرأ الترجمة بأي حال من الأحوال. وقد مكنتني هذه النظارة من الاستمتاع بمشاهدة العرض الذي أنفق المخرج الكثير من الجهد في بلورة أبعاده البصرية والحركية، وقراءة ما يقوله الممثلون مترجما دون أن أرفع عيني عن المشهد كما هو الحال في الترجمة القديمة المتاحة فوق الخشبة.

ويعتمد عرض (بيت الشاي) الذي يستغرق أكثر من ثلاث ساعات ونصف، على نص مسرحي صيني شهير للكاتب الصيني لاو شي. والواقع أن أهمية كاتب النص الذي يعد أحد أبرز أعلام الأدب الصيني الحديث في القرن العشرين، فقد كتب القصة والرواية والمسرحية، وأمضى عشرين عاما من حياته (1940-1964) في العمل بالمسرح والكتابة له، حيث كتب له أكثر من عشرين مسرحية، بالإضافة إلى ثلاث أوبرات صينية. وتُرجمت أعماله الروائية خاصة منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى اللغة الانجليزية وحققت فيها رواجا كبيرا. أقول أن أهمية الكاتب والنص كانت أول عناصر قوة هذا العرض، خاصة وأن (بيت الشاي) من أشهر مسرحياته وأكثرها شعبية. لأنه يتناول فيها ثلاث مراحل مختلفة من تاريخ الصين منذ 1898 وعصر الامبراطور الصيني الأخير من دولة قينج Qing dynasty، مرورا بالاستعمار الياباني والثورة عليه ومقاومته، وصولا إلى الزحف الطويل وانتصار الثورة الصينية الشيوعية عام 1949.

وتدور أحداث المسرحية، التي يمكن اعتبارها مسرحية تاريخية، في «بيت الشاي» المسمى Yu-tai في بيكين القديمة، وهو أقرب مكان للمقهى الشعبي، حيث يتردد عليه الجميع لشرب الشاي الصيني، وللتجمع وتبادل الأخبار والأحداث، وهو مقهى يملكه وانج ليفا Wang Lifa ويتردد عليه مجموعة من الناس دائما كما هو حال رواد بعض المقاهي المنتظمين، بينما يمر عليه الكثير من العابرين. وتتخذ المسرحية من المكان ركيزة لرواية التحولات التي مرّ بها المجتمع الصيني على مد نصف قرن من الزمان بما فيها من عنف وعناصر دموية.

وتنقسم المسرحية إلى ثلاثة فصول، يدور كل منها في مرحلة من المراحل الثلاثة التي مرت بها الصين على مد نصف قرن. حيث يدور الفصل الأول في عام 1898 في ذروة فترة إصلاحات المئة يوم التي أنجزها الامبراطور الصيني الأخير من دولة قينج، وما أحدثته تقشفاتها من آثار، وكيف أنها لم تمنع أبناء المؤسسة الامبراطورية المناوئين لها من الثراء على حساب الغالبية التي ازدادت فقرا. وكيف تأثر رواد المقهى والعابرين فيه بإغراق السوق بالبضائع الأجنبية الرخيصة، وما أنتجته من بطاله، وأسوأها بالطبع الأفيون. وكيف عانى الفلاحون في الأرياف، واضطر بعضهم إلى إعلان إفلاسهم، بل وبيع أبنائهم وبناتهم.

أما سكان العاصمة فقد أخذوا يزدادون ثراء. وهناك مشهد دالٌ في هذا القسم يسعى فيه كبير خصيان القصر الامبراطوري لشراء بنت أحد الفلاحين الجميلة زوجة له. وقد حاول بعض رواد «بيت الشاي» الحديث عن ضرورة الإصلاح ودعم سياسات الإمبراطور ضد الحاشية الفاسدة، ولكن حديثهم كان يقابل باللامبالاة من المؤسسة التي ازداد تماسكها وعنفها بعدما انقضت على إصلاحات الإمبراطور وحاصرته. وحاول البعض الآخر البحث عن خلاص من خلال إنشاء المصانع، وتصنيع الصين بشكل واسع، وهو ما ينادي به قن Qin، صديق مالك المقهى المقرب، الذي يريد أن يملأ الصين بالمصانع، وهو الأمر الذي يعد استشرافا باكرا لما جرى للصين بعد نصف قرن من كتابة المسرحية. ويكشف لنا هذا الفصل عن تعاظم قوة الشرطة السرية الإمبراطورية، وانتشار الخوف، واستشراء العصابات، وتعاظم النفوذ الأجنبي، مما أدى بالطبع إلى نهاية الإمبراطور.

ويبدأ الفصل الثاني بعد عشرين عاما من بداية الفصل الأول، أي قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعد تأسيس الجمهورية الصينية الأولى عام 1912 بعدة أعوام وما عاشته الصين في سنوات تلك الجمهورية من تخبط وانقلابات عسكرية. لذلك كان طبيعيا أن حالة الناس لم تتحسن أبدا، بل ازدادت سوءا عما كانت عليه في زمن الإمبراطور. ونشاهد كيف يحاول صاحب «بيت الشاي» وانج ليفا بشتى الطرق الحفاظ على مقهاه مفتوحا، والتواؤم مع حراك الزمن الجديد الذي اندلعت فيه الحروب الأهلية بين الميليشيات العسكرية والمناطق، وعمت فيه الفوضى، وغاب القانون ولكن دون جدوى. غير أننا لا نخطئ أجنة الثورة على كل ما يدور بين جيل جديد من الشباب الذي يتململ مما يراه، ويرفض الواقع الراهن برمته. ويحلم بعالم جديد من الوطنية الصينية، يسود فيه العدل وتزدهر الديموقراطية.

وينتقل بنا الفصل الثالث مرة أخرى عدة عقود إلى الأمام، وقرب نهاية الحرب العالمية الثانية. بعدما عاشت الصين ثماني سنوات مريرة من الحرب ضد الغزو الياباني لها، وما كاد الصينيون أن يتنفسوا الصعداء احتفالا بالنصر على اليابان، حتى بدأ الكومنتانج Kuomingtang حربا أهلية جديدة. مما جعل المناخ السياسي في «بيت الشاي» أكثر قهرا وعنفا واستشرى الفساد في كل مكان، وبدأت أنهار الدم تتدفق أمامنا على الخشبة. وبدأ رواد المقهى، حتى من لم يتململ منهم من قبل من كل ما عاشوه من قهر وفساد يعبر عن ضيقه ورغبته في التغيير. وبلغ هذا التعبير ذروته، كما حدث في الفصل الثاني، بين الطلاب والشباب. أما صاحب «بيت الشاي» وانج ليفا والذي بلغ السبعين من العمر، فإنه يصل إلى حضيض من القهر واليأس يدفعه إلى الانتحار.

هكذا تقدم لنا المسرحية في فصولها الثلاثة دراما التحولات الصينية، وجرعة لا بأس بها من تاريخ الصين الحديث. حيث نتابع ما جرى للشخصيات من تحولات درامية ترودها اختياراتهم، الصائبة حينا، والخاطئة أحيانا، منذ السنوات الأخيرة لآخر امبراطور من أسرة قينج وتأثير إصلاحات أيامه المئة الشهيرة، وكيف تبدل تلك الإصلاحات بعض المصائر بينما تطيح بأخرى. ثم نتابع ما جرى أثناء الحروب الأهلية التي أعقبت سقوط الإمبراطور، ومصائب الغزو الياباني للصين، وحروب المقاومة لهذا الغزو ثم تلك الحروب التي عاشتها الصين في حلمها بالتغيير الذي لم يتحقق إلا مع الثورة الصينية وتأسيس جمهورية الصين الشعبية بعد فرار الكومنتانج إلى جزيرة فرموزا وتأسيسه لتايوان. وقد اتاح له استخدام مجموعة من رواد المقهى الدائمين، وما يدور في حياتهم مرآة للتعبير عما جرى للصين نفسها، ففي المسرحية سبعين شخصية، بعضها أساسي وكثير منها عابر. صحيح أنه كان لابد له من التركيز على بعض الشخصيات والأحداث من مالك بيت الشاي نفسه، وانج ليفا، وما تتسم به شخصيته من مرح وانتهازية معا، إلى صديقه المقرب قن Qin، الذي يريد أن يملأ الصين بالمصانع، وهو الأمر الذي انتُقدت المسرحية بسببه لأنه رأسمالي، وأهين كاتبها أثناء أحداث الثورة الثقافية، والعجوز تشانج Chang الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة، كما كان أبوه وجده، والذي يحظى بحب الجميع. ناهيك عن مجموعة الشباب التي تمثل روح الثورة والتغيير والتي لم تخمد أبدا في هذا البلد الكبير.

وتعد تلك المسرحية، في عرضها الصيني الذي جاء إلى أفينيون، جدارية تعبيرية، لا تفتقد لروح الدعابة والشاعرية، لواقع الحياة في الصين. حيث تعد ممثلة للدراما الواقعية، أو حتى للواقعية الشعرية في المسرح التي تمزج مفردات الأوبرا الصينية في التمثيل الإيمائي وتقنيات المسرح الواقعي، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالواقعية الاشتراكية التي كان يدعو لها كُتّاب الحزب. وهذا ما يفسر النهاية المأساوية لحياة الكاتب بعد إهانته على أيدي متحمسي الثورة الثقافية، مما دفعه للانتحار. جدارية تستخدم المقهى كمنطلق للتعبير عما وراءه من واقع اجتماعي وتاريخي معقد. إنه من هذه الناحية عمل أقرب إلى أعمال نجيب محفوظ المختلفة التي تستخدم المقهى منطلقا للحكايات التي تلخص الواقع الذي يصدر عنه ويسعى للتعامل معه. لكن تعامل المسرح مع هذا المكان يختلف عن تعامل الرواية بالطبع. فقد استخدم المخرج عجلة عملاقة قطرها عدة أمتار، وعرضها أيضا عدة أمتار بالصورة التي تتكون فيها خشبة مسرحية، تطل علينا داخل الخشبة التي تدور على مستوياتها المختلفة الكثير من الأحداث.

فنحن هنا بإزاء أكثر من خشبة مسرحية، وأكثر من مستوى يدور فيه التمثيل في نوع من الوعي بتراتبيات المكان المسرحي الضخم ودلالات تلك التراتبات. خاصة وأن العمل يدير جدلا بين الفضاءات الثابتة والمتحركة فيه، لأن العجلة الضخمة التي تفرض وجودها على المشهد، وقد ظلت ثابته في الفصلين الأولين من العمل، سرعان ما تدور في الفصل الثالث من العرض، بصورة ينقلب عاليها إلى أسفلها، وتنزاح مع تقلباتها، كتقلبات الزمن وتصاريفه، قطع الأثاث ويتناثر ما عليها أوراق ووسائد، وحتى الاشخاص، يعصف بهم هذا الدوران. أم تراه دوار الزمن الذي لا يرحم! فبيت الشاي هو الفضاء الذي تتفاعل فيه مختلف شرائح المجتمع وطبقاته. وهو الفضاء الذي نرى عبره تحولات المجتمع الصيني على مرّ تلك المراحل الزمنية المختلفة. فبينما تتحرك عجلة الزمن نتيجة لانقلابات التاريخ وصدماته الصعبة، فإن الإنسان يسعى دوما لتحقيق صبواته في المزيد من الربح تارة والمزيد من السلطة أخرى. لكن أهم ما أحسست به في هذا العرض بإمكانياته الحركية والبصرية العملاقة وحيله البصرية التي استطاعت تجسيد حمامات الدم التي عاشتها الصين على مد تلك الفترة، وكيف تختلف كل منها عن الإخرى مما يحتم اختلاف حيل نزيف الدم في كل منها، هو أن الصين تتقدم أيضا على الصعيد الفني. وتعي هذا التقدم وتشهره في وجه المشاهد. بدءا من استخدام تقنيات الأوبرا الصينية في القسم الأول الذي دار في زمن آخر امبراطور، مرورا بتغير تقنيات العرض والتمثيل معا في القسم الأوسط، وصولا إلى أبرز استراتيجيات الفنون الاستعراضية الحديثة في المسرح الغربي في القسم الأخير الذي يستشرف مستقبل الصين وحلمها بزمن جديد ومغاير لكل ما مرت به.