رسالة ليبيا

استحداث هيأة عامة للثقافة ورحيل علي الجهاني

محمد الأصفر

مناشط ثقافية كثيرة انتظمت في مختلف مدن ليبيا نالت الكثير من الاهتمام من قبل المثقفين والمتابعين للشأن الثقافي ليبيا وعربيا.. ولعل إلغاء أمانة اللجنة الشعبية العامة للإعلام والثقافة (وزارة الثقافة) من قبل الهيكلية الجديدة التي أقرها مؤتمر الشعب العام، في دورته الأخيرة بداية مارس الربيع 2009م، هو الأحدث الأبرز حيث كتب العديد من الكتاب الليبيين في الصحف المحلية، وعلى مواقع النت، عدة مقالات تطالب بعودة أمانة الثقافة أو تنتقد عملها. ولم ينته هذا الشهر حتى اجتمعت اللجنة الشعبية العامة بسرت لتصدر قرارا يضع النقاط على الحروف، وينسب كل المنشآت الثقافية والأقسام الثقافية إلى جهة تتبعها وتشرف عليها وتنظم عملها وذلك بإنشاء الهيئة العامة للثقافة، وسنجد نسخة من قرار اللجنة الشعبية بالخصوص في مادة هذه المتابعة. كذلك شهد هذا الشهر استشهاد المصور صلاح نجم والصحفية سعاد بوشيبة أثناء سفرهما للالتحاق بقافلة جورج غالوي تحيا فلسطين. كذلك فجع الوسط المسرحي الليبي بوفاة الكاتب المسرحي المبدع على خليل الجهاني إثر وعكة صحية لم تمهله يومين في المستشفى. أيضا أقيمت احتفالية بمناسبة مئوية الشاعر الليبي إبراهيم الأسطى عمر. ومن الإعدادات المهمة التي تعكف لجنة على تنظيمها بعد صدور قرار الموافقة من مجلس الثقافة العام هو الإعداد لتنظيم ندوة نقدية، وتأسيس اتحاد السيميائيين العرب، حيث سيتم دعوة العديد من المشتغلين في هذا الشق من النقد وعلى رأسهم السيميائي المعروف امبرتو إيكو. بالإضافة إلى العديد من المناشط التي تقام بصورة دورية هنا وهناك وعبر هذه المتابعة يمكن للقارئ أن يخوض في التفاصيل التي يحتاجها لما قدمنا له من أخبار.

استحداث هيأة عامة للثقافة
أصدرت اللجنة الشعبية العامة في اجتماعها العادي الأول للعام 1377 و. ر (2009 مسيحي) بعد إعادة اختيارها قرارات مهمة عديدة من بينها: إنشاء المؤسسة العامة للثقافة وتقرير بعض الأحكام بشأنها ويبين القرار الجهات المدمجة والتابعة للمؤسسة على النحو التالي :ـ

1 ـ تدمج الهيئة العامة للكتاب في المؤسسة العامة للثقافة المنشأة بموجب هذا القرار، وتدمج اللجنة الوطنية للشعر الشعبي بالمركز القومي للمأثورات الشعبية.

2 ـ تدمج الهيئة العامة للسينما (الخيالة) في الهيئة العامة للمسرح والموسيقى، وتعدل تسمية الهيئة المدمج فيها بحيث تسمى (الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون).

3 ـ يدمج كل من مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، والمركز الوطني للمخطوطات التاريخية والمحفوظات، في مركز واحد يسمى (المركز الوطني للمخطوطات التاريخية) وتتولى اللجنة الشعبية العامة تنظيم المركز بناء على عرض من أمين لجنة إدارة المؤسسة العامة للثقافة.

كما شمل القرار ملحقاً بالجهات التي تتبع المؤسسة العامة للثقافة وهي:

1 ـ الهيئة العامة للصحافة.
2 ـ الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون.
3 ـ الشركة العامة للورق والطباعة.
4 ـ مجمع اللغة العربية.
5 ـ المركز الوطني للمخطوطات التاريخية.
6 ـ مركز البحوث والمعلومات والتوثيق.
7 ـ المركز القومي للمأثورات الشعبية.
8 ـ دار الكتب الوطنية/ بنغازي.
9 ـ المراكز الثقافية بالشعبيات والمكتبات العامة.
10 ـ جائزة القذافي العالمية للآداب.
11 ـ جائزة الفاتح التقديرية في الآداب والفنون.

كما أصدرت اللجنة الشعبية العامة قراراً بدمج ونقل تبعية بعض الجهات للهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون. ينص على نقل تبعية الجهات التالية للهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون :ـ

1 ـ المركز القومي لأبحاث ودراسات الموسيقى العربية.
2 ـ معهد جمال الدين الميلادي للموسيقى.
3 ـ معهد علي الشعالية للموسيقى.
4 ـ معهد بشير مخيمة للموسيقى والمسرح.

وينص كذلك على دمج الجهات التالية بالهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون :ـ

1 ـ اللجنة الوطنية للسينما والمسرح.
2 ـ اللجنة الوطنية للآداب.
3 ـ اللجنة الوطنية للفنون.
4 ـ اللجنة الوطنية للشعر الشعبي.

كما نص قرار اللجنة الشعبية العامة بشأن إنشاء الهيئة العامة للتمليك والاستثمار على إنشاء هيئة عامة تسمى "الهيئة العامة للتمليك والاستثمار" تكون لها الشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة وتتبع اللجنة الشعبية العامة للصناعة والاقتصاد والتجارة وتكون لها كافة الصلاحيات اللازمة لتنظيم ورعاية شؤون الاستثمار والتمليك. وقررت اللجنة الشعبية العامة نقل تبعية بعض الجهات إلى اللجنة الشعبية العامة وهي :ـ

1 ـ الهيئة العامة لإذاعات الجماهيرية العظمى.
2 ـ وكالة الجماهيرية للأنباء.

ونص القرار على نقل الجهات التالية إلى الهيئة العامة لإذاعات الجماهيرية العظمى:ـ


1 ـ المركز العام للإذاعات الموجهة (صوت أفريقيا).
2 ـ الإذاعات المحلية بالشعبيات.

كما نص القرار على أن اختصاصات الصحف المحلية تؤول إلى الهيئة العامة للصحافة.

رحيل الكاتب المسرحي علي خليل الجهاني
رسائل الهاتف الجوّال التي تصلني فجأة. ـ أي غير رد على رسالة أكون قد بعثت بها أنا. أولا ـ.. من الصديق الكاتب إبراهيم حميدان أكثرها تحمل أخبار نعي كتاب أو فنانين، فعبره وصلني خبر رحيل الروائي خليفة حسين مصطفى، والكاتب تيسير بن موسى وأخيرًا ـ على الرغم من أنني في مدينة بنغازي ـ رحيل الكاتب المسرحي والصديق علي خليل الجهاني. هذا الرحيل الذي جاء بشكل فجائي كما علمت من الصديق القاص عبدالقادر الدرسي. فالرجل أغمى عليه منذ يومين ونقل إلى مستشفى 7 أكتوبر ليودِّع هذا العالم بهدوء كما كان يعيش بهدوء وبصمت وبسلام.

تربطني بالفنان المسرحي على الجهاني صداقة متينة منذ عام 1973م حيث كنت عضوا في فرقة أشبال المسرح الحديث، وكان هو المشرف على هذه الفرقة التي قدمت أكثر من عمل قبل أن تنتقل إلى نادي الأهلي ببنغازي وتواصل نشاطها تحت جناحه الثقافي والاجتماعي. بعد فرقة نادي الأهلي فرقتنا الأيام وتوقفت عن مواصلة درب الفن وعلى الرغم من هذا الانقطاع إلا أن الصداقة باقية ونلتقي بين الحين والآخر صدفة أو في مناسبة من المناسبات. كنا نحن الشباب الصغار نعرض عليه محاولاتنا في كتابة المسرحية وكنا نستمع إليه وهو يحدثنا عن تاريخ المسرح وعن المسرحيات العالمية وعن أسماء كبيرة كنا نجهلها مثل ليونسكو وصامويل بكت وبريخت. ودائما يحثنا على القراءة والإطلاع والذهاب للمكتبات. وأحيانا نستقبل فرقة من درنة ونقيم لها حفل شاي فكنا مثل الكشافة الأخلاق هي كل شيء. لم نسمع منه أي كلمة بذيئة. حتى عندما يغضب أثناء التجارب من ممثل تأخر أو تهاون في تأدية دوره كان يقول لا حول ولا قوة إلا بالله. ويغادر إلى الهواء الطلق ليشعل سيجارة. أحيانا أتحدث معه عن السياسة وخاصة الاشتراكية فيشرح لي وجهة نظره حول الاشتراكية لأفهم منها أن الاشتراكية لابد أن تكون ليبية أو محلية غير مستوردة، لأن لكل شعب ظروفه المختلفة عن الشعب الآخر. الذي ربطني أكثر بالصديق علي الجهاني أن أقارب لي يسكنون في شارعه بالسلماني ودائما كنت أزور أقاربي آل صويد هناك، لأرى الحاجة والحاج وأتناول لديهم طعاما جيدا، وأقضي وقتا مرحا مع أبنائهم خاصة الراحل صالح الذي أعتبره من الحكائين الشعبيين الماهرين. وكانت حكاياته تستهويني خاصة عندما يتحدث عن المغرب. فكلما أزور أقاربي لابد أن أمر على الأستاذ علي أخذ منه كتاب أو أسلم عليه. ولقد كان الراحل علي مكافحا. رحل أبوه وتركه ليواصل تربية إخوته والعمل لمساعدتهم على مواصلة تعليمهم. وهذه المسئولية العائلية لم تسرقه أو تلهيه عن رسالة الفن الخالدة. فكان يوفق بين الواجبين. بل يمنح الفن النصيب الأعظم من الزمن.

هو مستشار وحافظ للأسرار كلما تعرضت لمشكلة عاطفية كنت أذهب إليه، واستأنس برأيه وأدخل إليه محمر الوجه غاضبا فأخرج سعيدا. غير مبال بأي مشكلة. أذكر معه الكثير من المواقف بل أن كل لقاء لي معه محفور في ذاكرتي. حتى عام 1999م لم يكن في رأسي أنني سوف أكون كاتبا. لم تكن الكتابة هاجسي. ولم تكن تهمني. كنت أحب أن أقرأ فقط. وحتى عندما أكتب هوايتي في أي ورقة أضع كلمة القراءة والسفر والرياضة. وفي منتصف 1999م عندما شعرت أنني لابد أن أكتب، وإلا حدث في رأسي انفجار. لملمت بعض الأوراق وذهبت إليه. وكنت لم أره طويلا. حتى أنني لم أجده في بيتهم القديم، ودلوني على بيته الجديد. وذهبت إليه ورحب بي. وأدخلني إلى مربوعته ذات الكراسي الخشبية والمائدة المستديرة الخشبية التي تعلوها زجاجة تحتها الكثير من العملات والطوابع والقصاصات والتحف المسطحة. وبعد القهوة قلت له لدي قصائد. وأريته عدة نصوص. قرأها ثم قام وأحضر دفترا وقال لي أكتب بخط يدك هذا النص. وقال لي كلاما جميلا مشجَّعًا. وبدأت النصوص تتقاطر من رأسي وأحضر له ليقرأ ثم عندما نشرت قصة من مذكرات شجرة التي تتحدث عن تاريخ قطعة فحم تشوي عرانيس الذرة، ثم ترمى في الطريق لتسحقها عجلات شاحنة، وبعد أن نشرت قصتي حكاية جورب قال لي أنت كاتب وسيكون لديك الكثير من الكتب التي تزين أرفف المكتبات. وبعدها لم أعد أحضر إلا لكي أهديه رواية أو مجموعة قصصية. وكنت متحمسا جدا للكتابة كلما أكتب نصا في الليل في الظهر أكون أمام بيته، وهو موعد عودته من العمل في الضمان الاجتماعي. وذات صيف كان رأس شهر، وكنت في الفندق البلدي اشتريت خضروات وفواكه، وكان معي نص جديد فطلبت من السائق أن يمر بي أولا إلى السلماني، وتوقفت أمام بيته طرقت الباب فخرج. فأعطيته النص ثم قلت له أنتظر فتحت صندوق السيارة الخلفي وكان به دلاعتين فأعطيته واحدة. درهبتها له من عتبة الباب لتستقر عند باب البيت الداخلي. في اليوم التالي قال لي أنت تسأل عن الاشتراكية والإبداع. اقتسامك الدلاع الذي كنت تحمله إلى أسرتك معي هي الاشتراكية الليبية الحقيقية.

كان دائما يشجع الكتاب الجدد وعندما عرضت مسرحيتي «شيع وطي» حضر العرض الأول وفي نهاية العرض قال لي أن الحركة المسرحية كسبت كاتبا جديدا للمسرح. وللأسف لم أواصل كتابة المسرحيات لأن الوسط المسرحي الليبي الحالي لم يعجبني. علي الجهاني رمز من رموز المسرح الليبي وهو كاتب نشط لا يتوقف عن الكتابة. لا تجده جالسا في مقهى أو يمارس النميمة. وقته للعمل. كل الزملاء أصدقاء له. لا يتكبَّر على أحد. كل من يطلب منه مسرحية ليخرجها يمنحه الفرصة ويعطيه المسرحية. لا يركض وراء المال. وخجول. وعندما قلت له لماذا لم تطبع مسرحياتك في كتب مثل علي الفلاح والبوصيري وغيرهم. قال لي لم يطلب مني أحد ذلك. وشجعته فقلت له اعطني المسرحيات مطبوعات على الورق أو على قرص. وجئته في العمل بعد أيام وأعطاني ما طلبت، وعندما ذهبت إلى طرابلس سلمت القرص للأستاذ حميدان ليسلمه بدوره للأستاذ محمد اللبلاب مسؤول النشر. ولم أتابع بعدها الموضوع، لكن لم أرَ لهذا الكاتب المسرحي المهم أي مسرحية من مسرحياته مطبوعة على ورق.

علي الجهاني تاريخ مسرحي كبير ظهر وذهب، لكن ما أسقطته سماواته من مطر على الجميع مازال وسيظل أثره إلى الأبد. فمسرحياته علامات شهدت ولادات الكثير من نجوم المسرح اليوم. لم أجد أحد من الفنانين يطعن في هذا الرجل. الجميع يشيد به. خاصة في مسرح البيضاء. وخاصة الفنان ميلود العمروني الذي رافقته في سيارته من سوسة إلى درنة وكان كل حديثنا عن المسرح، وكان للراحل علي الجهاني منه نصيب الأسد. منذ شهرين فقط كنت على موعد مع المخرج أحمد ابراهيم حسن. وضربنا موعد اللقاء في ميدان سوق الحوت، والتقينا هناك لشغل فني مشترك. وبالمصادفة وجدنا أن الميدان وما يحيط به ورشة تصوير لمسلسل جنون الحب للمخرج مفتاح بادي، والكاتب كان الأستاذ علي الجهاني. حيث تم دمج مسرحيتين هما شارع بوخمسين ونوارة، ليكونا عملا دراميا يتحدث عن أجواء بنغازي القديمة. ووجدت في الميدان الكثير من الفنانين النجوم المشاركين في العمل. ميلود العمروني.. صلاح الشيخي.. فتحي بدر.. رجب العريبي.. نجلاء الأمين.. ولم يكن الأستاذ علي الجهاني متواجدا. وهو قد أخبرني أن علاقته بالنص تنتهي عندما يغطي سن القلم بقبعته. ويترك للزملاء حرية التصرف في النص. وأحيانا قال لا أحضر العرض المسرحي، وإن حضرت فأحضر أول عرض من أجل تحية الجمهور الذي أحبه وأحترم حضوره.

لا أعرف كيف أتحدث عن هذا الفنان المتواضع القدير الذي كان فنه قريبا من الناس ومعبرا عن آمالهم وطموحاتهم ولعل عمله في مصلحة الضمان الإجتماعي قد قربه من الناس البسطاء أكثر. فهناك ترى المتقاعدين والأرامل والمطلقات والأيتام والعجزة. تراهم يراجعون على معاملاتهم ويحملون ملفاتهم وترى شخصيات حية من مختلف الأعمار. وتناول الهم الاجتماعي من قبل الكتاب ليس عيبا. بل هو الفن الحقيقي. الفن العميق.. الفن الذي ينتج التسامح والتكافل ويقوي الأواصر ويزرع الحب والخضرة وينثر المطر على وجوه الحزانى الدامعين.

هو كاتب منفتح في الحياة.. يقرأ الأدب العالمي منذ زمن ويلاحق كل جديد.. ويعرف آخر الكتب الصادرة في المسرح وفي النقد وفي الرواية. تناقشنا كثيرًا حول ميلان كونديرا.. وطريقته في الكتابة.. وحول مسائل نقدية معقدة. يختصرها لك في النهاية في كلمات قليلة. وأنا آسف جدا لكون هذا الفنان الكبير والمثقف القدير ليس أستاذا في الجامعة، يحاضر على طلبة الفنون، وليس مثلا عضوا في لجان الكتب والتقييم وغيرها. وبالطبع لن يكون. لأن الأمور الثقافية في بلادنا مازالت تسير بصورة غير صحيحة وغير موضوعية. لقد سعدت بتكريم هذا الفنان في الدورة العاشرة لمهرجان الفنون المسرحية بمدينة بنغازي منذ عامين. وقد كان تكريمه في محله وأبهج أسرته وكل محبي فنه. ولقد سعدت أيضا أنه لم يحضر الدورة الحادية عشر من نفس المهرجان التي انتظمت العام الفائت في البيضاء ـ شحات ـ درنة لأنه لو حضرها ورأى ما فيها من سلبيات وأخطاء فادحة لما رحل اليوم، ولرحل فور انتهاء حفل الختام. لأنه عاشق للمسرح وأي عبث بالمسرح يؤلمه ويجعله يغمى عليه أكثر من مرة.

ماذا سأقول لكم.. إنني أحب هذا الرجل الإنسان والنبيل. ليس لأنه شجعني.. وربط أحاسيسي بشيء اسمه فن وأدب.. ومدني بالكثير من الكتب والنصائح التي أحترمها. لكن لأنه مؤمن حقيقي برسالة الفن.. وأن تؤمن بشيء في هذا الزمن من دون نفاق اعتبره من المستحيلات. وفي حوار أجريته معه في ربيع 2008م قلت له قل لنا أي كلمة تحفظها في رأسك عن المسرح، فقال وهو مغمض العينين ورأسه شامخ يكاد يكون أفقيًّا مع السماء:

آهٍ أيها المسرح..

يا من بقيت لوحدك نبضاً حياً وعرقاً حقيقياً وأنفاساً تخلق التواصل الحسي لتكتمل الدائرة، يا من بقيت تعلن عن وجودك في كل مكان، رغم أن الماضي صار تاريخاً وذكرى، يا من بقيت للإنسان موروثاً سحرياً دافئاً لإنسان قفز من جاهليته إلى حالة وعي، ليصنع أنواراً ستبقى مضيئة، كلما فتحت ستارة لتبدأ الأحداث، يا من جئتنا من قبل الميلاد، من حضارة "هوميروس" و "هزيود" و "هيرودت" و "سولون" يا من جئتنا منذ ذلك الزمان، كم أنت ساحر وجميل!

وأخيرا أكتب هذه الكلمات عنه ولا أستطيع أن أذهب إلى الجنازة، لأن أقاربي الذين يسكنون في شارعه سيكونون حاضرين. وابنهم توفي منذ شهور ولم أذهب إلى الجنازة وحتى السهرية. أحيانا أكون مهملاً في هذه المسائل الاجتماعية المهمة. لكن سأذهب إلى قبره يوما آخر. وأرشّ عليه الماء. إن كانت السماء لا تمطر. وأضع فوقه وردة صفراء ذهبية زعفرانية لا أعرف اسمها. هي وردة شبيهة بالفراشة. وردة وجدتها في طريقي منذ أيام فالتقطها واحتفظت بها في كوب ماء وضعته على حافة النافذة. مازالت الوردة يانعة حتى الآن وكل يوم تتفتق أكثر كما يتفتق اللؤلؤ. سأحمل الوردة بكوبها إلى المقبرة. عندما أرى الماء قد بدأ يفقد شفافيته ووريقات وقلب الوردة يذبل. أعرف أن هذه الوردة أو هذه النوَّارة كما يسميها أستاذنا علي خليل الجهاني، عندما تلامس ترابا يحتوي جسده ستتحول إلى نوَّارة كبيرة بحجم الدنيا. بحجم الجنة. 

مئوية الشاعر الرومانتيكي إبراهيم الأسطى عمر 1908  ـ 2008م
الشاعر الليبي إبراهيم الأسطى عمر من الشعراء الليبيين المهمين والذين عاشوا حياتهم مدافعين عن الفكر وباذلين في سبيله كل الوقت والجهد ومساهماته التنويرية معروفة سواء في سلك لتعليم أو القضاء أو غيره. وهذا الشاعر الذي عاش حياة حافلة بالعطاء ها نحن نتذكره ونحيي ذكراه. فقبل سنوات قد تم الاحتفال في مدينة درنة عبر برنامج ثقافي متكامل امتد لأيام وشارك فيه الأدباء من مختلف مدن ليبيا وأيضا أدباء عرب. برنامج ثقافي وفني وكان النشاط آنذاك بمناسبة مرور خمسين عاما على وفاته. وها نحن نحيي ذكراه مجددا عبر احتفالية جديدة بمناسبة مرور 100عام على ميلاده، وهذه الاحتفالية تنظمها دار الكتب الوطنية ببنغازي وتبدأ عند الساعة العاشرة من صبيحة اليوم الثلاثاء  24النوار 2009م الموافق  29 صفر  1377 و. ر في قاعة الصادق النيهوم بدار الكتب الوطنية على مدى يومين كاملين، فعاليات مئوية الشاعر إبراهيم الأسطى عمر تكريماً لرموز الوطن الثقافية وعرفاناً بالمواقف التاريخية لرجال ليبيا الأبرار. تشتمل المئوية على بحوث ودراسات وشهادات لكتاب وبحاث ودارسين عن مسيرة الشاعر الوطني إبراهيم الأسطى عمر تثري الذاكرة الثقافية وتكرم مواقف النضال. وذلك بحضور وإسهام رموز ثقافية متميزة ومهتمين بالشأن الثقافي. وتنتظم على هامش المئوية أمسية شعرية. والجدير بالذكر أن الشاعر إبراهيم الأسطى عمر شاعر كبير من ليبيا.. ولد بدرنة 21/ 11/ 1908 ـ 26/ 9/ 1950 وهو جندي من جنود الفكر العربي المتوثب الطليق، الذي فهم الوطنية بأنها أكبر من العصبيات، وأسمى من الحزازات، فالوطن أفق أوسع، والإنسانية في مفهومها الصحيح أكثر رحابة وطلاقة. هاجر إلى مصر، و سوريا، و العراق، و شرق الأردن، وهناك اتصل بعدد من الأدباء، واتصل بأعضاء لجنة الدفاع عن برقة و طرابلس في دمشق. ثم عاد إلى مدينته درنة. استمر في نشاطه النضالي، ورأس فرع جمعية عمر المختار بدرنة، كما أنه عين قاضياً أهلياً بدرنة. وهو من الشعراء المهمين عند دراسة الشعر الليبي، فهو من شعراء الرومانتيكية أو الرومانسية الحديثة. وأحد الأصوات الشعرية التي نادت بحرية الإنسان. من أجل حرية ليبيا حمل السلاح.. سلاح العسكري في الميدان، وحمل أيضا سلاح الكلمة في ميدان المعركة الفكرية، فكان بطلاً في الميدانين، ورجلاً لا ينحني بل يرفع رأسه من أجل وطنه ومن أجل الحرية.

وفي يوم  26/ 9/ 1950  توفي الشاعر/ إبراهيم الأسطى عمر، غرقاً في البحر.

من دواوينه: البلبل والوكر، مطبعة الإسكندرية، ط الأولى،  1967 ف. تجميع وتحقيق عبدالباسط الدلال.  قصيدة البلبل والوكر.. يوجه نداءه من ديار الهجرة في مصر إلى شيخ الشهداء وقائد الجهاد عمر المختار:

حُمت في الجو فألفيت الرفاق
جوقة من عندليب وهزار
وشحارير ضناها الاشتياق
وبخاتي وقماري وكنار
طرنا أسراباً غداة الجو راق
صادحات بأناشيد الفخار
مسرعات في هبوط وصعود
في ضياء الشمس في نور القمر
قاصدات وطن الشيخ الشهيد
فارس الهيجاء حاميها عمر