يستعرض الباحث مبادئ العقل الأولى في أدبيات المنطق الأرسطي، ومقولة الهويّة الجوهرانية للكينونة، والانتقادات عليه وتجاوزه أكاديميا، رغم هيمنته الثقافية والتداولية، وخاصة في ثقافتنا العربية التي يبدو أن تلك الجوهرانية متحكمة فيها، مما يفاقم أزمة الثقافة العربية الاسلامية من حيث كونها وفي جانب كبير منها ثقافة ستاتيكية.

في نقد الهوية الجوهرانية والعقل الثابت

عند أرسطو

حمزة رستناوي

 

أوّلا- مدخل عام:
في هذه المقالة سنعرض لمبادئ العقل الأولى كما وردتْ في أدبيات المنطق الأرسطي، وتأكيدها على مقولة الجوهر والهويّة الجوهرانية للكينونة، وسنتناول الانتقادات الممكنة والتَّبعات السلبية لهذا المفهوم الذي تمَّ تجاوزه أكاديميا، ولكنه يبقى مُهيمنا على الصعيد الثقافي وفي الحقل التداولي العام، مما يفاقم أزمة الثقافة العربية الاسلامية من حيث كونها وفي جانب كبير منها ثقافة ستاتيكية مُنغلقة على مفهوم الجوهر، تستعيد وتعيد إنتاج صراعات الهويّات. وسأعمد جزئيّا في الجانب التطبيقي للمقال إلى تناول [مفهوم الأمومة] و قضيّة [كلّ أمّ تحبّ أولادها] مُستخدما مفهوم الأَشْكَلَة، عبر نقلهما من المعرفة الفطريَّة والحيز البديهي العام، إلى سياق فلسفي إشكالي ، مُستكشفا القصور الممكن في مفهوم الهويّة الجوهرانية ومُحدِّداته فيما يعرف بالمبادئ الأساسية الثلاثة في أدبيّات المنطق الأرسطي.

ثانيا- الثابت والمتحوّل في المنطق الأرسطي:
التحوّل في المنطق الأرسطي هو دليل نقص وقصور، وليس ظاهرة طبيعية أو قانون علمي ينبغي دارسته، أي أنّ التغيّر يعني نقصا في طبائع الموجودات من حيث حاجتها في حفظ وجودها وكمالاته إلى شروط وظروف هي غيرها، فالوجود الحقيقي هو ما ليس يطرأ عليه التحوّل، ولهذا كان التغيير عندهم برهانا على نقص في ”الوجود“ بالنسبة إلى الشيء المتغير، أو برهانا على ما أطلق عليه اليونان أحيانا باللاوجود[1]

يورد أرسطو في الميتافيزيقيا: إنّه من العبث أن نجعل أساس أحكامنا عن الحقيقة كون الأشياء على هذه الأرض تتغير، ولا تستقر على حالة واحدة أبدا، لأنه في بحثنا عن الحقيقة لا بد أن نبدأ السير من أشياء تكون أبدا على حالة بعينها ولا يطرأ عليها تغيير قط، وهكذا تكون الأجرام السماوية، لأنها فيما يبدو لا تكون الآن ذات طبيعة معينة، و في لحظة أخرى ذات طبيعة أخرى، بل هي دائما تبدو كما هي فلا تتغير [2]، ولذلك نجد اليونان القدماء يميزون بين الفيزيقيات المتغيرة ، والطبيعة الثابتة: وهذه الأخيرة –على خلاف الأولى- مؤلفة من ماهيّات غير متغيرة ، قوامها طبائع الأشياء الثابتة، ولهذا كانت مشكلة المشكلات عند العلم اليوناني والفلسفة اليونانية هي التمييز بين ما هو دائم ثابت مما هو متحول متغير، ثم إيجاد العلاقة التي تصل هذا بذلك، وعلى ذلك جاءت فلسفة أرسطو عرضا مُحكَما وحلا منتظما لهذه المشكلة التي رآها ماثلة في شتى الموضوعات [3] من هنا تبرز أهمية الجوهر كمفهوم تأسيسي في الفلسفة اليونانية عموما و فلسفة أرسطو بالخاصة: يحتل مفهوم الجوهر مكانة خاصة لأنه عبارة عن الموجود كما جاء في ما بعد الطبيعة [الكتاب السابع 8201 ب1] وهو يعني بالموجود خلافا لأفلاطون الموجود الجزئي أو الفرد دون الكلي، و يعرِّفه في المقولات تعريفا منطقيا أو شكليا بقوله: إنه ما يستند إلى موضوع، ولا يوجد في موضوع [المقولات 26 أ31] أي أنّه الموضوع الذي تستند إليه جميع المقولات الأخرى أو المحمولات [4] وما دامت الحقيقة –وفق المنظور الأرسطي- ثابتة، والطبيعة ليست سوى جواهر ثابتة، والمعرفة ليست سوى تحديد للأنواع وتعريفها وربطها في قضايا ثابتة. لذلك كان من المُسلَّم به الانطلاق من مبادئ عقلية ثابتة، مبادئ هي بمثابة أوّليات لا غنى عنها في كل معرفة، أوليات صادقة بذاتها، بداهات لا تحتاج لبرهان.

ما هي المبادئ الثابتة عند أرسطو؟
يُطلق اصطلاح المبادئ المنطقية-في المنطق الأرسطي- على المبادئ الثلاثة التالية: مبدأ الهوية –مبدأ عدم التناقض- مبدأ الثالث المرفوع. يُعلّق زكي نجيب محمود، وهو من أهم نقّاد المنطق الأرسطي عربيّا: إن القوانين الثلاثة منطوية على فرض سابق، وهو أن الكون بما فيه من أنواع حقائق ثابتة، بحيث تظلّ كل حقيقة منها مُحتفظة بكيانها دائما وفي كل الظروف [5] وهذه المبادئ –من وجهة النظر الأرسطية- لا بُدَّ للعقل أن يتبعها حتى يكون استدلاله صحيحا، وهي أوَّليات يتصف بها التفكير المنطقي: ولهذه القوانين ثلاث صفات أساسية تتميز بها عن سائر الحقائق: فهي أوّلا كلية أي موجودة لكل عقل ومنطبقة على كل شيء -وهي ثانيا ضرورية بمعنى أن العقل لا يستطيع أن يتصور مبادئ مناقضة لها- وهي أخيرا قبلية وفطرية وبدهية[6 ] إن هذه القوانين الثلاثة منطوية على فرض سابق، وهو أن الكون بما فيه من أنواع حقائق ثابتة، بحيث تظهر كل حقيقة منها محتفظة بكيانها دائما، وفي كل الظروف، فالإنسان -مثلا- هو الإنسان دائما، وإذا وصفناه بالتفكير فلا يجوز في الوقت نفسه أن تصفه بعدم التفكير، لأنه إما أن يكون مفكِّرا أو لا يكون مفكِّرا ولا ثالث لهذين الفرضين[7 ].

ثالثا- مبدأ الهوية:
إنَّ الشيء هو عين ذاته، أي هو جوهرٌ ثابت لا يتغير، فمبدأ الهوية هو القول: ماهو: هو، ويعبَّر عنه بالجملة: ب=ب، أو ب هي ب، وهو لا يصدق على المساواة الرياضية فحسب، بل يصدق على كل علاقة منطقية يعبر عنها بالجملة: ب>ب و مبدأ الهوية هو المثل الأعلى للحكم التحليلي، لأن المحمول في هذا الحكم ليس جزءا من مفهوم الموضوع، وإنما هو عينُ الموضوع نفسه ومن شروط الضرورة المنطقية التي يعبِّر عنها مبدأ الهوية:

- أن يكون المعنى المُتصوَّر مُحدَّداً وثابتا فلا يتغيّر بحال.

- أن يكون الحق حقا، والباطل باطلا دائما، وفي مختلف الأطوار، فلا يتغير إن بتغير الزمان والمكان.

- أن يكون الموجود بالحقيقة هو عين ذاته، فلا يتغير ويختلط به غيره، ولا يصدق في الحقيقة إلا على الموجود المثالي الذي يتجه إليه العقل، دون التمكُّن من تحقيقه تحقيقا كاملا[8].

ولكن لنتساءل هل الشيء هو عين ذاته، هل”ب“ هي ”ب“ حقيقة؟ وفي مثالنا هل: الأُمّ هي الأُمّ؟! إنَّ الشيء يتغير، ومن المستحيل بقاء الشيء كما هو، ولا يوجد شيئان متطابقان تماما، ولغايات إجرائيّة يمكن أن نفترض –افتراضا مفيدا- أن الشيء يبقى هو عين ذاته، خلال صيرورة البحث أو المعادلة، بما يخدم صلاحيات علمية محددة، وقد يكون هذا الافتراض كإجراء أوّلي مفيدا لزيادة معرفتنا بهذا الشيء ، ويعلق زكي نجيب محمود على مبدأ الهوية: ”هو لا يكون إلا إذا فرضا أن الإنسان يعرف الحقائق الكونية معرفة كاملة منذ اللحظة الأولى، أما إذا سلَّمنا بأن استمرار البحث من شأنه أن يغير من دلالات الأشياء والمواقف، فالشيء المعين قد يكون ذا دلالة معينة في ثقافة معينة، وإذا بالأسس الثقافية تتغير وتقدم، فتتغير إذن دلالة الشيء على ضوء المعرفة الجديدة، فإن قانون الذاتيّة يتغير معناه[9] و فق مبدأ الهوية في مثالنا: الأُمّ هي عين الأُمّ، وهي جوهر ثابت.

و لكن ما هو جوهر الأُمّ ؟ ما تعريف الأُمّ؟ نقترح التعريف التالي: أنها المرأة التي تُولدُ طفلا، وتربط بعلاقة نفسية واجتماعية إيجابية معه فيما بعد...أو أي تعريف آخر.

* التعقيب: ربّما من الصعوبة بمكان الوصول إلى تعريف جامع مانع للأُمّ أو غيرها... فهناك أمَّهات لا ترتبط بعلاقة ايجابية نفسية اجتماعية مع أطفالها، وهناك الأُمّ بالتبني وهناك الأُمُّ البيولوجية، وهناك الأُمُّ النفسية... الخ فالأُمُّ هي ليست ذاتها كجوهر ثابت يصحُّ وصفه بالأُمّْ ، فعلى سبيل المثال تغير مفهوم الأُمِّ مع ظهور الاستنساخ كتطور تقني واعد، لدينا الأُمُّ مالكة الرحم الحامل التي تلد، ولدينا الأمّ بالوراثة صاحبة البويضة التي تنقل صفاتها الوراثية لطفلها... الخ. لقد تزعزع المفهوم القديم المستقر للأمّْ في مثالنا هذا، فأصبحنا أمام أُمَّين! لا بل أكثر من ذلك.. ومع تطور التقنيات الجراحية الواعدة وعمليات تغيير الجنس ربّما قد نستطيع الحديث عن الأُمِّ الذكر مستقبلا! ومفهوم الأُمِّ يختلف إداركه وفهمه وتمثُّله ما بين المجتمعات والثقافات المتعددة، وكذلك بين موقف وآخر ، وبين شخص وآخر، وبين الشخص نفسه بين زمن وآخر.. فالأُمّ -أو أي كينونة أخرى– ما هي إلا شكل، صيغة، طريقة تشكّل معيّنة لأبعاد وجود هذا الكائن ، الأبعاد الزمكانية البيولوجية النفسية الاجتماعية القانونية.. شكل حركي احتوائي احتمالي نسبي، من غير تطابق، فالتطابق التام مجرد وهم[10]. والأُمّ هي ليستْ نفسها تماما ولو بعد فاصل زمني وجيز! ولكن هل يُفهم من هذا أنَّ الأُمّ مجرَّد وهم! بالتأكيد لا، فالقضية ليستْ في نفي وجود هويّة للكائن، ولكن فقط في نفي وجود هويّة جوهرانية ثابتة له. فالبعد القانوني للأم يتحدّد في إطار قوانين الإرث وحقوق الرعاية الاجتماعية، والبعد النفسي تتحدد بالعاطفة المتبادلة والمثل الأعلى للطفل... وسنقوم بتحليل جملة [كل أُمّ تحب أولادها] من منظور المنطق الأرسطي مع اشتراط صدق القضية، من حيث أنّ القضية الكلية الايجابية هي الطريقة الأمثل للتعريف وفقا له.

لكي تكنْ أُمّا عليها تحقيق شرطين: والدة+تحبُّ أولادها، ولكن هل كلُّ أُمّ تحبُّ أولادها؟ حيث وُجِدَ ويوجد أُمَّهات-في الواقع- لا يحببن أولادهنّ لعارض ما، فهل هُنَّ أمهَّات؟! هناك: أُمٌّ بيولوجية، أُمّ نفسية، أُمّ اجتماعية، أُمّ قانونية..الخ و كلها أبعاد وصيغ مختلفة لهويّة الأُمّ بصلاحيّات متفاوتة، إذا ما هو جوهر الأُمِّ الذي لا يتغير، وما هو جوهر الحُبِّ الذي لا يتغير كذلك؟! الأم هي صيرورة في الزمن، حيث تكُن عازبة.. حامل.. أُمّ... وقد يتوفى ولدها. فهل الأُمُّ لمولودٍ ميت هي أُمّ..و إذا توفي ولدها لاحقا فهل ستبقى أُمّا! وإذا كانت الهويّة الجوهرانيّة للأم منافية للبرهان، فكيفَ للأُمِّ أن تكونَ هِيَ الأُمّ! بالتأكيد لا توجد أُمّ فقط هكذا بشكل مجرد، بل هناك أُمّ مُتعيّنة كإنسان أو حيوان.. وهي كينونة، عندها لا يصحُّ وصفها بالجوهر الثابت، وبالتالي بالمعنى الدقيق، الأُمُّ ليستْ هي الأُمّْ، فالأُمّ هي أُمَّهات بأشكال وسياقات مختلفة. ولكن هل من صلاحية مُعَيَّنَة لمبدأ الهوية إذا نظرنا إليه بعيدا عن الافتراض الإجرائي المُقيَّد؟ سأثبتُ العديد من الأمثلة لتوضيح ذلك. *[على الأمّهات مراجعة المستوصف لتلقيح أولادهن بعمر 1، 3، 6، أشهر] فالأُمّ ليست بهويّة جوهرانيّة ثابتة بأعمار 1، 3، 6 أشهر“العمر الزمني لأطفالها” بل ثمّة صلاحية معينة، نقوم بموجبها بتحييد كافة أوجه الاختلاف بين أم وأخرى، وبين الأُمَّهات تبعا للعمر الزمني المتلاحق، وذلك لتحقيق صلاحية إعطاء اللقاح للأطفال.

* [الجنة تحت أقدام الأمهات] نقوم هنا بتحييد الاختلافات الزمنية والمكانية والأثنيّة والطبقية والعقائدية والعمرية... لتحيق مصالح وصلاحيّات اجتماعية ونفسية وعقائدية حيوية.

* [إنّ أكبر نسبة توافق في زرع الكلية، تكون من الأم المتبرعة] نقوم هنا بتحييد الاختلافات بين أُمّ وأخرى، والتركيز على نسبة التوافق ما بين الشفرة الوراثية للأمّهات مع أولادهنّ، فالأُمَّهات بالتَّبني مُستبعدات تماما في هذا المثال.

* لنأخذ مثال آخر عن: [الهويّة الجوهرانيّة للماء] التعريف القديم للماء كان اعتمادا على صفات فيزيائية من قبيل: سائل عديم اللون والرائحة والطعم..الخ في ظروف معينة، أما التعريف الحديث فهو يرتبط بتطور تقني معين واعتمادا على التركيب الجزيئي والذري، أي أنّه ثمّة اختلاف بيّنٌ في تحديد ماهيّة الماء كجوهر ثابت مستقلّ وقائم بنفسه، وتحديد الماء كجزيء يتألف من ذرتي هيدروجين وذرة أوكسجين، وهذا قد أزال الكثير من المبرّرات في ادّعاء وجود فروق جوهرانية ثابتة ما بين جزئ كيماوي وآخر، وعنصر كيماوي وآخر وينسحب ذلك على مستوى الجسيمات ما تحت الذرية..الخ ولكن ورغم الاختلاف ما بين المنظور القديم والحديث لمفهوم الماء، ورغم الاختلاف ما بين ماء وماء، وما بين جزيء ما وآخر... الخ يبقى مفهوم الماء صالحا للاستخدام والتداول مع تحييد الاختلافات. ثمّة صلاحيّة أخرى لمبدأ الهويّة فهو يُشكّلُ –من وجهة نظر نفسية ميتافيزيقية- حافزا للبحث عن ماهيّة الشيء والأِشياء، فهو “الحدُّ الأعلى الذي تصبو إليه البحوث العلمية في تلاحقها.. إذ تكون بمثابة الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه بدرجات متزايدة على مرِّ الزمان[11].

وسننتقل الآن إلى المثال الرياضي لمبدأ الهوية: ب=ب إنَّ [ب] هي افتراض رياضي” كائن رياضي “فنحن نفترض ثباتها بداية للاستمرار في الصيرورة الرياضية متوخِّين حلَّ إشكال رياضي ما، وهذا الافتراض مبرَّر منطقيّا، لا بل هو ضروري لما يترتَّبُ عليه من نتائج. هل [ب] قبل إشارة [=] هي نفسها”عين ذاتها “بعدها؟ ألا تختلف عنها في صيرورة الزمن؟ وعلاقتها بالمُجاورات في المثال التالي:

أ+ب=أ+ج هل ”عين ذاتها“ مستقلة عن صيرورتها الزمكانية، وهل يوجد كينونة مستقلة بوجودها عن هذين البعدين؟ وفي النتيجة تبقى الهويّة عُنصرا مُحدّدا للكينونة ويميّزها عن بقية الكينونات ولكن ”ليس من مقتضيات هذا التعريف بالضرورة أن يكون ما يتحدد به الشيء جوهراً ثابتاً لا يتغير، فالأشياء في كينونتها إنما تخضع للتطور والتحول والتراكم المفضي إلى التجدُّد المستمر في مكونات الشخصية[12] وإن الادخال التدريجي للمفهوم الجدلي عند هيجل والمفهوم التاريخي على الهوية سوف يكشف عن هوية متعددة تندرج في الكون والتكوُّن وهذا -وفقا لعبد الاله بلقزيز- ما أدركته المقولة الهيجليَّة عن الأنا المتَّحدد بالآخر، إذ مع تعدد وجوه الآخر وتنوعها، تتعدد وجوه الأنا الهوية وتتنوع[13].

رابعا- مبدأ عدم التناقض:
هذا المبدأ هو الصيغة السالبة لمبدأ الذاتيّة، فيمتنع أن يوجد الشيء وألا يوجد في نفس الوقت، ومن الجهة نفسها. ويعبَّر عنه رمزيا إن [ب] لا يمكن أن تكون [ب] و[لا ب] في الوقت نفسه. ومثاله لا يمكن أن تكون هذه المرأة أُمّا ولا أُمّا في نفس الوقت “فالتناقض مناف للمعقولية، لأن من شروط العقل أن يكون متفقا مع نفسه[14] ويتحفّظ جون ديوي على إطلاق هذا المبدأ” إن مبدأ عدم التناقض يمثل شرطا يتطلب الاستيفاء، وإمعان النظر مباشرة في قضيتين لا يقرر لنا أهُمَا متعلّقتان، أم أنّ إحداهما غير متعلقة بالأخرى بعلاقة تجعلهما نقيضين، كما كانت الحال لتكون لو كان التناقض خاصة عقلانية نابعة من طبيعة القضايا نفسها[15] فهل قانون عدم التناقض يمثِّل مبدأ مُتحققا في الوجود الخارجي ، هو من طبيعة هذا الوجود، أم أنه صياغة الشروط المنطقية التي نستخدمها و نسير بهديها في مسيرة البحث؟

فالقول إن [ب] لا يمكن أن تكون [ب] و[لا ب] صحيح كشرط يتطلب مُقدمات وسياقا منطقيا مناسبا ، وليس على الإطلاق؟ فهذه المرأة -وفق مبدأ عدم التناقض- يستحيل أن تكون [أُمّا] و[لا أُمّ] بنفس الوقت لنفس الولد، هنا لدينا افتراض مُسبق فحواه أنَّ المرأة إما أن تكون ما بينَ الحالتين ، ولا خيارا ثالثا أمامنا. وهذا يتعلّق بتعريفنا لمفهوم الأُم وَحَدِّه ، وهذا التعريف ليس من طبيعة الوجود الخارجي، ولا يتعلّق بالأُمِّ كهويّة جوهرانيّة ثابتة، لنسوق التعريف السابق على سبيل المثال لا الحصر “أنّها المرأة التي تولد طفلا وترتبط بعلاقة نفسية واجتماعية ايجابية معهُ فيما بعد.. ”وبناء عليه عندما تكون فلانة من النساء مستوفية لشروط التعريف فهي [أُمّ ] ولا يصح –توصيفها– بـ[لا أُمّ] وبتغيير التعريف مثلا بحصره بالأُمّ البيولوجية سوف ينتفي توصيف عدد من الأُمّهات اللواتي شملهن التعريف الجديد مقارنة بالسابق.

خامسا- مبدأ الثالث المرفوع:
وفحواهُ إنّ الشيء إمّا أن يتَّصف بصفة معينة وإما ألا يتصف بها، ولا ثالث لهذين الاحتماليين، أي لا وسط بين الوجود واللاوجود. فالقضيتان المتناقضتان لا تصدقان معا ولا تكذبان معا، إذا صدقت إحدى القضيتين المتناقضتين، كذبت الثانية والعكس، ولا ثالث بينهما، ويشترط في المتناقضين أن يكون موضوعهما ومحمولهما واحدا، وألا تختلفا إلا بالإيجاب والسلب ،فإذا كانت إحداهما صادقة، كانت الثانية كاذبة ولا وسط بينهما[16] فالأم إمّا أن تحب أولادها أو لا تحبهم، ولا يوجد احتمال ثالث “ومثاله أيضا: إما أن يكون العدد زوجا و إما فردا، لكنه زوج فينتج أنه ليس بفرد، أو فرد فينتج أنه ليس بزوج، فمبدأ الثالث المرفوع لا يمثّل حقيقة وجودية وأولية من أوليات العقل، بل هو –وفقا ً لجون ديوي- يضع لنا شرطا منطقيّا يُراد له أن يتحقق خلال سيرنا المتصل في عملية البحث، فهو مبدأ يصوغ لنا آخر هدف نستهدفه بالبحث[17] ولنقف عند المثال التالي: العدد إما أن يكون زوجا وإما فردا. إنّ هذا يستلزم منّا كشرط مُسبق حصر الأعداد المقصودة بمجموعة الأعداد الصحيحة فقط ، و بدون ذلك يفقد مبدأ الثالث المرفوع لمبرر استخدامه منطقيا، فهذا المبدأ هو صيغة منطقية مشروطة،”ثمة مثال يساق أحيانا ليبيّن خلاء مبدأ الثالث المرفوع من أي معنى، وهو عدم قابلية هذا المبدأ للانطباق على كائنات الوجود الخارجي، وهي في حال انتقالها من وضع إلى وضع، ولما كانت شتى كائنات الوجود الخارجي في حالة صيرورة التغيير دائما، لزم أن يكون مبدأ الثالث المرفوع مستحيل التطبيق. فمثلا يستحيل علينا أن نقول عن الماء الذي هو في طريقه للتجمد، وعن الثلج الذي هو في طريقه إلى الذوبان، إن الماء إما أن يكون صلبا أو سائلا، فإذا أردت أن تتجنب هذه المشكلة بأن نقول إن الماء إما صلب أو سائل أو في حالة انتقاليَّة كنت بمثابة من يصادر على المطلوب، وهو: تحديد الحالة الانتقالية الوسطى[18] إنّ نقد المفهوم الأرسطي للهوية، والقوانين المُحدّدة له لا “يستهدف نفي مبدأ الهوية وإسقاطه من الأساس أو افتراض الأشياء مجرَّدة عما يحدِّدها من خصائص، وإنما هو نقد يروم زحزحة ذلك المعنى الجوهراني المطلقي وغير التاريخي عن الهوية، وإعادة التفكير فيها بطريقة أخرى تحررها من مضمونها الميتافيزيقي وفقا لعبد الاله بلقزيز[19] ولكن لنتساءل هل من الممكن تحرير الهوية من مضمونها الميتافيزيقي؟ سأعرض هنا لمحاولتين من تاريخ الفلسفة هذا الاتجاه، المحاولة الأولى جاءت مع فلاسفة المدرسة الاسمية في القرون الوسطى أوكايم وروسلن..”حيث أنكروا وجود الكليات وأرجعوها إلى مجرد أسماء وصور أو إشارات، وقالوا إذا جرَّدنا الاسم من الصور المقارنة لم يبق في العقل شيء، فإن هذا الشيء لا يمكن أن يكون كليا[20] وعمليا فإنّ هذا الموقف سوف يفضي إلى انكار وجود الكليات داخل وخارج العقل، على النقيض من المقولة الأرسطية الشهيرة “لا علم إلا بالكليات”. والمحاولة الثانية جاءت في بداية القرن العشرين مع المدرسة الوضعية المنطقية، حيث أنّها تستثني المعرفة الميتافيزيقية من أشكال المعرفة الموثوق بها، فالتأكيد الايجابي أو قابلية الاختبار هو المعيار الأهم في تميز المعرفة العلمية عن غيرها، ويلاحظ أنّ كلا المحاولتين تهملان أو تنفيان مشروعية التساؤلات التي يطرحها المفهوم الارسطي للهوية المعُتمد أساسا على مقولة الجوهر، وإنّ الفهم الجوهراني للهويّة يتجاوز الاشكال الفلسفي والمعرفي فقط، بل يترتّب عليه “مصالح واحتياجات تتطلب عدم الإقرار بالتغير أو التواصل الشامل[21] ويظهر هذا واضحا في حالة التوظيف الاجتماعي والسياسي للهويّة الجوهرانية واستخداماتها، كهويّات خطرة قابلة للتوظيف الأيديولوجي في الصراعات، هويّات تقدّم نفسها كحقائق مطلقة تتمتّع بوثوقيه عقائدية مدمّرة للذات والآخر.

سادسا- الخلاصة:
يمكن قبول المبادئ الأساسية الثلاثة لمنطق أرسطو (قانون الهوية، قانون عدم التناقض، قانون الثالث المرفوع) من ناحية إجرائية ضمن شروط محددة، ولأغراض محددة، ولكن ليس كعقيدة حتمية الحدوث، أو قوانين موجّهة للوجود الخارجي، أو كمبادئ سابقة للمعرفة، أو كخصائص علائقيّة متأصّلة في طبيعة القضايا المنطقية نفسها. وهذه القوانين هي أشكال منطقية، توجد بحالات مختلفة وسياقات محدّدة، تقدّم مصالح متفاوتة اعتمادا على طرائق الاستخدام و المخرجات أيضا. وهذه القوانين جزء من صيرورة، هناك خطوات سابقة –كشروط- يجب تطبيقها، وهناك خطوات لاحقة لها أيضا. وهي ليست خارج الاحتمالية، بل إنها طريقة تكوين خاصة لقانون الاحتمالية، تصح بعد استبعاد الامكانات الأخرى وبشكل مدروس، حيث نحدد خياراتنا في إما (ب) أو (ليس ب). أما في الجانب التطبيقي من المقال أعلاه، فقد تناولنا مفهوم الأمّ وقضيّة ”كلّ أمّ تحبّ أولادها“ مستخدمين مفهوم الأشكلة، أي نقلهما من المعرفة الفطرية البديهية العامة إلى سياق أبستمولوجي اشكالي، محاولين استكشاف أي قصور ممكن في المفهوم الجوهراني للهوية، ومُحدِّداته فيما يُعرف تقليديا بالمبادئ الثلاثة للمنطق الأرسطي.

* * *

الهوامش
[1] المنطق: نظرية البحث -جون دوي- ترجمة د. زكي نجيب محمود- ط2-دار المعارف بمصر 1969 - ص22.

[2] المنطق: نظرية البحث – مرجع سابق - ص 273.

[3] المنطق نظرية البحث- مرجع سابق - ص22.

[4] تاريخ الفلسفة اليونانية –ماجد فخري –دار العلم للملايين -ط1- بيروت 1991 - ص 108.

[5] المنطق: نظرية البحث – مرجع سابق- ص 25.

[6] المعجم الفلسفي – جميل صليبا – دار الكتاب اللبناني- بيروت 1982 – ج2 - مادة المبادئ العقلية -ص 317.

[7] المنطق: نظرية البحث –مقدمة زكي نجيب محمود- مرجع سابق – ص 25.

[8] المعجم الفلسفي – مرجع سابق - ج2 - ص 532.

[9] المنطق: نظرية البحث - مقدمة زكي نجيب محمود –مرجع سابق - ص26.

[10] أضاحي منطق الجوهر – حمزة رستناوي- دار الفرقد - دمشق ط1 - 2009 م ص42-44.

[11] المنطق: نظرية البحث – مرجع سابق - ص26.

[12] مفهوم الهوية في بعده النسبي التاريخي – عبد الاله بلقزيز – جريدة الخليج الكويتية –تاريخ 20-4-2009م.

[13] مفهوم الهوية في بعده النسبي التاريخي – مرجع سابق.

[14] المعجم الفلسفي – مرجع سابق - ج1 - ص350.

[15] المنطق: نظرية البحث – مرجع سابق - ص546.

[16] المعجم الفلسفي - مرجع سابق - ج1 - ص 373.

[17] المنطق: منهج البحث- مرجع سابق- ص 547.

[18] المنطق: منهج البحث"- مرجع سابق - ص548.

[19] مفهوم الهوية في بعده النسبي التاريخي – مرجع سابق.

[20] المعجم الفلسفي – مرجع سابق- ج1 - ص 83.

[21] فقه المصالح – رائق النقري- دار الأمين – القاهرة 199م - ص49.