يشير الناقد إلى أن تأثير رواية "لم يصل عليهم أحد"، يتجاوز عنوانها الذي قد يوحي بالأسف على ضحايا الزمن الراهن، إلى الأسف العميق لكون الضحايا ضحايا تاريخ سوريا وصراعات اختلاف الأديان، ومصالح المحتلّين والمستبدّين. إنها روايةٍ ملحميّة بقيمتها الفنّية التي تلاحق القارئ على مدار متنتها من خلال الشكل أو المحتوى معاً.

رواية السوري خالد خليفة «لم يصلّ عليهم أحد»

مصائر البشر بين أسنان مطاحن أوهامهم

المثنى الشيخ عطية

 

مع روايةٍ ملحميّة، ضخمةٍ بقيمتها الفنّية قبل حجمها، مثل رواية الكاتب والسيناريست السوري الجديدة خالد خليفة “لم يصلّ عليهم أحد”، لا يخرج القارئ في الحقيقة سالماً من تأثيرات تكوينها سواء في الشكل أو في المحتوى. وقد لا تكفي متعة إصابته بالدهشة والسّحر، وخوفه في بدايات قراءته لها من ضياعٍ يقطع عنه أنفاسَ سحرِ عالمه الذي يعيشه في عوالمها، كما قد لا تكفي راحة نفسه وسيلان عينيه بالدمع من تأثير خاتمتها الناجحة المذهلة التي تكملُ دائرة قراءته بانفتاحها على سحر بداياتها، إذ سيصابُ، سواءً في لا وعيه أو إدراكه، بالشكّ في صورته التي يتداخل فيها صنع الآخرين وصنع أوهامه لها. وربما دفَعهُ هذا الشكّ إلى تتبّع خطاهُ في رحلةِ شخصية “حنا” الأولى الآسرة في الرواية، نحو معرفة نفسه، ونقاءِ روحه بعد مأساة الطوفان، كما يعترف مجلّياً نفسه في مصنفه الأول: “في ليلتنا الأخيرة عادتْ إلى يوم تعارفنا الأول، امرأةً تجهّزها أمّ وحيد لتبيع المتعة للرجال الأقوياء، أصحاب الثروات الكبيرة، حزنتُ لأنها تعرّت وتركتني أفتضّ بكارتَها، كنت أتمنّى لو قطعت الشوطَ الأخير وتساقطتْ من روحها رائحة الصديد الكريهة، حاولت استعادتي، قالتْ كم أحبّتني، كم انتظرتْ هذه اللحظة، ولم أقل لها كم أنا فاسد، أفسدتُ حياتها للأبد، حوّلتها من أمّ إلى عاهرة... بكيتُ بعد رحيلها، لم أفقدْ سوى القشور، ما زلتُ أشعر بلذّة القذف، وروعةِ نهدها في ضوء الفجر، ما زلتُ كائناً يشبه الذي كنته، لكني أغصّ بالكوابيس، وفمي مليءٌ بجثث الأسماك النافقة”.

بتجاوز تأثير عنوانها الذي يوحي بالأسف على ضحايا المجازر والمقابر الجماعية، إلى الأسف العميق لكون الضحايا ضحايا تاريخ سوريا الحافل بحماقات صراعات اختلاف الأديان المعزّزة باستيهامات المخدوعين المغيبين، ومصالح المحتلّين والمستبدّين والمتواطئين؛ يتجلّى نص هذه الرواية، عالماً مشدوداً بين ثنائية الحبّ والموت، ومعلّقاً بسحر ومآسي “الحب المستحيل” الذي ينبض بمحاولات البشر اليائسة لتفكيك ظلال الصراعات الدينية التي تقتل الحب بين البشر، وتحدّي جدران القيم والأعراف التي تحجزهم عن تحقيق سعادتهم، مع الكشف العميق عن حركة دواخل شخصياتهم في حركة هذه الصراعات.

في شغل عمله الملحمي، على بلورة الحبّ المستحيل وصراعات البشر من أجل الخلاص، في ظلال التكوّن التاريخي للشخصيّة، تحت الاحتلال والاستبداد والمجازر، يكوّن خليفة بنيةً متماسكة لتكامل وتفاعل أدوات هذه البلورة الحافلة بوثائق عن العصر، ومخطوطات للشخصيات، وثقافةٍ مدرَكةٍ، ومعرفةٍ ظاهرةٍ أو مختزنةٍ في اللاوعي، عن الرواية وتحققها في السينما، مع خيال طليق مصقول بثقافة رفيعة. ويفردُ أجنحة هذه البنية لتحلّق بسلاسةٍ في سماء عشرة فصول، بعناوين وتواريخ غير خاضعةٍ للتسلسل الزمني الذي يبدأ كما يبدو عام 1881 في ماردين، وينتهي عام 1951 في دير زهر الرمان بقرية حوش حنّا التابعة لحلب بالنسبة لختام مصائر أبطاله، كما ينتهي بين صيف 2015 وربيع 2019 في دمشق، وكامبريج وبوسطن، بحسبان دخول الكاتب كمدوّن وصاقلٍ ومبدعٍ لهذه الرواية في النص.

ويحرّك خليفة محتوى هذه الفصول بمنظومةٍ سرديةٍ يغلب سردَه كراوٍ على سبعةِ فصول منها هي “الطوفان”، “أمي حبة فاصولياء مفلطحة”، “قبر وسط حقول الكرز”، “الطريق الشاق”، “عالم يتداعى”، “صيف العاشق”، “سرير القدّيس الليّن”. ويداخل هذه الفصول بعد الفصل الأول والفصل السابع مصنّفان بسرد بطله حنّا هما “الآثام” و”الجوع”، وروايةٌ داخل الرواية يسردها جنيد خليفة تحت عنوان “الحب المستحيل”. وفي هذه البنية تتحرك البنية العميقة لعمل ملحمي يتناول مصائر عوائل مختلفة الأديان ومتشابكة العلاقات، بدءاً من وحدة جذور بعضها التي انقسمت بفعل القهر والانصياع إلى ضرورة تغيير دينها من أجل الأمان والعيش، مروراً بعلاقات التشارك التجاري، وعلاقات الصداقة، وانتهاءً مأساوياً بعلاقات الحبّ الذي لا يعرف التمييز بين الأديان وبالأخصّ الذي يشمل المسلمات.

في اقتراب الكاميرا من قلب هذه البنية، تتجلى صورة آسرة لحياة صديقين متفردين، مسلم ومسيحي، هما حنا كابرييل كريكورس، وزكريا أحمد البيازيدي، ترتبط حياتهما ويتطور مصيرهما، مع مصائر الشخصيات المرتبطة بهما، ليعكس حياة وتطور مصيرَ المدينة التاريخية المتفردة حلب، بين نهايات القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين.

في مصائر الشخصيات والعائلات والمدينة، تطفو كما الجثث في طوفان الفرات الذي يفتتح به خليفة روايته، على السطح، في تداخلٍ لا يخضع لتسلسل زمني داخل وبين الفصول، حياة المدينة وعلاقاتها بريفها، وتدخل متشابكة في هذه الحياة أرستقراطية حلب المتداخلة بأرستقراطية أوروبا، مع مآسي فقرائها وضحايا الذين عانوا من مجازر محتلّيها، وتتألّق في مشهدية أخّاذة وحافلة بالتعاطف الإنساني الكشاف حياة النساء اللواتي دفعهنّ الظلم إلى حياة الدعارة في “بحسيتا”، وكهوف الشوارع الخلفية لمدينة حلب، مع إثارة صارخة مُدينة لما تعرّضن له من مصائر مخزية، على أيدي المتشددين الإسلامويين. ويتداخل في هذه المشهدية حلم الرجال بجنة تتجلّى في قلعة الملذّات التي بناها حنا وزكريا ليعيشا مع أصدقائهما فلسفةً مناقضةً لفلسفات القهر التي تضع مجتمعهما على صراط الخوف.

وفي هذه البنية العميقة، تتداخل فظائع العثمانيين بأهل البلاد وبالمجاورين الأرمن، في الحالات الفردية التي تعكس استباحة الضباط العثمانيين لشرف ودم من يحكمون، كما في ارتكاب مجزرة قتل جميع عائلة حنا وتجريص جثة والده كابرييل كريكورس “مرمية على حمار، وهو يعض بفمه المرتخي الشفتين على عضوه المقطوع”، عقاباً على قتلهم الضابط العثماني الذي اغتصب عمة حنا دفاعاً عن شرف العائلة. وكما في قتل العاشقيْن وليم ميشيل استامبولي، وعائشة المفتي، اللذيْن لم يصلّ عليهما أحد من قبل ضابط عثماني هربتْ عائشة من الزواج به. وكذلك في الحالات الجماعية التي تعرّض لها الشعب المحكوم منهم بسلبه قوْته، وخلق مجاعةٍ تخلّلها الطاعون والكوليرا بين ناسه، وجرّ شبابه للقتال معهم في الحرب العالمية الأولى، وأسْر وقتل من يتخلّف عن التجنيد، إضافة إلى ارتكابهم مجازر الأرمن الذين تشرّد من نجا من نسائهم وأطفالهم واحتضنهم السوريون.

ويُداخل خليفة مع آثار هذه الفظائع على ضحاياها ما تتمحور حوله روايته: الحبّ والموت في ظل الكوارث والمجازر، بأربع قصصٍ آسرة للحبّ المستحيل بين المسلمة سعاد البيازيدي وحنا كريكورس المسيحي الذي ربته عائلتها كابن لها بعد مجزرة قتل جميع أهله، وبين وليم البيازيدي المسلم والأرمنية مريم التي اختارت الزواج من تركي مسلم بحثاً عن الأمان وعاشت تمزّقها المأساوي بين زواجها وحبيبها، وبين وليم ميشيل استامبولي المسيحي كذلك وعائشة المفتي المسلمة التي رفضت الضابط العثماني وتم قتلها مع حبيبها ببرودة من قبله. ويتوّج خليفة قصة الحبّ المستحيل هذه بقصة “خائن العشق وقاضيه، إمام العاشقين”، صالح العزيزي، الذي هام بعائشة، ودلّ الضابط على مكان اختفائها مع حبيبها، شرط قتله وتركِها، واغتال الضابط العثماني القاتل على عدم الوفاء بشرطه، ثم هام مردداً كلمات رسائلها لحبيبها كصوفي شَغفَ صوفيي حلب وأصابهم بعدوى هذا العشق.

ومع النسج المتداخل لتطوّر هذه الشخصيات والشخصيات التي ارتبطت بها، مع أحداث حياة وحب وموت هذه الشخصيات، في ظل حياة ومآسي عصرها الذي تجسّده، يصوغ خالد خليفة رواية ملحمية حقاً، بأسلوب شاعري ثري، وبجمل قصيرة متلاحقة لا تقطع الأنفاس دون إمتاعها بالدهشة، وتتميّز مع استخدام فعل الماضي للسّرد، بقَطْع جمل الماضي بفعل الحاضر، لتجسيد مشهديةٍ سينمائية تركّز الحدث كفعلٍ في ذات القارئ وتُشركه في القيام به. كذلك يتوّج خليفة أسلوبه بواقعية سحرية تتألّق على يديه بغنى الواقع الذي يُخلص بالغوص عميقاً في دواخله، واستخراج حقائق كنوزه، وتستدعي هذه الواقعية إلى ذاكرة القارئ المطّلع أعمالاً ساحرةً تناولت الوجود والموت والحب البشري، وتطوّر العائلة، بتألّقٍ هدَم أمامَها جدران محلّيتها، مثل “مائة عام من العزلةً، و”حبّ في زمن الكوليرا” للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، و”عدّاء الطائرة الورقية” للأفغاني خالد حسيني، والروايات التي تناولت رسائل العاشق السرّي، وتمّ تصويرها أعمالاً ناجحة” للمسلسلات التلفزيونية والسينما، مع الإشارة إلى تميّز واستقلالية خليفة بتأكيد عن هذه الأعمال.

في ما قبل ختامه البالغ النجاح والتأثير، برسالة سعاد البيازيدي لحنّا في حبّها المستحيل له، وهي تودّعه، وردّ حنّا على رسالتها، لا تَسع العينَ سوى حرارة الدمع على الحبّ الذي يذهب، والأوطان التي تتناثر منذرةً بالانقراض، كما الرّمز الواقعي لديناصور حنّا الذي اكتشفه وخزّنه في غرفةٍ مغلقة، وانفجرَ أمام عائشة البيازيدي، وزوجها يوسف عارف أغا، إلى غبارٍ علقتْ ذراّته بثيابهما، مشيرةً إلى ما ينتظر البشر من مآلات مؤسية لحماقاتهم، وإلى ما بين أيديهم من مباهج يُتعِسون أنفسهم وغيرهم بالتفريط فيها: “حبيبي حنا لو كنتَ قريباً منّي لطلبتُ منك أن تبتعد، لا أريد أن أفقد تلك الروعة التي أشعر فيها بتحوّلي إلى كائن يفتح رحمه متى أراد، يتذوّق عسلَ الحب، ثم يُغلق الرحم كما كنّا نفعل حين كنّا صغاراً وننهب قطرميزات العسل في قبو المؤونة. لن تخرج من رحمي حتى بعد موتي، ستبقى تنعم بتلك الرطوبة الرائعة، تسبح في تلك المياه النقيّة، تغفو على سرير القدّيس الليّن كما فعلتَ لخمس وخمسين سنةً لا ستين كما ظننتُ أول الرسالة. نمْ يا حبيبي. لن يراك أحد. لن يرى طيفكَ سواي”.

وفي ختامه الذي ينهي به حياة الصديقين كما بدأت على شاطئ الفرات الذي تفور مياهه بفيض ما يذكّر البشر بمعاني حيواتهم؛ لا تكتمل في ذات القارئ روايةٌ ملحمية آسرة فحسب، بل تدخل كذلك دون أن يدري بواعث ومحفزات الدعوة للنظر عميقاً داخل صورته الظاهرة، وربما الدعوة لإعادة هذه الصورة إلى حقائقها.