رسالة القاهرة

حينما تحتضنُ القاهرةُ القصيدةَ

شوكت المصري

 

ملتقيان شعريان كبيران احتضنتهما القاهرة منتصف شهر مارس هذا العام، وهما مهما اختلفنا أو اتفقنا بشأنهما حملا ما هو أكبر من الفعاليات الدائرة فيهما، وأحدثا حراكاً كان قد اندثر أو كاد في الأوساط الثقافية العربية، وأعادته القاهرة للحياة من جديد. أما الأول فكان «ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي» الذي يقيمه المجلس الأعلى للثقافة كل عامين، والذي حملت دورته الحالية اسم الشاعر الراحل خليل مطران، وأما الثاني فكان «ملتقى قصيدة النثر الأول» الذي أقامه شعراؤها مناهضين ملتقى المجلس الأعلى الذي أطلقوا عليه (ملتقى حجازي)، كرد فعلٍ على إقصاء حجازي للشعراء وقصيدتهم من ملتقى القاهرة الرسميّ. بدأ الملتقيان في يومٍ واحد وهو الخامس عشر من شهر مارس، ولكن على مسافةٍ فاصلة تبلغ بضعة كيلومترات، وخمس ساعات، فقد دشن علي أبو شادي رئيس المجلس الأعلى للثقافة الملتقى الأول في صبيحة يوم الأحد نيابةً عن وزير الثقافة المصري، ولعله دون أن يقصد دشن أيضاً ملتقى قصيدة النثر الذي افتتحت فعالياته في مساء اليوم نفسه، حيث قال في كلمته الافتتاحية: "إن هذا الملتقي يعقد وسط ظروف سياسية صعبة وفنية معقدة، حيث يعقد بعد ساعات الملتقي الأول لقصيدة النثر، والذي روج البعض أننا نحتج عليه، لكننا في المجلس ونظرا لإيماننا بحرية الإبداع لا نملك ترف تغييب فصيل شعري طالما يتجسد على أرض الواقع، ونؤكد أن أي خلاف فني هو إضافة إلي المنجز الشعري، وأن منظمي قصيدة النثر حاضرون معنا، وإن انشغلوا بمؤتمرهم"، وفي المقابل جاءت افتتاحية ملتقى قصيدة النثر خارج كل التوقعات، إذ امتلأت القاعة الرئيسية بنقابة الصحفيين عن آخرها، واضطر المنظمون إلى فتح باب القاعة حتى يتسنى للحاضرين خارجها متابعة الكلمات الافتتاحية للمنصة.

وفي ظل غيابٍ ملحوظ لكبار المدعوين إلى ملتقى القاهرة، وعلى رأسهم الشاعر السوري أدونيس، والعراقي سعدي يوسف، واللبناني جوزيف حرب، والأردني أمجد ناصر، والناقد اليمني د.عبد العزيز المقالح، والخلافات التي سبقت تدشين المؤتمر، وتسببت بانسحاب الشاعر فاروق جويدة، واستقالة شاعر العامية سيد حجاب من لجنة الشعر، بعد وصف حجازي لشعراء العامية بالزجالين، وتقليله من شأنهم، جاء غياب شعراء قصيدة النثر فاضحاً فشلَ المؤسسة الرسمية وعجزها عن التعبير عن واقع الثقافة المعاصرة وتحديداً الشعر. عجزٌ جاء على النقيض تماماً مع شعار الملتقى (المشهد الشعري الآن) الذي اختاره حجازي بوصفه مقرراً للمؤتمر، وكأنما أراد حجازي أن يجمع بين البيروقراطية والديكتاتورية في آنٍ واحد، وأن يعلن للجميع أن الشعر الآن هو ما يراه هو، أو ما يعتمده وحده، بوصفه رئيساً للجنة الشعر، وللآخرين خياران لا ثالث لهما: فإما أن يصبحوا كائناتٍ قابعةٍ في ظلامِ مملكته، أو أن يبحثوا في مدينته التي بلا قلب عن حرفةٍ أخرى ملائمة غير حرفة الكتابة.

لكن شعراء قصيدة النثر قرروا الخروج من المملكة الحجازية، إلى أراضٍ جديدة مهدوها لأنفسهم. ليس فقط بفنياتٍ كتابيةٍ مغايرة، ولا جمالياتٍ ورؤىً جديدة للشعر خاصةً والأدب بعامة، ولكن بملتقاهم الذي أصر منظموه على إقامته في التوقيت نفسه الذي حدده حجازي لملتقاه، ولم يكن على (أعضاء اللجنة التحضيرية: محمود قرني وفتحي عبد الله وصبحي موسى وفارس خضر وغادة نبيل وعاطف عبد العزيز وحسن خضر) سوى مسابقة الزمن بإمكانات ماديةٍ محدودة، ومقاومة محاولات إجهاض مؤتمرهم بالترغيب حيناً وبالترهيب أحايين أخرى، حتى يُكتَب لملتقاهم الوجود في ساحة الممكنات. وفي مساء الخامس عشر من مارس شهد حضورُ الملتقى الشاعرَ محمود قرني وهو يلقي كلمة الافتتاح، بينما احتفت المنصة الرئيسية بالأستاذ الدكتور عبد المنعم تليمة ممثلاً للنقد المصري، والناقد نبيل عبد الفتاح والأستاذ علاء ثابت ممثلاً لنقابة الصحفيين، والشاعر فتحي عبد الله ممثلاً للجنة التأسيسية للملتقى، وعلى مدار ثلاثة أيام شهدَ الملتقى أربع جلساتٍ نقدية جاءت محاورها الأربعة محاولةً الإحاطة بمقاربات القصيدة نقدياً، وهي: قصيدة النثر بين الاصطلاح والتطبيق، وقصيدة النثر بين البعدين التاريخي والجمالي، وقصيدة النثر العربية وملامحها المائزة، وقصيدة النثر المصرية الآن. وقد شهدت المداخلات التي تلت الجلسات النقدية ردود أفعالٍ متنوعة من قبل الشعراء والدارسين والمهتمين بين الاستحسان والاتهام بالتقصير في مقاربة القصيدة وفنياتها، وعزا النقاد اتهامهم بالتقصير إلى عدم صدور الكتاب النقدي الذي وعد رعاة الملتقى (الكتابة الأخرى والدار للنشر) بتضمينه دراساتهم، واكتفاء الرعاة بإصدار الكتاب الشعري، مما صعّب على حضور الجلسات استيعاب ما قدمته الدراسات النقدية من جهد بسبب ضيق المساحة الزمنية المتاحة لعرض الأفكار التي تبنتها الدراسات والنماذج التطبيقية التي تعرضوا لها. وكان أبرز المشاركين في الجلسات النقدية للملتقى الباحث العراقي خضير ميري، والسعودي علي الرباعي، والمصريين أيمن تعيلب، وشريف رزق، وأحمد الصغير، ووائل غالي.

وعلى الجانب الآخر حيث ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي الذي امتد لأربعة أيام جاءت المحاور النقدية، الموزعة في جلساتها بين المسرح الصغير بالأوبرا، وكرمة ابن هانئ، وقصر ثقافة الإسماعيلية، والمركز الفني للإبداع بالإسكندرية، حاملةً عناوين فضفاضة وغير محددة المقاصد. خصوصاً في ظل الأوراق والدراسات النقدية التي لم تتسق مع عناوين المحاور إلا في أقل القليل، وهذه المحاور هي: «الشعر العربي وعلاقته بالشعر العالمي، ومدخل لقراءة الشعر الآن، وقرن من التجديد والتجريب في الشعر العربي، والشعر والتعليم»، والملاحظ في هذه المحاور تعرض دراسات نقدية عديدة لقصيدة النثر سواءً بالرفض أو القبول، وهو ما تبدى جلياً في دراسة الناقد الدكتور محمد عبد المطلب التي تناول فيها قصيدة النثر ورفض إغراقها في النثرية على حساب الشعر حين قال: "إن المسار الإبداعي لقصيدة النثر ذهب بعيدا في النثرية مع غياب الإيقاع الموسيقى فيها وانحسار الخيال، وما تبعهما من انحسار في المعنى، وأصبحت القصيدة حالة ذهنية تكاد تكون مغلقة على منتجها وحده، ودخلت في هذا السياق إلى قوالب جامدة". وفي المقابل قدم الناقد محمد بريري رصداً لتحولات اللغة في شعرية الحداثة، مؤكدا أن معظم الرافضين لقصيدة النثر هم من شعراء التفعيلة، وبرغم ذلك أغوتهم ومارسوا كتابتها واستقروا فيها مثل أدونيس، وسعدي يوسف، ومنهم من توقف عندها طويلا مثل نزار قباني في ديوانه "مائة رسالة حب"، وقال بريري: "إن الشعرية العربية هي شعرية التراكم المتطور.. وإن كل مرحلة هي ابنة شرعية لما تبعها". أما ورقة الشاعر حلمي سالم فدافعت عن قصيدة النثر وخلَّفَ إلقاؤه لها جدلاً واسعاً، خاصة أن بعض الحاضرين رأى أنها ورقةٌ جاءت بالاتفاق مع حجازي، لإضفاء صفة التعددية على الملتقى، وقد آثر حلمي بعدها اعتزال الملتقى وجلساته النقدية والشعرية، ليلحق بشعراء جيله الذين افتقدهم الملتقى كرفعت سلام ومحمد آدم.

وقد شارك في الجلسات النقدية لملتقى القاهرة نقاد كبار أثروا الجلسات النقدية بأبحاث جادة. ونالت أوراقهم المقدمة اهتمام الباحثين والمهتمّين، ونذكر من هؤلاء النقاد علي جعفر العلاق، وحمادي صمود، ومحمد فكري الجزار، وعبد السلام المسدي، كما شارك روبن كريزويل وهو باحث أمريكي من جامعة كاليفورنيا بورقة بحثية تناولت بالعرض والتحليل ديوان الشعر العربي لأدونيس، والباحثة الأمريكية سوزان إستيتكيفتش من جامعة إنديانا ببحث عنوانه "سقط الزند" و "اللزوميات" للمعري: "من فن المحاكاة إلي التعبيرية التجريدية". ولكن بعيداً عن الحضور الضعيف الذي اضطر المنظمون إلى دمج الجلسات الصباحية في المسائية، فإن معظم الجلسات النقدية عكست تناقضاً بين المحاور النقدية والدراسات المشاركة فيها، وبرز الخلل التنظيمي في عدم إفراد كتابٍ من الكتب الصادرة على هامش الملتقى للدراسات النقدية المشاركة، بينما تم إصدار كتاب يجمع السير الذاتية للشعراء المشاركين وبعض نصوصهم، هذا بالإضافة لثلاثة كتب عن خليل مطران، أحدهم لمقالات مطران النثرية، والثاني لمحاضرات محمد مندور عنه، أما الثالث فمختارات من شعره قدّم لها حجازي، كما أصدرت اللجنة المنظمة كتاباً نقدياً للدكتور محمد عبد المطلب عن شعراء السبعينيات، هذا بالإضافة للأعمال الشعرية للشاعر بدر الديب، وكتاباً ضم أوراق مؤتمر أمل دنقل، وكتاباً ثامناً عن الشعرية العربية القديمة وتلقيها بالمناهج النقدية المعاصرة للدكتور أيمن تعيلب، ولم يجد المهتمون بالملتقى أية مبررات لإصدار هذه الكتب الثلاثة متأخرة الذكر، بعيداً عن أهميتها، إلا إذا قبلنا بأنها كتب طبعها المجلس الأعلى للثقافة سلفاً وأراد المنظمون إثراء الملتقى بها فتم طرحها على أساس أنها من بين فعالياته، خصوصاً أن مؤتمر دنقل مر عليه أكثر من ستة أعوام، وأن الدكتور أيمن تعيلب كان مشاركاً بملتقى النثر ولم يشارك مطلقاً في فعاليات الملتقى الرسمي (ملتقى حجازي).

أما الشعراء فقد تجاوز حضورهم في ملتقى قصيدة النثر الخمسين شاعراً، ممثلين مختلف الأقطار العربية، والأجيال الشعرية المختلفة لقصيدة النثر، فمنهم من كتب قصيدة النثر في الثمانينات، ومنهم من كتبها في التسعينات، ومنهم من انتقل من كتابة القصيدة التفعيلية إلى كتابة قصيدة النثر، ومنهم من اقتصرت تجربته على الأخيرة دون غيرها، ولذلك حفلت الأمسيات الشعرية بتنوعٍ بالغ، ونالت استحسان الحضور الكثيف خاصةً في الجلسات المسائية وأمسيتي الافتتاح والختام الشعريتين، وقد كان الحدث اللافت للنظر مشاركة بعض الشعراء المدعوين للملتقى الرسمي في أمسيات ملتقى النثر، معبّرين عن فرحتهم بهذه المشاركة في ملتقىً حر يعكس حركة التجديد التي يجب أن يجسدها الأدب عموما والشعر خصوصاً، وهكذا جاءت مشاركة الناقدة والشاعرة اليمنية ابتسام المتوكّل في اليوم الثاني للملتقى معززةً تميّزه، كما جاءت مشاركة الشاعر العراقي الكردي "شيركو بيكه سه" في اليوم الثالث وقبل مراسم الختام حاملةً التعزيز الأكبر للملتقى، إذ قرأ نصوصاً شعريةً بالعربية والكردية، وخاطب منظمي الملتقى وضيوفِه قائلاً: "يا شباب التجديد نحن بالاختلاف نتجدد، والإبداع لا علاقة له بالزمن أو العمر".

وعلى الرغم من اعتذار بعض الشعراء المصريين البارزين في قصيدة النثر كعماد أبو صالح وهدى حسين عن حضور المؤتمر، وعدم تمكن آخرين من إلقاء قصائدهم نظراً لضيق الوقت وعدم توافر قاعاتٍ بمقر انعقاد الملتقى، هذا بخلاف اعتذار بعض الشعراء العرب نظراً لعدم استطاعتهم توفير نفقات الحضور إلى القاهرة، أو ضيق الوقت وانشغال بعضهم بالتزاماتٍ وأمورٍ أخرى، فإن المشاركات التي حفل بها الملتقى جاءت معبّرةً عن توجهاته ومغطيةً لمختلف الأقطار العربية والتجارب الشعرية، وقد أصدرت الدار للنشر بوصفها راعيَ الملتقى كتاباً ضم تعريفاً بمعظم الشعراء المشاركين وبعضاً من نصوصهم، لكنه لم يخلُ من كثيرٍ من الأخطاء الطباعية والفنية، كما أنه أغفل عدداً من نصوص الشعراء العرب المشاركين بالملتقى كالشاعر السعودي محمد خضر، واليمنيين محيي الدين جرمة، وعلي المقري. وقد حفلت الأمسيات الشعرية بمشاركة شعراء مصريين متميزين نذكر منهم: علي منصور، وصبحي موسى، وعزمي عبد الوهاب، وياسر الزيات، وأسامة الحداد، وعلي عطا، وغادة نبيل، ومؤمن سمير، وفارس خضر، وجرجس شكري، ومشاركة شعراء عرب كان حضورهم داعماً للملتقى ودليلاً دامغاً على نجاح منظميه في تحقيق هدفهم، ونذكر من هؤلاء الشعراء العرب: عزيز أزغاي وإدريس علوش (المغرب) وأحمد السلامي وعلي المقري (اليمن) ومحمد خضر الغامدي (السعودية) وعمر الكدي (ليبيا) ونديم الوزة ولينا الطيبي (سوريا) وعبد الله الريامي (عمان) وحميد مختار (العراق) وحسين جلعاد (الأردن).

أما عن الحضور الشعري في ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي فقد اتسم باعتذارات عدّة سبقت انعقاده، وقد كان غياب الشاعرين سعدي يوسف وأدونيس هو الأبرز في الدورة الثانية للملتقى، خاصةً وأنهما كانا من الأسماء المرشحة لنيل جائزة الملتقى بالإضافة إلى الشاعر المصري محمد عفيفي مطر، وخلا الأمسيات الشعرية التي احتفى فيها الجمهور بالشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر، والشاعرة السودانية روضة الحاج، واللبناني محمد علي شمس الدين والبحريني علوي الهاشمي، والتونسي المنصف الوهابي، والأردني حيدر محمود، والفلسطيني المتوكل طه، جاءت الأمسيات الشعرية في عمومها خاليةً من تنوع التجارب الشعرية، فقد شارك عددٌ قليلٌ جداً لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من شعراء جيل السبعينيات المصري، وخلت القائمة العربية من الأصوات البارزة في الحركة الشعرية العربية المعاصرة كسميح القاسم، وبوول شاؤول، مما أفقد الملتقى رونقه وتميزه، وظلت المقارنة قائمةً على مدار الأيام الثلاثة الأولى بين الملتقى الحجازي، وملتقى النثر، مقارنةٌ ظن بعض المتابعين أنها ظالمةٌ للأخير، بسبب قلة إمكانياته المادية، لكنها جاءت مخالفةً كلّ التوقعات لترجح كفةَ الثاني، خاصةً وأن حفل ختام ملتقى قصيدة النثر سبق ختام الملتقى الرسمي بأربع وعشرين ساعة، مما مكّن المهتمين من متابعة ختام كلا الحدثين ورصد نواتجهما المختلفة.

مرةً أخرى جاء حفل ختام ملتقى قصيدة النثر كجلسته الافتتاحية مختلفاً عما كان متوقعاً، فالنجاح الذي حققه الملتقى جعل من النبرة الحادة التي شهدها الافتتاح، والتي تمثلت في حديث الشاعر محمود قرني عن مصادرة حق الجماعات الوطنية في الوجود، وفي إلقاء الشاعر فتحي عبد الله بيانَ اللجنة التأسيسية المعنون بـ "ضد عسكرة الشعر والثقافة" ـ جعل من تلك النبرة تخفت، وشفى صدور القائمين على الملتقى رؤيتهم للفعاليات المختلفة وهي تمضي في طريقها نحو الهدف بأسرع مما كانوا يعتقدون، ولذلك فقد جاء البيان الختامي متزناً هادئاً، ومتسقاً مع ما حققه الملتقى من نتائج، وقد ألقاه الشاعر المصري فارس خضر، وأكد في بدايته أن اللجنة المنظّمة لم تكن تتوقع أن تتشكل صورة الملتقى بهذا الوضوح في نسخته الأولى. ثم وجه البيان شكره للشعراء العرب الذين شاركوا في فعاليات الملتقى، ووجه اعتذاره لشعراء العامية المصريين بسبب تركيزه على المشهد الشعري لقصيدة النثر العربية.

وحمل البيان الختامي مجموعةً من التوصيات جاء فيها: "أولا: تشكيل لجنة تحضيرية تضم عدداً من العناصر العربية بالإضافة إلى الأسماء المصرية المؤسّسة، بحيث يشكلان معاً لجنةً عربيةً للملتقى في دورته القادمة، ثانيا: قررت اللجنة التحضيرية بدء الأعمال الأولية للملتقي الثاني فور انتهاء فعاليات الملتقى الأول، على أن تكون مدة الملتقى أربعة أيام بدلا من ثلاثة، وأن تتميز بالنوعية ودقة الاختيار، ووضع معايير أكثر دقة للمحور النقدي عبر تشكيل لجنة علمية مسئولة، ثالثا: العمل على تأسيس ورش عمل ومختبرات نقدية وشعرية في حلقات صغيرة وأكثر تخصصا، بدلا من الندوات النقدية الموسعة، بالتعاون مع المراكز الثقافية والجامعات، هذا بالإضافة إلى دعوة الجامعات والمؤسسات التعليمية إلى إدراج قصيدة النثر ضمن مناهجها التدريسية، رابعا: أن يمنح الملتقى جائزتين الأولى للعمل الشعري الأول لأحد الشعراء الشباب، والثانية لأفضل بحث نقدي حول قصيدة النثر، وسوف تتشكل لجنة تحكيم تعمل في إطار من الشفافية والوضوح، خامسا: إطلاق مؤسسة أهلية هدفها رعاية التيارات الشعرية الجديدة تحت اسم «بيت الشعر العربي، سادسا: أن يتجاوز الملتقى فكرة الانغلاق على أجيال بعينها، بحيث يستوعب شعراء قصيدة النثر من مختلف الأجيال، سابعا: دعوة كافة مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالعمل الثقافي لدعم الملتقى وفعالياته القادمة، دعما غير مشروط، ينبع من إيمان تلك المؤسسات بأهمية التجارب الطليعية في أدبنا المعاصر".

وفي المقابل جاء ختام ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي في دورته الثانية حاملاً الصدمة الأكبر لجموع الأدباء والمثقفين، ولم ينجح إعلان أمين المجلس الأعلى للثقافة الناقد علي أبو شادي عن إقامة «ملتقى القاهرة الأول للقصة القصيرة» في فبراير القادم بالقاهرة حاملاً اسم يوسف إدريس، ومانحاً جائزةً مماثلة لجائزتي ملتقى الرواية والشعر في التخفيف من تلك الصدمة، رغم ما حمله ذلك الإعلان من تنويعٍ وإثراء للحركة الثقافية تحت سماء القاهرة، إذ أثار حصول مقرر الملتقى، ورئيس لجنة الشعر، الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، على جائزة الملتقى وقدرها مائة ألف جنيه مصري حفيظة الجميع. باستثناءِ قليلٍ ممن رأوا في تلك الجائزة تقديراً لجهوده في العمل الثقافي، وتصديقاً على ريادةٍ كانت، بوصفه من أوائل من كتبوا قصيدة التفعيلة في خمسينيات القرن الماضي، أما السواد الأعظم من المهتمين فقد رأوا في حصوله عليها سقوطاً أخلاقياً وقع فيه حجازي، وأكمل به مثالب ملتقاه، ففي تصريحٍ خاص لمجلة (الكلمة) عَقِبَ إعلان فوز حجازي بالجائزة صرح الشاعر المصري محمد آدم أنه كان من الأنبل والأكثر حنكة وشجاعة أن تمنح الجائزة لمن يستحق من الشعراء، ولو لم يكن ذلك المستحق قد حضر الملتقى، أو أرضى المؤسسة المنظمة له، فهذا قَدْرُ مصرَ وقَدَرُها أن تحترم الغائبين وتمنح المستحقين، وأنه يكفي حجازي ما أخذ، وما يأخذ، وما سيأخذ، وتساءل آدم لماذا لم تمنح الجائزة لعفيفي مطر، وهو صاحب ريادة شعرية لا تخطئها عين، ولم لا تمنح لأحد الشعراء المنتمين لأجيال تالية لحجازي، أم أنها كما رأى الجميع جائزةٌ مفبركة ومصنوعة على مقاس حجازي؟ واختتم آدم تعقيبه قائلاً إن الجائزةَ مجاملةٌ من ألفها إلى يائها.

ولم يكن ذلك رأي الشاعر محمد آدم وحده، فقد شاركه الرأي الشاعران رفعت سلام ومحمد سليمان، والروائي المصري سعيد الكفراوي، فالجميع كان يتوقع حصول عفيفي مطر على الجائزة، لاستحقاقه لها من عدة وجوه، منها أن عفيفي مطر يمتلك رصيداً شعرياً كبيراً، حقق فيه تجريباً ورؤىً جمالية وتجديداً في القصيدة العربية، وأنه أثرى المنجز الشعري العربي في السنوات الأخيرة وحدها بثلاثة دواوين، افتتح فيها حلقةً جديدةً في تجربته الشعرية، كما أنه شاعرٌ لا يقتصر منجزه الأدبي على الشعر وحده، وإنما له كتابات نثرية وفكرية متعددة، وله أيضاً مجموعة مسامرات قصصية للأولاد، وهذا كله لا يتوافر في حجازي الذي لم يقدم سوى ستة دواوين شعرية كان آخرها منذ عشرين سنة تقريباً، كما أن حجازي لم يسبق عفيفي مطر بالنشر سوى بفترةٍ لا تفردُ الأول بالريادة، وإن كانت الريادة تعني السبق في النشر لذهبت الجائزة إلى الشاعر عبد المنعم عواد يوسف، فله من القصائد المنشورة ما قد سبق به حجازي في الخمسينيات.

ولكن يبقى لحجازي امتيازٌ غالب على الجميع، وهو أنه مقرر الملتقى، ورئيس لجنة الشعر، وهو من قام باختيار لجنة التحكيم، وشعار الملتقى، وعناوين جلساته ومحاوره، وبالتالي فمن باب «ذهاب الجَمَل بما حمل» يجب أن يحصل حجازي على جائزة الملتقى أيضاً، والواضح للعيان أن حجازي غلَّب مصلحته الشخصية على كل شيء، بدءاً من إقصاء الأصوات الشعرية لقصيدة النثر، وانتهاءً بإصراره على الحصول على الجائزة، التي اكتست بحصوله عليها طابعاً سياسياً للمرة الثانية على التوالي في تاريخ الملتقى، ففي الدورة الأولى عزى بعض المحللين اختيار محمود درويش وتنحية نازك الملائكة وسعدي يوسف وأيضاً مطر إلى رغبةٍ في تعزيز دور القاهرة الإقليمي تجاه القضية الفلسطينية، أما هذه المرة فربما أرادت المؤسسة الرسمية ممثلةً في وزارة الثقافة مكافأة حجازي على جهوده وخدمته للنظام، ودوره في العمل الثقافي داخل المؤسسة الحاكمة، لكنها مكافأةٌ أخذت في طريقها الأخضر واليابس، ولم تبق ولو نذراً يسيراً من حمرة الخجل، كان من الممكن أن تتدثر به المؤسسة في مجابهة منتقديها ومعارضيها.

لقد احتضنت القاهرةُ القصيدة على تنوع فنياتها وجمالياتها، واختلاف كتابها ومريديها، أمسكت بيدٍ ملتقاها وضيوفَهُ، ومدت اليد الأخرى إلى ملتقى قصيدة النثر ومؤيديه، وسواءً عَبَرَ هؤلاء إلى ضفافهم بسلامةٍ كللها نجاحُ مسعاهم، أو قَصُرَت وسائل أولئك عن الوصول إلى مبتغاهم لسبب أو لآخر، فإن القاهرة جنت ثمارَ كليهما مشرقةً من جديد في سماء الثقافة العربية، مثبتةً للجميع أن المادة وحدها لا تصنعُ ريادةً ولا تحقق ثقافةً، وأنها مهما اختلفت الظروف وتغيرت الأيام وتعددت الوسائل، ستظل القاهرة كما هي قبلة المثقفين وملاذهم وسبيلهم ومقصدهم بل وقصيدتهم أيضاً.