يقدم الناقد المصري هنا دراسة ضافية لمتغيرات العلاقة بين الأدب وقارئه بعد دخول منصات التواصل على خط هذه العلاقة السوسيوثقافية المهمة بين الأدب وجمهوره، وإمكانيات قياسها، ومدى تأثيرها على الذائقة والمكانات الثقافية للنصوص من ناحية، وعلى دور الناقد والدارس الأكاديمي من ناحية أخرى.

الثقافة الرقميّة وجمهور الأدب الجديد

ممدوح فراج النابي

 

«إلى الأستاذ الدكتور سيد البحراوي... المعلّم والأستاذ والقدوة»

 

لا خلاف على أنَّ الوسائط الرّقميّة، أحدثت ثورة هائلة في سوق النّشر والتسويق، كما كان لها تأثيرها الكبير على الأدب سواء بدخول هذه الوسائط في إنتاج المُنتج الأدبي على نحو ظاهرة الكتابة الرقميّة، حيث صارت لا تنفصل عنه، وكأنّها جزءٌ من نسيج النص؛ كتابة وقراءة أيضًا، على نحو ما عُرف بالنص التّشعُّبي (Hypertexte)، أو في صلتها بمتلقيه (القارئ)، وهو ما عُرف باسم القارئ المتصل (المُشارك)، أو حتى في هدمها لسلطة الناقد التقليدي، وهو ما دفع رونان ماكدونالد لأن يُعلن "موت الناقد"، حتى ولو كان بالمعنى المجازي، حيث أضفتْ وسائل التواصل قيمة على الأعمال الإبداعيّة التي يقرأها القارئ العادي دون حاجة إلى ناقد متخصص يُرشده ويدله، وجعلت – أيضًا - النقد الشفاهي قابلاً للتدوين والتوثيق بغض النظر عن قيمته الجماليّة، على نحو ما فعل موقع جود ريدز، الذي أتاح للجميع إبداء الآراء فيما يقرأون، والتعليق عليه. إضافة إلى دورها المهمُّ في عميلة تسويق الأدب ذاته، بل وتغييره، بآليات جديدة تتناسب مع ثقافة العصر، كما فعل "الإنستغرام الأدبي bookstagram، الذي يُعدُّ هو الآخر شكلاً من أشكال التحالف بين الصُّورة والأدب.

الوسائط والجمهور
تأثيرات التكنولوجيا على الأدب واضحة وضوح العين، ولا يستطيع جاحد أن يُنكرها أو حتى يغفلها، ليس فقط في ظهور الأدب الرقمي، والذي يقصد به "كلّ نص أدبي ارتبط بالتقنيَّة على أي وجه"، وعلاقته الوثيقة بها، حيث يتوقف وجوده على جهاز الحاسوب كتابةً وقراءةً، فهو بصفة عامة يشتغل ضمن ثلاثة شروط هي: الحاسوب، والوسائط المتعدِّدة والتفاعليّة، فالشاشة هي التي تمكّن القارئ من الوصول إلى الأدب الرقميّ، وفي نفس الوقت هي "التي تمنحه شكلاً مُرتَّبًا، وتعطيه تجلّيه الزمنيّ؛ أي أثره". وبقدر ما يكون التعويل كبيرًا على الشاشة، فهي في الوقت نفسه نقطة ضعف (أو هشاشة) هذا الأدب، الذي "يعتمد على بنية تحتيّة تكنولوجيّة مهمّة لا شيء يضمن دوامها". (كزافيي مالبريل: ما هو الأدب الرقمي، مجلة الدوحة، عدد فبراير 2020، ترجمة: لبنى حساك، ص 14-17)، أو حتى في استثمار هذه الوسائط داخل النص نفسه.

كما ساهمت هذه الوسائط في جعل النص الأدبي طوعًا في يد القارئ، يتجاوز فيه عملية التلقيّ والفهم والتأويل إلى إعادة الإنتاج الإبداعي في سياق النص الموازي، فتجعل من القارئ كاتبًا بالموازاة مع عملية التلقي، عبر التعليق بالرأي على نحو ما تفعل منصات يوتيوب، وجود ريدز وأبجد، وغيرها من منصات أدخلت القارئ في لُعبة الكتابة، وأعلتْ من سُلطاته. وهو ما أشار بطرف خفي إلى قُدرة هذه الوسائط على إنتاج أنواع أدبيّة جديدة وصناعة مؤلفين جُدّد لا يعوّلون على سوق النشر الورقي وآليات التحكيم؛ لما أتاحه فضاء الأنفوسفير (الغلاف المعلوماتي) من نقلة نوعية في مجال النشر، أو ما عُرف باسم النشر الفرديّ، في ظل غياب معايير التحكيم التي وفرتها هذه المنصات. كي تتناسب مع ذائقة قرّاء هذه المنتجات، التي تعتمد في المقام الأوّل على التشويق والإثارة، باعتبارهما تقنيات تشدّ جمهور الأدب الجديد؛ لذا عاد الاهتمام بالرواية البوليسيّة وأدب الرعب وغيرهما، وبمعنى أدق يمكن القول بأن الأدب صار يتشكّل وفق ذائقة هذا الجمهور! وهنا مكمن الخطورة (وقد ناقشت هذه الإشكالية في مقالة سابقة نُشرت في جريدة أخبار الأدب بتاريخ الأوّل من ديسمبر (كانون الأول) 2019، بعنوان: "الخيال النقي: الأدب بين سلطة القارئ والذائقة المُضللّة")

تغيُّرات مهمّةُ حلّت على جمهور الأدب بسبب التوسّع في الثقافة الرقميّة، منها؛ أنَّ هذه الوسائط كشفتْ عن نوع جديد من جمهور الأدب، يختلف في تلقِّيه وتفاعله عن جمهور الأدب الذي أصبح قارئًا مستقلاً، مُستهلكًا للمطبوع مقابل مبلغ من المال (لا بد أن يمتلكه) ويقرأه على انفراد بدلاً من التلّقي المُباشر والجماعي، الذي كان يتيح قدرًا أكبر من المشاركة في عملية الإبداع في عصور ما قبل الطباعة، على حدّ قول الدكتور سيد البحراوي. (سيد البحراوي: جمهور الأدب في مصر دعوة للدراسة، ضمن كتاب "قضايا النقد والإبداع العرب، كتابات نقدية، ع 129، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ديسمبر 2002، ص 274). وهي تغيرات طبيعية ضمن شرائط الحياة في مجتمع الحداثة السائلة كما ذكر زيجمونت باومان، ففيه الحياة لا يمكن أن تتوقف عن الحركة الدائبة، وإلّا ستفنى.

أما الآن فيمكن القول بأنّ جمهور الأدب في عصر الوسائط التكنولوجيّة، وما مكّنته من أدوات المشاركة والتفاعُّل، عاد إلى عصر ما قبل الطباعة، حيث التلقّي المباشر الآن، والتعليق على ما يطرح. فبمجرد ما يتمّ الدخول إلى الوسائط التكنولوجيّة، يكون كلُّ شئٍ متاحًا له، وبضغطة من زر على كيبورد، أو لوح رقمي تُتاح له المشاركة في التقييم وإبداء (الرأي النقدي!)، كما أن دراسة هذا الجمهور الجديد أضحت سهلة، بل يمكن رصده بدقة، وتحليل خطابه، على عكس جمهور الأدب (التقليدي) الذي ما زالت إشكاليّة دراسته قائمة لأسباب عديدة، لا مجال لحصرها الآن.

ومن التغيُّرات الناتجة عن التوسّع في الثقافة الرقميّة، أن فكرة عدم امتلاك الكتاب بسبب غلاء الأسعار، لم يَعُدْ لها وجود حقيقيّ، أو حتى تُعدُّ حائلاً أو مانعًا لعدم القراءة، على الرغم من ظاهرة ارتفاع الأسعار، والمغالاة من بعض دور النشر في أسعار الكتب، في مفارقة مدهشة، لو وضعنا الشريحة الأكثر قرائيّة في الاعتبار، ألا وهي الطبقة المتوَّسِطة (تجاوزًا بعد التبدلات التي أحدثتها الرأسمالية الجديدة، من تغييب متعمّد لهذه الطبقة)، فهم الفئة التي تسعى للقراءة بقدر المستطاع، فطبقة الأثرياء لا تعنيهم الكتب، فحسب رأي الفيلسوف الكندي "آلان دونو" أن الطبقة الحاكمة في إشارة للأثرياء، "لم تنتج ثقافة خاصّة بها منذ زمن طويل، كما أنها لم تُظهر ما يشير إلى أيَّة حاجة لها لإنتاج شيء من هذا القبيل" (نظام التفاهة، آلان دونو، ص 256- 257)، ففي الأخير صار الكتاب مُتاحًا في صيغ مختلفة، وأحيانًا بلا مقابل. فقط امتلاك الشخص لجهاز ذكي، وعن طريق تنزيل تطبيق من متجر غوغل بلاي أو أبل ستور، يستطيع سماع الكتاب (الكتاب الصوتي)، أو تصفحه (الكتاب الإليكتروني) على الشاشة بكل سهولة ويُسر.

بدائل جديدة
وفي ظل البدائل الجديدة التي أتاحتها الثقافة الرقميّة سواء أكانت مشروعة، على نحو الكتاب المسموع (أو الكتاب الصوتي) (Audiobooks)، أمْ غير مشروعة، كالكتب الإليكترونية (e-book)، ولا أقصد تلك التي تُباع على موقع أمازون بمقابل مادي، كبديل سريع عن الكتاب الورقي، وإنما أقصد تلك المتوافرة في صيغة (Pdf) عن طريق جروبات تصوير الكتب المنتشرة على صحفات الفيس بوك، وقنوات تليجرام، والتي تحتاج إلى أجهزة تقنيّة كالحاسوب، أو أجهزة لوحيّة مثل:iPad, Nexus, Kindle Fire والتليفونات الذكيّة، وأجهزة القراءة الإليكترونية القارئ الإليكتروني e-book Reader المختصة بالقراءة، مثل Nook, Kindle؛ في ظل هذه البدائل الجديدة تبدلّت المسؤولية السّلبيّة التي وسم بها الدكتور البحراوي جمهور الأدب المكتوب، فصارت المسؤولية إيجابيّة، حيث عزّزت أيديولوجيا هذه المنصات العمل التّشاركي، فيوتيوب مثلاً يفترض مُسبقًا "مشاركة بادرات التعاون وأنشطة المُساهمة من قِبل أكبر عدد" كما تقول سيغويير مارين (الأدب الجماهيري والقيم الرّقمْيّة: تر؛ أسماء مصطفى كمال، مجلة الدوحة، عدد يوليو 2018، ص49). وإن كان ثمّة قاعدة أشبه بميثاق أيديولوجي بين صاحب المحتوى وجمهوره، يحرص في نهاية كل حلقة على تذكيرهم بها مفادها: "إنْ أعجبك الفيديو، لا تنسى الإعجاب والاشتراك بالقناة؛ ليصلك كل ما هو جديد".

فلم يَعُدْ دور جمهور الأدب مقتصرًا على القراءة الفرديّة (الأحاديّة)، وإنما صار مشاركًا بآرائه فيما قرأ، على نحو ما أتاحت مواقع القراءة، فبتفعيل حساب على هذه المواقع يصير القارئ العادي واحدًا من الألوف التي تُشارك في إبداء رأيها (النقدي!) فيما يُقرأ سواء بالسَّلب أو بالإيجاب، المهمُّ أن القراءة لم تعد ذاتية (فردية)، بل صارت جماعيّة، تأثيرها يتجاوز الفرد نفسه إلى جمهور عريض من (الفانز) المتابعين، لا فيما يعرضه من محتوى عن الكتاب المعروض، سواء بالريفيوهات أو التقرير الأدبي (جود ريدز وأبجد، وغيرهما)، أو بالفيديو (البوكتيوب) أو حتى بعرض صورته والتعليق عليه (الانستغرام الأدبي)، وإنما التأثير بقراءته، والحثُّ على شرائه، لدرجة أن عددًا من الناشرين باتوا يثمِّنُون تدوينات وملاحظات المستخدمين، كأدة تسويقيّة، ومنهم من ضمّ أصحاب هذه المحتويات لفريق عمل الدار؛ ليقوم بالترويج لما تطرحه الدار من كتب (ندى الشبراوي مثلا مسئولة عن التوثيق والتعاقدات في دار نشر إبييدي، وتعمل أيضًا في دار التنوير وفقًا لتصريحاتها في أكثر من برنامج).

نفس الشيء ما وفرّته جروبات نوادي القراءة على صفحات فيس بوك، والتي انتقل بعضها من الفضاء الافتراضي، إلى الواقعي، حيث أخذت الجمهور الافتراضي إلى نوادي القراءة؛ وهي ظاهرة جديدة أشبه بالصّالونات الأدبيّة، وإن كانت تحرّرت نسبيًّا من الرسميّات والأماكن المغلقة، وهي وليدة مواقع التواصل الاجتماعي، تأسّست عبر صفحات الفضاء الأزرق، ثم انتقلت إلى الواقع، حيث يتمُّ تبادل الكتب ومناقشتها، قد يحضر الكاتب وعدد من القرّاء لمناقشة عمله، وإن كان في كثير منها لا يتحقّق حضور الكاتب، ومن أشهر هذه النوادي "نادي قرّاء المهرجان" في دبي، الذي أُسّس من قبل مهرجان طيران الإمارات للآداب، و"نور الفكر" في الكويت، وغيرهما الكثير، بل هناك بعض دور النشر احتضنت مثل هذه النوادي كما فعلت دار الشروق المصرية، والمصرية اللبنانيّة، وبتانة، بتأسيس بعض نوادي القراءة. الفارق أن الظاهرة في البلدان العربية تأخذ طابعها التلقائي بعيدًا عن الرّسمي، حيث يتشارك الأصدقاء الافتراضيون بعضهم بعضًا في مكان عام مكتبة أو مقهى ثقافي؛ كي يتناقشوا فيها حول ما تمّ قراءته.

فضاء الشاشة الحمراء
من التأثيرات المهمّة لهذه الوسائط، دخول الكتاب عصر الصُّورة والأفلام القصيرة، وهو ما عُرِف بـ"البوكتيوب" (Book Tube) عبر منصة يوتيوب أو الشاشة الحمراء؛ الذي تصفه ويكيبيديا بأنه "مجتمع للقرّاء في موقع اليوتيوب العالمي"، وتعرفه بإيجاز شديد: بأنه "عبارة عن المحتوى الرقمي المتخصص في الكتب". أما أصحاب هذه القنوات فيطلق عليهم "البوكتيوبرز"، وهم صُناع المحتوى الذين يشاركون شغفهم بالقراءة، وآخر قراءاتهم من خلال فيديوهات معروضة بالتسلسل الزمني. مِما يعني أن البوكتيوب يدخل ضمن إطار التدوين الإليكتروني، وبالتحديد التدوين المرئي، الذي يتمُّ عبر الفيديوهات. تتعدّد ترجمة المصطلح في العربيّة هكذا: القنوات الأدبيّة، اليوتيوب الثقافي أو قنوات الكتب، وإن كان الأكثر شيوعًا بين جموع المدونين والقرّاء هو قنوات الكتب.

تُعرِّف الصّحافية أميلي يريبوس "البوك تيوبيون" على أنهم قرّاء يقومون بنشر مقاطع فيديو على اليوتيوب؛ للتحدّث عن قراءاتهم، ومشاركة اكتشافاتهم وكتبهم المفضّلة، ويصوّرون أنفسهم معظم الوقت في المنزل، أمام مكتباتهم، لاقتراح مراجعاتهم الخاصّة للروايات. الاعتماد الأساسي لهولاء "البوك تيوبيون" على جمع المشاهدات، وهو الغرض الأساسي لمعظم الفيديوهات التي تُعرض على منصة اليوتيوب، منذ تأسيسها في عام 2005، فصارت هذه المنصة مصدرَ دخلٍ للكثير من الشباب، الذين كانوا عاطلينَ عن العمل؛ فالغرض - مهما ادّعوا بأنّهم يهدفون إلى نشر الأفكار والكتب - في المقام الأوّل تجاري، حيث يحصل المروّج على نسبة من الإعلانات التي تُطرح إلى جانب الفيديو، إذا زادت نسبة المشاهدة على عدد معين وفق آليات التسويق على هذه المنصات. أو ما يُعرف باسم الخوارزميات المسؤولة عن حساب أعداد المشاهدات والمتتبِّعين.

كما أدّى دخول الناشرين هذا المجال، إلى استقطاب أصحاب المحتوى، وربطهم بمنتجاتهم الأدبيّة كنوع من التسويق، الأمر الذي تجاوز مجرد كونها غواية لترويج الكتب أو مشاركة الآخرين بترشيحاتهم (كما أعلن أصحاب المحتوى في كثير من المناسبات)، إلى مصدر ربح كبير للبوكتيوبرز.

تقول ياسمين إبراهيم، وهي باحثة في الأعمال التجارية الدوليّة والاتصالات بجامعة كوين ماري في لندن، في كتابها "Production of the 'Self' in the Digital Age" (إنتاج الذات في العصر الرقمي): "إن الانتقال من عصر المحتوى التقليدي إلى المحتوى الاجتماعي الجماهيري، يظهر من خلال قدرتنا على رؤية أنفسنا داخل الشاشة"، وتستكمل أن هذه الشاشة "لم تَعُد حكرًا على الأقوياء أو المشاهير، بل فتحت الأبواب لكل من يُريد تسويق "ذاته" وتقديمها للآخرين ككائن وموضوع" (فصل من الكتاب ترجمة مروى بن مسعود: بعنوان "صوت وصورة: بحثًا عن ذات رقميّة، مجلة الدوحة، عدد يوليو 2018، ص 44). وهو ما كان حافزًا دفع الكثيرين إلى اكتشاف ذواتهم عبر الشاشة الحمراء، باعتبارها "المنصة الأولى لعرض العالم الآخر، عالم من الأفكار والهروب"، ومثلما كانت مصدرًا للترفيه والاتّصال الجماهيري بين الأفراد، وإشهارًا للمنتجات، فإنها في الوقت ذاته، وسعّت من مجال رؤيتنا وقدرتنا على اكتشاف ذواتنا، علاوة على ذلك دفعت بالمستخدمين إلى الدخول في الاقتصاد.

اللافت في الأمر أنّ هذا العالم المُصغّر، هو صنيعة القُرّاء العاديين، الذين راحت سُلْطتهم تتغوّل، وتزحزح سُلْطة الناقد الأدبي، على نحو ما حدث على مواقع القراءة؛ كجود ريدز وأبجد وغيرهما، فانتقل القرّاء من مواقع القراءة، التي تعتمد على التقييمات والريفيوهات القصيرة، إلى الشاشة الحمراء، ليمارسوا من خلالها (أي القرّاء) شغفهم بالكُتب التي تعجبهم، ويرشحوها إلى غيرهم. الفارق أن البوكتيوب، والإنستغرام الأدبي، منصتان مرئيتان، يتمُّ فيهما الترويج للكتب من خلال الفيديو والصّورة.

ومن ثمّ خلقت الثقافة الرقميّة نجومًا من المهمَّشين، وفق آليات جديدة، وإن كانت بسيطة، وأيضًا فرديّة، تختلفُ عن آليات الصّناعة الرّأسماليّة والسياسيّة التي أسهمتْ في صناعة "نجوم السينما" سابقًا، كما أوضح "إدغار موران" في كتابه الموسوم بذات الاسم؛ هؤلاء النجوم هم في الأصل صناعة يوتيوبيّة بامتياز، سعوا إلى الاستفادة من هذه الوسائط التكنولوجيّة، في توسيع نجوميتهم الجديدة (سنُلاحظ الاختلافات التي طرأت علي هؤلاء البوكتيوبرز على المستوى الوظيفي والاقتصادي، بعد تحقيق معدلات مشاهدة كبيرة نسبيًّا للمحتوى الذي يقدمونه، ورواج أسمائهم).

ويعود اختيار المدونيين أو النجوم الجدُّد للشاشة الحمراء؛ لما يتمّيز به اليوتيوب من خصائص ذات جاذبيّة على مستوى الصّوت والصّورة والألوان، إضافة إلى ما يتيحه للمُتلقي من إمكانات للقراءة وفق رغباته، فضلاً عن الانتشار السّريع الذي تحقّقه هذه الوسائط، إضافة إلى خاصيّة التفاعل التي تُتيحها للقرّاء، مع مختلف الآراء حول المادة الأدبيّة المعروضة. يقول محمد شادي الذي كان نشاطه قاصرًا على فيس بوك في البداية، ثم انتقل إلى يوتيوب في سبتمبر (أيلول) 2017، لأنه يرى أن "فكرة البوكتيوب تمثّل شغفي؛ أن أتحدث عن الأشياء التي أحبّها، أن أتواصل مع البشر بصورة مختلفة، صورة أكثر عصرية وأكثر قبولًا" (حوار مع ندى الشبراوي ومحمد شادي، على موقع قنطرة، بتاريخ 14 /12/2018).

خطاب اليوتيوب
في ظل الانتشار الواسع لهذه القنوات، على الشّاشة الحمراء، دون الاقتصار على سن مُحدّد لأصحابها (فالجامع بين هؤلاء المدونين أنهم ينتمون إلى فئة الشباب العمرية، وهي سمة يتسمُّ بها البوكتيوبرز في العالم كله، دون استثناء من فئة الإناث أو الذكور، فحسام مصطفى صاحب قناة "أبو الكتب" لم يتجاوز السابعة عشر من عمره)، وتأثيرها الفاعل والقوي على الجمهور، باعتبار آلياتها، أدوات للتسويق، بفرض منتج معين دون الاعتبار لخصوصية تلقّيك أو ذائقتك وجمالياتها، حتى غدا الفرد تحت سلطتها، محاصرًا بإغراءات ترشيحاتها، صار ثمّة خطاب جديد، يؤكد هيمنة الثقافة الرقميّة على مَناحي الحياة، يمكن وصفه بخطاب اليوتيوب، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى تحليل هذا الخطاب اليوتيوبي، ومعرفة سماته وخصائصه، وهل بإمكانه إنتاج خطاب بديل يزحزح خطاب وسائل الإعلام التقليديّة أو الباردة بتعبير الفيلسوف الكندي (مارشال مكلوهان) مثل الكتب والجرائد أم أنّه فعلاً يُكرّس للأدب الصّناعي أو أدب الهامش؟

ولا يتحقّق هذا إلا بالبحث عن المعايير النقديّة التي يعتمدها البوكتيوبرز أثناء مراجعاتهم للكتب، ومناقشة وتفنيد آليات اختيارهم للأعمال التي يتمُّ تناول محتواها على هذه القنوات. وكذلك، الإجابة عن سؤال: هل هناك أيادٍ خفيّة تُحرّك أصحاب المحتوى (قنوات القراءة)، من أجل مدح أعمال أقل قيمة، أم أنّ تردد هذه الأعمال مجرد مصادفة لا أكثر، خاصّة في ظل اتّهام موجّه لأيديولوجيا هذه القنوات بأنها تُساعد في إنتاج تصوُّرات مختلفة لأفضل الكتب مبيعًا، بعضها يكون منتجًا مهمَّشًا على حدود الأدبيات الحقيقية، وهو ما يُعزِّز من ثقافة الأدب الشّعبيّ، أو الأدب الجماهيري؟ وأخيرًا، سؤال مباشر: هل ثمّة سلطة جديدة تُضاف إلى السلطات التي مورست على القرَّاء، بعد أن كان هو صاحب سلطة (على الكاتب) من أصحاب دور النشر التي يعمل فيه بعض أصحاب المحتوى للترويج لأعمال الدار فقط؟

سأتوقف عند نماذج لمحتويات من هذه القنوات، التي قدمت ترشيحات للقراءة، أشبه بخطاب إشهاري للأدب؛ ساعيًّا للتعرف على المحتوى الذي تقدمه؛ لتكون مفتاحًا للإجابة عن التساؤلات التي ذكرتها عاليًّا. والأهم هو دراسة جمهور الأدب الجديد، الذي انتقل من دور المتلقي إلى دور الفاعل، وأولياته في القراءة. فدراسة جمهور الأدب كما يقول الدكتور سيد البحراوي في دراسة له بذات العنوان تصبح "عنصرًا أساسيًّا لدراسة الوضع الأدبي في بلد ما، أو مرحلة ما" (سيد البحراوي، مرجع سابق، ص 273)، أضف إلى ذلك أنه (أي جمهور الأدب) صار لاعبًا حقيقيًّا على مستوى البُعد الاقتصادي، من خلال قوائم الأعلى مبيعًا (البيست سيلر) التي هي في الغالب تعود إلى ذائقة هذا الجمهور. وهو ما يؤكّد العلاقة التشاركيّة التي أضفتها هذه المنصات باعتبارها منشئ لرابط اجتماعي مؤسّس على "المؤانسات الاجتماعيّة" للعلاقة بين القارئ والجمهور، فالكتاب الناجح على هذه المنصات يصبح مقدّرًا من المتلقي. وفي نفس الوقت كداعم لسياسات التسويق والنشر.

بالنسبة للبوكتيوب يقوم أصحاب المحتوى علي هذه القنوات، التي تعدّدت على الشبكة الحمراء (فقد تجاوز عددها 17 قناة، وفقًا لإحصائية وكيبيديا)؛ كالروائي، وبتاع كتب، ودودة كتب وغيرها، بتقييم الكتب لا من خلال آليات نقدية محكمة، وإنما عبر تلخيص لمحتوى الكتاب، والتركيز على أدوار الشخصيات الرئيسيّة، وفي الوقت نفسه يقدمون أيضًا ترشيحات للآخرين بالكتب الجديرة بالقراءة، ويُعلنون عن الكتب الأكثر مبيعًا.

أما الإنستغرام الأدبي، فيعدُّ أشبه بتحالفٍ بين الصُّورة والأدب، "مبدؤه مشاركة حبّ القراءة عبر الصُّورة، و- من ثمّ – إعادة ربط الصلة بالكتاب، بواسطة تصميم بسيط وفوري، يسمح بإبداء الرأي في كتاب ما، ونقده ومراجعته، وحثّ المتابعين على قراءته"، كما أنه "ساهم في تغيير أسلوب تسويق الخيال، ومراجعته، وقراءته" على حدّ قول "زيرا رحيم" في مقالتها "الإنستغرام الأدبي: أسلوب جديد لتسويق الرواية" (مجلة الدوحة، عدد نوفمير 2019، ترجمة مروى بن مسعود، ص 26- 27)

من أشهر القنوات على اليوتيوب قناة "دودة كتب". صاحبة المحتوى هي ندى الشبراوي، ابنة الخامسة والعشرين عامًا، (من مواليد 1995) حسب ما عرَّفَتْ نفسها في كثير من البرامج التي ظهرت فيها؛ مثل: "آخر النهار" مع خيري رمضان، ثم في برنامج "السفيرة عزيزة"، وأخيرًا في برنامج "باب الخلق" مع محمود سعد، وغيرها من اللقاءات في برامج محليّة وعربيّة، وأيضًا في حلقة عن نفسها بعنوان "أنا مين؟ ليه دودة كتب؟" بتاريخ (20نوفمبر 2018)، وهي صاحبة تحدّي قراءة ألف كتاب قبل سن الثلاثين.

في الحلقة الأولى التي خصّصتها لرواية "كل هذا الهراء" لعزّ الدين شكري فشير، بتاريخ 19 حزيران (يونيه) عام 2017. بدأت نشاطها أولاً على منصة فيسبوك قبل أن تنتقل إلى منصة يوتبوب في مارس/ آذار 2017، وقد أوضحت أسباب إقدامها على تقديم محتوى أونلاين شو على اليوتيوب، باسم "دودة كتب". وهو ما تكرّر في معظم البرامج التي ظهرت فيها بعد، وهو نفس الشيء الذي حدث مع محمد شادي، انتقل من الفيس بوك إلى اليوتيوب.

الهدف من البرنامج - كما ذكرت - هو تقديم مراجعات لبعض الكتب أو ترشيحات "كتب حلوة قرأتها"، فهي ترى أنّنا في حاجة لمن يُرشح لنا أي كتاب يستحق أنْ يُقرأ، وفي المقابل يُحذِّرنا من أي كتاب "طلع مَقْلب"، والسبب يرجع كما ذكرت؛ لأنّ الوقت صار محدودًا، وعدد الكتب غير محدود، وأيضًا لارتفاع أسعار الكتب، وخشية أن يتعرّض أحد للخداع، في شراء كتاب لا يستحق ثمنه. لو تأمّلنا أسباب إقدامها على هذه الخطوة، لاكتشفنا أن بعضها راجع إلى رغبة ذاتيّة، تتمثّل في حبّها للقراءة، وهي المَلَكة التي نمتْ وتطوّرتْ بفعل عوامل خارجيّة متمثّلة في البيت الذي كان بمثابة الحاضِنة الفكريّة لشغفها، والثاني يعود إلى عامل اقتصادي يتمثّل في غلاء أسعار الكتب، ومن ثمّ تسعى لتقديم محتوى يُجنِّبُ القارئ الوقوع في دائرة "الاختيار الخطأ"، ويسهّل عليه أولويات القراءة، بسبب ضيق الوقت، حيث قلة الوقت في مقابل زيادة أعداد الكتب، وهو ما يشير إلى تناسب عكسي لا يضمن للقارئ الوفاء باحتياجاته القرائيّة، فالمعادلة صعبة: (وقت قصيرة + كتب كثيرة = تحصيل أقل).

وكأنّ المدوِّنة (صاحبة المحتوى) تسعى للعب على عامل الوقت، والاستفادة منه بالقدر المطلوب، ليتناسب مع ما هو معروض، من خلال ترشيح ما يستحق القراءة، وهنا يبرزُ دور جديد لأصحاب هذه المحتويات، يتمثّل في الاختيار والفرز ثم الترشيح. وهو ما يتطلّب أن يمتلكَ القائم بهذه الوظيفة الجديدة التي لم تذكرها صراحة، وإن كانت تُفْهَم ضِمْنيًّا، متطلبات تؤهّل صاحبها للاختيار ثمّ فرز الاختيارات، وصولاً إلى المرحلة الأخيرة وهي الترشيح. وتأتي الذّائقة، التي وصفتها فيرجينيا وولف بأنها "الشيطان الذي يوسوس لنا: أنا أحبُّ .. أنا أكره. ولا يمكن إسكاته" في قائمة المتطلبات الأساسية للاختيار، القادرة على حلّ معضلة الفرز، مع التأكيد أن هذا المقياس نسبي، قد يختلف من شخص إلى آخر بِحُكم اختلاف أذواق القرّاء.

هل الإعجاب وحده يكفي؟!
في سؤال وجّهه موقع قنطرة ضمن تحقيق بعنوان: "البوكتيوب في مصر - عرض الأدب بواسطة فيديوهات الإنترنت"، للثنائي ندى الشبراوي ومحمد شادي عن: كيف تختاران الكتب للمراجعة؟ وهل يتواصل معكما الناشرون أو الكُتَّاب؟ والسؤال هو المحك الأساسي في تقييم هذه التجربة، وكشف معايير الاختيار لدي أصحاب هذه المحتويات، التي جعلتهم يعتمدون على إشهار هذا الكتاب دون غيره، وقد جاء الجواب كالتالي:

- محمد شادي: "أختار كتبي بنفسي، بعضها من اختياري بالكامل وبعضها تمّ ترشيحها لي من أصدقائي الذين أثق بهم. حاول بعض الناشرين والكُتّاب التواصل معي بالطبع لمراجعة كتبهم لكني، في معظم الأحوال، أفضّل اختياراتي الشخصية."

- ندى: "هناك معايير محددة للكتب التي أراجعها، سواء أكانت شخصية أم مهنية. مبدأيًا لا أراجع كتابًا لم يعجبني. لكن في الوقت ذاته أحاول اختيار كُتب لها جمهور، أو يمكن أن تجذب الجمهور، من ضمن الكتب التي أعجبتني. ولذلك لا أكتفي بتقديم الكتب التي تعجبني وحسب، فليس كل ما أقرأه مناسبًا للجميع."

في الحقيقة هذه الإجابات الواضحة، تضعنا أمام مُعضلة كبيرة، فالمعيار الأساسيّ في الترشيح – على نحو ما اتّفق المدوِّنان - يعتمد على الذّائقة فقط، وفي بعضها عن طريق ترشيحات الأصدقاء، أي ذائقتهم، وفي ظل غياب هُويّة الأصدقاء وتكوينهم الثقافي، واهتماماتهم، نصبح أمام إشكال كبير، خاصة أن ثمة عاملًا مهمًّا ذكرته صاحبة المحتوى يدخل ضمن معيار اختياراتها، يتمثّل في قدرة هذه الكتب على جذب الجمهور، ومسألة جذب الجمهور، هي الأخرى، مسألة في المقام الأول نسبيّة، مثل الذائقة نفسها، التي تختلف من فرد إلى آخر، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن جيل إلى جيل، وهو ما يعود بنا إلى ثنائية الأدب الرفيع وأدب الظل.

فكثير من الأعمال التي تعتمد على الحبكة والإثارة لا تثير لدى قطاع عريض من القرّاء شغفهم أو أدنى اهتمام. كما أن مسألة اعتماد الاختيار على إعجاب المدوّن، في حدّ ذاته مُقلقة، فليس كل ما تختاره بالضرورة سيعجبني أنا أو يعجب الجمهور، بسبب غياب المعايير الأساسية للاحتكام، كما أن معايير الإعجاب التي اعتمدتها كآلية للاختيار لم تحددها بوضوح، وبالتالي هي نسبية ومزاجية في الغالب!

وكأننا أمام تغييب تام (لا أريد أن أقول متعمدًا!) لقواعد الفن في عالم البوكتيوب، التي هي المعيار الأساسي للتقييم الأدبي، والتي ما زالت سلاح أو أداة النقد الجامعي (وإن جنحت في قليل منها، لكن هذا الجنوح لا يعني غيابها) ومن ثمّ فالرّهانيّة على موت النقد ولو بالمعنى المجازي (لو استعارنا مقولة رونان ماكدونالد) لحساب سلطة هذه المواقع والمحتويات، هو محض وهم، حتى لو توجهت سهام النقد للممارسات النقدية الجامعية في نزوعها الآلي الصرف للتوسّل بالمناهج الغربية، دون مراجعة أو مراعاة اتساقها مع طبيعة الموضوع المدروس! لكن صمودها هو الأبقى بسبب التزامها بشروط الفن، وهو الشيء الغائب عن هذه المحتويات، وهو ما يمثّل أحد أهم عيوبها بل أخطرها، إلى جانب عيوب أخرى، هي بالطبع ناتجة تلقائيًا لانتفاء شروط الفن عند الاحتكام، في المقام الأول.

الاعتماد على الذائقة والإعجاب الشخصي، يُحرّضان على البحث عن الخلفيّات الثقافيّة، باعتبارها عاملاً مهمّا في تحديد الاختيارات، بالنسبة لمحمد شادي (صاحب محتوى بتاع كُتب) لا يوجد عنه أيّة معلومات، سوى أنه درس الطب بجامعة القاهرة، علاوة على ما تكشفه الحلقات من امتلاكه لثقافة إنجليزية، وهذا طبيعي لدارس الطب. أما ندى الشبراوي، فهي خريجة حقوق إنجليزي، لكن لدينا وفرة من المعلومات عنها وعن تكوينها، حسب ما ذكرت في لقاءاتها الكثيرة، وفي حلقة مُهداة لأبيها محمد الشبراوي (أستاذ رمد في كلية الطب، جامعة طنطا) بعنوان" لولا أنتَ ما كنتُ أنا" تحدثت فيها عن التكوين الثقافي الذي أسهم في تشكيل وعيها؛ حيث نشأت منذ صغرها على القراءة، فقرأت الأعمال الكلاسيكية الكبرى في سن مبكرة جدّا، ومن أهم الكتب التي كانت بداية الطريق لها في عالم القراءة، روايات عالمية للجيب، وروبنسن كروزو، وأيضًا مجلات ميكي، الأبطال، بلبل، علاء الدين، ماجد، العربي الصغير، وكلمتنا، ومن الأعمال الطويلة رواية "يوتوبيا" لأحمد خالد توفيق"، إلى جانب إطلاعها المُبكّر على أعمال شعراء عظام كصلاح عبد الصبور، وشعراء العامية، صلاح جاهين وفؤاد حدَّاد ومن شعراء الفصحى الكلاسيكيين على الجارم، إضافة إلى قراءتها للكثير من الأعمال باللغة الإنجليزيّة.

وهو الشيء الذي لا أعرف هل يتحقّق بأي نسبة لأصحاب المحتويات الأخرى! فصاحبة المحتوى سوَّغت لنفسها، وأيضًا لقبول تقييمها للأعمال من خلال ما سربته في أحاديثها عن نشأتها، وبيئتها الثقافية التي لم ترفع شعار "ممنوع القراءة" على أي كتاب كانت تقرأه، وهو ما مررته بحكايتها عن رواية "شيكاجو" لعلاء الأسواني، التي كانت تحمل جرعة زائدة من الجنس داخل متنها، وهو ما لا يتناسب مع مرحلة سنها عندما قرأت هذه الرواية تحديدًا.

التغيير الذي تسعى إليه ندي الشبراوي، هو نتاج سياق سسيوثقافي أفرزته التكنولوجيا الحديثة، التي لم تتوقف عند حدود التغيير الاجتماعي أو حتى التغيير السياسي، كما حدث في ثورات الربيع العربي، فقد مكّنت هذه الوسائط أو الثقافة الرقميّة المهمَّشين من الضغط على صُنّاع القرار، ومكّنتهم أيضًا من الخوض فيما كان في قبضة السّلطة من قبل؛ أي منازعة السُّلطة في وظائفها. أضف إلى ذلك إغراء الشاشة حيث وسّعت التفاعليّة من إمكانيات خلق الأفكار، كما دفع المحتوى الرّقمْي المستخدِم إلى الانصهار في الشاشة" وهو ما أتاح القدرة على إعادة تعريف الإنتاج وعرض العالم في محيطنا الاجتماعي الحميمي. الغريب أن هذا الانصهار كان إيذانًا بإعلان "عصر نهاية الخصوصية" إذا استعرنا عنوان الألماني "أندرياس برنارد"، وهو ما يُمثّل انكشاف للذات وتعريتها أمام الآخر، وهو الأمر الذي يدعو للعجب، فبعد الاحتجاج على تسليم الملفات الشخصيّة للمؤسسات الحكومية، صار التسليم طواعيّة أمام هذه التكنولوجيا.

بكل سهولة نستطيع أن نقول إن علاقة الفرد (وهنا جمهور الأدب تحديدًا) خضعت لتأثير هذه الوسائط، وهذه من سلبيات هذه الوسائط؛ فلم يعد القارئ مستقلاً في استقباله للأدب، وإنما مجرد تابع (موجّه)، فقَدَ استقلاليته، وأيضًا فقَدَ فرديته. فطبيعة العلاقات الرأسماليّة التي شكّلت العصر الحديث، كان لها بالغ التأثير في تحديد العلاقة بين المُبدع وإنتاجه من طرف، والإنتاج الأدبيّ ومتلقيه من طرف آخر، بتحويل العمل الأدبي إلى سلعة تحكمها قوانين السُّوق: العرض والطلب، وأيضًا توفّر المال.

وفي ظل هذه القنوات التي صارت فاعلاً في توجيه سوق النشر والتوزيع، خاصة بعد حالة التثمين التي أبداها الناشرون لصالح أصحاب هذه القنوات (محمد شادي أعلن عن رغبة بعض أصحاب دور النشر استمالته إلّا أنّه رفض فكما ذكر: "حاول بعض الناشرين والكتاب التواصل معي بالطبع لمراجعة كتبهم لكني، في معظم الأحوال، أفضّل اختياراتي الشخصية (تحقيق منشور في موقع قنطرة عن البوكتيوب في مصر، سبق ذكره)، ظهرت العلاقة الرأسمالية بطريقة متوحشة، في عملية التسويق التي صارتْ أقرب إلى الاحتكار، بل استفادت من الثقافة الرقمية التي كان لها تأثيرها الكبير على جمهور الأدب نفسه، فلم تَعُد القراءة كما كانت قديمًا قائمة على الأدب المكتوب، بعد ظهور اللوح الرقمي والكتاب المسموع.

تفكيك الخطاب اليوتيوبي
• بعيدًا عن النقد .... قريبًا من الدردشة
أوّل حلقة نشرتها ندى الشبراوي كانت بتاريخ (19 يونيه (حزيران) 2017)، وخصصت جزءًا لمراجعة رواية "كل هذا الهراء" لعزّ الدين شكري فشير. تمّت مشاهدة الحلقة (حتى يوم تاريخ الدخول على الصفحة في 16 فبراير 2020) من قبل 12.169 ألف مشاهدًا، ونالتْ إعجاب 435 شخصًا، وعدم إعجاب 9 أشخاص. استغرقت الحلقة ثلاث دقائق واثنتان وعشرون ثانية (3.22)، الجزء الخاص بالرواية يبدأ بعد مرور دقيقة تقريبًا (تحديدًا بعد 58 ثانية) من وقت الحلقة التي تحدثت في بدايتها عن فكرة برنامجها، وهو ما يشير إلى أن حديثها عن الرواية الصادرة عن دار الكرمة بالقاهرة (عام 2017) في 324 صفحة من القطع المتوسط، شغل تقريبًا (2.23 ثانية) من جملة وقت البرنامج، وهو ما يضعنا أمام تساؤل: كيف عرضت صاحبة المحتوى 324 صفحة في هذا الوقت القليل؟ وعند أي شيء توقفتْ؟

اشتمل المحتوى على الآتي:

1. بدأت صاحبة المحتوى عرضها بما أثارته الرواية بعد صدورها مباشرة من ردود أفعال وضجّة، كما برّرت سبب هذه الضجة؛ بأن محتوى هذه الرواية يختلف عمّا قدمه عزّ الدين شكري في روايات سابقة له، واستشهدت بتحذيره بأن الرواية "سوف تَجرح مرهفي الحسّ".

2. توقفتْ صاحبة المحتوى، في تحليل الرواية عند نقاط ثلاث، ناقشت خلالها مضمون الرواية وشخصياتها، وشكلها. ويمكن حصرها في ثلاثة جوانب هي: الناحية الأخلاقية، والناحية السياسية، وفكرة الرواية، وأبطالها.

أ. بالنسبة للناحية الأخلاقية فكما تقول إنها: "مش أكثر الروايات انحلالاً"، كما أن "نِسب الألفاظ الخارجة زايدة شوية عن روايات عزّ الدين شكري السَّابقة"، بالإضافة "إلى أن هناك كُتابًا عربًا، وأجانبَ تمّ ترجمة أعمالهم إلى العربيّة"، ومع هذا فيوجد فيها (أي أعمالهم) ألفاظ خارجة زائدة" وإن كانتْ تستغرب (وهنا توجّه كلامها للجمهور) بأن "لا أحدًا اعترض عليها!"

ب. وبالنسبة للناحية السياسية: ترى أن الكاتب وقفَ على الحياد تمامًا، وترك الأبطال يُعبروِّن عن آرائهم. فكما تقول في توجيه خطابها للجمهور، "مهما كان رأي البطل غير منطقي، أو في رأيك خاطئ، ده في الآخر مش بيان سياسي" كما تسعى للتوضيح : "مش ضرورة يكون رأي البطل بيعبّر عن رأي الكاتب في الحقيقة".

ج. أما بالنسبة لمضمون الرواية: فتقول إن الرواية "عبارة عن حوار طويل اجتماعي سياسي ما بين بطليْن هما عمر وأمل في الفراش خلال ليلتيْن".

- ثمّ حلّلت شخصية عمر، وصفته بأنه: "سواق تاكسي يائس مُلحد وبائس، ومعندهوش أي أمل في أيّ تغيير ممكن أن يحصل". وأرجعتْ التشوهات التي لحقت بشخصية عمر ومواقفه؛ نتيجة "للتجارب السيئة التي مرّ بها في حياته".

- أمّا شخصية أمل فترى أنها "على النقيض تمامًا، فهي ناشطة حقوقية أمريكيّة مصرية، جاءت إلى مصر قبل ثورة 25 يناير بفترة قليلة، اتقبض عليها أثناء الثورة، وعَدّتْ بفترة سيئة جدًّا، ومع ذلك لم تَفقد الأمل خالص."

3. ثمّ أجملتْ في النهاية رأيها في الرواية هكذا: "الرواية فيها مواقف إنسانيّة مؤثرة، لمستني أنا بشكل شخصي "وأن الرواية قائمة على فكرة الحوار، مفهاش أحداث كثير جدًّا، وقائمة على الفلاش باك، عادة يكون مملًا لكن أنا محستش بأي ملل نهائي، كنت متشوقة جدّا أسمع بقية القصة".

4. في النهاية قيّمت الرواية بـ (4/5) نجوم، دون أن توضّحَ، لماذا حرمتها من النجوم الخمس كاملة كما يفعل مرتادوا جود ريدز.

بعد تحليل هذا المحتوى، يتضح لنا أن اللغة المعتمدة في التحليل بسيطة، تقصد مخاطبها (المَعْنيّ) فتتوجه إليه تمامًا، أي هدفها محدّد. ومن ثمّ الاستمرار في استخدام هذه اللغة في الخطاب الإشهاري، يحصرها في نطاق جمهور ضيق، ولن تزداد دائرة الاهتمام بهذه المحتويات إلا مع تطوير الأداء، واستخدام لغة نقدية صارمة بعض الشيء إذا اقتضت الضرورة. لذا يبدو الخطاب أشبه بخطاب عاطفي تشويقي، يعتمد على آليات الجذب والعرض لا التحليل والتفنيد، فأحكام القيمة هي الغالبة قبل أن تكون هي المرجعيّة الأساسيّة للتقييم في هذا الخطاب، حيث التركيز ينصب أساسًا على الحبكة ذات التأثير القوي، الذي وقعت تحته صاحبة المحتوى، دون أن تنسى الوقوف عند شخصيتي العمل (عمر، وأمل). ومن ثمّ تريد أن تنقل إحساسها بالعمل لأكبر شريحة من الجمهور، في مدة قصيرة لا تتجاوز (الثلاث دقائق).

فخلال هذا العرض لم نرَ حكمًا جماليًّا على الرواية وتقنياتها، كاللّغة أو السّرد أو حتى الحبكة التي أعجبتها، باستثناء، حديثها عن الفلاش باك، الذي شدّها إلى النص، على غير العادة. كما يغيب الانتقاد السّلبي للعمل، أي إبراز الجوانب السّلبيّة، وهو ما يكشف عن غرض دفين – وإن كان حقيقيًّا- لأصحاب هذه المحتويات، يتمثّل في الترويج لمنتج يدخل في تصنيفات "الأكثر مبيعًا"، وإن كانت الأحكام العشوائيّة على الأكثر مبيعًا تخلو من الأدلة التي تذكّي هذه الاختيارات، فلا توجد قوائم أو نسب بيع حقيقية من دور النشر، وهي في الأصل مفتقدة بصفة عامة. وكأنّ الهدف من الترويح نبذ لهذه الأحكام الجماليّة، التي هي معيار الحكم لدى النقاد، فتبرز دائمًا جماليات جديدة ترسِّخ لما يمكن أن يوصف بالأدب الصناعي أو الجماهيري، وهو نقيض الأدب الكلاسيكي.

في المقابل، لو تأمّلنا محتوى "سيما علياء"، لعلياء طلعت، وهي متخصّصة في تقديم محتوى خاص بالأفلام والتليفزيون، إلّا أنّها اضطرت لتقديم حلقة بتاريخ 10 فبراير 2020، عن رواية إبراهيم عبد المجيد "في كل أسبوع يوم جمعة" الصّادرة عام 2009 المصرية اللبنانيّة، بسبب المسلسل المأخوذ عن الرواية، والذي يُعرض على منصة شاهد. العجيب أنها لا تقدِّم عرضًا للرواية، إنما تقدم نقدًا يُبرز سلبيات العمل، وهو عكس ما نراه لدى أصحاب محتويات الروايات على تعدّدها.

هنا، علياء تستعرض أجواء الرواية، القائمة على تأسيس موقع إليكتروني، تأسّسه إحدى شخصيات الرواية (رضوى)، من خلال قواعد معينة، منها أن قبول الصداقة يوم الجمعة وغيرها من قواعد. لا تتوقف عند الإيجابيات أو مضون الرواية، بل تذكر الكثير من سلبيات الرواية، منها فكرة المواقع المُبهمة، وأنها غير محدّدة هل هي فيس بوك أم منتديات؟ كما تنتقد فكرة أن تُنْسب الرواية إلى روايات الأصوات، فترى أن الفكرة هنا غير واضحة، كما في نماذج "ميرامار" لنجيب محفوظ، و"الرجل الذي فقد ظله" لفتحي غانم، أما في رواية إبراهيم عبد المجيد، فلا يوجد حدث يمكن أن يربط بين الشخصيات، ليتم تناوله من زوايا متعدّدة. الرابط الوحيد في هذه الرواية – كما تقول- هو الموقع؛ فالشخصيات مختلفة، والنص عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة الرابط بينها الموقع، وبالتالي تنفي عنها نوعها التي تندرج تحته وفقًا للغلاف. كما أن الشخصيات كما تقول أغلبها سيئة، وتبرّر هذا "لأن الرواية ترى أن المواقع الإليكترونية دافعًا للبحث عن علاقات جنسيّة". ومن السلبيات التي تشير إليها ورود بعض الأحداث، لا علاقة لها بخيط الرواية الأساسي. فكما تذكر أن 70% من الرواية قصص هامشيّة، باستثناء قصة رضوى صاحبة الموقع هي الرئيسية.

وبالمثل هناك فجوات في البنيّة السرديّة، أحيانا الحكي يكون عن طريق الإيميلات، وفجأة تشرد بعض الشخصيات وتسرد عن طريق الخواطر أو المنولوجات. لا تكتفي صاحبة المحتوى بما تعرضه، وإنما تستدل من الرواية بشواهد تؤكد ما تقول، وتنتهي إلى تقييم الرواية بأنها ضعيفة، وعلى جود ريدز ستمنحها 2/5 وفقًا للأسباب التي ذكرتها عاليًّا، وقد أجملتها في النقاط التالي: رؤيتها ضيقة عن عالم التواصل الاجتماعي، مشكلة في السرد، مشكلة في غموض الموقع، أحادية الشخصيات. تكرار الحديث عن شخصيات من متلازمة داون، دون أن يكون لها علاقة بالسرد أو أي تأثير في الحبكة. وأخيرًا أسلوب الرواية ليس قويًّا.

واحدة من أهم العيوب التي يمكن أن توجّه للبوكتيوبيرز أنّهم - وفق "سيغويير مارين" الذي قدّم تحليلاً مهمًّا ورائدًا بعنوان "الأدب الجماهيري والقيم الرقمية: الكتب الأكثر مبيعًا على اليوتيوب" (ترجمة أسماء مصطفى، مجلة الدوحة عدد 129 يوليو 2018) - يقومون بطمس الفرق بين نقد الخبراء وانتقاد القارئ، ويغيرون باستمرار الخط الفاصل بين الأدبيات الشرعيّة والمستهلكة، وبين ادّعاء الهواية والاحترافية المفترضة". وإن كان في الحقيقة محتوى علياء طلعت، يكسر هذه المُسلَّمة، فهي تقدم رؤية بعين خبير، ربما نفشل في العثور عليها من قبل بعض مُدعي النقد الذين يطلقون أحكامًا جوفاء عن أجمل رواية، وأفضل كتاب صدر هذا العام وغيرها.

في الميزان
في بداية ظهور هذه القنوات كانت معظم اختيارات البوكتيوبرز، تقتصر على كتابات فئة الشباب، وهو ما يعدُّ انحيازًا لجيلهم، وإذا شئنا الدقة فعروضهم لا تتناول إلّا الأسماء المغمورة، أصحاب الروايات التي تصنّف على أنها أدب الظل، وهو ما يعد محكًا مهمًّا لتساؤلات كثيرة عن أغراض هؤلاء البوكتيوبرز؛ هل فعلاً هم بصدد تقديم مراجعات قصيرة تستهدف جذب القراء للكتب بصفة عامة، أم يعملون للترويج لكتابات أقل قيمة، ولو طبقنا عليها المقاييس الأدبيّة لخرجت من الأدب الكلاسيكي إلى الأدب الصناعي أو الأدب الاستهلاكي أو الأدب الجماهيري؟ التغيُّر الذي حلّ مع انتشار هذه القنوات، لم يقتصر على ترشيحات لكتب فئة الشباب، وإنما شمل أيضًا التنوّع في الكتب بل ثمة ترشيحات لكتب مترجمة، وهناك حلقة خصصتها ندى الشبراوي للمترجمين. بعنوان: "مترجمين بحبهم" بتاريخ (9 سبتمبر(أيلول) 2018)، وهو ما يكشف أن أصحاب المحتويات يطورون أنفسهم، بالنسبة لمراجعاتهم، وإن كانوا يحتاجون إلى تطوير آليات التقييم، في ظل حالات المتابعة لهم، والاهتمام بما يقدمون. (يمكن ملاحظة حجم المتابعة أسفل الفيديوهات المعروضة)

من الأشياء التي كشفتها المحتويات السابقة، أن سُلطة البوكتيوبرز، صارت سلطة مُقيّدة (أو سالبة للحرية المحدودة المتاحة) لنا كجمهور في المجتمع الاستهلاكي، الذي - في الأصل- الحرية فيه محدودة كما يقول "زيغمونت باومان" صاحب "الحداثة السّائلة"، فالميل إلى مشاركتنا ترشحياتهم في حدّ ذاته انتقاص للحرية، التي يجب أن يتمتع بها الفرد ليس فقط في ممارساته العامة، وإنما أيضًا في اختيار ما يتوافق مع ذائقته، فجمهور القرّاء، خاضع لتأثيرات هؤلاء البوكتيوبرز، بفرض قراءات معينة، الغريب أن بعض هذه الكتب لم يقرأها هؤلاء المدونون (محمد شادي في حلقة ترشيحات معرض البوكر، يذكر بعضًا منها).

فمثلا في فيديو مصوّر قبل معرض الكتاب في دورته (51) لعام 2020، تحالف محمد شادي صاحب محتوى "بتاع كتب"، وندي الشبراوي صاحبة محتوى "دودة كتب"، لأول مرة، وهو ما يشير إلى استغلال تأثير هذه السلطة على جمهور المتابعين، من أجل تسويق الكتب، وقدما معًا ثلاث حلقات تحت مسمى "حلقات المعرض". الأولى بتاريخ 8 يناير 2020، بعنوان "نصائح معرض الكتاب 2020"، وهي وفقًا لعنوانها تقدم مجموعة من النصائح أثناء الشراء، وكيفية إعداد قوائم الشراء وغيرها. لكن الحلقتيْن الأخريين هما الأهم، حيث كانتا بمثابة استعراض لترشيحات الكتب، وجاءت الحلقة الأولى، وهي الثانية من مجموع الحلقات، بتاريخ 17 يناير 2020 (حازت هذه الحلقة على نسبة مشاهدة (وقت دخول المشاهدة بتاريخ 16 فبراير 2020) وصلت إلى 29,607 مشاهدة، و2.1 ألف لايك، 50 دس لايك)، واقتصر الترشيح فيها على الروايات، وشملت عشرين رواية (15 رواية أجنبية، 5 روايات عربية: روايتان مصريتان: قرية ظالمة، لمحمد كامل حسين، وطرق الرب، لشادي لويس، وثلاث كتب مختلفة ما بين قصص قصيرة ونوفيلا لكتَّاب عرب هم: "النوم عند قدمي الجبل" لحمّور زيادة، و"معراج الموت" لممدوح عزّام، و"العالق في يوم أحد"، لعبد الله ناصر، أما الحلقة الثانية فقصراها على كتب غير خياليّة، واكتفيا بعرض أسماء الكتب ومؤلفيها، مع تلخيص بسيط عن محتوى الكتاب.

هل تلعب تأثيرات هذه السُّلطة الجديدة دورًا في اختيارات الجمهور؟
في رواية "الحارس في حقل الشوفان" للأمريكي ج. د. سالنجر، يقول البطل المراهق هولدن: "إن الكُتب التي تعجبني هي تلك التي عندما أنتهي من قراءتها أرغب في أن يكون المؤلّف صديقًا عزيزًا لي، ولا أستطيع أن أخابره بالتليفون في أي وقت شئتُ". مقولة هولدن تُعزّز من اختيارات القراء الفردية، التي جاءت تعبيرًا عن ذائقتهم الخاصّة، وهو ما يقوّي فاعلية الذّائقة الشخصيّة، وهو ما يؤكّد أن هذا المقياس نسبي، قد يختلف من شخص إلى آخر بِحُكم اختلاف أذواق القرّاء.

في محاولة لاختبار مدى تأثير هذه الوسائط الجديدة، وهل نجحت في تغيير ذائقة الجمهور، وإعادة توجيهه إلى مستخدمي هذه الوسائط وترشيحاتهم، قمت بإعداد استبيان، عن أهم الوسائل التي يأخُذ بها القرّاء عند اختياراتهم للكتب. وكان السؤال الذي وضعته على جروب نادي القراءة المحترفين على موقع فيس بوك، كالتالي: ما الذي تأخذه بعين الاعتبار عند قراءة كتاب (أو شرائه)؟ ووضعتُ أربع خيارات جاءت بالترتيب على النحو الآتي: 1. آراء النقاد في الصحف. 2. تقييم القرّاء على مواقع القراءة، 3. ترشيحات الأصدقاء. 4. ترشيحات البوكتيوبر (قنوات البوكتيوب).

بعد مرور نصف ساعة، بدأ الترتيب الذي اخترته على الموقع يتغيّر، حيث تمت إضافة خيارات جديدة من قبل القرّاء، فأضاف إيهاب الملّاح (صحافي وناقد يكتب في العديد من الصحف) خيارًا جديدًا سماه: "الخبرة المباشرة في القراءة"، ثم أضيف خياران جديدان هما: "أهمية الموضوع والثقة في موضوعية الكاتب، وقراءة المصادر". كانت المفاجأة التي أظهرها الاستبيان أن معظم الآراء اتجهت إلى خيار "الخبرة المباشرة في القراءة" بنسبة أكثر من 39% تلاها خيار "ترشيحات الأصدقاء" مع فارق كبير نسبيًّا، فنسبة الآراء وصلت إلى26% وتلاها مباشرة خيار "تقييم القراء على موقع القراءة"، بنسبة 16% ثم ترشيحات البوكتيوبرز بنسبة لا تتجاوز 8% في حين آراء النقاد جاءت في مرحلة متدنية، بنسبة لا تتجاوز 7%، وحل في الترتيب قبل الأخير خيار أهمية الموضوع والثقة في موضوعية الكاتب، ولم يتجاوز نسبة 3% أما في المرتبة الأخيرة فجاء خيار "قراءة كتاب من المصادر" ولم يحصل إلا على نسبة 1% من تقييمات الآراء.

قراءة نتائج الاستبيان تكشف عن:
1. أن تأثير السلطة الجديدة (البوكتيوبرز ومواقع القراءة) والسلطة القديمة (آراء النُّقاد في الصحف) ليس لهما فاعلية في اختيارات الجمهور، على عكس ما هو رائج عن سلطة البوكتيوبرز.

2. أن خيار الاعتماد على التجربة والخبرة المباشرة، يشير إلى التشبث باستقلالية القارئ، وأن خياراته تأتي عن قناعات داخلية، ذائقته التي لا تتقبل توصيات من أحد، على الرغم من التحوّل، الذي أحدثته الثقافة الرقمية في تغيير سلوكيات الجمهور من مُستقل إلى تابع، كما دلّل الكثيرون ممّن اهتموا بظاهرة الثقافة الرقمية، وهو متحقّق في الغرب بصفة عامة، لكن على ما يبدو أن قدرة أصحاب المحتويات العربية على الإقناع، ما زالت تحتاج إلى وسائل جديدة، مرتبطة بتطوير المحتويات والاهتمام بالنُّصوص وتحليلها، والوقوف على إيجابياتها وسلبياتها، أكثر من مجرد الاهتمام بعرضها فقط.

3. أن حلول خيار ترشيحات الأصدقاء في المرتبة الثانية، كشف عن أهمية المرشد أو الوسيط في القراءة، فغياب دور الناقد الذي يجب أن يضطلع بهذه المهمّة، أدّى إلى البحث عن بديل له يتمتع بالثقة، فنالها الأصدقاء، ربما بحكم تشابه الذائقة أو التكوين الثقافي، على حساب ترشيحات البوكتيوبرز التي ما زال التخوف يحيط بها كتجربة ناجعة يمكن الاعتماد عليها عند الاختيار.

4. أن غياب ترتيب خيار آراء النقاد عن المقدمة، وإقصائه إلى مرتبة متدنية، يدق ناقوس الخطر، لا في غياب دوره، الذي لا خلاف عليه، وأكده رونان ماكدونالد بالمعني المجازي، في مقابل تنامي سلطات أخرى قامت بذات السلطة التي كان يؤديها من قبل، إنما في عدم الثقة فيه، وفي اختياراته، وهو ما تؤكّده حالة الجدل التي تعقب نتائج جائزة البوكر كل عام، وهي أهم جائزة عربية حاليًّا، لكن دومًا تتعارض ذائقة الجمهور، مع ذائقة النقاد الأكاديميين أصحاب السلطة الرسمية.

5. أن العينة لم تلتزم خيارًا واحدًا في عملية التوجيه على القراءة، فهناك بعض العينات اختارت أكثر من محدد: وجاءت الخيارات بالترتيب التجربة الذاتية، وترشيحات الأصدقاء، وتقييم القراء على مواقع القراءة. وهو مؤشر دال على أن حضور التجربة الذاتية مهم، (وهو ما يتضح لنا من خلال قراءة التعليقات على ترشحيات البوكتيوبرز كما سيلي).

6. أن الاعتداد بتقييمات القرّاء على مواقع القراءة، مرجعه – في ظني - إلى أن معظم الريفوهات التي تُنشر على هذا الموقع، مصحوبة بدوافع الإعجاب والنفور (بـ / من) العمل، فدرجة التقييم مرتبطة بأسباب وأدلة، وليست عشوائية أو مجرد آراء انطباعية. (وهو استنتاج توصلت إليه عند دراسة مواقع القراءة من قبل، يمكن مراجعة كتاب: القارئ العادي والتيه النقدي، الفصل الثاني، جمهور الرواية ... رواية الجمهور، ص 45 وما بعدها)

7. أن تدني مستوى محدّد خيار ترشيحات البوكتيوبرز إلى مرحلة متأخرة، ينفي الإفراط إلى حدّ المبالغة في التأكيد على أهمية قنوات البوكتيوب، والتعويل عليها في ترويج الكتاب – كما ردّد البعض في تحقيقات مختلفة عن الموضوع - فالواقع يقول عكس هذه الآراء المتعجلة.

8. أن عوامل اختيار الكتب لا تتوقف عند مُحدّد واحد، بل ثمّة عوامل كثيرة تدخل في عملية الاختيارات، تتصل أوّل ما تتصلُ بالذائقة، وجمالياتها، وقدرتها على الفرز والانتقاء.

تأكيدًا لمفاضلة هولدن في رواية "الحارس في حقل الشوفان" التي تتوازى مع اختيارات القرّاء كما وضحت في الاستبيان (مرفق شكل بصورة النتائج النهائية)، حاولت تتبُّع تأثير سُلطة البوكتيوبرز من خلال الترشيحات التي قام بها شادي محمد وندي الشبراوي في حلقات قبل المعرض، وقد اكتشفتُ من خلال التعليقات أن الجمهور أبدى استجابة كبيرة جدًّا في التفاعل مع الفيديوهات، باستعراض أسماء مشترياتهم في التعليقات. لكن الشيء اللافت، وهو ما يضع علامة استفهام، أن اختيارات الجمهور التي أعلنوها عبر تعليقاتهم على حلقة "مشتريات معرض الكتاب 2020" التي قدمتها ندى الشبراوي، جاءت مختلفة تمامًا عن تلك الكتب التي رُشحت لهم في حلقة المعرض.

نعم، هناك اختيارات من ضمن التي قدمها الثنائي، فمثلا "محمد تراس" يقول: "إنه أوّل مرة يذهب إلى المعرض، وهذا من تأثير المحتوى، وإن اختياراته جاءت جميعها بناء على ترشيحات البوكتيوبرز، وعدَّد 12 رواية اشتراها من المعرض". لكن الغالبية العظمي من الجمهور (المعلقين أسفل الفيديو) مالت إلى اختيارات خاصة بها. فمثلا نهلة عادل قدمت قائمة كبيرة من الكتب التي اشترتها من معرض الكتاب، لم تشترك مع ترشيحات حلقة المعرض سوى في روايتي "كفاحي وحكاية الجارية". الشيء نفسه حدث مع مريم حمدي، أثنت أولاً على حصيلة ندي التي جمعتها من المعرض، ثم عدّدت 34 كتابًا، مع الأسف لا يوجد كتابٌ واحدٌ من ضمن قائمة الترشيحات التي قدَّمها الثنائي.

صناعة الزّيف
إذا كان كثيرٌ من القرّاء تفاعلوا مع هذه الظاهرة، وأبدوا استجابة لمشاهدتها على الأقل، فما الذي جعل كثير من القرّاء لم يستجيبوا لترشيحات البوكتيوبرز، واكتفوا بمشاهدة عروضهم للكتب وتلخيصاتهم لها، دون الوقوع تحت سُلطة الاستجابة والتبعيّة؟ قد يميل الجواب إلى تأكيد الاستقلالية لدى بعض القراء – نوعًا ما - فيما يقرأون، وإن كنت أخشى من ذوبانها أو تماهيها في قادم الأيام لعوامل كثيرة، أهمها دخول دور النشر كشريك لهم، وهو ما يعني فرض ممارسات إغرائية للترويج للكتب، مقابل ما يتمتع به هؤلاء البوكتيوبرز من إغراءات مادية أو معنوية من دور النشر. في المقابل تراوحت آراء الكتاب بين الثناء على الفكرة، وبين اعتبارها إحدى كوارث السوشيال ميديا، فهي لديهم أشبه "بصناعة الزيف"، التي لا تدوم.

في الحقيقة ثمّة تحقيقات كثيرة أجريت حول هذا الموضوع، معظمها ناقشت أصحاب المحتوى حول فكرتهم، وبداياتهم، ودوافعهم. ومن أقدم هذه التحقيقات ما نشره إبراهيم عادل في موقع إضاءة تحت عنوان "من جود ريدز إلى بوكتيوب: عصر القرّاء المحترفين" بتاريخ 04.12.2017، وبالمثل التحقيق الذي أجراه الكاتب والصحفي مصطفى عبيد في جريدة العرب اللندنية تحت عنوان: "البوكتيوب يعيد خارطة الثقافة في مصر"، بتاريخ 27.10.2019، وأيضًا ما نشرته مؤخّرًا الصحفية نهلة النمر في جريدة الوفد بعنوان: "البوكتيوبرز في مصر وعي ثقافي أم بيزنس جديد"، بتاريخ 17.02.2020. وهو ما يعني ثمة ظاهرة متحققّة، يجب أن تخضع للتحليل، والتقويم وضبط المسار، بأدوات منهجيّة بعيدة عن الانطباعيّة، وليس مجرد رصد دون تعمّق للظاهرة من خارجها، ودون الاقتراب من محتوى هذه المنصات، والتعرّف على طبيعة المواد المنشورة، على نحو ما فعلت المحاولات السابقة.

لكن يُحسب لبعض هذه التحقيقات أنّها توقفتْ عند علاقة الكُتّاب بهذه الظاهرة، ومتابعة بعضهم لما ينشر من مواد عنهم أو عن غيرهم. فالكاتب أشرف العشماوي على سبيل المثال، يشيد بدور هذه المحتويات، ويقرُّ في التحقيق الذي أجراه مصطفى عبيد، بأهميتها، ويرى "أن هذه القنوات ساهمت في زيادة مبيعات الكتاب العربي في السنوات الأخيرة"، كما يعتبر البوكتيوب بصفة عامة أشبه بـ"الإعلان التشويقي المهم، والذي سيكون بمثابة دعوة للقراء إلى قراءة عمل ما، قد لا يكون معروفا".

على المقابل تمامًا يسخر الكاتب أشرف الخمايسي من هذه الظاهرة وما تقدمه، فحسب ما نشرته نهلة النمر في تحقيق جريدة الوفد يرى: "أنها تحولت إلى منصات دعائيّة تستهدف الربح، وأن بعضهم يتكلّم عن الروايات كإعلان مدفوع الأجر"، ومع سخطه على إجراءاتها، إلّا أنّه يعوّل على مقاطعة القارئ لمثل هذه المحتويات، رفضًا لسلطتها التي تَلْغِي حُرية الفرد وتجعله مجرد "فرد في قطيع، لا يستطيع اختيار قراراته"؛ لذا يدعو القارئ العربي "أن يكون حرًّا، وألّا يخضعَ لِسُلْطة جديدة، تُحِد من حريته لصالح مكاسبها، اسمها: البوكتيوبرز".

قد يبدو رفض الكُتّاب لهذه الظاهرة، استجابة للخوف من تأثيرات هذه المحتويات، على الجمهور، بفرض كتابات بعينها، وهو ما يُهدِّد بعض الكتُّاب الذين يعتمدون على موهبتهم، دون أن تقف خلفهم مؤسسات وأقلام تَدْفع بهم؛ لتعطي لهم مكانة غير مُستحقة، وهو ما جاءت هذه المحتويات؛ لتؤديه بطريقة جذابة وسريعة أيضًا.

على الرغم ما يُقال عن سلبيات هذه المنصات خاصّة بترويجها للكتابات الأكثر مبيعًا، إلّا أنّ أهم هذه المميزات لصُّناع "البوكتيوب" أنها انتصرت للمهمّشين من المبدعين أو كتّاب الظل، الذين رفض النقد الرّسميّ والمؤسساتي الاعتراف بهم، فأطلوا على جمهور القرّاء من منصات مُتعدِّدة، بدأت بمنصات القراءة؛ كأبجد وجود ريدز، وصولاً إلى البوكتيوب، ومن ثمّ تحولوا بفعل هذه المنصات من صف المهمَّشين إلى صف النجوم، فراجت أسماء كُتّاب من أدباء الظل، لم يقعوا تحت دائرة اهتمام ذائقة الأدب الرّسمي، على نحو ما ذكرتُ في مقالة سابقة بعنوان: "كتابات خارج التصنيف: أدب الظل في مواجهة الأدب الرفيع" (أخبار الأدب، عدد أول يوليو، 2018).

وبذلك يأتي الترويج الذي مارسه البوكتيوبرز، بمثابة ردّ اعتبار للكتابة، حتى لو اختلفنا حول القيمة الجماليّة لهذه الكتابات التي يروِّجون لها، فمثلما كان هناك مَن يروّج للكتب الأكثر مَبيعًا، بدأت تظهر منصات تروِّج لروايات روائيين لهم مكانتهم وجمهورهم على السّاحة الأدبيّة. على نحو ما فعل عمرو المعداوي صاحب محتوى "الرّوائي"، حيث قدّم حلقات عن محمد حسن علوان ورايته "موت صغير"، وغيرها من الأعمال المهمة لكُتَّاب مشهود لهم بالكفاءة. ولا يقتصر الأمر عليه وحده، بل قدّمت صاحبة محتوى "دودة كتب" وأيضًا صاحب محتوى "بتاع كتب"، حلقات لكتّاب معروفين أو حقيقيين.

وهو ما يعني ثمّة تطورات يُمارسها أصحاب هذه المحتويات في عمليات القراءة، تصب جميعها في المساهمة بدور كبير في نشر الكتاب وترويجه، مستغلة عصر الشاشة الفيديوسفير (Videosphere) أو ما يسمى الميديولوجيا. في ظني أن مسألة تطوير المحتوى، وعدم الاكتفاء بعرض الرواية وعناصرها، سيُعطي مصداقية لدى القارئ، وهو ما يعني نقلة حقيقية في سوق النشر والتوزيع، خاصّة بعدما أعلنت بعض دور النشر عن نيتها في إنشاء قنواتها الخاصة، وهو ما يدفع بمنافسة قوية لاستقطاب الجمهور الذي هو بمثابة العمود الفقري بالنسبة للكُتَّاب، وأيضًا لدور النشر.

البوكتيوب العربي
ذكرتُ من قبل أن فكرة الترويج للكتب، بذات المسمى البوكتيوب، مأخوذة عن منصات غربيّة - في الأصل - وهي من نتاج الثورة الرابعة، كما وصفها الإيطالي "لوتشيانو فلوريدي" في كتابه الموسوم بذات الاسم، والتي أحدثت طفرة هائلة في التلقي والاتصال والتواصل. لكن هذا لا يعني أننا في واقعنا الثقافي العربي لم نعرف آليات عملت على ترويج الكتب مستغلة تقنيات الصوت والصورة بشكلها البسيط، قبل أن يحدث التحول الرهيب الذي نشهده الآن. فقد عرف جمهور الأدب في عالمنا العربي من قبل، ظواهر اهتمت بالكتاب وتقديمه عبر أشكال وصيغ مختلفة، في إطار برامج ثقافية، هي نتاج أيضًا الوسائط المعرفيّة كالراديو والتلفاز، كبرنامج "كتاب عربي علّم العالم"، الذي كان بمثابة نافذة على أمهات الكتب التي أحدثت ثورة حقيقية في النهضة الفكرية أو العلمية على مستوى العالم.

وكان البرنامج يقدّم في إطار درامي، فيأتي تنويه البرنامج، بهذه الصيغة هكذا: "رحلة مع مشاعل الحضارة العربية التي أضاءت جنبات العالم"، يكتبها فوزي خضر، يرويها أمين بسيوني، يصوِّرها أشرف عبد الغفور، مديحة حمدي، مدحت مرسي، ميرفت سعيد، عبد المنعم سعد، ومحمد علاء الدين، إخراج مدحت زكي. وكأنّه يسعى إلى توسيع آفاق التخييل لدى المستمع. وهناك أيضًا في الذاكّرة الأدبيّة برنامج "زيارة لمكتبة فلان" الذي كانت تُقدّمه الإذاعية نادية صالح، حيث تقوم باستعراض مكتبة المضيف، بما تحتويه من أهم المؤلفات، مع تقديم موجز عنها. وهناك البرنامج اللافت "كتاب أعجبني" للروائي والإذاعي سليمان المعمري، الذي يُذاع على أثير إذاعة عمان، وهو برنامج هدفه صريح، حيث يتصفح مع ضيفه كتابًا، يبيّن الضيف أسباب إعجابه بالكتاب، ثم يستعرض محتويات الكتاب، والأفكار الرئيسية التي عرضها الكتاب خلال خمس عشرة دقيقة، هي مدة البرنامج، الذي يجمع بين خبرة المذيع (الذي هو في الأصل روائي) وبين موهبة الضيف الذي ينتقيه (أي المذيع) من النخبة المثقفة، ومن ثم تأتي الإضاءة شاملة لنواحي فنيّة وموضوعاتية داخل الكتاب.

وقد تطوّرت هذه الأفكار وصارت عبر شاشات التلفاز، كما في برنامج بلال فضل "عصير الكتب"، وهو من البرامج التي تعدّ نواة لفكرة ربط الكتاب بالصورة، وإن كان برنامج "عصير الكتب" لا يعتمد على تلخيص الكتب كما يفعل روّاد البوكتيوب، إنما يقوم بتحليلها وعرض أهم القضايا التي يطرحها، وكذلك مناقشة مؤلفها، الذي غالبًا يكون ضيفًا للحلقة.

ثمة فارق جوهري ماثل في أن معظم البرامج السابقة سواء أكانت في الراديو أم التلفاز، كانت صادرة عن خبراء في الإعلام أو في صناعة الكتب (مثل الكُتّاب أنفسهم)، عكس "البوكتيوبرز"، فمُقدموها غالبًا من الهواة، ودائمًا تنزع قراءاتهم وترجيحاتهم إلى الذاتيّة، فأهم شيء فيما يعرضون، هو إعجابهم الشخصي، مع أن ذائقتهم قد تكون على خلاف ذائقة القارئ العادي. في حين برامج عرض الكتب، تهدف إلى عرض الكتب ذات المحتوى الجيد، والتي تثير قضايا فكريّة.

ترشيحات جمهور القرّاء وقراءاتهم على مواقع التدوين، خاصّة بعد إنشاء نوادي للقراءة، أسهمت في إنشاء برامج تهتم بهذه الجوانب، بعضها على يوتيوب، كما فعلت مكتبة الإسكندرية، حيث تقدم عبر "أستوديو مكتبة الإسكندرية" برنامج بعنوان "جولة في الكتب". فكرة البرنامج قائمة على استضافة الأدباء والكتاب المعاصرين للحديث عن إنتاجهم الأدبي والفكري، والبعض الآخر على قنوات التليفزيون، كنوع من الاهتمام بترشيحات القراءة، على نحو ما فعلت المذيعة قصواء الخلالي، فخصصت جزءًا من حلقة برنامجها "المساء مع قصواء" لاستضافة المسؤول عن نادي القراء المحترفين على موقع فيس بوك، ليقدّم تحليلاً لأهم ما يشغل القراء، وأيضًا تقديم نبذة عن مخرجات المطابع من الكتب، سواء العربية أو العالمية. وهذا الفعل يمثّل تطورًا مهمًّا في تأثير الجمهور الجديد على خريطة الثقافة والإبداع.

الفارق المهمّ والجوهري بين قنوات البوكتيوب وهذه البرامج، أن الأخيرة تُخاطب جمهورًا نخبويًّا، في حين برامج البوكتيوب تستقطب القرّاء العاديين أو جمهور مواقع القراءة.

عودًا على بدء
لا أخفي أن هذه المحتويات بما تقدّمه، صارت عاملاً مؤثرًا في عمليات صناعة الكتاب؛ قراءة وتسويقًا أيضًا، من خلال عوامل الجذب والتشويق التي يعتمدها أصحابها، على جمهور الأدب، إلّا أنها ليست معيارًا حقيقيًّا لاختياراتنا في القراءة. فتغيب المعيارية في هذه القنوات، وإن شئنا الدقة المنهجيّة في التقييم، حيث لا يتعرض أصحاب المحتويات لسلبيات العمل أو نقاط ضعفه، والأهم من هذا أنهم يعتمدون على حبكة الروايّة كما ذكرت في التحليل، وأحيانًا كثيرة يميلون إلى قوة الأسماء المرشحة خاصّة في الأعمال الأجنبيّة. قد تكون هذه الترشيحات، عوامل مساعدة للبحث بين متعدّد من الأعمال، لكن أن تكون هي التي تقود ذائقة الجمهور في القراءة، فهذا معناه، غياب ذاتيتنا التي تعمد وسائل التكنولوجيا إلى محوها، وجعلها منساقة وتابعة، والبوكتيوب واحدة من هذه الآليات التي تتعمدها التكنولوجيا لتغييب ذاتيتنا أو استقلاليتنا، وامّحاء الفروق الفرديّة التي تعدّ سمة مائزة لنا، تظهر بوضوح في اختياراتنا، إن فارقناها نُصبح مجرد أرقام وخوارزميات لدى هذه الوسائط!