لا تدري بعد أن تنتهي من هذه القصة المكثفة أي الشخصيتين أشد قسوة من الأخرى: أهو الصديق الذي غدر فاستدرج صديقه إلى بيت كي يلوطه، ثم وقف ليتسمع من وراء الجدار؟ أم هو الكاتب الذي لم يغفر له زلة الصبا طوال العمر وأصر على الانتقام متعللا بأنه لم يذكر اسمه؟

غدر الصديق

سلام إبراهيم

 

- سلام أرجوك هذا الموضوع لا تذكره بكتاباتك.. أرجوك.. أرجوك!
أخر جملة كتبها لي في المسنجر وبعدها أختفى تماما ولحد الآن. كان ذلك قبل خمس سنوات
فهو معرفة قديمة جدا، من أيام الصبا، وظل يلاصق حياتي في كل مراحلها حتى أنه كان من المجموعة التي سربناها سراً إلى الثوار في الجبل عام 1982. وصدف أن سكن معنا مدة في مشتمل "الوزيريه" مقابل معمل القطن الطبي في فترة دراسته الجامعية بكلية القانون، وكانت لديه قدرة وموهبة بالرسم، ويبدو لطيفا، حنوناً، ساخراً، منكتاً، محبوباً، وكنت الوحيد الذي أعامله بتثاقل مشوب باحتقار خفي، كان يشعر به لكنه لم يجرأ على سؤالي.
أتاح لنا المسنجر وهذا العالم الافتراضي التواصل بمبادرة منه، فهو يتابع ما أكتب في الفيس بوك وما أنشره من قصص ومقاطع ومعجب بها جدا، وكنت أعرف أخباره، فقد افترقنا في قرية "بشارباجير" شمال سليمانية، فهو كان ينوي ترك الحركة المسلحة واللجوء إلى إيران، بينما تسربت أنا خفية إلى مدن الجنوب، الصلة الوحيدة التي حدثت هو زيارة زوجته الفلسطينية لشقتنا في مساكن برزة في دمشق بعد لجوئنا إلى سوريا ١٩٩٠عقب فشل التجربة المسلحة ورحلة تركيا وإيران. لحقتْ به وتقطّعت الصلات، وسمعت أنه انفصل عنها، فارتبطت برجل أخر فما كان منه إلا مهاجمتها وضربها بسكين بكتفها، فحكم عليه بالسجن سنوات، وصلتنا الافتراضية كانت بعد إطلاق سراحه. لم أطرق موضوع حياته الاجتماعية وهو لم يتطرق لها، كان مهتما بما أكتب عن شخصيات الديوانية والحياة فيها، ومتحمساً لطريقتي، وكنت غافراً له كل شيء بعد هذا العمر والتجارب، لكنه في حوارٍ من حواراتنا قدم كثيراً وهو يكبرني بسنوات ثلاث. قدم عن الشيخوخة ومرور العمر ليخلص بالأخير إلى سؤال عميق جداً:

- سلام لدي شعور أنك تنظر لي بعدم احترام طوال العمر منذ الإعدادية وجلسات الشرب في نادي الموظفين، وفي بيتك لما رتبنا الالتحاق بالثوار، وحتي بين الثوار تهملني لا تعير لي اهتماماً ولا أدري لماذا؟ جاوبني أرجوك وأنت صرت كاتباً تحلل مأزق الناس والمجتمع.
تلبدتُ مرتبكاً فأنا بالكاد قبلت الحوار معه كتابة. ألح:
- سلام قل لي ليش.. وريّحني!
رماني في بحر تلك الأيام. كنا معا طلبة في الرابع الإعدادي يعني كنت أبن السادسة عشر، وصدف أن تعلقت بتلميذة جميلة في نفس الشارع الذي يسكن فيه، فتوطدت علاقتنا وكنا نعمل سراً في اتحاد الطلبة العام واجهة من واجهات الحزب الشيوعي العراقي، وكانا نلتذ بتدوال جريدة "طريق الشعب" السرية ناعمة الحروف التي يجلبها هو من صاحب محل لكوي الملابس في الشارع الخلفي للشارع الذي نجلس في وسطه وكان غير مبلط. كنتُ وقتها ليس ثائرا فقط بل غير مبالٍ وواثق من الناس وخصوصا ذوي الميول اليسارية، وكنت لا أخاف من شيء، أقيم علاقات مع رجال يسارين يكبرونني بعشر سنين، واثقا من ثقافتي وحماستي، غير هياب، وكان صديقي الجميل التشكيلي "نعمة نور" يمر خطفا فنختلي معا ونحكي عن حبيبتينا الصديقات ويذهب ليتركني مع شلة الشارع. لاحظت صاحبي في مرات عدة حينما نختلي ونتحدث يدمغ وسطه المتوتر في حركة مفضوحة كنت أتجاهلها وأتصنع عدم ملاحظتها، هل كنت خبيثاً أود الوصول إلى عمق المبغى أم كنت عفوياً لا أدري، لكنها كانت حركة تزعجني. وكان ثالثنا شخص يرتبط بصاحبي ارتباطاً شديداً يأتي في المساء يدعى "جواد"، عضو بالاتحاد الوطني منظمة السلطة البعثية الطلابية، سأعرف لاحقاً بأنه قتل في الحرب مع إيران، كان يشكو من أخيه الشيوعي السكير الذي يخطب كل يوم مزعجاً عائلته ويسهب في روي طرائفه ساخراً. يسهر معنا حتى ساعة متأخرة من الليل.
في الفرع الجانبي كان بيت "صاحب سلام" وأخوته. وكنت لا أعرف عن حياتهم شيئاً سوى كون صاحب رياضي هواه يساري كان يطلق بالمظاهرات زمن عبد الكريم قاسم حمامات السلام وهو بطل مصارعة عراقي حاز كؤوساً بمسابقات. كان يمر علينا عائدا من دكان حلوياته في شارع العلاوي، وكنا نعزه ونحترمه.
في ليلة من تلك الليالي التي لا تنسى. دعاني للشرب معه في بيتهم، وأنا بكل طيبة قلبي وسذاجتي قبلت الدعوى بتشجيع من زميلي اليساري وصديقه، مضاف لإعجابي الشخصي بـ "صاحب" رياضياً ويسارياً، فذهبت معه وجلسنا في غرفة فقيرة، عمّرنا كأسين وتحدثنا عن الرياضة فأنا رياضي أيضا وأراني صوراً له يعرض فيه جسده في مسابقة كمال أجسام وصوراً عن مباراته في المصارعة.
وبغتة أمرني بلغة سوقية
- كوم أخل الكحبة أنزع!.
جمدتُ بمكاني مذهولا مرددا مع نفسي:
- معقول!
كنت أظنه نبياً بذلك الحماس!
كان متنمراً، استنكرت ذلك وقلت له بعبارة صريحة:
- صاحب أني مو منيوك!.
فأزداد شراسةً وكان أقوى مني أنا الفتى الغض، قاومت فضربني بقبضته القوية ضربة أصابت أذني اليمني فظللت طوال العمر ولحد الآن أعاني من ألمٍ وسمعي بها أقل من اليسرى. لكنني كنتُ قوي الروح وأصررتُ ورحت أذكره باليسار والنضال وعمي وعائلتي رموز يسار الديوانية، عمي موسى قائد نقابات العمال في زمن قاسم، وخليل المنكت الشهير، وأبي، إلى أن وقف منتصباً أمامي وفي وجهه ألم من يشعر بالذنب لينهار ساجدا يقبل قدمي، وكنت أهرب منه وأقول:
- صاحب قم قم!
وهو يضرب بجبهته باكيا مرددا:

- أشكد أني حقير أشكد!
أصرَّ على توصيلي من الحي الجمهوري إلى الحي العصري وهو يبكي طوال الطريق ويعتذر
صاحب سلام سيلف نفسه في بطانية زمن الحرب العراقية الإيرانية ويحرق نفسه وسط المدينة في شارع العلاوي
قلت له:
- تعرف كنت أحس بك أنت وجواد خلف شباك الغرفة تتسمعون لحواري مع "صاحب"
- ..!
لم يرد شيء
واصلت الكتابة:
- هذا الغدر مركب فكنا في عمل سري وصحبة شفافة لذا عاملتك بما تستحق....

- ..
ودعتهُ كنت أبغي النوم!

فكتب:
- سلام أرجوك هذا الموضوع لا تذكره بكتاباتك.. أرجوك.. أرجوك!
قلت له:
- ما أدري ما أوعدك
وها أنا لا أذكر أسمه.

2-7-2019
كوبنهاجن