يرى الناقد المصري أنه بِلُغة مجازية، استخدمت لغة الوقت الراهن في معالجة قضية العرب التي مر عليها سبعة عقود، وباستخدام ضمير المخاطب، تحوّل الشفاهي إلي التدويني، فتخلقت الحميمية، وربطت القارئ بالعمل- رغم بطء الإيقاع – واستطاع الكاتب، ان يفرش الأبعاد الخاصة للأفراد، لتكون قاعدة يبني عليها معمار الوجع العام.

وحيد الطويلة .. والحكومات الأمنية

شوقي عبدالحميد يحيى

 

رغم تحول الكثير من دول منطقتنا العربية، إلي فلسطين جديدة، فإن فلسطين السليبة تظل في العمق العربي، رمزا للضياع، ولخيانة الأحلام، والآمال. فقد تعددت الكتابات الروائية حول القضية الفلسطينية، التي تتوه من الذاكرة، بمرور الأيام والأعوام، وفق ما أشار إليه الكاتب الفلسطيني الأشهر "غسان كنفاني" في روايته المرجع "عائد إلي يافا" حيث يرمز " كنفاني" إلي فلسطين بابن السارد "سعيد س" "خلدون" الذي اصبح اسمه فيما بعد "دوف"، والذي تركه أو أُرغم علي تركه -هو وزوجته "صفية" حين الهجوم الكاسح علي يافا، ولم يكن قد تجاوز الخمسة أشهر من عمره، ثم عاد لاسترداده بعد عشرين عاما، فوجده شخصا آخر، فقد تغيرت لغته، وأصبح جنديا في جيش الدفاع، ورفض العودة معهما، مكيلا لهما الاتهامات، مؤنبا {كان يمكن لذلك كله ألا يحدث لو تصرفتم كما يتعين علي الرجل المتحضر الواعي أن يتصرف. كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا. وإذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن ألا تتركوا طفلا رضيعا في السرير. وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة.. لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا . أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل. الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات! ولقد أمضيتَ عشرين سنة تبكي.. أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك التافه المفلول؟}.

وفي رواية الفلسطينية "حزامة حبايب"التي تعبر عن الانفصال المادي، والانفصال الروحي، بين جيل عاش المآساة، وجيل عاش في الشتات، بما يمكن معه القول بموت القضية، وما عبرت عنه الساردة في "قبل أن تنام الملكة" كأفضل تعبير عن انفصام الجيل الجديد عن جيل الآباء، حين نطقت الأبنة "ملكة" لأمها "جهاد" ثلاثا { بكرهك .. بكرهك .. بكرهك} { همستُ في صدري، وقد غطيتُ وجهي بكفيَّ المرتعشتين، كي لا أراك وأنت تكرهينني}. فعبر غسان عن مسؤلية الماضي، وعبرت حبايب عن انفصال المستقبل، وبناء حياة جديدة في البلاد الجديدة. ثم يأتي الروائي المصري وحيد الطويلة في روايته الثالثة "باب الليل"[1] ضمن مسيرته الروائية ، ليستغل فترة وجوده في تونس، كأحد أهم الملاجئ التي نزح إليها الفسطينيون، بالتراضي، أو بالإجبار، بعد اجتياح إسرائيل للبنان في العام 1882، التي كانت مقر القيادة الفلسطينية، والقاعدة التي ينطلق منها سلاح المقاومة للوجود الإسرائيلي، ليعبر عن الحاضر العربي، متخذا من القضية الفلسطينية، جوهرا، ورمزا، لما آلت إليه الأنظمة العربية. حيث كانت تونس (العاصمة والدولة) هي المقر الذي تحول إلي مجرد رمز (جامعة الدول العربية) في فترة بيع العرب لمصر، وغضبهم الحنجوري عليها، التي فتحت أمامهم الطريق للوجود الفلسطيني، المهدد بالمحو، فكان المبني والمعني، مجرد رمز، ومكان للتجمع، استعاض عنه الطويلة، بما يناسب الرؤية في روايته، بالمقهي الحامل لرؤيته الساخرة، والحاملة للضدية الإبداعية فسماها "لمة الأحباب" ليعود اسمها (الحقيقي) –وفق رؤية الرواية أيضا - إلي "مقهي الأجانب"، دون أن يحولها إلي "مقهي الغرماء"، مستغلا تميزه الإسلوبي شديد الخصوصية، المشبع بالسخرية المريرة، والمشحونة بالاستعارات والمجازات، وصولا لبؤرة الرؤية الروائية التي تري في الحكومات الأمنية العربية، اس البلاء، ونقمة البلاد ، ليس لوجود الوضع الفسطيني إلي ما هو عليه، فقط، وإنما إلي ما يسوق العديد من الدول العربية لتسير في نفس المسار، نافذا إليها من خلال معاناة الفرد، الذي من مجموعه، يتشكل المجتمع، ويتشكل الكيان الجمعي. ولنتبين بعد قراءة "حذاء فليني" - التي أصدرها الكاتب بعد "باب الليل" بنحو ثلاث سنوات (2016) والتي تركز السرد فيها حول المعتقلات، وأثرها النفسي، أيضا، علي الفرد والمجتمع- أنه مبدع مهموم بالهم الجمعي والوضع المجتمعي.

تبدأ الرواية بالعتبة الأولي "باب الليل" بمدلولاته المتناقضة. حيث يوحي "الباب" بالفتح، أو الولوج، أو الكشف. ويوحي الليل، من بين ما يوحيه، بالمستور، والخبيئ، وهو ما يقودنا إلي ضربة البداية في الرواية { كل شئ يحدث في الحمام،}، والحمام هنا هو، حمام المقهي بالطبع. حيث يوحي الحمام، بالخصوصية، والأمور التحتية، التي هي ألصق بالإنسان الفرد، كما توحي بالرائحة الكريهة، والفضلات، وهو الجو الذي وصم العلاقات بين رواد المقهي، وما أراده الكاتب كوضع للعلاقة بين الحكام العرب والمحكومين، خاصة وأن المقهي قد جمع الكثير من الجنسيات العربية، كما لم يعدم المقهي الوجود الغربي، الذي عبر –أيضا- عن الوضع العربي، فقد بدت العلاقات، كعملية بيع وشراء، حيث تمثل الجانب الغربي في الرجال، من فرنسا والمانيا وإيطاليا، بينما تمثل الجانب العربي في النساء، وكأنها عملية بيع للشرف، وقد عبر عنها الكاتب في {بنات يتجولن في المقهي، يخترن طاولة ثم يبدلنها، كأنما يقتربن بخفة من مواقع الأهداف، بالله عليك لا تنزعج من مشيتهن، ولا تنفرط من هيئتهن، فما تراه اليوم ستتعود عليه غدا. ستتعود عيناك علي عشرات الكيلوتات التي تنزل عليك، حين تنحسر حواف الأحزمة، تنزلق لأسفل فيما عيناك حائرتان في الأعلي}ص14.

حتي وإن أخذت تصرفاتهن صيغة انتقامية، مثلما حدث مع "ألفة" وعلاقتها بالألماني الذي هام بها وذاق عسلها، واشتري لها بيتا، وسافر بعد اسبوع. غير أنها بعد سفره، لم تنتظره، فراحت تواصل الانتقام، لتقول عنها "نعيمة {مع التونسي هكذا.. ربي بعت لك الحلال والمادة وأنت تلعبين}. كأنها تلوم نفسها، كأنها تتحسر عليها. لكن الألماني عاد وطارت معه إلي ألمانيا، لكن الخيانة تسري في دمها، ضبطها، نظر إليها باحتقار وأعطاها ظهره، لحقت به قائلة {كل حاجة عندكم بيضاء، لم أعد قادرة علي تحمل الأخلاق النظيفة.. أريد بشرا لا ملائكة}ص214. كتبت البنت السمراء باسمه وتركتها.

وكأنها تنتحل دور "مصطفي" في رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلي الشمال"، الذي راح ينتقم من الإنجليز بركوب بنات الإنجليز، ها هي ألفة تقول لنعيمة {خذدي نَفَسِك يا نعيمة واهدئي، أخذت لك بثأرك من الأجانب}ص220. ثم تخبرها بأنها رأت أخاها، وأنها نامت معه.. حتي البنت التي خلفتها -"ألفة"، والبنت هي من كتبتها باسم الألماني- تشبهه { وكيف عرفت أنها ابنته؟

أنا متأكدة أنها ابنته، اللبن الخائف لاينجب غير الإناث}ص222.

وقد تعرفت "نعيمة" علي الأيطالي الذي هام بها، وسافر علي وعد العودة، ويرسل إليها النقود، التي تصرف منها علي أختها الساكنة في بيت الطالبات، لكن أختها – في غفلة منها.. تستميل الإيطالي، وتطعن في "نعيمة" ليعود الإيطالي، ويأخذ الأخت ويطير بها إلي إيطاليا. {أختك حلمت وخططت، وطارت. كرهت –نعيمة- الرجال، والأجانب تحديدا. أول فكرة تقفز علي ذهنها كل صباح بعد التثاؤب، أن تغير علي الأجانب، تحصد النقود من جيوبهم، تحصدهم، تنهب أجسادهم، وتسبي أرواحهم إن استطاعت}ص35. ولتأتي الخيانة مِن مَن ظننته سوف يرد إليك الجميل. كما غدرت منظمة التحرير، بأصدقاء النضال- وما سنتعرف عليه بعد قليل-. نعيمة التي يقول عنها السارد {إن أوجعتك شهوتك وحضرت في وقت لا تحضر فيه البنات عادة، ستجد نعيمة في انتظارك في ثكنتها المعتادة، نعيمة جرينتش، جاءت من بعيد من أقصي الشمال، بشهادة متوسطة لا تستطيع أن تمنحها عملا ولا شربة ماء في مدينة يتسكع فيها حاصلون علي شهادة أعلي، ، ويدوخ فيها كثيرون بحثا عن أية فرصة. المدينة فرصة دائما، والأهل في ضيق، والعمل هناك مستحيل، والعريس بعيد}ص28.

{الإيطاليون والفرنسيون تحديدا يروحون ويجيئون دائما، الشاطئ قريب والشهوة كامنة، الحنين متقد واللغة مشتركة. الجسد سيد اللعبة واللون الخمري بوابته، والعجيزات بطاقته، وبنات محتاجات يعملن في مقاه غالبا، يلقطن أرزاقهن، يضغطن علي أمعائهن بقسوة زائدة، يعصرنها كصائمي الدهر ويدخرن ما استطعن من نقود للمظاهر، يلبسن ويمنحن أنفسهن مظهرا براقا وعافية وفيرة. والزواج بعيد – نصف البنات عوانس}ص30 ، 31. فالكل قد تلوثت أقدامه فيما يطفحه الحمام. والكل لديه تحت السطح ما تكشف عنه البيبان.

وصاحبة المقهي الشهية، في نهاية الثلاثينيات، أو قبلها بعامين، والتي تقول فجأة {من لم ينم مع امرأة في الثلاثينيات، لم يذق طعم النسوان}ص90، تشعر أنها صاحبة الجميع، فما أن تشعر بأن أحدا يحبها حتي تمد له حبل الوصال، دون وصال.

وتتعرف صاحبة المقهي علي شاب من خارج المقهي، وسط حقد أبو شندي الذي يهيم بها. وفجأة تتعب من الفتي النيئ، البارومتر ليس معطلا عندها هذه الأيام، لابد أنه تحطم، تطرده بحفاوة كما اصطادته بحفاوة، وكمن بدلت جوربها بجورب آخر، ترافق واحدا جديدا من رجال الأمن}ص113.

وتاتيها مكالمة من أحد رجالها الكثر في الخارج {ترتب أمرها ، تأخذ زوجها لملعبه دون إحماء، تنام معه، تتفرج علي السقف، تأخذ المال وتسافر.

ينغز نغزتين، ويرتاح حتي لا يسألني} وبعد أن تسافر يقول أبو شندي:{ ذهبت لفرنسا لتلعب في كأس العالم، ضجرت من المباريات المحلية والنشيد الوطني، واشتاقت إلي الملاعب الأجنبية}ص113.

ومن بين زبائن المقهي الدائمين أيضا، تلك الصحفية ، التي تنتقي زبائنها ممن لا تتجاوز أعمارهن الثلاثين {هي عضوة مؤسسة في المنتخب الوطني للحمام، لكنها كما أخبرتك سابقا مختلفة.. لا تختار أبدا واحدا بشفاه رفيعة، وحين يتعذر المخزون وتشح البضاعة تنظر بتمعن بالغ لأصابعهم، تختار صاحب الأصابع الطويلة الممتلئة، الخشنة منها. – الناعمة يذهب بها لأمه}ص121.

وأيضا تأتي"حلومة" التي لم تُكمل تعليمها. ورفض والدها كتابتها باسمه، فتم نسبها إلي الخال. أحبت فرنسي، ثم احبت واحدا من بني جلدتها كونت معه شركة وترك لها الإدارة، فساقها إلي شيكات بدون رصيد وعشر سنوات سجن، الذي تتعلم فيه السحاق، لتشتبك مع "درة" صاحبة المقهي الباحثة عن صديقة سحاقية أو صديق شاذ.

برع الكاتب في منحنا الإحساس ببشرية هذه النماذج التي قدمها، ولم يتوقف أي منها عند مجرد النموذج، فكانت المآساة الشخصية، وراء المآساة الوطنية، فمن خلال الفرد يتشكل المجتمع. فرأينا "أبو شندي" تكمن مآساة استشهاد زوجته في الكمين المُعد له، بؤرة دافعة للآنتقام. وكذلك "أبو جعفر" الذي فقد صولجانه الذي كانه في العراق، مع فقد أبنائه وزوجته، فضلا عن ما كان يعيشه متوافقا مع النظام العراقي، والذي يبينه السارد في (فلسطيني مثله – لا ليس مثله – من الكوادر الكبيرة التي قضت عمرها تناضل بالكلام أمام الجماهير وأمام شاشات التليفزيون بقوة، مناضل بحق لو تكلمت عن النسوان يقلب الكلام إلي النضال الوطني في النسوان... نموذج ممتاز لمناضلي المقاهي الكبار}ص72 ، 73. والسوري "شادي" الذي سحقته هزيمة يونيو 67، وتضييق الخناق عليه والذي عبر عنه السارد في تعبير صادق، حين عبر عن سجن الحرية لحين تحرير الأرض – التي لم تتحرر حتي الآن. فضلا بالطبع عن المآسي النسائية، والتي تشكل هزائمها بؤرة –أيضا- للتحرك، فمن خانتها أختها التي كانت تتكفلها "نعيمة" التي لم تُكمل تعليمها في بلد لايجد من أكمل تعليمه عملا. ومن رفض والدها تسميتها باسمه، فعاشت دون أن تشعر بحنان االأسرة، مهما كانت عليه الأسرة المضيفة.

وصاحبة المقهي"درة" التي لم تكن تحب زوجها، الذي يأتي إلي المقهي في ربع وعي، أو بدونه. ولا يسجل أهدافا في ملعب غرفة النوم، أو حتي تسديدات قوية {وما لم يستطع أن يفعله هو، فعلته نيابة عنه، وضعت النياشين علي صدره، والأوسمة فوق عانته، حتي ضاقت...... خلفت الأولاد وحدي}ص94. و"رحمة" التي تتعرف علي الحاج "حسن الفقي" الليبي صاحب المسبحة الذهبية. والذي ينتهي من العملية بسرعة كأنه في سباق، ثم يعطيها ظهره، ليُأدي ذلك إلي {كرهته رغم أن قلبها لايتسع للكره، رغم أنها أنجبت طفلين، راحت تعطيه بطنها وتعد من واحد لعشرين، ثم تدير ظهرها سريعا قبله. أحيانا تعد لخمسة عشر}ص191.

و"ألفة" التي{تأهبت لفرصتها التي جاءتها تجري، عريس يعيش في أوروبا، وآخر في الخليج، لم تكن تعرف أن النقود أصبحت تزرع في الأخير، اختارات الأول، قالت إنها وقعت في غرامه وعرضت بضاعتها سريعا، تعاشقا وأصبحت حكايتها مضرب الأمثال، وضع ختمه علي علبة الجواهر، لكنه في اللحظة الأخيرة قطع تذكرة واحدة ... ومضي.. وجعها، نظرت لنفسها في المرآة وأطالت، أقسمت لتأخذن كل شئ مهما كان}ص205.

كل تلك النماذج –وغيرها- إن عبرت، فإنما تعبر عن جو الحمامات، التي سعي الكاتب لإضفائها علي الحالة السياسية التي يعبر عنها النماذج الرجالية، خاصة النماذج الفلسطينية التي كانت من بين الأسماء المكتوبة بالأحمر في قوائم إسرائيل. المشطوبة بالأحمر في كشوف الفلسطينيين، الذين عليهم إن أرادوا التنفس، ان يبحثوا عن الهواء بعيدا عن هذا المكان { وفلسطينيون دائمون يأتون فرادي موزعون علي طاولتين، يحكون بصوت خفيض، ثم ينسون. تضحك – نعيمة – وتقول: ملجأ الأيتام}ص26. {فلسطينوين تماما، أقحاح بعيون ذابلة، ليس في وجههم نقطة ماء، لا يعرفون علي وجه الدقة، لماذا جاءوا إلي هنا، وحتي لو عرفوا لايجدون سببا وجيها أو نصف وجيه، ربما لديهم سبب يتيم لبقائهم هنا، الجهات الأصلية معلقة، والجهات الاحتياطية موصدة... يبدون كبلهاء مسحوقين مستسلمين لقدرهم.. وحده ياتي، وحده يجلس، وحده يحكي وحده، كأنه شبح حديد}ص143.

و يأتي في مقدمة هؤلاء الفلسطينيون، "أبو شندي" الحابس مآساته في أعماقه لتفيض في تعليقاته علي الأجواء من حوله، والذي يعتبر الشخصية الرئيسة في العمل، بما يفعله من التعليق علي الشخوص جميعها –تقريبا- والشاهد علي قيام وانهيار مجتمع المقهي (المجتمع العربي) وكأنه الكاتب المصري الجالس يسجل أحداث التاريخ.

فأبو شندي، الذي فقد زوجته، التي كان يحبها حبا كبير، في عملية مدبرة من الإسرائيليين، الذين زرعوا لغما في سيارته، لكن الظروف ساقت زوجته لتقود هي السيارة، وتفتديه بروحها، الأمر الذي عكس المرارة الفردية، لتتحد مع المرارة الجمعية، فنراه (يجلس في المقهي بملامح مكتفية بدون وظيفة ولا عمل ولا نقود تحسب سوي المنحة التي تأتيه من هناك}ص45. ثم يأتي الربط بينه وبين السياسة {يقول لك أبو شندي وهو جالس علي طرف طاولته، في زاوية قصية يراك ولا تراه، تحت صورة الرئيس مباشرة. تبدل المقعد ولا تتبدل صورة السيد الرئيس }ص44، علي أن استخدام {يراك ولا تراه} دسها الكاتب بذكاء، مشيرا إلي الرئيس، وليس أبو شادي. حيث الرئيس يري بعيون مخبريه، وانت لا تراه، وغالبا، لا تري حتي مخبريه. ثم يبدا وجع السلطة الفلسطينية في حديث الإشارة إلي أبو شندي، الحاملة لسخريته منها{لكن السَلَطة الفلسطينية – ينطقها مفتوحة – يكرمها الله ، كسرت الكريستال أو أعطته لونا آخر وأكملت جميلها: خفضت رواتبنا، أحالتنا إلي التقاعد أحياء بعد أن رمتنا سابقا علي رصيف الموتي الأحياء}ص55. ويتم الربط بين ما يجري في المقهي، وما يمور في أعماقه {نحن نشبه المومسات، لكنهن أفضل منا، الفارق الوحيد أنهن يفهمن أكثر من قادتنا. علي الأقل هن يحصلن علي مقابل، أما نحن فلا}ص57. ثم تطفح مرارته مما حدث من السلطة الفلسطينية فيقول للملكة –صاحبة المقهي- {أنت اكبر مثال وأنجح مثال علي ما حدث للثورة الفلسطينية.

تضحك كأنه أهداها جائزة:- كيف؟

أنت أكتر واحدة تشبهينها، أنت تناضلين من زمان وهي أيضا، نحن كلنا قمنا بثورة في المنافي وأنت وحدك قمت بثورة في المقاهي. الفرق الوحيد أنك تربحين، أما نحن فنخسر... يقول لنفسه: الثورة مثل امرأة وضعت اصبعها في شيئها في نهاية المطاف، مثلها تماما وتنادي علي المارة والمانحين بصوت عال ليسمعوا وصلة من وصلات شبقها، أو يرموا النقود في حجرها}ص116 ، 117.

كما يعلق علي "حلومة" التي أدمنت لعب الورق كما أدمنت السحاق {لعب الورق هو الميدان الوحيد الذي تنتصر فيه، هو اللعبة اليتيمة التي تصارع بها الحياة، كأنها تريد أن تهزم الحظ السئ الذي لازمها كظلها، لتكسره. تنتصر في اللعب لتقاوم الهزائم المتكررة. هي أشرف من جماعتنا، هي سحاقية مغلوبة علي أمرها، تمارسه خفية وبحشمة معقولة، وفي وجههاالكثير من الحياء. أما الجماعة عندنا فهم يمارسونه علنا ولا تحمر وجوههم}ص189. ثم يقترب من صلب الموضوع، المتمثل في قمة الهرم السلطوي. فعندما يري "درة" صاحبة ومديرة المقهي، تبدل وتقصي، وتقرب بعض الرجال، فيري ما يحدث يشبه ما يفعله الحكام العرب {رئيسة وزراء، طيبة وذكية، تفعل ما يفعله رؤساؤنا بالضبط، تنقل من الحكومة للاحتياط، ثم العكس، والجميع علي دكة قلقة مشتعلة دائما}ص223.

والشخصية الفلسطينية الثانية، "أبو جعفر المنصور"، والذي تحول اسمه ل"أبو جعفر المهزوم" وهو الشخصية التي أُجبرت علي الرحيل من العراق، الذي يراها هي الوحيدة التي كانت نصيرا للقضية الفلسطينية، فيعيش علي ذكرياتها، لا في الواقع، ولكنه راح في سكون يدونها، ربما يكتب رواية عنها، وربما كان يكتب مذكراته عنها. وبعد طول فترة عمل فيها للربط بين السلطتين، العراقية الصدامية، والفلسطينية. تبلور رأيه في {الأمة العربية كلها –ما عدا الرفيق صدام – اشتغلت علي الثورة الفلسطينية، ورقة التوت التي غطوا بها عوراتهم، ناضلوا بها كذبا ونافحوا عنها بهتانا}ص147.

ثم يأتي الدافع الفردي، ليلعب دوره في تحريك الغضب، يقول السارد عنه {اللحظة الفاصلة في حياته كانت لحظة سقوط العراق في يد الاحتلال، سقط معه، محا الغزاة تاريخه في أيام، قتلوا كل أحلامه وتركوها دون قبر، كل ما عاش من أجله رآه ينتحر أمام ناظريه. لا يعرف أين ولده ولا زوجته ولا استطاع البحث عنهما، علي ظهره حمل جثة ماضيه}ص147.

ويتوقف الزمن بأبو جعفر عند وجوده بالعراق الذي تحقق فيها، ووجد بغيته، ليري كل ما عدا العراق، كفاح بالحناجر، حتي أنه أعد ملفا كتب عليه بالخط الكبير "حناجر القصب"{أبو جعفر المنصور، كما كانوا يسمونه، حامي حمي الثورة في العراق- وجد نفسه في لحظة واحدة أبو جعفر المهزوم، ضاع العراق الذي كان يلعب فيه دور البطل الثاني، دور البطولة محجوز} في إشارة أخري للرئيس الذي لا يجرؤ واحد الاقتراب منه، {ضاع الكفاح الذي كان يقوم فيه بدور الحارس الأول، والأرض التي وطئها، آخر ما تحتاجه مناضلون ولو بالحناجر. .. الناس تناضل في كرة القدم وفي عجيزات النساء}ص149. ويمرض أبو جعفر إذ {فجأة غاب، لم يعد يراه أحد، ونعيمة تسأل عنه بإلحاح وشغف، عندما عاد قال إنه دخل المستشفي، وجدوا عنده المرارة وضغط الدم والبروستاتا وحصوات كثيرةْ}ص154. لنتبين بعد ذلك أن كل الأمراض التي يتصور أنها أصابته، ليست إلا أمراضا نفسية. وهو مايزيد من الإحساس بتشوه الإنسان الفلسطيني، بل كل من ساعد القضية الفلسطينية، خاصة تعدد الأسماء لكل منها، الذي يقود لضياع الهوية، لا للأفراد ، وإنما للقضية. حيث يأتي أيضا- وإن كان من غير الفلسطينيين في الجنسية- "شادي"، السوري الذي فرمته نكسة 67 وأدخلت (الحرية) السجن لحين تحرير الأرض، فذهب يبحث عنها في لبنان، ومنها تطوع ليقاتل مع الثورة الفلسطينية والذي بالطبع لن تعرف إن كان اسمه – شادي – هو الاسم الحقيقي أو واحدا من أسمائه العديدة التي تبدلت كثيرا طوال نضاله في الثورة الفلسطينية. وهو الشخصية التي وصلت لحد الرؤية الساخرة للحياة وللنضال، فراح يعيش الحياة بالمرح، الذي يفرشه من حوله ويشيع البهجة في طاولة الفلسطينيين، وكأنه يسخر من كل ما كان من نضال، فلم يصل إلي شئ. وكأنه يستحضر رؤية "أنيس زكي"- ولي النعم عماد حمدي - بدوره في العوامة في فيلم "ثرثرة فوق النيل"، حيث انخفض لديه سقف الروح وارتفع مؤشر الجسد.

فها هو يفلسف حالته في {شبع مني النضال، مع أني لم أشبع منه}.

ولما طال به البقاء في تونس، بدأ عملية تحول للدخول في عالم النساء، وكأنه النوع العصري من الكفاح، او المخدر الذي سينسي فيه جروحه {ليس هناك غير الجسد لنناضل فيه، لم يعد لدينا غيره، هو الذي يستحق، ولا أريد لأحد، أي أحد أن ينغص عليَّ "كفاحي فيه"} ص161.

وتتحول الثورة إلي تجارة، فيأتي من مصر مصدر آخر للضحك، فاروق جعفر، الذي أتي إلي تونس ليناصر الثورة الفلسطينية، لم يُكمل تعليمه – أيضا -، وإن أكمل حلمه بالمقاومة. وتحول اسمه إلي "انجرام" . فجاهد في بيروت، غير انه طُرد مع من طردوا إلي تونس علي أيدي دبابات شارون. (أولاده في أمريكا يتعلمون علي حساب المنظمة، زوجته فلسطينية ربما أكثر فلسطينية من شادي، حسابه في البنك منفتح، وهو المنقذ وسط أوقات الفاقة والعوز يعطي بالدينار ويأخذ بالدولار، أو يأخذ الدولارات بسعر البنك ليبيعها في السوق السوداء والحمد لله}ص172.

وتنفتح الرؤية وتتسع لتشمل غير تونس، التي يُستدعي فيها ولي أمر ويخضع للمحاكمة المدرسية، لأن ابنه تجرأ وتمني أن يصبح رئيسا، عندما يكبر. ولا تختلف الرؤيا لباقي الدول العربية {علي الطاولة دائما ليبيون عابرون يقضون، أياما أو أسابيع، يطيرون إلي تونس للسياحة.. تونس قريبة وجميلة.. فيها كل شئ. يقول واحد منهم ويلعب بحواجبه ولسانه، بضعة مصريين وواحد من الخليج، سوري أو لبناني أتي للتجارة أو هربا من رصاصة أو قضبان من حديد في دولته، كل واحد يحمل بين ضلوعه حكاية يبحث عن واحدة يحكيها لها}ص12. ويتماهي الوجود العربي، في عالم المقهي، بكل خيباته، وانكساراته، ومناخه الطافح من داخل الحمام.

ومن بين هذه الشخصيات الكثيرة، يكمن هناك شخصية "سي المنجي" رجل الأمن المتخفي، ظاهريا، المكشوف والفاعل، باطنيا، بما يتوافق مع رجل المخابرات، وهو {شيخ الأمن، الضابط الشيخ أو الشيخ الضابط، الذي يرابط في المقهي ما بين الصلوات.. يراقب الزبائن هنا، ويراقب الزبائن هناك}. يستغل الفرصة، ويتقرب من للاّ درة ، محاولا الدخول بها مرة أخري، بعد أن كان قد فشل في اقتحام مغارتها في المرة الأولي، ليكشف عن عجزه الرمزي، او عجز النظام الأمني عن تحقيق الأهداف، أو اقتحام المرمي. فتتجرأ عليه للاّ درة لأول مرة، وتطرده خارج المقهي، الذي نال حريته بعد إنزياح الأمن عنه، بل تتجرأ علي من وراءه، فتحطم صورة الرئيس نفسه، المعلقة في الحمام، وتتنفس الصعداء، ومقهاها، مملكتها أو دولتها، وكأنها دولة نالت حريتها، أو تخلصت من الرئيس وزبانيته، أو رجال أمنه اللابدين في كل الأرجاء، والشافطين لأكسوجين الحياة، من الهواء.

التقنية الروائية

بِلُغة مجازية، استخدمت لغة الوقت الراهن، في معالجة قضية العرب التي مر عليها أكثر من ستة عقود، وباستخدام ضمير المخاطب، التي حولت الشفاهي إلي التدويني، فخلقت الحميمية، وربطت القارئ بالعمل- رغم بطئ الإيقاع – استطاع وحيد الطويلة، ان يفرش الأبعاد الخاصة للأفراد، لتكون قاعدة يبني عليها معمار الوجع العام، عبر مجموعة من الأبواب، يدخل القارئ من كل باب، ليتعرف علي عالم المخبوء في حياة الشخصيات، ليشكل منها العالم المحسوس لكل عربي يعيش عصرنا المهزوم في الواقع، المنتصر عبر الخطابية الحنجورية، الممتدة عبر سنوات طالت واستطالت، فحولت العرب إلي ظاهرة كلامية، مدعومة بسلاح الأمن الفارض وجوده، والكاتم علي أنفاس ناسه، وخلقت الفجوة الهائلة، بين القاع والقمة. استخدم فيها مجموعة من الحيل الإبداعية، التي تمنح العمل خصوصيته، وتفرده. مثل السخرية المريرة ، في مثل{لكن هواء الرغبة يضبط إيقاع الحرارة، يحمي عند دفع الفاتورة أو عندما تومئ واحدة لطاولة مجاورة: تسمح تولع لي، والأخري بجوارها بضحكة منغنجة: تسمح تولعني}ص15. وعندما يتحدث السارد عن الصحفية، التي تنتقي زبائنها ممن لا تتجاوز أعمارهن الثلاثين {هي عضوة مؤسسة في المنتخب الوطني للحمام، لكنها كما أخبرتك سابقا مختلفة.. لا تختار أبدا واحدا بشفاه رفيعة، وحين يتعذر المخزون وتشح البضاعة تنظر بتمعن بالغ لأصابعهم، تختار صاحب الأصابع الطويلة الممتلئة، الخشنة منها. – الناعمة يذهب بها لأمه}ص121.

الوصف والغواية .. والانتقام

  • الكاتب في التمهيد للدخول علي الشخصية، كما في مدخله للتعريف ب"ألفة" الذي استغرق نحو أربع صفحات وحده.، تجسيدا للغواية، وإشاعة للجو المادي الذي يغمر المكان، بمن فيه، ومن ليس فيه، في "باب النار" وكأنه يعبر عن الاشتعال الذي تشعه ألفة، ويصيب بلهبه كل ناس المقهي{قل عنها ما تشاء، إملآ عينيك بها، افتحها علي اتساعها كي تستطيع أن تستحضرها بكل تفاصيلها إن غابت، العنها في سرك إن شئت، لأنك لا تستطيع الوصول إليها، أو أن تتجاهلها، يمكن لك أن تغالب ضعفك وترغبها علنا، في الغالب سترغبها، فحكايتها حكاية وجسدها رواية..........}ص200. ولنلاحظ هنا – كما في الكثير من أبواب الرواية – استخدام ضمير المخاطب، الذي منح الرواية الحميمية، حيث تُشعر القارئ بأن المتحدث يتوجه إليك بالحديث، خاصة أن اللغة، هي المستعملة في حديث الأصدقاء، فنشأت الحميمية، بينه وبين العمل، وكما في {إنتَظرِها هنا في قلب المقهي. .. إنتظر قليلا، الآن تظهر علي الشاشة} كما يضع الكاتب الحدث في الزمن الحاضر، وكأن عرضا سينمائيا يُعرض مباشرة {تطل من الباب، تتمهل خلفه، تسأل كبير الجرسونات الواقف منذ الرابعة عصرا خلف ماكينة حصر الإيراد اليومي، تسأله عمن دخل ومن خرج، وبملامح جادة تشير عليه كأنما تأمره ثم تُهم بالدخول}ص80.

ودائما يكشف السرد عما وراء السطح من بؤس وفقر، فمثلما رأينا في "نعيمة" فهو أيضا مع "ألفة" التي أنطقت الرصين، واشعلت نار المشتاق {حاولت أمها أن تزوجها لكهل تونسي ثري، ينفض عنهما أيام الفقر الذي عاشتا فيه. رفضت}ص205. ولم يكن نصيبها بأقل من الأخريات، فنالت منه ما يفيض عن حاجتها. وهو ما يُترجم أحد عتبات الرواية {أبواب الرواية: بعضها أبواب مدينة تونس، بعضها أبوابك أو أبوابها}ص3. كما جاءت العتبة التالية لهذه العتبة (الإهداء) والذي في جزء منه يقول –الكاتب) {وإلي فيروز الكبيرة التي تحلف أنها تحبني أكثر من رئيس الجمهورية شخصيا} ليعلن منذ البداية، أن رئيس الجمهورية- في أي بلد عربية – هو النموذج الأعلي للحب، والذي لايملك أي ممواطن أن يحلم به، مثلما تعرض والد الطفل الذي تمني أن يكون رئيسا للجمهورية –عندما يكبر- فكانت جرما يعاقب عليه الوالد، الذي لم يجمح طموح ابنه الطفل.

الشكل الروائي

تبدأ الرواية بهذه الجملة كل شئ يحدث في الحمام،

وتنتهي بذات الجملة كل شئ يحدث في الحمام.

وإن رأي البعض أن هذا ما يمنح الرواية الشكل الدائري، إلا أننا نري غير ذلك، بملاحظة نهاية الجملة. ففي البداية تنتهي بالفاصة(،) وهو ما يعني أن ما يأتي فيما يعد استكمالا لتلك الجملة، حتي وإن أتبعها بجملة أخري منتهية بالنقطة {حمام المقهي بالطبع.} إلا انهما معا لم يشكلا جملة مفيدة، حيث سيظل السؤال قائما (ما هو الذي يحدث؟) وإجابة السؤال.. هي الرواية، حيث بها يكتمل المعني، وفي النهاية تنتهي بالنقطة (.) وهو ما يعني انتهاء الجملة أو الفقرة، ويستبين المعني/ الرؤيا. وكأن الكاتب، بلؤم المبدع، قد استخدم هذه الحيلة بدلا من الأقواس، فكأن الرواية جميعها تقع بين هاذين القوسين.

وإن خلت الرواية من الحدث المركزي، أو الصورة النمطية للحكاية، البادئة من نقطة معينة، تأخذ في التصاعد حتي تصل النهاية في قمة الهرم، أو العودة إلي نقطة البداية (الشكل الدائري)، ولكن تظل الرواية في النهاية في شكلها، الأفقي، القائم علي التجاور العرضي، بين (حكايات) ناس المقهي، الذي نجح في اختيارها كفضاء مكاني، يتناسب مع طبيعة الشخصيات العابرة، وهي الحالة التي تنطبق علي الفلسطينيين، والليبيين، واللبنانيين، بل والتونسيين الذن هم من نفس الأرض، حيث المقهي هو مكان اللقاء العابر، ومكان عقد الصفقات، ومكان لقاء الغرباء – وقد أصبح الإنسان العربي غريبا في بلده، وأصبح مطاردا فيه، ومطرودا منه، ومن هنا تنشأ الضدية في تسمية المقهي ب "لمة الأحباب" حيث أنه لو بحثنا عن حالة حب واحدة نشأت بين أي من أفراد هذه المملكة، فلن نجد، فقد قامت العلاقات كلها علي أساس الصفقات، أو المصالح {لن تجد واحدا يضع يده علي كتف واحدة أو يحمل وردة... لا ذراع حول خصر، لا غمزة طرية بالعين تحمل وعدا، لا قبلة في الهواء، ولا كلمة تفوح منها الرومانسية.. لا غرام في هذه المدينة...}ص17. وهو ما يتبين أيضا في حديث السارد عن "حبيبة"، مطربة المقهي، التي تحلم بالسفر إلي لبنان أو مصر، والتي يمكن أن تمثل النقاء المتطلع بأعناقه إلي الهواء النقي في الأعلي، وراح الثلاثة يجرونها في الحديث إلي الحياة المادية، حيث تقول حلومة{والنقود التي ستحصلين عليها ربما تنتج حوائط أسمنتية أو سيارة تمشي علي الأرض، لكنها لن تنجب طيورا تغني في السماء}ص267. وتفلسف "نعيمة" الرؤية عامة، وما انجرفت إليه السلطة الفلسطينية، ومن بعدها كل السلطات العربية، في {هذا اللعب كله من أجل النقود، واحد يدفع ويركب، وواحدة ترقد وتقبض}ص16.

فكانت الضدية التي كشف عنها الكاتب في النهاية، والتي تتمثل في الفرح، والابتسام والضحك الذي حل بالمقهي في النهاية بعد زوال الاحتلال الشرطي والمخابراتي، للمقهي {فجأة، كل الضباط والمخبرين من المقهي، فتعالت الأصوات والضحكات، وراح الهواء يتراقص فوق رؤس الزبائن }، للحد الذي يري فيه مُنظر المقهي" أبو شندي" أنهم {كانوا يشفطون الأوكسجين من الهواء}ص279، وهو ما عبر عنه التسمية الثانية لنفس المقي "مقهي الأجانب". في ذلك التحول في الرواية من الواقعية إلي الرمزية. حيث تحول الوجود الشرطي إلي الوجود الرمزي للشرطة، التي هي وسيلة القمع، وذراع الحكم، والرقيبة علي إجبار الناس لحب السيد الرئيس، وعلي تعليق صوره في كل مكان، حتي حمام المقهي، رغم الكثير من خياناتهم، ليس للقضية الفلسطينية، الممثلة في ياسر عرفات أو (الجماعة) التي وقعت اتفاق "أوسلو" الذي كان بداية بيع القضية، وإنما أيضا خياناتهم في حق شعوبهم. وليتسع الفضاء المكاني ليشمل، ليس تونس المدينة، ولا تونس الدولة، وإنما ليشمل كل الحكام العرب.

الزمان المفتوح

من الأمور التي تؤيد، تماهي الوجود العربي في المقهي، ذلك التماهي أيضا في الزمان الروائي، والذي يبدأ، كنقطة انطلاق من اتفاقية أوسلو 1، المنعقدة في واشنطن الأمريكية في الثالث عشر من شهر سبتمبر 1993. والتي جاء بها، وما اعتبرته الرواية تمام بيع القضية (التزمت منظمة التحرير الفلسطينية على لسان رئيسيها ياسر عرفات بحق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن والوصول إلى حل لكل القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة من خلال المفاوضات.... كما وجه ياسر عرفات رسالة إلى رئيس الخارجية النرويجي آنذاك يوهان يورغن هولست يؤكد فيها أنه سيضمن بياناته العلنية موقفا لمنظمة التحرير تدعو فيه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الاشتراك في الخطوات المؤدية إلى تطبيع الحياة ورفض العنف والإرهاب والمساهمة في السلام والإستقرار والمشاركة بفاعلية في إعادة البناء والتنمية الإقتصادية والتعاون)[2]. ولينفتح الزمان بعد ذلك، فلا تحديد زمني لأي من أفعال الشخوص، الأمر الذي يفتح الأفق الزماني إلي ماشاء الله، وكأنه يؤكد علي الضياع النهائي للقضية، وأيضا انفتاح أفق الامتداد السلطوي الأمني بالبلاد العربية، إلي أن تتحرر البلاد من تلك الرؤية السلطوية، وهو الأمر غير المنظور في الأجل المنظور.

عبر خمسة عشر بابا، ولج وحيد الطويلة، إلي عوالم العرب التحتية، الملموسة، الغير خفية، عالم المخابرات –الرمزي-، وذراعها الممتد إلي كل مكان، فأفسد الهواء، ولوث الحكام، الذين في حمايتها، باعوا قضايا الشعوب، بدءً من القضية الفلسطينية، وامتدادا إلي ماشاء الله. فكان كل باب كاشف عن عالم، أو كاشف عن شخصية. انتهاء بباب "لِلا درة" صاحبة المقهي، أو ملكة المقهي، أو رئيسة وزراء المقهي، وفق تصنيف الكاتب لها في مراحل الرواية، وكأنه –الكاتب- صعد من القاع إلي القمة. فصنع من خلال كل باب، الشعور الرافض للأوضاع في الأوطان، ومع تعدد البيبان، وتراكم الغضب، إلي أن وصل إلي قمته في الباب الأخير، الذي قد يوحي في بدايته، أن ثورة قد قامت، أو أن الرئيس قد مات، وهم يستعدون لتغيير الصور- وهو ما كان يمكن أن يقود الرواية إلي النمطية- فإذا بها كشف عن المرض، حاملا في أعماقه العلاج. فهلا قرأ حكامنا العرب، وإن قرأوا.. فهل سيفهمون؟.

Em:shyehia48@gmail.com

 

وحيد الطويلة - باب الليل - دار الأمان(الرباط) – 2013.[1]

وكيبيديا – الموسوعة الحرة.[2]