تواصل الباحثة العراقية ترجماتها للمفاهيم الأساسية في مشروع بيرمان الحجاجي، وتتناول هنا دراسته للحرية والاستدلال، وكيف حرر المفهوم من أطر الاستدلال البرهانية، وانطلق به لمفهوم الحرية المقترن بفاعلية الاستدلال القائم على الحِجاج، وسلط الضوء على العلاقة القائمة بينهما، والتي تمّ تغييبها في ظل سيادة أنموذج الاستدلال البرهاني.

الحـريّـة والاستدلال

شاييم بيرلمان

ترجمة: أنوار طاهر

 

«إن البحث في البلاغة على اعتبار أنها تمثل منطق تشكيل أحكام القيمة، هو بحث لا يتعلق بقيمة الصدق، وإنما يتعلق بقيمة ما هو مُفضَّل، حيث لا يتم النظر إلى تأييد الإنسان على أنه مجرد تسليم واذعان، وإنما على أنه قرار والتزام، فذلك من شأنه أن يستحدث عنصراً جديداً في نظرية المعرفة، ولن يقصُر النقاش على القبول الكامل بعقلانية مستوحاة من قواعد علمية أو على رفضها التام.».

ش. بيرلمان/ بروكسل

 

تقديم المترجمة:
في مقاله الأول بعنوان: «إشكالية الحرية الإنسانية: جدلية إيتيقا الحضور وأيديولوجيا الغياب»1، سعى الفيلسوف شاييم بيرلمان إلى تقديم عرض أولي وأساسي لمفهوم الحرية وتاريخ تشكيله غير المنفصل عن المنظومة العقلانية وبنية النظام الهرمي المسيطر فيها، وآليات إنتاج الأحكام القيمية التي تقوم بالأساس على أطر استدلال برهانية إلزامية. وهو ما أدى، حسب بيرلمان، إلى تضييق مفهوم الحرية الإنسانية وتحديد شروطها، وتحويلها إلى وجود نحو تثبيت الأيديولوجيا المسيطرة، من خلال ترسيخ فكرة البحث المستمر عن بلوغ أنموذج إفلاطون المثالي للحرية، وتغييب لمختلف السياقات التاريخية التي يمكن أن تتمظهر الحرية فيها وتتحول إلى خطاب يقبل بالصيرورة والتبدل والتحول في الوجود الإنساني اليومي، لا سيما في الفاعليات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية الناشئة في الحوار والنقاش وتبادل الرأي. ففي إطار هذه الممارسات الثقافية تتبلور «عملية تكوين لمستوى العلامات، تتم أثناء طرح المحاور لعبارات أحكام على أنها افتراضات أولية عند توليده للقول، أو إسناد المعنى في إطار المحتوى عند نطق القول أو قراءته. هذه العملية تجري في إطار العلاقة الموجودة بين شكل القول وتعبيره ومحتواه وهي علاقة تتميز بأنها مكوِّنة للعلامات، وبالتالي، فهي مبتكرة للمعنى، أو بالأحرى لمفعول المعنى»2.

وفي هذه الترجمة للقسم الثاني «الحريّة والاستدلال»3، ينطلق بيرلمان في عرضه لمفهوم الحرية المقترن بفاعلية الاستدلال القائم على الحِجاج، وتسليط الضوء على العلاقة القائمة بينهما، والتي لطالما تمّ تغييبها ونسيانها في ظل سيادة أنموذج الاستدلال البرهاني المتمركز على قاعدة من المعطيات ذات المفعول الصالح غير القابل للنقاش أو للجدل أو للشك. فالاستدلال يشير في تعريفه الكلاسيكي، إلى «عملية عقلية وذهنية نستنتج فيها أحكاماً جديدة، بناءا على أحكام معطاة سلفاً»4. وقد كرس هذا الشكل البرهاني من الاستدلال، على مدار فترة زمنية طويلة، لتصور ثابت ومنغلق عن الحريّة الإنسانية يتلازم مع الخضوع والتسليم والإذعان، ويستبعد مختلف اشكال حريّة الفرد في التأييد والابتكار، حسب بيرلمان. لذلك، أعلن فيلسوف البلاغة الجديدة، في الصفحة الأولى من مقدمة كتابه العمدة «رسالة في الحِجاج ... البلاغة الجديدة» في سنة 1958، عن إن إصداره لرسالة : «مكرسة للحِجاج وارتباطها بالتقاليد القديمة في البلاغة والجدل الإغريقيين، يمثل قطيعة rupture مع مفهوم العقل والاستدلال المنحدر عن ديكارت، هذا المفهوم الذي ترك أثره على الفلسفة الغربية طوال القرون الثلاثة الماضية»5.

الحـريّـة والاستدلال
إذا بحثنا مشكلة الحرية الفكرية في سياق مناقشة بين متحاورين إثنين، فيمكننا أن نعدّ كل من نهج ذلك المحاور الذي يبتكر إما الحُجَج الداعمة لأطروحته أو الاعتراضات على الأطروحة المخالفة، من ناحية، وسلوك ذلك المحاور الأخر الذي يكتفي بمنح أو رفض منح تأييده لأطروحات مقدمة له، من ناحية أخرى، بوصفها مظهراً manifestation من مظاهر الحرية، [بمعنى إنها أفعال تعبر عن عملية تكوين لمستوى العلامات، تتم أثناء طرح المحاور لعبارات أحكام على أنها افتراضات أولية عند توليده للقول، أو إسناد المعنى في إطار المحتوى عند نطق القول أو قراءته. هذه العملية تجري في إطار العلاقة الموجودة بين شكل القول وتعبيره ومحتواه وهي علاقة تتميز بأنها مكوِّنة للعلامات، وبالتالي، فهي مبتكرة للمعنى، أو بالأحرى لمفعول المعنى]. وتتماثل حرية التأييد* adhésion وهي أساس بناء جماعة تشترك فيها العقول وتتوحد روحياً وفكرياً وثقافياً، وعلى قدر متساو من حيث المرتبة والقيمة والأهمية، مع حرية الابتكار invention التي هي أساس الأصالة والأبداع والتجديد.

فيما يتعلق بحرية الابتكار لأفكار ومعان جديدة، فهي غالباً ما تفلت من قبضة الفيلسوف التحليلي [الذي يبحث دائماً عن تحقيق أنموذج الدقة والوضوح وتعميم عبارات الأحكام الصادقة وتحييد الكاذبة منها]، لأنه بالقدر الذي ينجح فيه هذا الفيلسوف من وضعها في قوالب من الصيغ [الصادقة بشكل منطقي منضبطٍ وصارم]، فإنها تفقد أصالتها وجاذبيتها أو قوة تأثيرها، على حد سواء. حيث نجد أن منهج التحري والتحقق الشكلاني في مدى صلاحية عبارات الأحكام الناتجة عن حرية ابتكار أصيلة إنما تقوم على أساس اختزالها في عدد من الآليات وهو ما يمكن أن يلبي حاجة عالم النفس، لكنه لا يمكن أن يكون كافياً بالنسبة للفيلسوف الذي سيرى نفسه مضطراً إلى التقليص من نطاق الحرية، بكبحها وجعلها تتقهقر بعيداً فيما وراء حدود ضوابط الاتساق والانتظام وفق قواعد المعايير المسلَّم بها.

أما فيما يتعلق بحرية التأييد، فتاريخ الفلسفة يزخر بدراسات مكرسة للبحث في مسألة التأييد، وعلى الخصوص في أدلة الأثبات التي تهدف للحصول عليه. فاستعمال دليل الأثبات، بالواقع، يمكن اعتباره كمحاولة للحدّ من رفض منح التأييد لأطروحة أو فكرة أو رأي أو اعتقاد، ولإجبار طابع عدم الانضباط لأي عقل فوضوي على الخضوع لنظام التسلسل الهرمي المسيطر الذي نأمره بتبني تصوراته والإمتثال، على نحو منتظم، للمراتب المُنبنية على أساسه. ولكن، حقيقة الانضمام لمثل تلك الصلة التشاركية بين العقول، في إطار نظام تسلسل هرمي يتمتع، حسب الفلسفة الكلاسيكية، بجميع المزايا المثالية في السُمُو والكمال الروحي، سيفضي، في نهاية المطاف، إلى تشكيل موجود خاضع مُسْتَسْلِم يعيش وسط مجتمع متألف من أشخاص عقلاء؛ فضلاء وسعداء، وسيمده بـ «الحرية الحقيقية» وهي المثال المعياري الأعلى للأخلاق والتي تتعارض مع حالة الانفلات عند المتمرد والتي يجب ردّه عنها بالإقناع، إن لم يكن بالعنف. وشيئاً فشيئاً، سيتم تحييد ممارسة حرية التأييد أو عدم التأييد، لتحل محلها ممارسة الحرية المستمدة عن مدى امتثال الإنسان لمعايير الأخلاق السائدة والتسليم بها. وسيتم التقليل من أهمية الحرية التي تعتبر الشرط الأساسي والسابق على التأييد من أجل تعظيم أو إسباغ طابع مثالي على تلك الحرية التي لا يبلغها المرء إلا بالتماهي مع النظام الهرمي المثالي الكامل حيث يختلط ما هو صحيح مع ما هو جيد إلى حد الإلتباس. وتتصف مثل هكذا منظومة فكرية، سواء كنا نتصورها في شكل نزعات طبيعية naturalisme أو عقلانية أو حدسية –وهي نزعات تتباين في الوسائل التي تقترحها لبلوغ أنموذج ذلك التسلسل الهرمي الأوحد– بامتداد نطاقها لتشمل كل حقول المعرفة، العملية والنظرية منها، والمتعلقة بالبحث عن وحدة الحقيقة الكلية الأبدية. وإذا كان هناك ثمة معيار موضوعي لما له قيمة صالحة في جميع الحقول، فإن حرية الفرد، المتميزة عن تلك الحرية التي تنتج عن امتثاله وتطابقه الذاتي مع نظام التسلسل الهرمي المثالي الكامل، لا يأخذها بعين الاعتبار ويبقيها على الهامش، ولا تحظى بالتقدير إلا بقدر ما تسمح فيه ببلوغ أنموذج الحرية المثالي الكامل؛ حيث يكون الابتكار صالحاً باعتباره كشفاً علمياً فقط، وحيث يتلاشى التأييد أمام سطوع الحقيقة ووضوحها. أما الفرد فلا يمكنه أن يحقق مصيره الإنساني من دون أن يتّبع مجرى الطبيعة بالأمتثال لصوت العقل أو بفناء الذات في المتعالي. وبناء على ذلك، فإن صفاته الذاتية هي في حد ذاتها مضلِّلة ومنحرفة عما هو منطقيّ وسويّ معياريّ، فخياله وعواطفه واهوائه تقوده إلى ارتكاب الخطأ والوقوع في الرذيلة. أما التعليم، فدوره يقتصر على فرض معايير موحدة، وإنشاء جماعة من البشر يتم تكوينهم وتشكيلهم وصياغتهم في قالب واحد نريد له، في بعض الأحيان، أن يكون معمّماً وكلياً، وفي أحيان أخرى، نُقصره على فئة من النخب القادرين لوحدهم على تحقيق أنموذج الحرية المثالي الكامل.

إن الاستخدام المفرط لـ «المنهج الهندسي» méthode géométrique الذي بانطلاقه من مجموعة بديهيات واضحة ومتابعته لمساره بالاعتماد على مجموعة أخرى من البديهيات الواضحة، كان يزعم أنه يمكن تطبيقه على أي إشكالية تواجه البشرية، هو أمر لم يخلو من إثارة رد فعل في الأتجاه المعاكس. أضف إلى إن التخلي عن تلك المعايير – [أو القواعد المستعملة في الحكم، وتجعلنا نتميز القيّم وبالأخص لقيمة الصدق؛ ومعيار الحقيقة، واليقين] – الموضوعية في المجالات كافة، ومن خلال تعزيزه لحرية الابتكار وحرية التأييد على السواء، جعل من الفرد الإنساني، بأصالته وتفرده، المكوِّن المركزي للفلسفة. وبدلاً من أن يتم إدماج الإنسان في الطبيعة، وتصوره على أنه تجسيد للعقل أو مخلوق يخضع للإرادة الإلهية، فإن «النزعة الإنسانية» humanisme الجديدة لم تعترف بوجود المتعالي؛ ورفضت اُطر النزعة العقلانية باعتبارها أُطر ضيقة للغاية، وجعلت الإنسان مبتكر النظام الطبيعي. هذا التصور الذي يحرر الإنسان من جميع أشكال المعايير الخارجة عنه، والذي يرى في الحرية الفردية المبدأ المؤسِس لكل قيمة، وكذلك هي القيمة العليا، لم يجد نماذج تحقق مفهومه في الوجود بكبرياء مفرط للغاية، سوى في مبدأ الواحد المطلق عند الفيلسوف أفلوطين أو في فكرة الإله الكامل عند الفيلسوف ديكارت. لكن، الإنسان الحرّ بشكل لا متناهٍ، والمعزول والمستبعد، بالتالي، عن أي جماعة، يبقى مكلفاً بمهمة شاقّة للغاية، تتمثل في أن عليه، وحده، تقع مسؤولية إعطاء معنى للوجود.

وفي حين نجد أن مذهب الوحدانية monisme، السالف الذكر، ومن خلال تعميمه لأنموذج المثال العلمي الأعلى وتطبيقه على جميع المشاكل البشرية، قد تغافل عن النظر إلى الخصائص الفردية، فإننا نلاحظ أن مذهب التعددية pluralisme، إذا لم يكن لأجل النضال ضد خصومه الذين أساؤوا له بإفراط، قد أهمل كل ما من شأنه أن يوفر ركيزة يستند عليها بناء وتشكيل الجماعات البشرية، وأتسم بازدرائه الملحوظ لأي انشغال علمي يتأسس على المثل الأعلى لحقيقة ذات مفعول صالح وقيمة صادقة بشكل كلي شامل، وغير قابلة لإعادة النظر أو للمراجعة. ومن جهة، إذا لم يترك الطابع القسري/الإلزامي لأدلة الأثبات بديلاً أخر أمام الإرادة الإنسانية سوى التسليم والإذعان لنتائج استدلال يعتبر غير قابل للدحض ولا للإنكار، وقمع أرادة الفرد في الاختيار، فمن جهة أخرى، كان الزعم المؤكد على أن الحرية الإنسانية لا متناهية ولا حدود لها، يسبب الحيرة والإرباك للفرد ليس فقط من خلال فرضه عليه واجب أن يختار، ولكن، كذلك، أن يوجِد الأسباب الداعية لاختياره بالاعتماد على قدراته الخاصة. ومن خلال تبني أحد هذين المفهومين المتطرفين، نجد أنفسنا متأرجحين بين أسباب إلزامية بإفراط، لدرجة تسلبنا أي حرية في القرار، وبين حرية مطلقة للغاية، لدرجة أنها لا تسمح إلا بقرار يخلو من الأسباب والمبررات.

من خلال الاستعانة بالتمييز، الذي أصبح كلاسيكياً، بين أحكام للواقع jugements de réalité [التي تعبر عن عبارات أحكام صادقة أو كاذبة، ولا يكون لها معنى معرفي إدراكي يتسلسل بنسق منطقي وعقلاني إلا إذا تمكنت مجموعة القواعد العلمية المعتمدة من اختبار صدقها أو زيفها، أو على الأقل من تأكيدها أو دحضها]، وأحكام للقيمة jugements de valeur [التي تعبر عن مواقف أو ميول خاصة بفرد أو جماعة من البشر، ومن الممكن أن تكون مبررة أو مشرّع لها إلى حدٍ ما، لكن لا يمكنها أن تكون عنصراً مكوناً لمعرفة موضوعية]، سعى العديد من الفلاسفة إلى تجنب هذه المعضلة التي حشرتهم بين نزعة عقلانية ونزعة غير عقلانية، وتتسمان كلتاهما بالأنغلاق والتشدد في الرأي وعدم القبول بالحوار. أفلم تجعلنا التجربة نتعرف على وجود مجالين مختلفين، وهما العلوم النظرية والعلوم التطبيقية العملية، يهدف أولهما إلى البحث عن قيمة الصدق باستخدام معطيات تعتبر صحيحة على نحو موضوعي، واستدلالات مصاغة حسب أشكال أقيسة منطقية إلزامية على نحو تام، في حين يسعى الثاني للحصول على التأييد لما هو مُفضَّل préférable، بمساعدة حُجَج وأسباب أو مبررات ليست ابداً بتلك البداهة الواضحة واليقين المطلق، لدرجة أنها تترك للمخاطَب هامشاً واسعاً من التقدير، وحرية في اتخاذ القرار المناسب، واللذان يجعلان من تأييده فعل كلام إنجازي acte ينبغي لصاحبه أن يكون مسؤولاً عنه؟ وفي حين أنه في حقل المعرفة العلمية، سيتم محوَّ الفرد أمام الوقائع ووضوح البديهيات اليقينية، ففي مجال المعرفة العملية، ستكون حريته باتخاذ القرار حاضرة، في كل مرة، لتدعم الأسباب التي تبرر لتصرفه أو لموقفه أو لميله تجاه شيء معين دون أخر.

  • ما هي هذه الاستدلالات raisonnements التي تبرر لمعارفنا، دون أن تقوم بتعيين حدودها وتعريف دلالاتها مسبقاً، وتترك لنا الحرية في اتخاذ القرار، دون أن تُظهر لنا، مع ذلك، أن اختياراتنا عبثية وبلا سبب؟ في حين أن هناك العديد من المراجع المكرسة للمنطق والمنهج العلمي ساعدتنا على أن نفهم، بشكل أفضل، آلية استدلالاتنا في حقل المعرفة النظرية، نلاحظ أنه لا توجد مؤلفات معاصرة تعطينا فكرة مماثلة عن منطق أحكام القيمة. والأكثر من ذلك، إن مفهوم حكم القيمة jugement de valeur نفسه هو مفهوم مثير للجدل، وملتبس للغاية، لدرجة أن استعماله يتطلب، في كل مرة، مناقشة تمهيدية مسبّقة حول معناه. إذا كان المفكرون المعاصرون المأخوذين بأوهام العقلانية التي شاعت بفضل تقدم المعرفة العلمية، قد أهملوا دراسة الحِجاج argumentation الذي يهدف إلى الحصول على تأييد المخاطَب لما يتم تقديمه له من أطروحة أو فرضية أو أعتقاد أو رأي على أنه المُفضَّل، فإننا نجد في تراث عصور الحضارات الكلاسيكية القديمة، أعمالاً تستجيب لانشغالاتنا واهتماماتنا في هذا المجال، وهي تتعلق بالكتب المكرسة للخِطابة بالعامة، وأبرزها كتاب البلاغة للفيلسوف أرسطو.

في الوقت الحاضر، يتم تعريف البلاغة على أنها دراسة صور أسلوب الكلام التعبيرية figures de style، وما زلنا لا نرى بماذا يمكن لمجال البحث هذا أن يثير اهتمام الفيلسوف. وننسى أن البلاغة rhétorique، وفقاً لتقاليد قديمة العهد، كانت تسعى دوماً إلى الاقناع وكسب تأييد الأخر عن طريق الحِجاج الذي يتعلق بقيمة ما هو مُفضَّل. إن البحث في البلاغة على اعتبار أنها تمثل منطق تشكيل أحكام القيمة، هو بحث لا يتعلق بقيمة الصدق vrai، وإنما يتعلق بقيمة ما هو مُفضَّل préférable، حيث لا يتم النظر إلى تأييد الإنسان على أنه مجرد تسليم واذعان، وإنما على أنه قرار والتزام، فذلك من شأنه أن يستحدث عنصراً جديداً في نظرية المعرفة، ولن يقصُر النقاش على القبول الكامل بعقلانية مستوحاة من قواعد علمية أو على رفضها التام.

إن استحداث تقنية ذهنية في التفكير [أي في تكوين ومعالجة أفكار مجردة يعبر عنها باللغة]، تساعدنا على التحرر من الأطر العقلانية المتناوبة بين «نزعة موضوعانية بلا فاعل» objectivisme sans sujet أو «نزعة ذاتية بلا موضوع» subjectivisme sans objet، يمكن، لوحده، أن يساهم بشكل ملموس في فهم شروط ممارستنا لحريتنا المعنوية.

 

الهوامش:

(1) شاييم بيرلمان: إشكالية الحريّة الإنسانية: جدلية إيتيقا الحضور وإيديولوجيا الغياب، ترجمة: أنوار طاهر، مركز أفكار للدراسات والأبحاث، 2020، https://afkaar.center/2020/05/24/

(2) A. J. Greimas, j. Courtés : Sémiotique, dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Manifestation, Hachette, Paris,1979,1980, p. 219.

(3) Chaïm Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : Rhétorique et Philosophie … pour une théorie de l'argumentation en philosophie, Chap. 2 : Liberté et Raisonnement, Paris, P.U.F, 1952, pp. 44-48. Ce Chapitre-ci est à l'origine un article publié dans Le langage. Actes du IVe Congrès des Sociétés de philosophie de langue française VIII (Liberté, science et logique), 271-275, 1949.

(4) Raisonnement, dans le Dictionnaire de la langue philosophique, par Paul Foulquié avec la collaboration de Raymond Saint-Jean, PUF, Paris, 1962, p. 607.

(5) Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Paris, P.U.F, 1 vol., 1958, p. 1.

[] ما بين القوسين يعود للمترجمة. وفيما يتعلق بمفاهيم بيرلمان تحديداً، تم العودة الى مؤلفه العمدة (رسالة في الحِجاج):

Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Paris, P.U.F, 2 vol., 1958.

(*)adhésion : يشير هذا المصطلح مع الفيلسوف شاييم بيرلمان إلى معاني "التأييد؛ الانضواء" التي تفسح المجال للحوار والنقاش والمراجعة وتبادل الرأي، بعد أن كان لهذا المصطلح مع سيطرة البرادايم الرياضي البرهاني، وبالأخص مع الفيلسوف رينيه ديكارت دلالة سلبية إرتكاسية تدل على التسليم والإذعان والخضوع لنظام العلامات المسيطر. يشير مصطلح التأييد استعماله غالباً إلى الموافقة المعطاة لمبدأ أو لعقيدة أو لأيديولوجيا مسيطرة. وهذا يعني أن التأييد يستدعي المشاركة والانضواء تحت الطريقة نفسها في النظر والإدراك لمعايير الأخلاقيات المتداولة، لهذا يمكن أن تعد صياغة التأييد هي صياغة لتعددية في الايديولوجيات لها من القوة والتأثير المماثلين لتلك الخاصة بسلطة مشيدة وراسخة لكنه يختلف عنها بكونها قابلة على الدوام للسؤال والنقاش والمراجعة والجدال. بعبارة أخرى، أن التأييد هو مشاركة في صناعة الآراء والاعتقادات doxa لان آثار تأييد وتصديق رأي معين ستضع القيّم المحمولة فيه موضع صيرورة دائمة.

وقد كنا قد أشرنا في ترجمتنا لمقال الفيلسوف بيرلمان، وهي بعنوان: (في جدلية العقل الحِجاجي...من إيديولوجيا الثبات إلى الزمانية التاريخية)، إلى أنه أستعمل مصطلح adhésion مرتين اثنتين في موضعين مختلفين. في المرة الأولى، جاء على استعماله في سياق حديثه عن مفهوم العقل في النظام الفلسفي الديكارتي، ولهذا تم ترجمة هذا المصطلح بدلالته التي تحيل إلى معنى كلمة «التسليم» في الخضوع والطاعة والإذعان. أما في المرة الثانية، فقد استعمله في سياق الحديث عن نظريته في البلاغة الجديدة التي عمل فيها على إحداث قطيعة مع مفهوم الاستدلال والعقل المنحدر عن ديكارت حسب تعبيره، ولهذا السبب ترجمناه بـ «التأييد». وهذا المعنى بالتحديد، هو ما أشار اليه بيرلمان صراحة في مقاله، أعلاه، عن «الحرية والاستدلال». علماً، أننا كنا قد أكدنا، وما زلنا نؤكد، على ضرورة الانتباه إلى الخطأ الشائع في معظم الكتابات والبحوث والاطروحات الاكاديمية في البلاغة والحِجاج والمنطق واللغة، والتي ما زالت تستعمل مصطلح «adhésion» بمعاني «التسليم والإذعان» البرهانية الطابع والتي لا تستقيم ابداً مع المفهوم الحِجاجي لنظرية البلاغة الجديدة وعلوم اللسانيات والمنطق المعاصر، والذي يستدعي حرية «التأييد» ويعيد الاعتبار للمخاطَب.

ADHÉSION dans : Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Paris, P.U.F, 2 vol., 1958.

ADHÉSION dans : Le Dictionnaire du Littéraire, Sous la direction de Paul Aron & Denis Saint-Jacques & Alain Viala, Paris, P.U.F, 2e éd., 2010, p. 6-7.