يكشف لنا الكاتب اللبناني عن التحولات المستقبلية التي ستنجم عن جائحة كرونا والتي يجمع الكثير من الكتاب والمفكرين على أنها ستكون نقطة تحول أو لحظة قطيعة تاريخية تجعل ما بعدها مختلفا عما مضى قبلها. وكيف أنها كشفت عن الكثير من الخلل الذي تتسم به حالة عالمنا الراهنة

كورونا اليوم التالي ... عالم جـديد شجاع؟

سعيـد محمد

 

التفاؤل الليبرالي المفرط، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، بنهايةٍ هادئة للتاريخ يتجه معها العالم إلى التوحد في ظلّ تزاوج أنموذج الديمقراطيّة الغربيّة مع التقدّم التكنولوجي المطرّد، كان قد شرع بالتلاشي منذ بعض الوقت. لكنّ ثمّة شبحاً ينتاب العالم اليوم ويهدد بتسريع أعمال التاريخ وإنهاء الحالة الليبراليّة الخاوية بهياكل القوى والمفاهيم القديمة المرتبطة بها خلال أسابيع: شبح فيروس كورونا. إنه ــــ غرامشياً ــــ عالم مات قديمه، ولمّا يولد جديده بعد. ستكون فوضى ووحوش وأوقات مظلمة. لكن اليقين الوحيد في هذه الحالة السائلة بين العالمين أنّ ما بعد كورونا لن يشبه ما قبله حتماً، وأن الآتي قد يتأهل لمستوى الحدث (الفلسفيّ) فيخلقبثمن باهظ - منطقاً (ثوريّاً) جديداً لنظام الأشياء، ربّما يكون انتقالاً بالبشريّة إلى حقبة زمنيّة جديدة تماماً.

ربّما كان فرانسيس فوكوياما – الكاتب الأميركي ذو الأصل الياباني – صاحب النظريّة المتفائلة بشأن نهاية ليبراليّة للتاريخ (انظر كتابه The End of History and the Last Man - 1992) أوّل الضحايا المعنويين لفيروس كورونا بعد تسربه من بؤرته المعلنة الأولى في ووهان الصينية وتحوّله إلى وباء عالمي. الرجل الذي كان قد رسم شكلاً للعالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 تتجه معه البشريّة بتؤدة نحو نوع من التوّحد في ظلّ تزاوج أنموذج الديمقراطيّة الغربيّة مع التقدّم التكنولوجي المطّرد، لم يهنأ كثيراً بمكانة النبي الجديد في أروقة واشنطن. إذ شرع عالمه الموهوم بالتلاشي متلقياً الصفعة تلو الأخرى منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، واستعادة روسيا المنهكة أنفاسها تدريجاً وعودتها إلى ملعب القوى الأممي، وصعود الصين كقوّة عالميّة فاعلة في الاقتصاد والسياسة والثقافة والتكنولوجيا، وسقوط نخبة واشنطن ـــ المركز الرأسمالي العالمي ـــ في العمى الاختياري لمشروع تمديد هيمنة القلّة على حساب الأكثريّة داخل الولايات المتحدة وعبر القارات استناداً إلى محض القوّة الغاشمة، كما العودة المزعجة لنماذج متطوّرة من الفاشيّات الشعبويّة إثر الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 وتفاقم الفجوة الاقتصادية بين الأثرياء الذين يملكون كل شيء وبقيّة البشر، الأجراء والفقراء والمعدمين. تلاشٍ أشبه بوقائع احتضار بطيء معلن شاهده الملايين حيّاً على الشاشات حول المعمورة: الحرب على العراق، استعادة روسيا للقرم، الثّورات الملونة، حصار إيران وروسيا وفنزويلا ونيكارغوا، صمود سوريا الأسطوري في وجه الحرب الأميركية من الجيل الرابع والخامس، تعملق الصين الجديدة وشروعها الواثق في بناء استعادة مكانتها الإمبراطورية العالميّة، بريكست بريطانيا وعقم النظام السياسي البالي فيها، انكفاء الاتحاد الأوروبي، شلل فرنسا، إفلاس اليونان واستعبادها، صعود الفاشيّة الشعبويّة الجديدة في تركيّا وإيطاليا والبرازيل والهند وأوروبا متوجاً بانتخاب دونالد ترامب، والفشل الذّريع والنهائي لليسار الغربي في تقديم ولو وهم بديل مقنع عن فجور الرأسماليّة، كما انكشاف كذبة العملية الديمقراطية برمتها بعد فضيحة «كامبريدج أناليتيكا»، والسقوط المدوي لخدعة تعدد السلطات.

احتضار عالم فوكوياما البطيء تسارع على نحو غير مسبوق خلال أيّام قليلة أو أسابيع ـــ بحسب مكان عيشك ـــ بعدما انتاب العالم اليوم شبح (باستعارة افتتاحيّة مانيفستو ماركس - إنجلز) يهدد بتسريع أعمال التاريخ وإنهاء الحالة الليبراليّة الخاوية بكل هياكل القوى والمفاهيم والعلاقات القديمة المرتبطة بها: شبح فيروس كورونا. تماماً كما كانت البشريّة عشيّة ثورات أوروبا في 1848 (عندما كتب ماركس ورفيقه بيانهما الشيوعي)، أو في عام 1941 على بوابة كارثة الحرب الكونيّة الكبرى، فإن أجواء الفوضى وعدم التيقن هي سيّدة الموقف بلا منازع: حكومات ودول عريقة وأخرى كرتونيّة تجد أنها بلا حول ولا قوّة في مواجهة وباء قاتل، مليارات البشر يخضعون لعزل منزلي طوعيّ أو إجباري، سياسة معولمة للعزل الاجتماعي الفردي وعبر الحدود والمقاطعات، تحولات جذريّة في أشكال العمل والتعليم والاجتماعات والعمل الحكومي وإدارة المصالح التجاريّة والماليّة، جمود شبه كليّ في حركة الطيران المدنيّ وموت سريري للسياحة، انتصار شبه تام لمؤسسة الرقابة والسّيطرة، تأميم لقطاعات حيويّة أو ميزانيات فلكيّة لشراء الوقت وتأجيل الفوضى الاقتصادية والاجتماعيّة التي تقف على الأبواب، هلع وتقاتل لتخزين المواد الاستهلاكيّة الأساسيّة، دول مارقة - بالمفهوم الليبرالي - تنهض بأدوار قوى عظمى إنسانية قادرة على مواجهة شبح كورونا، بل ومدّ يد العون إلى شعوب طالما شاركت في العداء المتأمرك ضدّها، أنظمة قروسطيّة في الخليج العربي على وشك الانهيار، ومع ذلك ما زالت تعيش خارج الزمان متمسكة بنهج العدوان والعداء لشعوب الإقليم... إنه ـــ غرامشياً ـــ كما عالم مات قديمه، ولمّا يولد جديده بعد، وستكون فوضى ووحوش وأوقات مظلمة.

عالم مات قديمه
صاغ الأميركيّون بشكل منفرد تقريباً شكل عالم ما بعد الحرب العالميّة الثانية (1939 – 1945) على أساس تصعيد هيمنة نخبة واشنطن كأداة لحماية المشروع الرأسمالي على حساب سيادة الدول الوطنيّة والقوميّات المحليّة، فيما أسماه البعض بالعولمة. لكن المؤسسات التي كان يفترض أن تدير تلك العمليّة (البنك الدوليّ وصندوق النقد الدّولي والأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالميّة) قد فشلت فشلاً ذريعاً بعدما تحولت بسفور إلى أقنعة للسياسة الأميركية من دون تحقيق أي اختراق حقيقي لمصلحة المجموعة البشريّة: لا بشأن الفجوة الاقتصادية بين الطبقات وبين الأمم، أو في مواجهة أزمة المناخ، أو حماية الغطاء المائي للأرض أو إدارة تكنولوجيا الاتصالات أو في التعامل مع موارد الطاقة، أو الإفادة الشاملة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء. ورغم اتّساع نطاق رصيد العقول المتعلمة التي يمكن أن تسهم في تشكيل الواقع إلى حوالى 6 مليار من البشر (مقارنة مثلاً بـ 600 مليون منهم وقت جائحة الإنفلونزا الإسبانية في 1918)، وتضاعف سرعة نقل المعارف بشكل انفجاري، وتعدد موارد الطاقة، فإن مراكز القوى وظّفت كل ذلك حصراً في التمكين لمزيد من هيمنة الـ1% ودائماً على حساب الـ 99%... لنجد أنفسنا اليوم – في قارب كوكبنا الوحيد - بلا حول ولا قوّة في مواجهة عاصفة وباء بفيروس غير معروف سابقاً، كأنه نمل يأكل من منسأة الحكيم سليمان لتنبئنا بموت خفنا أن نراه آتياً لمنظومة الهيلمان والطغيان.

فوضى ووحوش وأوقات مظلمة
تحوّل معظم البشر في برهة قصيرة إلى مراقبة عداد الإصابات (المعلنة) والوفيات المرتبطة بالوباء المستجد بدل مؤشرات البورصات العالميّة وأسعار النفط والعملات. وتحولت أروقة المستشفيات في بعض مدن العالم إلى مشاهد ديستوبيّة مثيرة للهلع، وانقلب نظام العيش اليومي المألوف لأغلبيتهم في يوم وليلة. توقفت عجلة الاقتصاد، وفقد كثيرون موارد رزقهم المحدود أصلاً، أو أرسلهم مالكو المصالح والأعمال في إجازات مفتوحة غير مدفوعة حتى إشعار آخر، فيما اكتشف آخرون عبث العمل في المكاتب الجماعيّة، وعقم العمليّة التعليميّة لنظام المدارس ومؤسسات التعليم التقليديّة دون امتلاك أي تصوّر حول الطريقة التي يمكن أن يستأنف بها العمل بعد انحسار الأزمة. في ذات الوقت، كشفت دول العالم الليبرالي عن وجهها البشع في تعاملها الطبقي الطابع مع الأزمة، مستعدة للتخلّص ممن تصنّفهم غير منتجين (كبار السن، والمرضى ومن لا يملكون تكاليف العلاج) لحماية الأفراد المنتجين اللازمين لاستمرار دوران عجلة الإنتاج الرأسمالي.
ويهدد تزايد أعداد المصابين والضحايا نتيجة الوباء بوصول المنظومات الصحيّة البائسة (أقلّه مقارنة بنظيراتها الأمنية والعسكريّة عديمة الفائدة في مواجهة الفيروس) في معظم الدول إلى الكتلة الحرجة التي لن تعود بعدها بقادرة على استقبال حالات جديدة، وهو ما سيضمن حدوث استقطاب مرشح للوصول إلى العنف بين الطبقات في تنافسها على حق الوصول إلى العلاج، ناهيك بنفاد الجزء الأكبر من رصيد المواد الغذائيّة والاستهلاكيّة وتضخم الأسعار بشكل سيصبح قريباً خارج متناول أغلبيّة البشر.
في ذات الوقت، تتحول معظم دول العالم إلى مؤسسات حكم فاشي تعتمد أدوات حكم الطوارئ والصلاحيّات الاستثنائيّة ومناخ الحرب والعزل والوسم على حساب حقوق الأفراد المنتهكة أصلاً. إنها الأزمنة المظلمة. وجديد لمّا يولد بعد...
بعدما فقد المتنبئون بالمستقبل، والفلاسفة والمنظرون معظم جمهورهم الذي انصرف عنهم منذ عقدين تقريباً إلى برامج تلفزيون الواقع، والاستهلاك المرضيّ للترفيه، تداعت وسائل الإعلام ــ التي صارت صوت المعركة مع كورونا ــ إلى إيقاظهم من معتزلاتهم العاجيّة مساءلة إيّاهم عن شكل الغد. منتشين بهذا الإقرار المتأخر بأهميتهم، انطلق هؤلاء إلى تدبيج المقالات وإعطاء المقابلات (عبر الفيديو وسكايب) حول تصوراتهم لما بعد كورونا (سلافوي جيجيك أصدر كتاباً بالفعل عنونه بـ «كوفيد -19»). هؤلاء مع بعض ملاحظات لا تخفى حتى على المراقب العادي من فئة تمكّن الأتمتة وانتقال الأنشطة البشريّة الأهم إلى العالم الافتراضي وصعود الشرق وأفول أوروبا القديمة، وإمكان تفكك حكومات مركزيّة كثيرة، فإن لا أحد منهم قادر بالفعل على تقديم تصوّر محكم للحياة في كوكب ما بعد كورونا. فهم أنفسهم من مخلفات العالم القديم الذي مات، وأدواتهم ومساطرهم لم تعد صالحة للاستعمال في تشييد معمار جديد يخضع لعلاقات قوّة مختلفة عمّا ألفناه في الأعوام السبعين الأخيرة.
اليقين الوحيد في هذه الحالة السائلة بين العالمين القديم والجديد أنّ ما بعد كورونا لن يشبه ما قبله حتماً، وأن الآتي قد يتأهل لمستوى الحدث (الفلسفيّ) وفق المفهوم الباديوي (نسبة إلى آلان باديو)، فيخلق ــ بثمن باهظ - منطقاً (ثوريّاً) جديداً لنظام الأشياء، ربّما يكون انتقالاً بالبشريّة إلى حقبة زمنيّة جديدة تماماً تخضع لقواعد تتبلور لحظيّاً ولا علاقة لها إطلاقاً بقواعد ما قبل كورونا.

شيوعيّة ثالثة كما يقول باديو ننحاز فيها للإنسان وللجميع لا للأرباح ومصالح الرأسماليين السايكوباث


يحق لنا – نحن المقهورين وضحايا المنظومة الليبراليّة الفاسدة عبر العالم – أن نستسلم في أجواء ولادة هذا الجديد لجرعة من الأمل (الديالكتيكي الطابع) بأنّ هذه الكورونا تحمل في قلبها الغادر مع الموت والدّمار بذور غد أفضل. لم يعد لدينا بالفعل ــ كمليارات ــ ما نخسره سوى أغلالنا التي فرضها علينا الأثرياء والنافذون. لم يعد سهلاً إعادة تعليبنا في الصناديق القديمة البالية. فنحن الآن أكثر تعليماً، ومسلحون بقدرة هائلة على تبادل المعلومات رغم كل الرّقابات، وهناك عدد لانهائي من البشر الذين يريدون الانخراط في إيقاع تجربة عيش جديدة حيث كرامة الإنسان، والعدالة، والأمان الاقتصاديّ من الجوع والمرض والجهل، وانتهاء الأنظمة السياسيّة العنصريّة وحكم السلالات القروسطيّة، وبناء نظام مادي لحماية كوكبنا للأجيال القادمة. لكن الجديد لن يسقط علينا من السماء، لا سيّما أن النخب التي تسيطر على النظام الليبرالي المعولم (بما فيه التجارب الروسيّة والصينية المتفاوتة) لن تستسلم بسهولة، فيما أصبح اليسار أثراً بعد عين. فما العمل؟
في 1917، قامت طليعة من مثقفين أذكياء وشجعان بقراءة موت نظام روسيا القديم، وانطلاق الوحوش، فرسموا معاً شكل اليوم التالي وصنعوه بأيديهم. كذلك في 1941، كانت قلّة من أصحاب النفوذ والمعرفة هي التي وضعت قواعد عالم ما بعد الحرب. في قلب مخاض الولادة هذه، ربمّا هي الفرصة سانحة الآن للمقهورين بأخذ زمام المبادرة النظريّة ـ على الأقل ــ وعدم تركها فريسة لقلّة استثنائيّة. فنحن اليوم مؤهلون كما لم يكن متاحاً يوماً لأسلافنا بأن نكون كتبة إعلان الاستقلال الجديد بالإفادة من معطيات انتصار العالم الافتراضي على الواقع: للتثقيف بطرائق عمل العالم، وتعرية الإمبراطوريّة الأميركية الفاسدة، وخلق فضاءات حوار وتلاقٍ حول أدوات تشكيل الغد الأفضل. شيوعيّة ثالثة كما يقول باديو ننحاز فيها – أخيراً – للإنسان وللجميع لا للأرباح ومصالح الرأسماليين السايكوباث. فلنتثقّف بكثافة ولنتحاور، ولنكن جاهزين كأغلبيّة للحرب الطبقيّة إن تطلّب الأمر، سلاحنا كثرتنا الطاغية، ووعينا المستحدث، وخبرة بؤسنا الأكيد في ظل اللّيبراليّة الفاجرة. لم يعد نظامهم صالحاً للعمل، وربما قد حان وقتنا. يا له عندئذ من عالم جديد شجاع. فليأتِ هذا اليوم التالي.

عن الغرق في بحر الأخبار
يبدو العالمُ بشكل متزايد، كأنّه مُصمّمٌ لأفراد منعزلين يعيشون كمدمنين على ازدراد سيل متدفق من الأخبار العاجلة والنشرات المستمرة والتحديثات على مواقع التواصل الاجتماعي عبر مجموعة من الشاشات اللامعة التي تُلاحقهم أينما ذهبوا حتى عندما يهجعون في أسرّتهم للنوم في المساء. ولا بدّ من أن البعض يجد في حال البقاء على اطلاع دائم، ومتابعة عدة محطات تلفزيونيّة ومواقع على الإنترنت وقراءة عدة صحف يوميّة مع الإطلال بين الحين والآخر على «التايم-لاين» أمراً لا بدّ منه للعيش العصري، والبقاء على تواصل مع الآخرين والنجاح في أجواء التّنافس الاجتماعي والاقتصادي. لكنّ المفكّر السويسري رولف دوبيللي مؤلّف كتاب «فن التفكير بوضوح» يرى أنّ الإعلام المعاصر في عهد الرأسماليّة المتأخرّة، أصبح مصدراً لتخمة أخبار لا تقل خطورة في تأثيراتها السلبيّة على عقولنا وأجسادنا ونفسياتنا عن تخمة الغذاء وإدمان السكر، إذ يمدّنا بكمّ مهول من قطع التّفاهة سهلة الهضم التي لا تحتاج إلى كثير تفكير، فتصلنا في قوالب مغلفة بشكل بصري جذّاب لنقع تدريجاً في فخّ الإدمان، والحاجة المستمرة لبحث لانهائيّ عن إشباع غير ممكن. وبينما يعتبر الإعلاميّون أنهم يجعلون العالم مكاناً أفضل من خلال تأدية واجبهم المهنيّ، فإن معظم نتاجهم – وفق دوبيللي دائماً - غير ذي صلة، بل يتسبب في أضرار فادحة لمستهلكيه على المستوى الفردي، والجماعي على حد سواء، وربما يمثّل خطراً على الأمن القوميّ للمجتمعات الحديثة.
دوبيللي الذي كان قد نشر مقالة عن محاذير الإدمان على الأخبار على مدونته عام 2012، جلبت أفكاره انتباه صحيفة «ذي غارديان» البريطانيّة (في عهد رئيس تحريرها السابق)، فاستدعته للتحدّث بشأنها مع كُتابها في مقرها الرئيس في لندن. كان لقاء غريباً بالطبع بين مجموعة من منتجي المواد الإعلاميّة الأهم في بريطانيا، ومفكّر يبادلهم العداء ويتّهمهم بالإضرار بالديمقراطيّة وبصحة مواطنيهم عبر ما ينتجونه من هراء يوميّ. «لنكن صريحين أيها السيدات والسادة» قال لهم، «إن ما تنتجونه هنا ليس إلا شكلاً من أشكال الترفيه». أثار اللقاء/ الصّدام غضب كثيرين من كتّاب «ذي غارديان»، واعتبر بعضهم دوبيللي أقرب إلى تاجر سموم أفاعٍ يبتغي الشهرة عبر مخالفة المألوف. لكنّه لم يرتدع، وأعاد صياغة مقالته الأصليّة في كتاب صدر العام الماضي بالألمانية - وصدرت ترجمته الإنكليزيّة هذا العام، بعنوان «توّقف عن قراءة الأخبار: مانيفستو لحياة أكثر سعادة وهدوءاً وحكمة». هنا يجادل بأن الامتناع عن تعاطي الأخبار اليوميّة أفضل ما يمكن أن يقدم عليه الإنسان المعاصر لإنقاذ نفسه من الدوامة التي جنتها على البشريّة ماكينة الإعلام الرأسماليّ، ويسجّل خبرته الذاتيّة في التخلّص من سمومها تدريجاً، هو الفخور الآن بأنه لم يشاهد نشرة أخبار منذ عشر سنوات، بينما حسابه على تويتر غير مفتوح للعموم مع رسالة تقول: «أصدقائي، أنا منشغل في تدوين كتابي الجديد وليس عندي وقت لفيسبوك أو تويتر»

مرافعة دوبيللي ضد متابعة الأخبار تقوم على محاور عدّة، منها أن صناعة الأخبار تضليل للحقائق، إذ تمنح حوادث الإرهاب النادرة والمنعزلة تغطية أوسع بكثير من الحديث مثلاً عن التوتر الدائم الذي يسبّبه نسق العيش المعاصر ويمس حياة المليارات، ويحصل رواد الفضاء الذين تتضاءل القيمة الفعليّة لرحلاتهم على مكانة النجوم، بينما يتم تجاهل بطولات يوميّة يقوم بها الممرضون مثلاً في مواجهة الأوبئة. هذا التضليل قد يتسبب في سوء الاستجابة النفسيّة لمحتوى تقارير الأخبار، إذ غالباً ما يُصاب مسافر بالطائرة بقلق مضاعف تجاه السفر بالجوّ لدى اطلاعه على تفاصيل حادثة سقوط طائرة، في الوقت الذي يستمر فيه الطيران المدنيّ دائماً كأقل وسائل التنقل خطراً على الإطلاق. كذلك يسم دوبيللي المواد الإخباريّة اليومية على تنوع قنواتها بغير ذات صلّة بواقع مستهلكيها، إذ قلّما تجد أن خبراً واحداً أو تحديثاً عمّا يحدث لحظياً قد أثرّ بأي شكل مباشر على حياة المتلقي رغم أنّه يتعرّض سنوياً لما يقدّر بـ 10 – 12 ألفاً من تلك المواد كمعدّل وسطي.

يشنّ دوبيللي هجوماً على المقالات في الصحف اليوميّة، معتبراً أنها مجرّد فقاعات على سطح ما يجري حقيقة في العالم، وأن ازدحام عقل المتلقي بالمعلومات التي يوردها الصحافيون لا يساعد على التقاط القصص الأهم – التي لا تروى – وغالباً لا يطلّع عليها الإعلام. فلو كان حجم المعلومات سبباً في النجاح في هذا العالم، لما كان أغلب الصحافيين أجراء ومرتزقة أيديولوجيين عند من يملكون النفوذ والثروة. بل إن كثرة استهلاك كبسولات المعلومات هذه تنعكس بعداً متزايداً للمتلقي عن تكوين صورة كليّة واقعيّة عن العالم وما يجري به تحت رادارات الصحافيين الأجراء، لا سيّما أنها تكرّس انحيازات الإدراك. فأغلب المقالات تبسّط حد الإسفاف والتسطيح عالماً شديد التعقيد (على نمط «تراجعت أسعار النفط بعد قرار السعوديّة زيادة الإنتاج» من دون إدراك أي شيء عن الأسباب الحقيقية لمثل ذلك القرار، وطبيعة الجهة التي اتخذته، وما هي الظروف البنيوية للسوق والمنتجين الآخرين التي جعلت من تراجع أسعار النفط أمراً ممكناً وهكذا). وغالباً ما يختار المتلقي من مصادر الأخبار ما يؤكد منها على فهمه الذاتي للعالم ولا تتحداه، ناهيك بأن الصناعة بمجملها – حتى لو افترضنا جدلاً حسن النيّة غير الموجود حتماًتقوم على أساس الترويج للقصص المنطقيّة والمسليّة بغض النظر عن علاقتها المباشرة بالحقائق الموضوعيّة.

لا يكتفي دوبيللي بالإشارة إلى العيوب المعرفيّة التي تحملها صناعة الأخبار اليوميّة، بل يذهب إلى اعتبارها مسؤولة عن تأثيرات سلبيّة على الجسد أيضاً. فهو ينقل عن مصادر طبيّة بأن التوتر الذي قد يصيب متلقِّي الأخبار يتسبب في إفراز زائد من مادة الكورتيزول في الجسم التي تتسبب في تراجع المناعة، وتمنع إطلاق هرمونات النموّ، وتسقط الإنسان في مزاج من التوتر اللحظي الدائم والسلبيّة والإحساس بالعجز والعدوانيّة، وتفتح الباب مشرعاً للوقوع في الاكتئاب والإدمان وقلّة التركيز. والأخطر أن طبيعة التواتر المستمر للتحديثات من مختلف وسائل وقنوات الإعلام تتسبب تدريجاً في إعادة تركيب بنية التشبيك بين خلايا الدماغ، بحيث يعتاد المرء على القراءات القصيرة والسريعة ومتابعة مصادر متوازية للمعلومات في آن فيما يفقد القدرة على القيام بقراءات مطولة في كتب أو مقالات طويلة تحتاج إلى التركيز لفترات طويلة.
لكن ما البديل الذي يطرحه دوبيللي للحصول على التنوير حول شؤون العالم؟ استعادة مهارة القراءة المطولة – الورقيّة – أو تلك الخالية من أيّ روابط تحيل القارئ على مواقع أخرى تأتي على رأس القائمة، مع إمكان الحصول على حصّة موجزة من الأخبار على نحو شهري أو أسبوعي إذا كان هنالك ثمّة ما يستدعي الأمر، فيما يقترح لمدمني الصحف الورقيّة اليوميّة قراءة الصحف القديمة التي تساعد على فهم أفضل لواقع العالم وتعقيده مقارنة بصحف اليوم. ويقترح للأفراد جمع المعلومات عبر خلق فرص للاستماع إلى وجهات نظر آخرين متخصصين في قضايا مختلفة، ومجتمعياً تطوير الصحافة الاستقصائية كوسيلة لإنقاذ الوسائل الإعلاميّة من السخافة التي ألمت بها منذ أصبحت مجرّد أبواق مؤدلجة في خدمة الهيمنة، واستشرست بعد الانتشار المتشظي للإنترنت في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين.

 

عن (الاخبار) اللبنانية