تطرق الكاتب المصري الكبير في هذه الرواية القصيرة المكثفة إلى قضية شائكة تتعلق بالمسكوت عنه، وهى عمليات التحول شبه الاضطرارى من المسيحية إلى الإسلام، مُجسدًا هذا فى الضغوط المادية والمعنوية، التى استمرت بطرق مباشرة وغير مباشرة.

وثيقة روائية لتعصب الجماعات الإسلامية

رانـيا جابـر

 

فى طبعة حديثة عن مكتبة الأسرة، تصدر رواية «المهدى» للكاتب الراحل عبد الحكيم قاسم، والتى كتبها إبان منفاه الاختيارى فى ألمانيا عام 1977، ونشرها للمرة الأولى عن دار التنوير ببيروت عام 1982، مع رواية قصيرة أخرى فى كتاب بعنوان: روايتان. وقد تنبأ قاسم بخطر صعود الإسلام السياسى وجماعة الإخوان المسلمين، ومحاولاتهم طيلة الوقت الوصول إلى كرسى السلطة.

وتمثل ذلك فى الرواية من خلال جهود الشعبة الإخوانية لاستقطاب أهل قرية «محلة الجياد» التى تدور فيها الأحداث، وذلك تحت ادعاء تغيير الأحوال، مستغلين الصراع الدموى الدائر بين أكبر عائلتين على «العُمودية»، مُبرزًا التحولات التى بدأت تطرأ على القرية، حيث أصبح عنف الناس منظمًا وموجهًا من خلال مجموعة دينية تتحكم فى مجريات الأمور.
تطرق الكاتب كذلك فى الرواية إلى قضية شائكة تتعلق بالمسكوت عنه، وهى عمليات التحول شبه الاضطرارى من المسيحية إلى الإسلام، مُجسدًا هذا فى الضغوط المادية والمعنوية، التى استمرت بطرق مباشرة وغير مباشرة، تعرض لها المعلم عوض الله صانع الشماسى، وهى سلعة لا يستهلكها إلا نخبة محدودة العدد من الأعيان والوجهاء، ولكن الفقر كان يلاحقه إلى مرحلة عجز فيها عن دفع الإيجار لصاحبة البيت، فترك مدينته باحثًا عن الرزق، ووصل إلى «محلة الجياد» التى يستضيفه فيها رجل مسلم هو «على أفندى»، المتسامح الذى لا يرى «عوض الله» وأزمته من منظور دينى، لكن أفراد شعبة الإخوان المسلمين فى القرية لا يتبعون المنهج نفسه، ويرون فى المسيحى المتعب صيدًا سهلاً ربما يحققون به انتصارًا واهيًا.
ولأن الإخوان فى القرية هم الأكثر تنظيمًا، يتجه «على أفندى» إلى الإخوانى النشط طلعت مشرقى، ويعرض المشكلة من منظور إنسانى، وتأتى الإجابة كاشفة عن نية مغايرة تمامًا، حيث إن الرغبة فى هداية «عوض الله» وزوجته للإسلام، تمثل المنطلق الوحيد عند الإخوانى الشاب الذى يرى الأمر أشبه بغزوة تستهدف النصر ومعركة تستحق التخطيط والحشد، وبناءً عليه يتحرك طلعت، وتتجسد رؤيته بوضوح فى كلماته للعُمدة الذى يؤجر للمسيحى الوافد بيتًا من أملاكه «لقد اهتمت الشعبة بالرجل، فالمسلمون مأمورون بالحدب على أهل الذمة وأن يستألفوا قلوبهم للإسلام، وعليه فقد قمنا بحركة شاملة تهدف إلى حضّ الناس على إصلاح شماسيهم عند الرجل أو شراء شماسٍ جديدة منه».
يبدو كذلك الحصار الإخوانى فى الدار الجديدة عندما التف شباب الإخوان حول عوض الله فى نصف دائرة، وقال طلعت: «نقدم لكم باسم الإخوان المسلمين فى محلة الجياد هدية، ألا وهى كتاب الله»، ويشير إلى موضع بعينه ليكون بداية القراءة، ثم يضيف إلى هديته كتابين لا يمكن تقديمهما إلا لمسلم يسعى الإخوان إلى تجنيده، هما «مذكرات الداعية الأول للإخوان المسلمين» و«من هنا نعلم»، وعندما يستسلم المسيحى الضعيف فإنه لم يشهر إسلامه عن اقتناع وإيمان وإنما عن ضعف واستكانة.
وعندما وصلت الشعبة بصانع الشماسى -الذى تدور فى ذهنه مأساة المسيح عندما قبض عليه اليهود وأخذوا يعذبونه حتى انتهوا إلى صلبه- عند باب المسجد، ينكفئ على وجهه فاقد الوعى تمامًا، وكالنار فى الهشيم تنطلق من الناس صرخة «لقد مات المهدى»، وفجأة تسللت زوجته من وسط هذه الجموع وأخذته على صدرها «وفى لحظة كأنما غرق هدير الجماهير فى بئر ليس لها قرار، صمت يطن بعمق والناس ترى فلة تأخذ المعلم إلى صدرها وتصلّى بحرقة: باسم الرب يسوع المسيح»، وهكذا يموت عوض الله مسيحيًّا فى حضن الصليب، بينما تكتمل شهادة عبد الحكيم قاسم عن تعصب الإخوان وتطرفهم وعدائهم للحياة.

 

جريدة المقال المصرية