يحاول كتاب الباحث محمد عبد الواحد العسري: "الإسلام في تصورات الاستشراق الإسباني من ريموندس لولوس إلى أسين بلاثيوس" استعادة السؤال الإبستمولوجي للخطاب الاستشراقي، محاولا القبض على الينبوع الأصلي لهذا الخطاب وهو المسعى الذي أدى في النهاية عند الباحث الى إنشاء طوبولوجيا جديدة للاستشراق الإسباني الذي لم يحظى بتتبع وتقصي البحث العلمي.

الرؤية الابستيمولوجية

في كتاب «الإسلام في تصورات الاستشراق الاسباني»

عبد السلام دخان

 

إن البحث في أصول الخطاب الاستشراقي وفروعه أمر محفوف بالمخاطر نظرا لتعقيدات هذا الخطاب وتشابكاته المختلفة الضاربة جذورها في التاريخ، ولإمكانية السقوط في التغريبية L'occidentalisme أي الاستشراق المعكوس بلغة صادق جلال العظم اهتم الاستشراق بالفكر والتاريخ والجغرافية والتشريع الإسلامي والأثنولوجية اللغوية، أنه معرفة مكونة عن العالم العربي الإسلامي في مختلف أشكال التفكير والتعبير العربي الإسلامي، أي أنه خطاب الآخر Discours de l'autre الذي هو الغرب موجه إلينا بوصفنا غيرية له.

وانطلاقا من أطروحتي فرانسيس فوكوياما وصمويل هانتغتون يكاد الغرب يجمع علي كون الحضارة العربية حضارة منغلقة لا تنفك تصطدم مع كل الحضارات خاصة منها الغربية. ويصرح الدكتور محمد عبد الواحد العسري(1) في مقدمة كتابه الموسوم بـ: الإسلام في تصورات الاستشراق الإسباني من ريموندس لولوس إلي اسين بلاثيوس والصادر عن مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض(1424 هـ ـ 2003 م) ضمن سلسلة الأعمال المحكمة (53).

إن اهتمامه بالاستشراق نابع من اهتمامات مبكرة بهذا الخطاب منذ أن كان طالبا بالسربون الأولي. ولقد عملت المتغيرات التاريخية علي تزكية هذا الاختيار خاصة بعد تنامي اهتمام الفكر الغربي بالإسلام، وهو ما دفعه إلي التساؤل حول الأدوار التي يمكن أن يكون الاستشرا ق قد لعبها في تكوين الصورة القاتمة عن العالم العربي الإسلامي وإذا كان الاستشراق الأنجلوساكسوني قد حظي بمتابعة رصينة من قبل ادوارد سعيد الذي وصفه بكونه علاقة بين أنا تسيطر وأخري مسيطر عليه، والاستشراق الفرنكفوني الذي حظي هو الآخر بدراسات مختلفة خاصة مع بروز مستشرقين لامعين مثل جاك بيرك وأندريه ميكيل وهما امتداد لمدرسة استشراقية ترجع أصولها إلي معهد الكوليج دي فرانس 1514م حيث أدخل هذا المستشرق كيوم بوستيل Guillam Postel) 1505 ـ 1581) العربية إلي هذا المعهد.

إن اهتمام الدكتور محمد عبد الواحد العسري بالاستشراق الإسباني يرجع ـ في رأيه إلي سببين:

الأول: أن الاستشراق الإسباني لم يحظي بالمتابعة والتقصي العلمي الدقيق.

الثاني: العمق التاريخي للاستشراق الإسباني الذي يعتبره استشراقا رائدا من الناحية التاريخية والمعرفية ومن ثمة فقد انصب إلي معالجة تصورات الاستشراق الإسباني للفكر الإسلامي الأندلسي. ووفق هذا الاختيار وجد الباحث نفسه إزاء عمل جينالوجي صعب، لكنه ووفق رؤية ابستمولوجية واضحة استطاع الخروج من هذا المأزق المنهجي وإخضاع نصوص المستشرقين لمشرحة التحليل والنقد لتفكيك المقولات التي كونها المستشرقون عن غيريتهم أي عن هويتهم النصرانية.

وذلك أن المستشرقين الإسبان مند المرحلة القروسطية إلي النصف الثاني من القرن العشرين، أي من رامون يول إلي ميجيل أسين بلاتيوس Miguel Asin Palacios شكلوا صورة الإسلام في وصفه ليس أكثر من هرطقة نصرانية وأن المسلمين تبعا لذلك ليسوا أكثر من هراطقة.

ولقد تطرق الباحث في مداخل الكتاب إلي مختلف القضايا المتعلقة بتعريف الاستشراق والاستشراق الاسباني بحيث أننا نجد أنفسنا أمام جملة من الأسئلة من قبيل كيف نقرأ الاستشراق الاسباني وهل هو استعراب أم استفراق.

وقد انتهي الباحث إلي اعتبارهم ليسو أكثر من قطاعين من قطاعات الاستشراق الاسباني.

ولقد كانت بداية الخطاب الاستشراقي وروافده مصاحبة لعلاقات جدالية حادة جمعت بين النصرانية والاسلام في مرحلة حرجة من التاريخ الانساني وهي مرحلة القرون الوسطي، ابتدأت بترجمة القرآن الكريم إلي اللغة الاسبانية وما صحبها من مجادلات خاصة رسالة عبد المسيح الكندي التي اعتبرها الباحث مفتتح المجادلة النصرانية للاسلام، بل لقد كان لها أثرا حاسما في تنميط المعرفة الاستشراقية في إسبانيا وأوروبا.

ورسالة عبد المسيح بن اسحاق الكندي، هي رسالة تتألف من 141 صفحة وهي جواب عي كتاب صديقه عبد الله بن اسماعيل الهاشمي الذي دعاه فيه إلي اعتناق الإسلام

(وفي هذا الإطار بلور عبد المسيح بن جرجيس الكندي تصورا للإسلام في مقابل النصرانية، عبر تشغيل مجموعة من الثنائيات التي ترجع في الواقع إلي الفرق الجوهري الذي أقامه بين هذين الدينين، فأولهما دنيوي ومادي ومن وقع صاحبه وثانيهما أخروي ومن وحي الله)(2).

لقد كتب علي حضارات البحر الأبيض المتوسط أن تتجاور وتتعايش في رقعة جغرافية متقاربة وتعتنق ديانات سماوية إبراهيمية ومثلما شعر العرب والمغاربة علي وجه الخصوص بأنهم حماة الإسلام فقد شعر الإسبان بأنهم حماة المسيحية في الغرب، ولعل هذا ما يفسر غني المكتبات والأديرة في الأندلس وإسبانيا وبروز مجموعة من المستشرقين الإسبان خاصة في مجال التاريخ حيث نجد الأب دي لاتور روبليس Lazor Roblis، والأب لونكاس Luncas وكونساليس بالانسيا Ganzales Palancia وكاخيكاس(3) Dan Izidon cagigas وكارلوس كيروس Carlos Quiros وفالديراما (4) Valdirama.

ويعتبر الغرب النصراني أن بداية الاستعراب الرسمي كانت عام 1312 وهو ما يعرف في إسبانيا بـ Arabismo والمستعرب بـ Arabista ونورد هنا نصا للراهب القرطبي ألبرو Albiro يقول فيه:

(إن إخواني في الدين يجدون لذة كبري في قراءة أشعار العرب وحكاياتهم ويقبلون علي دراسة مذاهب أهل الدين والفلاسفة المسلمين لا ليردوا عليها وينقضوها وإنما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوبا عربيا جميلا صحيحا، وأين تجد الآن واحدا ـ من غير رجال الدين ـ يعكف علي دراسة كتابات الحواريين وآثار الأنبياء والمرسلين يا للحسرة!.

إن الموهوبين من شبان النصاري لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها ويؤمنون بها ويقبلون عليها في نهم، وهم ينفقون أموالا طائلة في جمع كتبها ويصرحون في كل مكان هذه الآداب حقيقة بالإعجاب، فإذا حدثهم عنا لكتب النصرانية أجابوك في ازدراء بأنها غير جديرة بان يصرفوا إليها انتباههم ياللألم!"(5).

إن مسألة الدفاع عن النصرانية هاته، هي التي تطرأ إليها الدكتور محمد عبد الواحد العسري انطلاقا من مشاريع رمون بول ورمون مارتي (ق 13)، ووقف عند مسألة في غاية الأهمية، وهي ما وصفها بالانقلاب الديني أو كيف تتحول الهوية إلي غيرية، وهو المعروف عند رجال الدين بالردة الدينية.

الاهتمام هنا سينصب علي خوان أندريس الذي قدم نفسه بوصفه عالما مسلما ارتد عن الإسلام إلي النصرانية، ولعل لهاته المسألة دور في ترسيخ الصورة التي رسمهاهذا المستشرق ـ الذي ينتمي زمنيا إلي القرن الخامس الميلادي ـ عن الإسلام والمسلمين، وهي صورة إسلام عنيف انفعالي وتعصبي وهو وهم لايزال كثير من المستشرقين يتخبطون فيه.

لقد اختار الباحث الأنتروبولوجية البنيوية لكلود ليفي ستراوس كنموذج للتعامل مع نصوص منتمية كليا إلي الخطاب الاستشراقي الإسباني بغية الكشف عن شقوقه وصدوعه وعلل دواعي هذا الاختيار بسمة الانتروبولوجيا البنيوية النظرية ومنحاها العلمي وكفاياتها الإجرائية وذك من خلال كتابات كلود ليفي سترواس العرق والتاريخ، مدارات حزينة، النظر من بعيد.

ولقد اشار الباحث إلي كونها تستطيع أن تساهم في كشف النزعة الاستشراقية في هذا الخطاب، وانسجاما مع هذا السياق فقد فقد استطاع الدكتور محمد عبد الواخد العسري عبر تحليلاته الدقيقة ان يخرج من ما يمكن تسميته بالأنتروبولوجية الصورية نحو الأنتروبولوجية الجديدة التي استفادة من مستجدات العلوم الإنسانية من علم النفس مع لاكان والنقد مع بارث والفلسفة مع فوكو واللغة مع تشومسكي ومن الانتقادات التي وجهت لها من طرف جاك دريدا وفلاسفة مدرسة فرانكفورت مثل هابرماز وغادمير. ولعلها دعوة من قبلالباحث على ضرورة الانفتاح علي مستجدات هذا المجال و إلي استحالة حيادية وموضوعية الأنتروبولوجيي، أشير هنا علي سبيل الذكر إلي كتاب الثقافة لجورج ماركوس وجيمس كليفرد الذي ألف هو الآخر كتاب (مأزق الثقافة).

ويمكن القول أن الباحث في نقده الخطاب الاستشراقي قد استطاع أن ينتقل من نقد المستشرقين إلي نقد المعرفة الاستشراقية أي نقد العقل الاستشراقي.

فالدكتور محمد عبد الواحد العسري كان يتقصي الخطاب الاستشراقي ويعيد قراءة نقده لأنظمته المعرفية ولنتاجاته المتتابعة، تم لتحولاته ومنعطفاته، وهي قراءة كانت كفيلة بإقامة حوار مع هذا العقل الذي عجز عن تنوير نفسه لأنه ظل حبيس مقولات مغلقة جعلته يتوقف مدة من الزمن (إبان عصر النهضة ونهاية القرن السابع عشر) نتيجة الفشل في تنصير الرعايا من المسلمين المورسكيين.

ومع بداية القرن الثامن عشر سينبعث الاستشراق الإسباني من جديد ليواكب مستجدات علمية وثقافية جديدة تمثلت في خلق مشاريع كبري مثل إعداد المكتبات والأنحاء والقواميس وتشجيع الترجمة خاصة ما تعاق منها بالمخطوطات العربية ويتعلق الأمر هنا بكوكبة من المستشرقين مثل خوسي أنطونيو كوندي Jose Antonio Conde وبسكوال دي غايانغوس Pacanal de Gayangos وفرانسيسكو خافيير إي سيمونيت Francisco Javier y simonet، بعد ذلك ينتقل الباحث للحديث عن الخطاب الاستشراقي المعاصر مركزا علي معالجة تصورات أسين بلاثيوس للإسلام وللفكر الإسلامي، وقد علل دواعي هذا الاختيار بالنظر إلي المكانة المتميزة التي يشغلها هذا المستشرق علي مستوي الاستشراق العالمي والاستشراق الإسباني. ذلك أن بلاثيوس بدل جهودا ملحوظة تمثلت في تكثيف النشاط الاستشراقي الذي سعي إلي تنويعه إضافة إلي مشاركته في إعداد المكتبات والفهارس والاعتناء بالمخطوطات، إضافة إلي اهتمامه بالتدريس الجامعي وإعداد أجيال من المستشرقين الجدد وتفعيل الهيآت والأكاديميات المتخصصة في هذا المجال.

ومن غير شك فإن الباحث بدل جهدا كبيرا في تصنيف أبحاث هذا الأخير مركزا علي دراسة بلاثيوس لابن مسرة وهو الأمر الذي يدفع إلي القول بكون هذا المستشرق مازال بحاجة إلي مزيد من الدراسات العميقة لفكره الاستشراقي خاصة ما تعلق منها بالجانب الصوفي ونعني به التصوف النصراني الإسباني.

واختياره التركيز علي دراسة بلاثيوس لابن مسرة له أسبابه المنهجية الجديرة بالاحترام النقدي، وهو ما نبهنا إليه الباحث عندما اعتبر بلاثيوس فكر بن مسرة مجرد استمرار للفكر اليوناني القديم، نافيا عنه خصوصيته الإسلامية.

وسواء كان نقد هذا الخطاب قائما علي التواصل أو الإقرار بالاختلاف أو التنصيص علي الأثر فإن الرؤية الإبستمولوجية الواضحة استطاعت تحديد البحث في شقين:

1 ـ الإبانة عن الطابع الإيدولوجي للدراسات الاستشراقية.
2 ـ تحليل تلك الخطابات ونقدها، وتبيان طبيعة القصور المعرفي فيها.

والدكتور محمد عبد الواحد العسري في كل ذلك لم يكن يجتر أجوبة جاهزة، بل كان يسعي إلي استعادة السؤال الإبستمولوجي للخطاب الاستشراقي، والحالة هاته أنه وهو يحاول القبض علي الينبوع الأصلي لهذا الخطاب كان بصدد إنشاء طوبولوجيا جديدة للاستشراق الإسباني. 

كاتب من المغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ أستاذ الفكر الإسلامي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ تطوان ـ المغرب.
(2) ـ الإسلام في تصورات الاستشراق الإسباني، ص: 145.
(3) ـ الدون ايسودورد كاخيكاس مهندس إسباني أقام في القصر الكبير وهي مدينة شمال المغرب إبان الاستعمار الإسباني للمنطقة الشمالية وقام بوضع تصميم لمدينة القصر الكبير الحديثة، وأنشأ الشارع الرئيسي في المدينة والمعروف حاليا بشارع مولاي علي بوغالب وساحة مولاي المهدي وأهم عمل قام به هو جمع النفايات والأزبال التي كانت متراكمة خاصة عند ساحة سيدي بو حمد حتي بلغ ارتفاعها أزيد من 36 متر وربح بذلك مساحة مهمة اضيفت إلي المدينة الجديدة كما قام بإنشاء شبكة الصرف الصحي.
(4) ـ فالديراما، هو الذي كتب تاريخ القصر الملكي بتطوان (المغرب).
(5) ـ محمد بنشريفة، الجذور التاريخية للاستعراب الإسباني مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية سلسلة الندوات أبريل 1993، ص: