هنا يوضح الباحث موقفه من المجتمع العربي الذكوري الذي يقف من الأنثى موقفا متأرجحا بين الرفض التام لأهليتها، والرفض الجزئي، والرفض المتحفظ على تلك الأهلية. لينطلق في مقالته الدالة شارحا مفسرا أصول لاعدالة اللامساواة القبيحة، التي تحط من قدر المرأة في المجتمع العربي، تفعيلاً لهيمنة السلطة البطرياركية.

المرأة العربية وفقه ثقافة الفالوظ

أبو الحسن سلام

 

يقف المجتمع العربي الذكوري من الأنثى موقفا متأرجحا فيما بين الرفض التام لأهليتها والرفض الجزئي، والرفض المتحفظ على تلك الأهلية. (وغالبا ما تقتصر مظاهر حدة ذلك الرفض خارج حدود البيوت أو داخلها في أثناء وجود آخرين بصرف النظر عن كونهم غرباء أو أقرباء) وتتراوح مظاهر ذلك التأرجح المتدرج بين الردع بالتخويف والتهديد المباشر بإصدار الأوامر الأبوية (البطريركية) والردع غير المباشر بالتقنع خلف النصح والإرشاد أو بالإسناد الديني الملتبس حول مفهوم الحلال والحرام، والثواب والعقاب.. تفعيلا للسلطة الماضوية وثقافة الصحراء.

علي أن تلك السلطة الذكورية بكل تفريعاتها متأصلة في تاريخ شعوب المنطقة العربية-الإسلامية بوجه خاص، لفاعلية الثقافة الماضوية الرسوبية الكامنة في قيعان وجداننا الشعبي. تلك الثقافة البدائية التي هي وليدة ثقافة الإغارة في المجتمعات القبلية؛ حيث حروب الإغارة القبلية للاستحواذ على ملكية قبائل أخرى، وهي الحروب التي تطورت في ظل عافية الدولة الإسلامية الناشئة فأصبحت حروبا استعمارية اتخذت لها عنوانا أكثر لياقة (عنوان محسّن)، هو من جنس المسميات التي نحتت نحتا لصفة العبودية، والتي بموجبها أصبح الجميع سواسية في العبودية؛ ولكنها عبودية لله. لم يفرق ذلك الاستحواذ علي ملكيات الغير، بين (الحلال الحيواني) و(الحلال البشري النسائي)، فكلها غنيمة حلال!!. كلها ثروة حيث توزيع الأنصبة. كل ما تغير هو أنها نخاسة غير محترفة في جلسة (قسمة فيظا) غالبا ما يكون التغيير شكليا أما المضمون فهو مضمون قبلي بدائي، وهو أمر انتهى في المجتمعات الآخذة في التمدن على مهل –مئات القرون-، على مراحل متعثرة طوعا، أو كرها، إلى استبدال بيع المرأة بعد سبيها في غارة أو غزوة (سمها ما شئت إن كان هناك ثمّة فرق) فهي قبلية بربرية في مضمونها!! بمبادلتها طوعا عن طريق تراضي طرفي المبادلة أو ثقافة البيع المتمدنة؛ بما تعورف عليه بـ(الدوطة أو المهر). ذلك هو أساسي في الحديث عن (فقه ثقافة الفالوظ).

ولو تأملنا موروث أغانينا الشعبية حول تأصيل رفض مجتمعات الذكورة العربية للأهلية الأنثوية؛ سنجدها راسخة في عاداتنا مع ولادة مولود لواحد من سلفنا الصالح؛ وهي ممتدة في الثقافة القبلية لذكورة تعيش في القرن الحادي والعشرين، حيث يحتاط الذكر –في عصر المعلوماتية والغزو المعرفي- من أن يلطخ تاريخ فحولته بعار مستقبلي في علم الغيب؛ يتوقع مجتمعه الذكورى العربي أن يصيبه إذا ما ولد له أنثي –لا قدر الله– أو لا قدرت اللات والعزّى أو مناة الثالثة الأخرى، ففي فلكلور الغناء الشعبي المصري للمواليد نجد الأغنية الآتية وهي بعنوان:

"روح يا مبشّر بوسهم

بعد حر وبعد مر

وبعد ستة في الشهر

بعد ما شمتو الأعادي

قالوا في بطنها حجر

الحجر في رؤسهم

والعمل موكوسهم

روح يا مبشّر بوسهم

قول لهم جابت دكر.."

وعلى الرغم من موقف المجتمع المستحضر لشماتته –مع سبق الإصرار والترصد- والمنشط لأفق توقعاته الشامتة، المعارة لغريم الغيب، إلاّ أن ذلك العضو الذي تحمّل شماتة الشامتين والحساد الكارهين لنعمة تحط عليه كرد فعل لفحولته، متسامح بالسليقة مع حساده المتضررين من أن يصاب بنعمة من صلبه. وهي سماحة مصطنعة، فلطالما خاب أفق توقعات الشامتين بالسليقة ببركة دعاء الوالدين.. فسماحته إذن كسماحة مشايخ الـClip الفضائي الذين غزوا سماوات فضائنا العربي التلفازي في إغارة صباحية مسائية مدروسة ومباركة ومدعومة بالأنظمة الحاكمة المؤمنة المزمنة هي سماحة الأقنعة أو أقنعة السماحة. ولا غرو أنها شماتة في مقابل شماتة.

ولنا أيضا أن نتأمل صورة عاطفة الحب بين رجل وامرأة في ثقافتين إحداهما أوروبية والأخرى شرقية عربية، متمثلين لذلك بقصة حب (روميو وجوليت) في العصور الوسطي الغربية، وفي مقابلها قصة (قيس وليلي) في الثقافة العربية. فعاطفة الحب النبيلة تنتصر على العادات والتقاليد في الثقافة الغربية.. ولكن العدات والتقاليد هي التي تهزم عاطفة الحب وتقتلها في الثقافة العربية الاسلامية (في العصر الأموي – في العصور الوسطي العربية).

ولنا أن نمد حبل تأمل مسيرة تلك العاطفة النبيلة في العصر الحديث، كيف عولجت قصة (قيس وليلي) عربيا في العصر الحديث.. عالجها الشاعر أحمد شوقي في ثلاثينيات القرن العشرين منتصرا للعادات والتقاليد إتباعا للضرورة التاريخية. ثم عالجا الشاعر صلاح عبد الصبور في (ليلى والمجنون) فصور الحب مهزوما بطعنة صديق العاشق نفسه وخيانته مع ليلى العصرية التي لا تعرف من الحب سوى التلامس الجسدي والشهوة إذ نكتشف أن المجتمع المحكوم بآلة الأمن وأجهزة الاستخبارات الداخلية هي التي تغتال أي علاقة تقارب أو حب. ثم عالجا أخيرا الشاعر الدكتور أنس داوود تحت عنوان (قيس) ليعطي للذكر مظهر تسلط انفرادي على الأنثى إذ غيبها من العنوان، بينما نجد الرجل هو المقهور من المرأة (ليلى المعاصرة، أو أيا ما يكون اسمها) وأن طلبات البيت ومستلزمات الحبيبة بعد أن همش الحب متوجا بالزيجة المباركة هي التي قضت على الحب.

لم تنفلت فكرة الإ قصاء الذكوري للأنثى عن عقال الفالوظ في مزودها العربي كل ما في الأمر أنها اتخذت صورا متدرجة بحسب رحابة قشور الروافد الثقافية لكل عصر. ومن اللافت للنظر أن ثقافة الردع التي تنوعت صورها في بسط صور الذكورة على الأنثى مابين حدود فعلها وعلاقاتها في كل ما يتصل بحياتها وحقوقها وفق الشريعة الذكورية، التي تثبت خنوع الأنثى للذكر وتنصّبه قواما عليها ومختزلا لها في مجرد فرج في الدنيا، وهي في الآخرة مكافأة هي موضع تنافس مع المخلدين الصبيان للفوز بالذكر المثوب بمنزلة في الجنان، وثقافة الردع القبلي القديم/ المعاصر تلك التي اتخذت شكلا مباشرا في ثلاثين السنوات السابقة –منذ تسليم الخريطة السياسية للمنطقة العربية بأسرها للدولة العنصرية الصهيونية– مع هرولة أنظمتنا على طريق التطبيع السياسي والاقتصادي، واستسلام الطبقتين العمالية والوسطى لإغارة استيلاء الأجانب الصهاينة والعربان المتصهينين والمصريين الأجانب -سواء باعتبار ازدواج جنسياتهم أو باعتبار ولائهم لمحافظهم المالية في سوق المال أو باعتبارهم ميلدريارات التطبيع- على المصانع والشركات الرابحة والخاسرة، على حد سواء، وتسريح العمالة المصرية، وهو ما أدى إلى تفشّي البطالة، وبوار سوق الزواج، وتفشي حالات الكبت بين الشباب من الجنسين، والغريزة الجنسية غالبة للبالغين والبالغات على أمرهن؛ وهنا راجت سوق الخطابة التدينية ورفعت الفتاوي على أسنة العمائم تصايحا بالتحصن من وراء النقاب، قناعا مزعوما شرعا بإجماع الأمة. أي كل من مات وكل من هو علي قيد الحياة وكل من هو قادم في علم الغيب. فسادت ثقافة الحجاب طوعا أو كرها –في الغالب الأعم- مدفوعا بسلطة الإغارة الوعظية المنفلتة في أضعف الإيمان، مدفوعا بسلطة الإغارة الوعظية المنفلتة من جهة أخرى، وثقافة النقاب ببلطة أبوية، حذرا من انفلات مظاهر تبجح شبابي ذكوري مدفوع بغريزة فحوليّة مشتعلة، تفريغا لشحنات كبت من ضائقة اقتصادية هي نتاج خلل في ميزان أجور الآباء العاملين، وخواء جيوب الشباب العاطل قسرا عن العمل، في ظل أنظمة مزمنة مع انفلات جنوني في الأسعار بتدبير التجار الوزراء؛ وهو انفلات تتخذه نخبة التجار المتربعين علي كراسي الوزارة سلاحا قضت به أولا على الطبقة الوسطى التي جاءت هي نفسها منها، ثم استدارت لتهلك الطبقات الدنيا، لانعدام مظاهر حقيقية لوجود طبقة عاملة في بلادنا بعد أن ردعتها الأنظمة العسكرتارية فور تسلمها للبلاد بعد رحيل الاستعمار وسارت بضع خطوات على طريق التنمية الوطنية اقتصاديا واجتماعيا مقيدة ديمقراطيا، مما مكن أعداء الوطن في الداخل وفي الخارج من الالتفاف من جديد وغزو البنوك الوطنية، والاستيلاء مناصفة مع نفر أثروا في فترة انشغال الطبقات الشعبية في التجهز لتحرير البلاد من الاستعمار الصهيوني الذي نكبت العسكرتارية به بلادنا. وسرعان ما تحول الغزو البنكي والاقتصادي إلى غزو عسكري مباشر مؤازر للشركات المتعدية. وبذلك سنحت الفرصة الذهبية أمام نخر سوس الأفكار الماضوية الظلامية في عقول شباب البطالة الجامعية، داعيا إلى طلب النجاة من سقطة الأنظمة، والنجاة من أقل القليل الذي تبقى لهؤلاء الشباب من جلسة مقهوية تفريجية، أو ترويحة تفريجية تلفازية، مبشرين بمباهج أخروية لا تتحقق إلا بمظاهر الالتحاء والتنقب، ولا بأس من التحجب لضعيفات الإيمان!! إذ لابد من الخنوع المهين للجسد الأنثوى من خلف نقاب بزعم أنه فرض باجماع الأمة!! بديلا عن الحض على مواجهة الأنظمة الفاسدة العميلة. وهنا لم يصبح أمام شباب البطالة والعوالة إلا تفريغ شحنات الكبت على هيئة تحرش متبادل بين الجنسين، ناهيك عن حالات الاغتصاب وحالات الزيجات العرفية أو العلاقات غير المشروعة، حيث لا أمل في زواج، ولا أمل في التحاق بعمل. وما زلنا نندهش إذا رأينا خريجي الهندسة أو الطب أو الحاسب الآلي يعملون في أعمال خدمية في محطات البنزين، أو أعمال النقاشة والمعمار!! خلت الأيدي من الأموال فانفرد أثرياء النفط وتوابعهم في بلدان ثقافة الماء بالأبكار مناكحة مشروعة مدنيا في ظل مباركة الأنظمة الحاكمة المزمنة لهذا النوع من العلاقات.

على أنني أرى أن المشكلة التي تواجه المرأة العربية العصرية، هي مشكلة اقتصادية لا حل لها إلا في ظل مناخ ديمقراطي؛ وعدالة اجتماعية، فالبطالة التي فشت في المجتمعات العربية (شعوب الماء) أدت إلى بوار التزاوج فلا زواج بلا مهور أو تهيئة سكنية، وعمل ذي مردود ملائم لقيام أسرة شبابية جديدة. ولما كان الجنس هو الوسيلة المقدسة التي تعمر بها الأرض لتحقيق قداسة التنزيل، أو الشرائع التي ترفع شعار (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون) (سورة الذاريات) فلأن العبادة هدف مقدس لذا تكون وسيلة تحقيق الوجود الذي خلق خصيصا من أجل ذلك الهدف مقدسة، أقول لأن الغريزة الجنسية هي أداة تعمير الكون بهدف عبادة خالق الكون مقدسة، ولأنها غريزة فلسوف تتحقق بالشرع أو بدون الشرع. فإذا كان المشرعون والمتنفذون في تحقيق مقاصد الشرع يشغلوننا أو يلبخوننا بفتاو تقديس بول بشري، وبإرضاع نسائنا وبناتنا لكبائر قبائل شعوب البيداء وشيوخهم، فما الذي تبقي لشبابنا الطاع، المتلطع علي المقاهي وفي الميادين والأرصفة بدون أمل في عمل أو زواج أو سكن؟ من هنا ظهرت رذيلة التحرش الجنسي بالإناث وتحرش الإناث بالذكور، وتفشت ثقافة المناكحات القبلية (نكاح المباضع، نكاح المضامدة: وهو ظاهرة موافقة الزوج الفقير المعدم بعد الحروب وفي الأزمات الاقتصادية الطاحنة على مصادقة زوجته لأحد الأثرياء في مقابل تضميد جرح الفقر الذي أصاب السر المعدمة، وزواج المخادنة: حيث يطلق الصديق زوجته ليبني بها صديقه الأكثر نفوذا تحقيقا لمنافع مشتركة، وزواج المسيار) المشكلة في ديمقراطية الرأي وفي ديمقراطية العائد الاقتصادي ولا حل للعنف ودحر ثقافة الفالوظ إلا بذلك.