تشكل هذه القصص/ الشذرات لوحتها البانورامية للمأساة العراقية التي يعصف بها التمزيق الطائفي، وتختفي فسيفساء الحياة الثرية القديمة فيها، وتصبح المشاهد المترعة بالمفارقات المؤسية هي وحدها القادرة على التعبير عما يعانيه هذا البلد العربي العريق من أوجاع قاسية.

قصص قصيرة جداً

متعبون يتحلقون حول تمثال الفارس العربي

يسمعونه حكاياتهم

علي السباعي

 

حذرت الأمم المتحدة من عواقب تعرض أكثر من مليون عراقي للنزوح الداخلي بسبب النزاعات والأزمات السياسية ، جاء ذلك عن نائبة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق للشؤون الإنسانية والتنمية (جاكلين بادكوك )، أن: «النازحين داخلياً هم من أشد الفئات ضعفاً في العراق فهم في أغلب الأحيان مصدومون وخائفون نتيجة خطر تعرضهم إلى التشرد المحدق بهم، وهم يعيشون في أماكن إقامة مؤقتة يكافحون فيها للحصول على لقمةِ العيش وعلى الرعاية الصحية والتعليم». وأضافت جاكلين بادكوك، أن: «الموجات المتعاقبة من الصراعات أدت إلى نزوح العديد من المكونات في أرجاء مختلفة من البلاد خلال السنوات الماضية، فالعراق اليوم يحتل المرتبة الثانية، من حيث أعلى عدد من النازحين داخلياً في (الشرق الأوسط)، بعد سوريا التي تحتل المركز الأول».

 

هكذا تكلَمت الأرملة
زمـنَ الاحتراب الطائفي، يوم نزحنا عن ديارنا بالقوة، كنـا نقفُ طوابيرَ لشراءِ الخبزِ، كـانَ الناسُ يصطفـونَ صفيـن اثنين، صفاً للنساء وآخر للرجال، كان طابورُ النسوة طويلاً جدا كـأنه أفعى سوداء، وصـفُ الرجالِ يتكونُ مـن ثلاثةِ أشخاصٍ مسـنين وأنـا، جـاءت أرملـةٌ و اصطفـتْ فـي طـابورِنـا، خلفـي مباشـرةً، أمرهـا الفران المصـريِ الجنسية أن تقفَ في طابورِ النسـاءِ، فقالتْ بحدةٍ وهي تٌعَدِّلُ من وضعِ عباءتها السوداء الكالـحة:- وهـل هنالك رجـال حتى أقف في صفهـم؟!!!

 

باقةٌ صغيرةٌ من بستان موتنا الشاسع
بعد حربُ الخليج الثانية، شابٌ، وزوجتهُ الشابة، وطفلتُهما ذات الربيعين، نيام، اقتحمت شبـاكَ غرفتهم شظية قنبلـة أطلقهـا مدفعِ ما، وقطعتهم نتيجة الاقتتال الطائفي، كُلَ جَسَد صارَ نصفين.

 

أمنيةٌ أخيرةٌ لشحاذ نصف ميت
تهدم منزل صديقي، نتيجة الحرب الطائفية الأخيرة، أصيب صديقي بالقصف وطار نصف قحف رأسه، رقد في المستشـفى سنه ونصف السنة، تركته زوجتـه وقد أخذت معها أولاده، هربت، هو ألان يشحذ رؤيتهم في الشوارع.

 

أسئلة من شارع الأخطل
جـارُنـا النازحُ، كـان يسكر كل ليلـة مـن ليالي الحـرب الطائفية حـد الثـمَل، يبدأ بسؤال أمـه بعتاب مر: لِـمَ ولدتِني في قارة آسيا؟ لِـمَ ولدتني في العراق؟ لِـمَ ولدتني فـي بغداد؟ ولِمَ ولدتني فـي شـارع الأخطل التغلبي (شارع الموت)؟ ولِـمَ أنا نازح؟

 

صرخةُ ألم
مهجرٌ عراقـيٌ مخمـورٌ، سـئِمَ حيـاته، قبيل تهجيرهِ، قصـد سـوقَ مدينتهِ، حَرَّرَ حماراً مـن عربته، ربطَ نفسَه بدلـَه، وسطَ ذهولِ منْ في السوقِ، جرَّ العربةَ بحمولتِهـا صارِخـاً مـلء حنجـرتـه:- ألعنُ الطائفية.

 

مرثية النخلة الذبيحة
امرأةٌ، قلعت ريحُ السَموم[1] النخلـةَ الوحيدةَ في حديقةِ منزلِها، علمـت أن عزيزاً عندهـا سيموت، فإذا بزوجها يذبح حسب الهوية.

 

أنا الذي. .
ذات حرب طائفية، كنت انظر إلى الحمار، واحسده .

 

بكاءٌ كالصلاة
أتسكعُ تسكعـا معرفياً، فـي أحـدِ شوارعِ النـاصرية، الناصريـة التـي هـي أشد خراباً مـن واسـط القديمة، واجهتني شابةٌ عراقيةٌ مهجرةٌ متعبةٌ باكية، تستجدي المـارة بكفين مقطوعتين.

 

تجار ميزوبوتاميا*
دلفتْ إلـى مقهى التجارِ، امرأةٌ نازحةٌ مقوسةُ الظهـرِ، تستجدي، لـم يُعْطِها احدٌ شيئاً، ألحـت فـي طلبهِا، نَهَرَها صاحبها :- أخرجـي ... ألا تخجلـين ... أنتِ وسطَ الرجال ... عيب ... ؟ !!

قالتْ بمرارةٍ وحزنٍ غريبين في أثناءَ مغادرتهِا، وكانت تَهُز يدهـا اليمنـى باستهـزاءٍ قَـلَ نظيـرهُ :- وأينَ همْ الرجال؟

 

نشيج القيثارة الذبيحة
عراقيةٌ كقيثارةٌ سومرية، بِرِفْقَتِها أطفالُها الثـلاثة: بنتين وولـد، برفقةِ مهربٍ يحاولـون اجتيـازَ الحـدود للذهاب لزوجها الذي هرب من الحرب الطائفية، راودها عـن نفسِها، رفضْت، فذبـح ابنتـها البِكـر، امتنـعت، فنـحر الثانية، ثالـثة أراد بهـا السوء، أبـت، ذبـح طفلَها الثـالثَ، هَـمَّ بهـا، قاومتـهُ، ذَبَحَهـا.

 

لو كان الفقر رجلاً لقتلته
ذات بغداد ... أسيـرُ فـي شـارعٍ السموأل بن عادياء المقفـر، السمـاءُ تُمْطِـرُ بتقطع، صاحبَها بـرْقٌ متبوعٌ برعـدٍ، فتـاةٌ بعمـر تسـع سنوات، تزيـن صـدرَها قـلادةٌ ذاتُ سبـعِ عيـونٍ، مـررتُ بقربـهـا، ابتسمـتْ بوجهـي ابتسامـةً موحيـةً، قالـتْ لـي:- هل تريد أن تلهو؟ تساءلتُ متعجبا:- ماذا يا أبنتي؟ أجابتني بهدوءٍ مبتسمةً وهي تشير إلى خربة مهجورة تقف على عتبتِها:- هنـا فـي الداخل أخواتي الشابات النازحات بإمكانِك اللهو بهن.

 

أمنية آشور
شابٌ آشوري جالـسٌ في ضوء الشمس علـى كرسيِ خيـزران عند مدخـلِ مقبـرةِ، المدينة كلها تمر قرب جدار المقبرة، عَلَق خلـفَه لافتة تُشير بسـهمٍ مُصَّوبٍ ناحَية رأسـه، كٌتِب عليها بخط الرقعـة الرقيق:- شاب نازح بعمر الزهور يريد الزواج.

 

مراثي الطائر الأبيض
طيورٌ رماديةٌ قويةٌ مهيبةٌ تحلـقُ في سمـاءِ الزوراء، متخذةً في طيرانها الانسيابي شكلَ دائرةٍ واسـعةٍ كلمـا استمر تحليقُـها كـانت الدائـرةٌ تضيـقُ وكان بينهن طائرٌ واحدٌ ابيضُ رشيقٌ وجميلٌ جـدا، وَضَعْنَه فـي منتصفِ الدائرةِ التـي قـد صَنْعنَهـا بطيرانهِن، كأنهن يرثين ذلك المحلق الفضي، كـانَ ذلـكَ الطائـرُ الأبيضُ أنا الذي هُجّرت قسراً عن دياري لأنني من طائفة أخرى.

 

بلدةٌ ميتةُ
ذات حرب طائفية، الناسُ في بلدتنا الطيبة يتشاءَمون مـن صوتِ البلابل، إنهـم يكرهونَها. ويتفاءَلـون بنعيقِ الغربـان، يحبونَها، وتجدَهـا عندهـم مدللـةٌ جـداً، تمـلأ الأمكنة كلهـا، عجيـبٌ أمـرُ أبنائهـا يغتالـون البلابـل الصادحـة المغـردة؟!!

 

أيامٌ مرةٌ. . دمٌ حي
قام مسلحون بقتل كل ماشية فَـلاح جنوبي كهـل نحيـف قصيـر ذي عينينِ سومريتينِ شجاعتيـن ذكيتين، وعمـدوا إلـى هـدم داره بـجرافاتـهم، خَيرَّوه بين النزوح أو إعـدام أبنائـه أمـام عينيه. رفـض. أعـدم المسلحون أبنائه الثمانية رميـاً بالرصـاص وأمـام عينيه المتحديتـين. لأنه كان رافضاً للتهجير.

 

موت وطن بسحنة عراقي متعب
مسلحون يمسكون بشيخ وشـاب، رفضا أخلاء دارهما، يربطانهما مع بعضِهما ظْهراً لِظْهر، يسْكبون عليهِما مـاءً بارداً ويتركُانهما فـي العراء ليلـةٍ شتائيةٍ سوداء قارصة البرودة، صباحـاً: وجدوا الشيخَ ميتا، والشـابَ مصاباً بالشلل.

 

الذبح على أطلال الوطن
عينـاه جاحظتانُ تستغيثان، وفمـهُ مفتـوح علـى سعته، كأنهُ يطلقُ صـرخةً احتجاجيـةً لحظة موته، لأنه رفض مغادرة داره نتيجة الذبح بحسب الهوية.

 

غزل
كانت لعبةُ طفولتِنا في العراق إبـانِ حرب التهجير الطائفية أن نصنع صواريخَ من ورقِ دفـاترِ دراسـتِنا ونُطْلِقٌها علـى بنَاتِ جـيرانِنِا.

 

عرس
قبـيـل زفافِهما، عريسٌ ينتظرُ عروسَه أمـام مصففةَ الشعرِ، تسـودُ شـارعَ الكـرادةِ فرحةٌ ملونـةٌ، بأحـلى الأغـاني والرقصـات، انفجـرتْ سـيارةٌ مفخخةٌ، هـزَتْ بغدادَ، راح ضحيتَها أنـاسٌ كُثـرٌ، عَمَدَ أهـل العروسين إلى زفافهما بموكبِ عُرْسٍ جميلٍ إلـى مقبرةِ وادي السلام.

 

ذات الربيعين
مهجرٌ تشاجـرَ مـع زوجتـهِ، أرادَ أغاظتَها، فقتـلَ ابنَته ذاتَ الربيعين.

 

الشمس عمودية على رأس تمثال الفارس العربي
سمراءٌ مُتشِّحَةٌ بالسـواد، تجلسُ أمـام إحـدى بواباتِ القصـرِ الجمهـوري، تضعُ دميةً بلاستيكيةً في حضنِها، تُناغيـها، تُناغيهـا بلا مَلـلٍ، كانت الشمس عمودية على رأس تمثال نصب 14 تموز في ساحة بوابة القصر الجمهوري من جهة الجسر المعلق، سألـتُ عنهـا، قالـوا: إن ميليشيات مسلحة قَتَلـتْ طفلتَها وزَوجها بحسب الهوية.

 

شهرزاد بغداد
حبيبتي بغداد، كانت في انتظاري، قرب ثمثال الفارس العربي، للنحات ميران السعدي، اعترضتنـي وابتسامتـها حلـوةً مثلَهـا قائلة:- أبهذه السرعة استطعتَ أن تنساني؟ حييتُهـا بأحلى ابتسامة، وأديتُ لها تحيةً عسكـريةً، قلتُ لها بمودة:- حُبك وأنتِ مثل لون عيني ولون بشرتي أبداً لا يتغيران فـي قلبي. ضَحِكَتْ، وقالت بدلالٍ متعجبة:- أتحبُني؟!! قلتُ لها بمحبة:- أموتُ لأجلك. فزعت من نومي لان حبيبتي ذبحوها يوم أمس قرب قاعدة تمثال الفارس العربي لأن اسمها بغداد.

 

 

[1] ريح السَموم : هي ريح عنيفة حارة تتجاوز حرارتها 54 درجة مئوية .. جافة حيث أن رطوبة الهواء تقل عن 10 % تتحرك في شكل دوائر رملية حاملة معها حبات رمل .وهي ظاهرة من الظواهر المناخية العاتية، وقد ذكرها "السيوطي" ضمن أحداث 232 بوصفها من العجائب التي هبت على العراق .[1]

* 1ميزوبوتاميا : تعني بلاد مابين النهرين .