من في تلك اليوميات يلتقط الروائي والناقد المغربي ببراعة تفاصيل صغيرة لكنها كاشفة عن ملامح وطبائع الشخصيات التي تحيطه ومظهرة علاقته الآسرة بابنته مريم، كما تثير تلك التفاصيل أسئلة عن العلاقة بين الحياة والكتابة.

جمهورية مريم

شُعيب حَليفي

 

التحيات الزكيات:

تفاصيل أولى
رغم قصره، كان شهر فبراير استثنائيا هذا العام بحيث فاقتِ الأمطارُ خلاله القياسات المألوفة، وسببتْ لنا الدهشة مما حصل من فيضانات وكوارث، وأصبح الغرب المغربي بِرْكةً كبيرةً تنتظر طلوع الشموس الحارقة.

*     *     *

عدتُ إلى كتابة مقالات للصحافة حول ما أقرأ، متابعات وتعليقات بلغة وصفية تحليلية. فأقضي بضعَ ساعات يوميا، أغلبها في الصباح الباكر. أثناء العمل، استمع بصوت خفيض في البداية إلى القرآن الكريم بأصوات مقرئين مغاربة، وبعد تناول الفطور، أعود إلى العمل والجهاز بقربي يصدح بأغاني متنوعة شعبية من المغرب الكبير.

أكتبُ بيدي على الورق، ثم أراجعُ المكتوب بلون آخر، وإن اقتضى الأمر مراجعة ثانيةً أختار لونا مغايرا للتمييز.. وقد جرَّبتُ نقل ما أكتبُ على جهاز الحاسوب، فبدا لي أمرا مُتعبا، وعدتُ أسلمُ أوراقي للكاتبة، فيما أتكلفُ بالمراجعة وإدخال التصحيحات والإضافات.

أَنزعجُ كثيرا حينما أكتشفُ نفاذا في ذخيرة المداد وأضطر إلى الكتابة بالحبر الجاف أو قلم الرصاص. وإذا كانت لكل إنسان عاداته وأعرافه التي يعيها أو لا ينتبه إليها، فإن عادات الكتابة مثل طقس ديني قديم تحتاج ـ كلما كانت الكتابة صادقة ـ إلى صفاء ذهني وحالة شعورية غير عادية. 

فخامة الرئيسة تبدأ نهارها
تسَتَفيقُ مريم صباحا، وتجري إلى مكانها المعتاد. لكن هذا الفصل البارد، يجعلها تنتظر مني حملها بين يديَّ، ملفوفة في بطانية صغيرة وملونة، لأضعها بهدوء فوق الكنبة الى جواري بالمكتب، فتفتعل في البداية نوما كاذبا سرعان ما يتحول إلى استغراق حقيقي.

بَلغتْ الآن من عمرها ثلاث سنوات كاملة، وقد تعلمت كيف تشاكس أمها وهي تنادي عليها كل صباح، بعدما تحك رأسها بيدها (إنها بذلك تُقلدني بتفخيم صوتها وأنا أتحدث إلى أمي، لما نكونُ بسطات):

ـ آ الوالدة، واش ْطابْ الَفطور؟.

وعلى الفورِ تخبئ رأسها منتظرةً رد الفعل، ثم تعاود فعل شيء آخر ضمن انشغالاتها الطفولية كل صبيحة.. قبل الثامنة ـ مثلا ـ خلال أيام الدراسة، تفتعلُ مناوشات مع أخويْها، في انتظار خروجهما إلى المدرسة لتعبث كما تشاء في ممتلكاتهما الصغيرة.

من عاداتها الدائمة أن تطلب مني قلما وأوراقا بيضاء، وفي مكتب علاء تُبدعُ في تخطيط خربشات تعتبرها أبجديات ورسومات، ثم تأمرني بوضعها على الجدار بجوار رسومات أخويْها، لتستدرك، بعد برهة، وتنزع مني الورق لإضافة توقيعها المُبارك، خربشة فُجائية، تُخَمِّمُ لها قبل فِعلها، كما كان يفعل سالفا دور دالي بالتأكيد.

مْرِيمُو ابنتي تحب المطر كما أحبه وأكثر، وتسعى إلى التبلل بهطوله من بين يدي الله الكريمتين. مْرِيمُو ابنتي تحب الكتابة بيديها كما أكتب، وتحب عوالم البادية والطبيعة والموسيقى والنوم في الظهيرة وشرب الشاي.

*     *     *

توجهنا يوم السبت جميعا إلى مدينة سطات، ولحقتُ بوالدي إلى سوق السبت حيث وجدتُه ما زال يصدر أحكامه وقراراته الحاسمة في البشر، محاطا باثنين من المخازنية وعدد من الرجالات الفاغرين أفواههم في سُبُل فك النزاعات الخاوية والطرائق الربانية التي يستعملها بويا في التأويل واستصدار الأحكام.

قام لما رآني. مشينا وسط رحبة الأبقار وهو يشد بيده اليمنى على يُسرايَ، وبيده الأخرى عكازته. سألني عن زوجتي وأبنائي، فاستبشر لما أخبرته بأنهم بالبيت مع أمي، ثم دخل في صُلب الموضوع بخصوص استكمال مفاوضات جديدة مع بعض الفلاحين حول قضايا تتعلق بالأرض. ونبهني إلى بعض الإجراءات والتَحَوُّطات وختمها بقولته الأثيرة لي: كنْ رجلْ فحلْ.

عاد إلى عرشه الذي هو من خشب، مستعجلا إنهاء أحكامه التي لا يأتيها الحق والباطل من أي جهة،لنهبط بعد ذلك إلى مقهى بوشتى وكانت الساعة تقترب من الحادية عشرة.

الجو غائم، وعبره خيوط رقيقة من سوالف الشمس، تُجاهد التسلل إلى عوالمنا... لكنها تنكسر وتتفتت ذائبة، فتعاود استجماع ذراتها دون أن تفلح في خلق فجوة حقيقية للنظر منها إلينا والى طريقة جلوسنا وشربنا الشاي أو إلى كلامنا الذي هو حوار طويل. وجدنا مكاننا مهيئا بالمقهى ودخلنا مباشرة في مفاوضات استمرت إلى غاية الثانية ظُهرا... بعدما بدا على بويا بعض التعب، وفي البيت تناولنا الرفيسة بالدجاج البلدي، ونمنا إلى غاية الرابعة والنصف. 

الرئيسة تحت المطر
استأذنت والدي في الذهاب إلى الضيعة للتفقد، فأمرني اصطحاب مريم المتشوقة إلى عوالم البادية.

قلت له: لن آخذها معي. وكنتُ بذلك أبحثُ عن رد فعلها والذي لم يتأخر وهي تحذرني بلغة تقلد فيها تحذيرات الكبار للصغار.

قالت لي وهي توزع نظرتَها الحاسمة وكلامها الجاف بيني وبين والدي: سأقولها لبويا؟

تعمدتُ الارتعاب مما قد تقوله، فعاجلها أبي... آنذاك أخرجتْ ورقة مرتبة بعناية من جيبها، وسلمتها إليه كما يسلم مظلوم شكواه إلى السلطان.

إنها تسلك نفس الطريق التي سلكته، من قبلها، زينب أختها التي تكبرها بثلاث سنوات وبضعة شهور. ففي يوم الجمعة مساء، جاءت مريم إليَّ بدفتر وقلم ملتمسة مني، بأسلوب فيه فيض من المحبة وعلامات الدسيسة الطفولية، أن أرسم لها صورة أب يعضُّ ابنته في ذراعها تاركا بها علامات أسنانه، فرسمتها لها وأنا أعرف أنها وثيقة/ شكوى ضدي ستحملها لبويا.

افتعل أبي الغضب مني فأخذ البوردو وأوهمها بضربني، وبدأت مريم تضحك ثم عادت لتبكي وارتمت بين أحضاني تعانقني. وازداد بكاؤها ونحن نضحك من عطر طفولتها.

ركبتتْ مريم كالعادة في المقعد الخلفي للسيارة، وكانت جذلانة، ونحن في اتجاه جمهورياتها المفقودة، وفي الطريق أعلنتِ الأمطار بداية هطول لا منقطع. وبالضيعة، بقيتْ مريم بالإسطبل الواسع إلى جوار الحيوانات، تتملى بحبور هذه المشاهد التي تفتقدها في الدار البيضاء، بينما كنتُ أترقبُ انقطاع الأمطار للعودة إلى المدينة.

الساعة الثامنة والظلام الهابط يغطي شساعة العالم فيما الأمطار تعاندنا وتضرب بقوة... ولما طال انتظاري قررتُ ركوب سيارتي.. وبرفقتي مريم. نظرتُ إلى عينيها فحدستُ أنها تعاني شعورا مزدوجا من فرح وخوف ألجمها عن الكلام، واكتفتْ بالنظر فقط إلى الاختلاط الغريب بين الصمت والمطر والظلام.

خمس كيلومترات بين ضيعتنا والمدينة.. بدتْ طويلة في طريق عين نزاع ـ أولاد شعيب غير المعبدة، كلها حفر ومنزلقات. وقد عانيتُ في الخروج من مطبات كثيرة، لكن منزلقا جانبيا جرَّني فلم أتمكن معه من إخراج السيارة رغم تكرار المحاولات.ولما يئستُ اتخذتُ قرارا بديلا بسرعة. كلمتُ بالهاتف واحدا من الفلاحين بالدوار بعدما تعذر عليَّ الاتصال بأحد الأعوان بضيعتنا، وطلبتُ منه التكلف بإرسال من يجر السيارة أو يحرسها حتى الصباح.

حوالي كيلومتر ونصف وأصِلُ المدينة التي تشع أنوارها متحدية الهطول المكثف للأمطار. لم أبحث عن الانتظار بعدما تعذر المسير، فحملتُ مْرِيمُو بين ذراعيَّ تحت الجاكيت كما وضعت كيسا بلاستيكيا كبيرا فوق رأسي وجزءا من كتفي، ثم مشيتُ وحيدا وأنا أصغي إلى أنفاس مريم المتناغمة مع دقات الأمطار. وحيدا مشيتُ كما كنتُ منذ آلاف السنين في هذه الأرض أكلمُ ربي القدير وأناجي نفسي غير العليمة بمصائري المتعددة... وأين مستقرها؟.

بعد حوالي نصف ساعة وصلنا البيت بالمدينة،استبدلنا ملابسنا ثم تناولنا عشاءنا من حريرة وتمر وبيض.

في غرفة واحدة نمنا جميعا أنا وزوجتي وأبنائي، وجعلتُ مريم إلى جواري تشدُّ بيديها على عنقي. حكيتُ لعلاء وزينب ما جرى في تلك الليلة ومريم تصادق على كلامي برأسها، حكاية أضفتُ إليها من العجائبي ما جعلها أشبه بخرافة مشوقة. ومريم سعيدة بما تسمع كما لو أنها عاشت فعلا مغامرات صراعنا مع الوحوش وسط الغيس والأهوال، وكيف أنزل الله سبحانه وتعالى سيف جدنا سيدي علي الشاوي ـ قدس الله روحه ـ وضربْنا به يمينا وشمالا.

وأنا أحكي، كنتُ أعرف أن علاء وزينب لا يصدقان ولكنهما يستمتعان وتمنيا ولو كانا معي.

سألتني زينب بخُبثٍ: وفين هو السيف ديال جدنا سيدي علي؟

قلتُ لها بثقة لا يأتيها الباطل والخيال من قبل أو من بعدُ: مكانه في السماء، مملكة الله، يحفظه وينزله إلينا في حالات مثل هذه. 

كْلام بلا فُم
بعد رمضان الماضي، بدأ "مْوِيِليدْ" صديقي في قلع أسنانه وأضراسه، بطريقة يغلب عليها منطق الحرب، بعدما أكلها السوس ونخر جذورها، فكان يقلع بنفسه ويذهب كل خميس إلى السوق الأسبوعي عند الحجام ليحفر وينقب له عن الجذور الباقية من عملية الهدم.

في الشهر الماضي أنهى الحرب وأعلن الهدنة، فأصبح بدون أسنان قليل الكلام كثير الأكل، مترددا غير حاسم في حياته الهامشية داخل ضيعة صديقي صالح الوراقي. ومع بداية هذا الشهر تسلم فما بدون كلام، طقمه الاصطناعي وباب عذاباته.

بالضيعة رُفقة صالح وصديق ثالث، نجتمع حول برادين من الشاي مع خبز البطبوط الساخن المغموس في زيت الزيتون. ناديتُ على "مْوِيِليدْ" ليجالسنا، فاقتعدَ وسحب بحركة مُدربة طقم العذاب من فمه ثم شرع يشاركنا الأكل.

قلت له: الطقم الذي أخرجته يساعدك على الهضم.

لم يكلمني بعدما انتبه إلى ما قلته، وهو يُبلل ما بفمه قبل بلعه. وأنا أُدركُ انه كان يردُّ عليَّ في سره الذي لا يعلمه إلا الواحدُ القهَّار.

والغريب أن هذا الطقم قد غير كثيرا من شخصية "مْوِيِليدْ" الذي لم تعد صورة وجهه تحمل تلك البراءة والسذاجة، بل صرتُ أرى فيه وحشا متوثبا، وباتتْ لغته غير ذات معنى فهو يقول كلاما ظاهرا وكلامين في بُطين خاطره. وأخبرني صالح بأنه تخلى على الكنبري الذي كان يدندن به في خلوته الليلية.

سألت صالح هل يوافقني استنتاجاتي، فسخر مني واعتبر أن خيالي يريده كما أراه الآن، مِلْحًا لكتاباتي.

أنا لا أحتاج إلى حياة مويليد لأبني للخيال عُمُده الهاوية والمراوغة، فحياتنا بالمغرب، من كل النواحي هي مثل "الأقرع.. في أي مكان تضربه يسيل دمه".. يا صاحبي. ولكن لا بأس فأنا مرتاح ما دمتُ أستند في الخلفية الكبرى لكتاباتي على شخوص لا تمتلك في هذه الدنيا أي رقم حقيقي في كل المعادلات التي تربك الاقتصادي والسياسي أو أية جهة أخرى ولكنها عندي جوهرٌ باقٍ للمستقبل، ومويليد أهم لدي من شجرة تبتدئ من المحجوبي إلى السيد فؤاد ومن هم على هذه الشاكلة المتكررة، ولا تنتج سوى القيم التي لا أحبها ولا أتمناها لأي أحد.

ـ من هؤلاء السادة الذين ذكرتَ أسماءهم بغضب؟ قال لي صالح ساخرا مرة أخرى.
ـ هي شخصيات وهمية من عائلة صغيرة جدا في رواية طويلة لا تبدأ أو تنتهي. تتبادل طقما اصطناعيا واحدا وتتكلم نفس اللغة.

تذكرتُ أيضا أن مسألة الطقم رأيتها هذا الشهر عند صديق آخر بالدار البيضاء اسمه بوبكر يعمل لدى الميتر جلال، قبل شهر اشترى ربع طقم اصطناعي فقط للجهة الأمامية من فمه، وكان هذا الربع كافيا ليغير من كلامه وسلوكه بحيث بدا شخصا آخرا كأني لا أعرفه، فماذا لو استبدل فمه بطقم كامل أو طقم اللاَّرُبْ (إلا ربع)؟ 

الجمهورية الفاضلة
يوم الأربعاء حمَّلني والدي أمانة إلى مريم، أرنب وديك ودجاجة وبطة وحمامتان، رفضتُ لكنه ألح لأن مريم أخبرته آخر مرة بأنها تريد كل ما في الضيعة.

في البهو الخلفي لبيتنا بالدار البيضاء تركنا كل تلك الحيوانات الأليفة تعيش بيننا، ومريم تصرخ وتضحك وتجري، فيما أمها قلقة، تطلب مني ذبحها والتخلص منها.

باتت مريم تجلس على كرسي خشبي بالبهو في الصباح والمساء، على رأسها تضع طربوشا وهي تراقب حيواناتها، ومن حين لآخر تكلمها بود أو بتأنيب، ثم تقوم لترمي لها الزرع والخبز، أما الجزر فللأرنب، وتعود لتصرخ في وجه الدجاجة التي لا تعرف التواليت، ولا تستعمل البابيجينيك.

جمهورية مريم من حيوانات أليفة، أغرتني بحوارات مطولة مع فخامة الرئيسة حول إمكانية إضافة حيوانات جديدة، فضحكتْ وهي تحلم بحصان ومعزة. ففاوضتها الإتيان بحجلة وكنار وطاووس، لكنها رفضتْ وتشبثتْ بالمعزة والحصان.

قبل مجيء هذه الحيوانات، كان يوجد لدينا غيلم أليف استولت عليه واعتبرته جزءا من جمهوريتها لأنها كانت تقدم له الطماطم، أكلته المفضلة.

في نهاية أسبوع مشمس ذبحتُ الديك والدجاجة والحمامتين ولم أجد أدنى مقاومة من مريم، بل كانت سعيدة وهي تتلذذ في الأكل ونحن بشاطئ عين الذئاب جوار صخرة سيدي عبد الرحمان. وأثناء حديثي معها وجدتُ لها تبريرا مقنعا لكل ما يجري في جمهوريتها من تقتيل.. فالديك والدجاجة لم يعودا يطيعان فخامة الرئيسة لذلك فقد أهدرت دمهما معا، أما الحمامتان فخشية فرارهما والطيران إلى بلاد أخرى كان لابد من الحسم معهما. وتمهيدا لذبح الأرنب والبطة،قلتُ لريم الصغيرة:

ـ انظري إلى الأرنب إنها "تقلي السم" لك باستمرار بدون حياء أو حشمة (إشارة إلى حركة أنفها المتحركة)، أما البطة فهي مثل العجائز المصابات بالروماتيزم، دائمة البحث عما يملأ بطنها المنتفخة...

كانت مريم تثق بي وبتبريراتي فأنا أبوها التي يحرص على مصلحتها ويخاف عليها من هذه المسؤولية. أما الحيوانات فقد وُجِدت لتملأ بطنها بالشهيوات فقط.

*     *     *

الساعة الرابعة من بعد عصر يوم الخميس في الأسبوع الثاني في الشهر، كان الجو رائقا ومشمسا. استفاقت مريم من نومتها الطويلة، ألبستْها أمها لباس الجينز وحذاء رياضيا، وهي تستعجلني قبل قدوم أخويْها من المدرسة. خرجنا بدون سيارة وأنا أعرف سعادتها في الهبوط إلى الفضاءات الجميلة على أرجلنا، ومن حين لآخر أحملها على كتفي لترى العالم بحثا عن جمهورياتها الضائعة. (مريمو ابنتي تشبه كثيرا،كما يوحي لي خيالي، فاطنة بنت الطاهر جدتي من أبي، سليلة الثوار الذين حلموا بممالك كاملة تسودها صولاتهم من الشاوية إلى دكالة وعبدة والحوز وتادلة...).

في هذه المرة اتجهنا إلى المركب الاجتماعي فضاء الحرية، والذي يبعد عن البيت بحوالي عشر دقائق مشيا على الأقدام، وهو ناد جميل كان قد دشن افتتاحه محمد نوبير الأموي لفائدة رجال ونساء التعليم قبل ثلاث سنوات، كما نستضيف فيه من حين لآخر لقاءات ثقافية ممتعة.

لساعة وما يزيد لعبتْ مريمو كل الألعاب الموجودة بالفضاء المخصص للأطفال، تصرخ وتضحك، تطلب وتحتج، ثم تجري في اتجاهي لتعانقني تعبيرا عن فرحها الغامر، مثل بطة منتشية بالحياة.

تعبتْ من اللعب في جمهوريتها الجديدة، فجلستْ إلى جواري تشربُ حليبا دافئا قبل أن نتسربَ في عودتنا، من دروب ضيقة، وهيَ تمشي على رجليها حينا وأحملها على كتفي حينا آخر. اشتريت لها علكا وكل ما تحب، وتمشينا مثل طفلين يملكان عالما بدون فوضى.

دخلنا البيت. كانت زينب تنتظرنا. أمطرتها مريم بما فعلت، وزينب تنظر إلي شاخصة بعينين دامعتين. أخذتها بين يدي وهي مجمدة ووعدتها بأن تخرج معي يوم السبت. لكنها لم تتكلم فكررت وعدي لها.

تكلمتْ أخيرا وهي تفاوضني للقبول بعرضي وطلبت الخروج لوحديْنا فقط إلى الحديقة وشراء كل ما تريد خصوصا صباغة الرسم. وافقتُ وأنا أعرف أننا سنخرج جميعا بعد عصر يوم السبت.

*     *     *

عدتُ في الواحدة من زوال يوم السبت، وأنا مسرع لتتبع نشرة أخبار الظهيرة والخلود إلى القيلولة، ففوجئتُ بوجود الحي عامرا بسبب وفاة جار لنا كبير في السن. ورغم علاقاتي المحدودة بالجيران، ففي مثل هذه الظروف لا يمكن أن أبقى بعيدا، لذلك ودَّعتُ ظهيرتي وخرجت إلى جانب رجال الحي حيث انتظرنا إلى ما قبل العصر ثم اتجهنا إلى مقبرة الرحمة بالجهة الغربية من الدار البيضاء. عادت الأمطار إلى الهطول المتواتر، ورغم ذلك بقينا حتى انتهى الدفن وعدنا.

في مساء الغد حضرتُ بجانب الآخرين إلى عشاء الميت، كنا حوالي أربعين رجلا بيننا خمسة من القُرَّاء المُسَمِّعين، شباب يرتلون القرآن الكريم بطريقة تختلف عن أسلوب الفقهاء الذي يروق لي، فيما لا أستسيغ صيغة القُرَّاء الذين يلجأون إلى النصائح والترهيب.

يكفينا كلام الله الموشوم في قلوبنا، ومعجم مريم الذي يحذرني باستمرار من التباطؤ في العودة إلى البيت، بل إليها تحديدا.

ـ وعلاشْ؟ أقول لها مستفسرا.
ـ حيتْ أنت بَّا عزيز عليَّ.
ـ وعلاشْ؟ أكرر وأنا مستمر في مناوشتها.  

لحظات متجددة
لحظات الحياة الجميلة هي تلك التي نلتقي فيها مع من نُحب ونحترم. أولائك الذين إنْ أصبنا شيئا جليلا في أيامنا، فهم قدوتنا فيه ولهم فضله علينا، وإن أخطأنا فلأننا انحرفنا عن طريقهم.

كانت محطة معرض الكتاب الدولي بالدار البيضاء فرصة جددتُ فيها اللقاء بأحمد اليبوري يوم تكريمه حيثُ أهداني كتابه الجديد بكلمة وصفني فيها بالابن البار. وسعدتُ أيضا برؤية محمد برادة الذي سافرت معه ليومين إلى مرتيل ـ شمال المغرب، كما التقيتُ أحمد المديني في لحظة طريفة بإحدى ممرات المعرض،خلالها اعترض سبيله أحد أصدقائه القدامى في الدراسة بفاس محتجا عليه في ود ممزوج بغضب المخلوق من خالقه، بكلام متداخل وسريع على إقصائه من فصول روايته "رجال ظهرالمهراز"، معتبرا نفسه شخصية فاعلة في الخلفية الواقعية لأحداث الرواية... لكن المديني انتهز فجوة في خطبة تلك الشخصية الواقعية ليقول بأنه يكتب الخيال. ولما لم ينفع هذا التبرير، عاد مولاي أحمد إلى التأكيد أن جزءا ثانيا من الرواية في طور الكتابة.

ـ أنت روائي تقتل الشخصيات لتُحيي الخيال. قلت له.

ـ "بيني وبينك اختلافات ربما صغيرة أو كبيرة، أولها أنك تفكر كثيرا في الشيء علنا قبل أن تكتبه وفي النهاية لا تكتبه!!، ثانيها أنك تفرط في بعثرة ما تود الكتابة عنه قبل أن تكتبه، ولعلك تسأم منه، فتحيد عنه إلى غيره، وهكذا دواليك". قال لي مولاي أحمد وهو يفكر في كيف لا تحتج عليه شخصيات التي عاشرها ليل نهار في الرواية،بينما تطلع عليه تلك التي أهملها أو أجلها لاختمار قادم.

في داخلي تتنازعني مشاعر المحبة والاعتراف.. والحب لا يكون حقيقيا داخل مشاعرنا وتفكيرنا إلا إذا كان جزءا من حياتنا اليومية في سلوكنا ولغاتنا، وأعتقد أني في عملي داخل الجامعة تدريسا وتأطيرا وإشرافا لا أريد أن أكون غير سي احمد اليبوري، كما لو أنه حاضر بداخلي حريص على الكمال الإنساني، إلى جانبه ملامح متفرقة ممن علموني على امتداد كل مراحلي التعليمية وقراءاتي. وبالمقابل أحرص في حياتي ككاتب أن أكون محمد برادة الذي يعلمني فن القراءة والكتابة والحياة في كل نص جديد. إلى جانب من تشدني كتاباتهم وأتابع بشغف ما يكتبون. 

تفاصيل أخيرة
قُبيل افتتاح معرض الكتاب جاء بويا عندي بالدار البيضاء بعد شعوره بوعكة صحية لها علاقة بالقلب والدم، فزُرنا بروفيسورا مختصا وبعد فحوصات كتبَ له عن عدد من الأدوية. وبعد يومين عاد إلى حياته الطبيعية بمدينة سطات.

مرت حوالي عشرة أيام، وفي الليلة التي عدتُ فيها من مرتيل، جاء أخي على وجه السرعة بوالدي إلى الدار البيضاء، فقد سببتْ له أحد الأدوية (سانترم) نزيفا داخليا، كاد يودي بحياته لولا ألطاف الله، وحينما زرتُ الطبيب الذي كتبَ له الوصفة الأولى، قال لي بدون حياء، بأن ذلك الدواء عادة ما يسبب مثل هذه الأعراض!!.

*     *     *

مريمو أيتها الخالدة المُخلدة، أراكِ جزءا من روحي التي تبحث عن تفاصيلها المكتوبة على وجه السماء. عادت الشمس إلى شروقها في نهاية الشهر وأنتِ معي تلعبين وسط الخُبَّيْزى والكلكاز وأعراش شقائق النعمان وأنواع برية مألوفة. احذري الحرِّيقة. هي الآن معي تجري خلف البط والكناري الضخم والديكة المنفوخة أو تلك الدجاجة الوشَّاشة التي لا أدب فيها أو البطات المتمايلات مثل عجائز قادمات بالحطب على رؤوسهن من الغابة البعيدة. انعمي يا مرْوُ، فأنا هناك أسفل شجرة الزيتون إلى جوار بويا نتجاذب أطراف الحديث.

انتبه والدي إلى مريم وهي تكلم الدجاجات بغضب واضح، وتقول لواحدة منهن، ذات العنق العاري:

ـ مزيان تبارك الله، كُوني تحشمي!! سيري للتواليت.

لمريم معجمها الخاص والذي تلتقطه وتُحَرِّفُ بعض كلماته من أمها، وقد حرص علاء على تدوين صفحة كاملة تضم ما أسماه بمعجم ماما ومريم، وَثَّقَ فيه بعض الكلمات المرتبطة بالنهي عن فعل شيء أو بما يتعلق بالأكل والمطبخ.مع كتابة الكلمات كما تنطقها حريصا على تلك الراء المتحولة الى غاء!

ثلاث سنوات صارت معها أمنا مريم قادرة على التمييز في اللعب، بين الجد والسخرية والمناوشات التي هي شكل من المفاوضات، كما صارت من حين لآخر تناديني بكلمة بابا عوض "بَّا" الأثيرة عندي، وهي تحاول أن تُرقق من صوتها كما لو كانت طفلة في سن أصغر منها بكثير. 

قاص وباحث من المغرب