يركز الناقد على مميزات القصائد الدالة، من حيث تفاعل البنية العميقة فيها مع التاريخ والتراث؛ والالتقاط الذكّي للحدث أو الشخصية أو الحكاية التاريخية التي تعكس الواقع المعاصر. وما يتميز به هذا التفاعل على الصعيد الفنّي حين اللجوء إلى لغة تاريخية تحاور اللغة المعاصرة، في تركيب الجملة الشعرية.

الشعر غنيّاً وساخراً بأقنعة التاريخ والتراث

في مجموعة محمود قرني «ترنيمةٌ إلىَ أسْمَاء بِنت عِيسَى الدِمِشقي»

المثنى الشيخ عطية

 

بعد متعة تذوّق الشعر ودوران التساؤلات، يمكن لقارئ مجموعة “ترنيمة إلى أسماء بنت عيسى الدمشقي” للشاعر المصري محمود قرني، أن يعود مرّة ثانية لاستمتاعٍ أغنى في قراءته، مسلّحاً بمفاتيح معرفةٍ أكبر وضعَتْها بين يديه الهوامشُ الثريّة التي وضعَها الشاعر في نهاية المجموعة وأشار إليها بأرقام داخل القصائد، لكي يساعد قارئه، على التفاعل الخلاق سواء بالفهم أو الجدل مع تداخلات عناصر القصيدة، بشمولها للشخصيات والحكاية وتغيّرات أسلوب الكتابة.

أو يمكن لهذا القارئ أيضاً إن غلبه الفضول خلال القراءة الأولى، أن يقفز إلى الهوامش كلما وردت في كل قصيدة، لعيشها بثرائها الثقافي المتداخل. وفي الحالتين يمكن للقارئ الذي يمتلك فضولاً آخر حول قصيدة النثر المعاصرة وأساليب شعرائها المعلمين، وقرني أحدهم، أن يعيش متعةَ فضّ أسرار تركيب قصيدته، والتساؤل عن القصائد التي تظلّ عذراء أبداً، وأن يعيش كذلك متعةَ تفكيك تراكيب جملها الشعرية وتداخلات عناصرها اللغوية، ومتعةَ خروجها المتألّق بعد انصهارات العناصر على هذه الصيغة المبهرة. وفي جميع الحالات سوف يبقى السؤال دائراً ومفتوحاً حول “أسماء بنت عيسى الدمشقي”، التي وضع الشاعر ترنيمته لها عنواناً لمجموعته، وإن أشار إليها في هامشه عنها بأنها: “شخصية متخيّلة ووجودها في النصّ ليس إلا تمثيلاً لنماذج نسائية عشقها الشاعر حلمي سالم في إقباله الكبير على الحياة بكل صنوفها، حيث كان هذا الانفتاح نتاج قناعته بأهمية قيمة الحب في حياتنا فضلا عن أهمية فكرة التجدد في حياة الشاعر”.

ترنيمة قرني إلى أسماء بنت عيسى الدمشقي، مجموعةٌ شعرية مميّزة تضم في بنيتها الظاهرة خمس عشرة قصيدة نثر، بين الطويلة ومتوسطة الطول، حسب ما يناسب تكوينات جسد كل منها، مع تركيب معظم القصائد بفواصل تكرار الجملة التي تربط القصيدة ككل، وتركيب قصيدتين هي الأولى: “خاتم فيروزي لكبير العائلة” بستة مقاطع تحت أرقام، والخامسة: “ضرطة السير إدوارد فايل” بعشرة مقاطع تحت أرقام. ولا تسير القصائد كما يبدو وفق تسلسل زمني، إلا بما رأى الشاعر من ترابط لها في تفاعلات لحظات زمن القارئ؛ وزوّد الشاعر في نهاية هذا التسلسل قصائده بهوامش رأى، وهو محق بذلك كما يظهر من طبيعة تركيب القصيدة، أنها مهمةٌ ليس لشرح الكلمات فحسب، وإنما أيضاً لعيش التداخل بينها كمفردات وشخصيات وحكايات وأزمنة وأساليب، في تركيب القصيدة.

في البنية العميقة للمجموعة تشترك غالبية القصائد بالتفاعل مع التاريخ والتراث، سواءً مع تاريخ الإنسانية الذي يتداخل بأساطيرها وحكاياتها، أو التاريخ العربي الذي يتداخل بتراثه وشخصياته وحكاياته، من جهة طبائع تحركات هذا التاريخ داخل نفسه، كما في قصيدة “وجوه البصرة”، ومن جهة طبائع تحرّكاته بالتفاعل مع الآخر، كما في التفاعل مع الاستعمار الإنكليزي، في قصيدة “ضرطة السير إدوارد فاريل”. ويتميّز هذا التفاعل بارتداء الشاعر للأقنعة الممَيَّزة بحكمة السخرية، مثل ارتدائه قناع الإنسان المدجَّن كي يتحدث عن البشر المطوَّعين والبشر المستأسِدين الذين تجرفهم في النهاية خيول الغزاة وتعلّقهم على مشانق استئسادهم الخَنوع:

“أمَّا الشاعرُ الذي أكَلَتْهُ قَنَافِذُ الدَّمَّامْ

وفقهاءُ الربع الخالي

فَقَدْ كسر ساحةَ الإعدامِ برقصةٍ طويلة

وكتبَ قبل موتِهِ بَاباً جديداً

عَنْ فَضْلِ التَّبَولِ عَلى كِتَاب “كَسْر الشَّهوَتَين”

ولَما لَمْ يكن باستطاعتِه أَنْ يتركَ لنا خرائطَ

تدلُّ عَلَ أراضي الأجداد

فقد تركَ خاتماً فيروزياً

لَمْ تَتَعَرَّفِ الصَّيَارِفةُ على تعاويذِه

وقَد وَعَدَ حكيمُ العائلة بِفَكِّ طِلِّسْمَاتِهِ

في قابِلِ الأيام

لكنه الآن مشغولٌ باستدعاء الفلَكِيينَ وقُرَّاءِ الطالع

للبحث فيما إذا كانت الأرضُ مَدْحُوَّةً أَمْ مُكَوَّرَة!”.

كما يتميّز هذا التفاعل مع التاريخ والتراث داخل القصيدة بالالتقاط الذكّي للحدث أو الشخصية أو الحكاية التاريخية، أو التراثية، التي تعكس الواقع المعاصر، مثل التقاط حكاية الزّلاباني التي هي كما في الهامش: “صفة لمهنة الحلواني في مصر المملوكية وحتى أيامنا. والزلابية هي عجينة مكوّرة تُقلى في السمن وتنقع في السكّر. وقد وردت حكاية الزّلاباني المأخوذة هنا ببعض التصرف، من كتاب “نزهة النفوس ومضحك العبوس” لابن سودون”. وتمّ هذا الالتقاط للتعبير عن شخصية الفهلوي النصّاب الذي يعيش استيهامات نفسه النصّابة المخادعة أنه العارف بكل شيء وهو لا يعرف أيّ شيء، ويجرّ باستيهاماته البلاد إلى الخراب، والعباد إلى الموت جوعاً كما الموت تخمة، مثلما يفعل السيسي في مصر.

ويتميّز هذا التفاعل كذلك بالتصرّف المبدع في الشخصيات والحكايات بما يخدم أغراض القصيدة، كما في تصرّفه بحكاية الصيّاد اليهودي والقبّرة التي وردت بكتاب العقد الفريد لابن عبد ربّه الأندلسي.

على الصعيد الفنّي يتميّز في هذا التفاعل لجوء الكاتب إلى الحديث بأسلوب لغة العصر الذي يتم التداخل معه لنقل الروح إلى ذلك العصر وتعزيز التفاعل معه، إلى جانب حديث الشاعر بلغته المعاصرة، وتركيب قصيدته وجملته الشعرية، مثل حديثه في قصيدة “تسلّخات صيفية”، التي يبدأها بلغة وتراكيب حديثة عن الشاعر حلمي سالم، وأسماء بنت عيسى الدمشقي التي ترافقه:

“كانت ضحكتُها الحبيسة

تبدو كوردةٍ في زجاجة

وكان يبدو كأميرٍ يتعفَّفُ عَلَى أسلابِ الحرب

وعَلَى العُقْبانِ التي تَتْبَعُ منه الخطوات

أسلاكٌ طويلةٌ يخفيها تحتَ قميصهِ

أحماضٌ لِقُروحِ الفرَاش

وتخطيطاتٌ سوداءُ

لِقُضاةٍ قالوا

إن قصائدَه حقلٌ مِنَ العنبِ المسموم”.

وفي هذا الحديث المعاصر يرتدي الشاعر قناع لغة التراث في حوار أسماء مع حلمي، ليؤكد على امتياز التداخل في “قالت له أسماء/: إنَّ للهِ ديكاً أحمرَ/ وأنتَ ديكُ الله/ قال ضاحكاً: لكنَّه نَقَرَني ثلاثَ نقراتٍ بَيْن عيني/ فقالت الله طالِبُكَ لا محالة../ فاغْضُضْ مِن صوتكَ أيها الشَقِيْ/ قال لكنَّ صوتَ الشعراءِ وَرَدَ في الصَّحِيحَينْ/ قالت ستكونُ قدمُكَ في التخومِ وعنُقُكَ تحتَ العَرْش/ فإن صاح الديكُ تزوَّج الأسحارْ/ قال لها: لكنني أحبكِ أنتْ/ قالت: لا تطلبني عِندَ الزوَال/ اللَّحمُ يَجِفُّ والروحُ تَذوي/ فويحكَ يا غلام!”.

وعلى الصعيد الفني أيضاً في هذا التفاعل تتميز لغة قصيدة نثر قرني ببساطة الحديث اليومي، الفصيحة الراقية، وبتركيب الجملة الشعرية الذي يأخذ مستخلصات ما وصلت إليه الكتابة السوريالية الآلية، وتراكيب قصيدة نثر ما بعد الحداثة المميزة بالتداخل الذي يتخطّى سكون التشبيه إلى حركة تداخل الموجودات في اللغة التي تتحرك ككائن حي. ويبدو هذا جلياً في قصيدة “ما الذي تركْنا” التي يتمثّل فيها الكثير من مميزات القصيدة المعاصرة مثل التركيب، وتكرار الجملة الفاتحة، وتداخل الواقع والحلم، وبساطة لغتها الحية، مع سخريتها الحكيمة.

وفي هذا التداخل المتفاعل، حول المجموعة ككلّ، فإنّ ترنيمة قرني في تلمّس تداخلات التاريخ والتراث في الواقع، والنظر إليها بعين الجرأة في القول والمعالجة الفنية، هي مجموعة شعرية ثريّة بالجمال الفني المميّز للشّعر المعاصر، مع مزايا الثراء الثقافي وإبداع صنعة تداخلاته بحرفية، مع تقديمها الباذخ لتداخلاتٍ متفاعلةٍ تاريخيةٍ، تراثيةٍ، وإنسانية، تثري تجارب الإنسان في التفاعل الأدبي المبدع مع قضايا الإنسان.

وفي هذا الختام لا يمكن المرور بالنسيان على ما تتميّز به المجموعة من ثراء الحب وخصوصية معالجته، بعرض أوجه الحبّ المتداخل بصراع الذكورة/ الأنوثة، واستخدام جذور هذا الصراع الكامنة في الواقع كما في الأساطير.

 

محمود قرني: “ترنيمة إلى أسماء بنت عيسى الدمشقي“

دار الأدهم للنشر والتوزيع، القاهرة 2019

(عن القدس العربي)