في الجزء الثاني نقرأ عن مملكة سورا التي كان إنشاؤها بعد سقوط مملكة الجبل محملا بأحلام بددتها الصراعات على الحكم والفتن وآثار الجفاف والوباء والخراب الذي خلفه الغزاة. حيث يتعرف أبناء الحاضر في قراءتهم لتاريخ تلك المملكة على المأساة التي مازالت تتكرر حتى الآن، لمقاومة كل هذا الدمار والموت؟

ساورا .. مملكة الجبل (رواية)

الجزء الثاني: من ثلاثية «لا وطن في الحنين»

أحمد ضحية

 

إهداء

إلى كل الذين أحبهم

أحمد

 

العظيم (آري)(1) تذّكر أنك ستموت يوما!

1

تساءلت (أعجوبة) وهي تسحب يدها، من يد العبد (النمرود) في عنف:

"أين سأجلس في هذا الضّيق؟!"

مدّ العملاق الصغير، يده يتحسس جسدها؛ الذي يقف فوقه، وجذبها الى حِجرِّه. وهو يقول:

"ها هنا ستجلِسين يا سيدتي"

فمانعته قليلاً، ثم استكانت كقطة أليفة، بعد تملمُل عنيد!

اشتدت العاصفة وبدأت السماء ترعد، انكمشت أعجوبة في حجرِّه، فشد إزارها!

وشيئا فشيئا نفى جسمها، إحساسها بغربّة حجر النمرود عنها!

هدأت العاصفة، وتحوّل الجوّ، إلى برودة ثلجيّة صاقعة.. غاصت أعجوبة في حجر النمرود، الذي شد (كنفوسها!)(2).. أشتد الرّعد .. فتوغل النمرود.

"كانت السماء تمطِّر، والبرق يلمع، والرّعد يصُّم الآذان!"

قالت أعجوبة، لإبنتها (الكنداكة)، قبل أن تغيب إلى الأبد، فيما كانت كل ذكرياتها، مع طفلتها (سابا) وتوأمها (الكنداكة)، قد تحولت منذ وقت طويل، إلى مجرد ذكرى بعيدة، في خاطر ابنتيها، اللتان على الطرف الآخر، من المدى الفاصل بينهما كلحظتين هاربتين في الوقت والمكان!

محض ذكرى بعيدة لغرباء، كأن لم تجمعهم علاقة دم:

"اغفري لي كنداكة، واسألي لي أبوك وتوأمك الغفران"

كانت تلك آخر الكلمات، التي تتذكرها الكنداكة، كلما عبرت بخاطرها، حكاية أمها أعجوبة مع عبدها النّمرود.. الذي أهداه إياها إبن عمها الملك الشرّيف!

فأخذت تصطحبه معها منذ الصِّغر، الى كل مكان تطأه قدماها!

حيث يقف النمرود بعيدا يحرِّسها ورفيقاتها، وهنّ يلهون في الوادي المفضي، الى جبال البحر الملون، الى أن دهمتهم ذات يوم، وهم في سحابة نزهتهم، رِّيح عاصفةً.

فأسرّع النّمرود يمسك بيدها، ومضى يخبئها وشقيقتيها (هند ودعد) ورفيقاتها، في مغّارّة أسفل تل صّخري، محاصر بجرف الوادي!

امتلأت بهم المغّارّة، التي ضاعف ظلام العاصفة من وحشتها، فلم يترك النّمرود يدها أبداً!

 

وفيما تطرأ مثل هذه الذكريات، على خاطر الكنداكة، كانت توأمها سابا، على الطرف الآخر، من اللحظة ذاتها، قد استحالت إلى بوح روح هائمة، تحلق فوق ساحة مهرجان الحصاد.. تراقب ابنتها (كيرا)(3) على ظهر حصانها الأبيض، الذي أهدته إياها، صديقاتها جنيات (جبل الميدوب)!

 

شدت (كيرا) لجام فرسها، وهتفت في الناس:

"هل من منازل؟"

فلم يجرؤ أحد من عامة الشعب، على التقدّم إليها. كانت أنفاس الناس لا تزال محبوسة، وهي تترقب في الصفوف.

وعندما كادت كيرا تنصرف، دون أن يتقدم أحد لمبارزتها، خرج من بين الصفوف

(سولونق)(4) ابن الراعي العجوز دورة، وتقدم منها بخطى واثقة، وهو يقول في تصميم:

"أنا"

أشهر (سولونق) سيفه. فأشهرت سيفها. و تلاحما..

و أخذا يكران ويفران.. يلتحمان و يتراجعان.. والناس.. كل الناس، بين الدهشة والذهول، من وقائع هذا اليوم الغريب! الذي لم يمر كمثله يوم، في تاريخ ساورا أو مملكة الجبل والوادي!

كانا يتبارزان بضراوة. يقعان ويقومان، دون أن يتمكن أحدهما من إصابة الآخر بخدش!

والجموع المحتشدة بكيانها كله، نسيت كل شيء، عدا هذان الجبلان الجباران، اللذان يتزحزحان تجاه بعضهما، فيصطدمان و ينفكان!

 

قبل هذه اللحظة، بوقت طويل، وفي الصباح التالي لانتحار أمها (سابا) فوجيء الناس بجسم كالرُّخ، يهوِّي من قمة جبل الكبش.. هوّى. هوّى.. وسقط على أرض الوادي. اقتربوا منه. تبينوا فيه أحد الدعاة المحبوبين للناس.

فيما كانت الذاكرة لحظتها، تسحب شقيقها (دالي) إلى الوراء، لاهثة، متعبة.. وهو يرى والده سورنق(5) لأول مرة يبكي..

كان يبكي وهو يرى نفسه يلهو مع سابا في (جبل الميدوب) .. وهما يتسلقان الأشجار والصخور معا، ويتنقلان بينها بخفة القرود.

وهو في النزع الأخير على حجر ابنته كيرا، تراءت له وقائع حياته مع سابا، صديقة الجنيات في ادق تفاصيلها .. تراءى له .. شبابهما و ذكرياتهما معا! ولفظ أنفاسه، وهو يرى نفسه على احضانها، في تلك اللحظة البعيدة! عندما أمسك بكنفوسها الجلدي القديم في يده. وتفرّس فيه. فهاجه التوق والوجد، وتدفقت في عروقه حرّق، كتلك التي تندفع من جوف جبل الميدوب!

 

في ذلك الوقت كانت سابا؛ قد بدأت تألفه وتعتاد عليه. فعنّ له أن يقترِّب أكثر، من تلك الرؤيا التي تسكنه.. رؤيا العرش خلف طيفها الغامض!

دنا منها وهما ينهيان حماميهما، في ذلك الوادي. أراد أن يتوحد معها، خبّت الألفة في عيونها، وانبعث محلها شرّر. كشرّت عن اللبوة داخلها. نظر في أعماق عينيها بقوّة، فتنمرّت أكثر.

دنا منها. فمدّت يديها كحيوان كاسر، لتنتزع خاصِّرته، فتراجع بزاوية حادة، أطاحت بزراعيها في الهواء، أختل توازنها، فباغتها من الخلف، وأحتضنها مقيدا يديها الى ظهرها، وشابكا ساقيه في ساقيها!

أخذت تحرِّك رأسها وقدميها في عنفٍ، تشققّت له تربة الوادي الرملية الرطبة، وهي تزأر بوحشية جعلت الطيور، التي في أعلا التّل ترتاع وتهرب من وكناتها، لا تلوي على شيء!

 

ظل سورِّنق ممسكا بسابا، إلى أن خارت قوّاها، فكفت عن المقاومة، فتركها!

وقبل أن تتهاوّى كقلعة مهدّمة، سندها برِّفق وأتكأها على حافة الوادي، وأبتعد عنها قليلا ينظر إليها.. حدقت فيه بدهشة، وغابت بعيدا.. بعيدا...

بعد ذلك بسنوات قليلة، أنجبت له دالي، ثم كيرا التي تشرّبت منذ طفولتها، بحكايا الاسلاف من العجوز دورّة، وتعلمت الحرف من سورِّنق؛ وأعتادت مع دالي على فنون القتال!

شعورها بالإنحدار من جبل الميدوب، وعروق الملح في مالحة، وصوى ساري الطرِّيق الصّحراوي والفلوات، ونجوم السماء والصّي، وجنيات الجبل: شكل وجدانها، حيث يثوي عالمها الغامض و تنهض ذكرياتها، لتصبح الذكرى هي، وهي الذكرى ذاتها!

 

هذا العالم الغامض، الذي أحاط بجبل الميدوب، مدها بأسباب وجودها، وشكلها لتصبح بشكيمة لا تلين، وعزيمة تفتت الصخر..

نشأت كيرا متوحشة كأمها سابا، صديقة الجنِّيات والوحوش، يسمع بها الناس في الوادي، يعرفونها ولا يرونها، وعندما شكّ السهم المسموم، فؤاد سورِّنق هتف أول ما هتف:

"كيرا ااااا"

فاختلطت المخاوف والأحزان، في عيون الناس بالدهشة، وأحسوا بقيامتهم، أقرب من حبل الوريد!

كانت كيرا لحظتها، تصفف شعرها الملكي، وتعد نفسها للخروج، عندما ترددت أصداء صرخة والدها في فضاء الوادي، فخرجت مذعورة، اصطدمت في طريقها بالخصيان، والحرّس يحملونه على اكتافهم، والثوب الذي التف به، تضرّج بدمِ أحمّر قانٍ.

التف الأهالى حول القصر! وعلا الهمس:

"غدروا بك (آري سورِّنق!) إنه بييه!.. الخائن بييه!"

2

قبل عشرات السنوات من مقتل سورنق، مرت مملكة ساورا بوقائع شبيهة، انتهت بمقتل آريها!

وقتها، لم تكن الخيانة هي السبب، بل الغزاة.. الذين انسحبوا، بعد أن نهبوا ما استطاعوا. خشية أن يصيبهم هم أيضا الوباء الذي أنهك ساورا.

 

كان الوباء كأنه يتحالف، مع الدمار الذي خلفته الحرب! إذ تفشى بسرعة كبيرة!

وقتها، وجد أهالي مملكة ساورا المنتهكة، جثة آري المتعفنة، بعد أيام من مداهمة الغزاة وانسحابهم.

حملوا الجثمان ذي الرأس المنخورة، ووضعوه القرفصاء داخل آنية الفخار الملكية، بعد أن لفوا جسده بالقطن. ثم جيء بالخصِّي الأول. حيث ُطعن في القلب تماما، وتُرِّك ليلفظ أنفاسه الآخيرة بهدؤ، ثم ُقدِّم قربانا لآري العظيم.. سلطانهم الراحل!

 

لم يجدوا أحدا من قارِّعي الطبول، لينقل بالضربات الخفيفة، نبأ إنتقال آري الى أسلافه.. إلى الودّيان والصحراء والغابات .. ليحمل النبأ: صّوى السّارِّي وعلامات الطريق. و هواء الصحراء وأوراق الشجر. إلى الناس والبِّيد والطيور. في السماء البعيدة..

ليخيّم الصمت الجنائزي. على الكون كله، حزنا على ضياء النجم البعيد الغارب، وقمر السهوب الشاحب، والشمس المخبأة في تلافيف الغيوم، وبخار الأرخبيل الجوفي، أسفل وادي هور، تحت درب الأربعين! وقرنا الكبش الخصِّي!

 

لأول مرة، لا يقرع إيقاع الموت، في تاريخ موت السلاطين بساورا المقدسة.. ولأول مرة يدفن أحد سلاطينها في صمت! دون ان تدفن معه مقتنياته العاجية، التي نجت من سلب الغزاة!

ودع الناس آري بنظرة عميقة، غامضة وهم يدفنونه، في الأعماق السحيقة للمدافن المقدسة، بعيدا عن مدافن الشعب. قريبا من مدافن الأطفال!

ثم التفتوا يدفنون الجنود في منحدرات الهضبة، التي يدفنون تحت سطحها الأطفال!

خلّف الغزاة وراءهم صدمة هائلة، لم يعرف شعب ساورا مثلها، أبدا طوال تاريخه العريق، ومع الخراب والوباء والجفاف، كانت أمداء اللعنة تتسع!

 

جفت الوديان والضروع، وحلّ الخراب بكل شيء، وازداد نشاط حفارو القبور أكثر فأكثر..

كان ساو لحظتها، ينهض من على جسد صولمنج مهدودا، والآخير يتأوه متسائلا:

"ترى كيف بإمكان ساورا مقاومة كل هذا الموت والدمار اللذان حلا بها؟"

"لا تسألني، أريد أن أنسى كل شيء!"

"ترى كم سندفن اليوم من الموتى؟"

"أنا لن أشارك في هذا المناخ الجنائزي؛ مرة أخرى!"

عندما نهضا وارتديا إزاريهما. كان فناء المدينة قد بدأ يزدحم، بجميع القادمين من المدافن..

 

3

تكاثروا عليه.. ضربوه بقسوة حتى أغمى عليه، وهو بين الصّحوِّ والإغماء تناهى إليه صوت سابا متنائيا:

"سورنق.. سورنق.."

وقبل أن يغيب عن الوعي، شاهدها وهي تفرقهم عنه، وتصرعهم واحدا تلو الآخر.

كانت هائجة كلبؤة جريحة، يتطاير من عينيها شرر ألف نار!

 

في تلك اللحظة الفاصلة، بين الوعي والاغماء؛ كانت حواجز أخرى بينه و سابا تنهار. يصاحبها أسى و حزن شفيف، لا يخلو من الخجل:

"كيف تحمِّيه إمرأة!"

 

رفعت سابا سورنق بين يديها كطفل صغير، ومضت به إلى كهفها. وظلّت تداوي جراحه حتى الصباح!

عندما أفاق، وأخذ يراقب عملها بأوراق الشجر، التي كانت تمضغها، وتضعها على جراحه، قال:

"سأرحل سابا"

 

4

و إذن.. من أين تجيء هذه الوقائع والأحداث.. من أين تبدأ وأين تنتهي؟!

هل تبدأ من تلك اللحظة (هناك) في مملكة الوادي.. اللحظة التي دهمها فيها الوباء، وقتل (آريها) العظيم؟!..

أم تبدأ من لحظة أخرى، هي تلك اللحظة، التي أصبحت فيها هند ودعد، محض جاريتين، في مملكة الجوار، تشبعان الرغبات الغامضة، و تسرحان مع أحلام سلطانها؟

أيّاً كانت لحظة البداية، ثمة علامات فارقة متماثلة، كحرِّيق جلابي ود عربي، الذي في وجهه الآخر، هو الوباء الذي ألتهم مملكة الجبل والوادي!

الوباء الذي خرج من قلب النعرات.. نعرات الناس في جلابي و انقساماتهم، التي لا يختلف كثيرا، عن انقسامات العشيرة المالكة، سواء في ساورا، أو جذرها البعيد، كمملكة خرجت من غموض الجبل ووحشته، و.. الكثافة. كثافة الناس.. الكثافة التي جعلت الموارد تنضب، والناس تتمدد، بحثا عن وطنٍ آخر بديل.

أم تبدأ من تلك اللحظة؛ التي استفز فيها سورنق الشجن، فصعد مع سابا إلى قمة جبل الميدوب، يرمي بعينيه قلب الصحراء، فيغادر بصره مالحة، و يخطو على طرِّيق الملح، علّ قافلة تأتي من ساورا البعيدة، بريح الأهل و الأحباب!

كل شيء يمتزج في كل شيء بما يتجاوز، طاقة الحُلُم!!

كأن الجغرافيا.. (جغرافيا الحُلُم) بوقائعها وأحداثها، تخرج من قلب جلابي..

من قلب التاريخ، لتُسقِّط نفسها في لحظات، تراصت الى جانب شقيقاتها، من لحظات البلاد الكبيرة، لحظات جلابي ودعرّبي، التي لم تعد تعرف الى ماذا تنتمي؟!

وهكذا يتحقق الوعي القديم، كظِّلٍ للراهن، يحايث هذا الماضي المعفَّر، بالغبار والأتربة!.. أتربة النسيان!

الراهن الذي تتجاذبه الفصول، وبوح الخمور البلدية في جلابي. بحيث لا يصبح ثمة فرق بين سلمى خير الله ولنقي..

أو أُم التيمّان ونبتة، أو ساو، صولمنج، بييه وأدروب وأبكر وجداد، أو سولونقْ وسورِّنقْ و عبدّه الخال..

فلا نعد قادرين على التمييز، بين شخوص مملكة عتيقة، غابت طيّ التاريخ، وبلدة معاصرة، بناسها الذين لا يزال بعضهم أحياء، وبحياتها التي سكنتنا، وشكّلّت داخلنا، كل هذه الهواجس والظنونْ، التي دفعت بالأحلام الى وعيِّنا، فتقاذفتنا هذه الأحلام.. هذه الرّغبات المجنونة، إلى أبعد مدى!

الرّغبات المجنونة ل(بولدِّين)، في تدمير مملكتي شقيقيه.. ذاتها رغبات أبو لكيلك الجنجويدي.. رغبته التي تدفعه ليسلك على نحو ما سلك.. ذاتها الرغبة، التي تحاصر صديقي حسن الآن! ليتقمصني وهو يتجوّل (يتصور نفسه حرا) في طرُّقات التاريخ.. وشعاب ممالكه البائدة، مخترقا صوت ود الخزين أو ولد الباهي.

(في واقع الأمر سكنّ صوتي، الذي تسلل إليه خلسة منهما).. خلسة؟!

(الخلسة) هي ذات السلوك؛ الذي نهضت فيه هذه الممالك، التي يتجوّل في أنحائها. فقد خرجت للعلّن فجأة، كأنها تقارير حقوقية ضد حكومات مستبدّة، كما خرجت من بعد جلابي كتقرير حي، يمشي بين الناس!

خرجت بعد أن وضعت قواعدها، في الظلام الدّامس، الذي حجب بداياتها، وهكذا فاجأت الناس (وهكذا انهارت).

دون أن يلحظها أحد. بسبب الخفاء (والخلسة) التي ضرّبتها حول نفسها!

السؤال هنا: هل كان آدمو عندما فعل ما فعل (يدرك خطورة الخلسة على مشروعه؟)

هل كان يظن نفسه سولونق الجد المؤسس، الذي هو عبارة عن ظِّل بنقا، مؤسس ساورا العريقة، التي أدهشت الأثاريين بتعدد حقّبها، والمرّاحل التي عاشتها، وتقلبت فيها بين الفناء والبعث كطائر الفينيق!

اذ تفنى (لاروي) (السرة) والحلفاء والجوار (المدينة الرِّيفية)، وكل الإمتدادات في الناس والطبيعة، لتنهض (خلسة) كجلابي، محورا تنعكس ظلاله، في تلك المرّايا البعيدة، وليتكون أيضاً صدّى لذلك الصوت، الذي يرتّد؛ عن فراغ جدارات كهوف الجبل و"كَراكِيرِهِ"..

 

5

أشعر بنوع من الصداع الغرِّيب، وأنا أحاول التغلُّب على الوسنْ! ربما غفوة فحسب تكفي لقذّفِي إلى عالم، أكثر إثارة مما ارتدت من عوالم حتى الآن!

أغالب النوم وأنا "أدعك" جفني بشدّة. أغالبه.. أغالبه.. أصرّخ في نفسي: لا أريد أن أنام.. لا أريد رؤية هذه الأشباح.. أغالبه.. و ُيطِّلُ بين الصّحوِّ والنّوم طيف حسن.. صوته.. و يتضخم أكثر فأكثر فيما يرى النائم..

 

6

يتنهد حسن: أنا الآن حزين إلى درجةِ البُكاء. محاصرٌ بصوتِ ود الخزين و ود الباهي، المنبعثين من جهاز التسجيل أمامي.. بعد أن وضعتهما الصدفة المحضّة في طرِّيقي، بعد مرور وقت طويل من إمدادي ل(علي)، في غربته البدِّيعة، بكل ما توفر في يدّي عن جلابي ود عرّبي.

ولم أكن أُصدق أن ما مددّته به، له بقية تحمِل أكثر مما حملت، تلك الشذّرات المتفرِّقة.

الآن يتكشف وعيِّي أكثر فأكثر، عن طبيعة ذلك الإهتمام، الذي أبداه "علي"، وهو يُلّح في السؤال عن تفاصيل لا تخطر على البال، عن جلابي ود عرّبي!

لم أكن أُقدّر وقتها هذا الإهتمام، و أتمنى الآن لو كان حيّاً.. هل هو ميت؟!

لأضع بين يديه هذه التسجيلات الصّوتية، التي سجلتها مع ود الخزيّن وود الباهي، بعد أن عادا الى جلابي ود عرّبي، مهزومين و مكسورّين!

فقد ترتب على إنقسام العرّافين؛ تداعيات أودّت بهما، إلى المحاكمة بتهمة الفساد السياسي، وجرائم أخرى لا تحصى ولا تعد، لكن المحققين لم يتمكنوا من إثبات شيء يذكر منها، لذا خرجا من السجن بعد فترة وجيزة!

 

وما أن خرجا من السجن، بعد قضاء مدّة عقوبتهما، حتى لم يجدا لنفسهما ملاذا، سوى جلابي ود عرّبي، التي خرجا منها مسؤولين في مؤسسة أبو لكيلك، وعادا إليها كما لحظة خروجهما منها: محض شخصين: "آباطهما والنجم!".. ومغيبين غيابا فاجعا وضائعين! على الرغم من حضورهما التّام! مثل الشخوص العديدّين الذّين تضّجُ بهم جلابّي.

 

فمن أين أبدأ الحكي..

هل من ذاكرتي الخاصة أبدأ؟ أم من ذاكرتّي ود الخزِّين وود الباهي، المحملتان بصراعاتهما في الجغرافيا الضيِّقّة، التي يتحرك فيها أبو لكيلك الجنجويدي؟!

لا أدري أين تكون نقطة البداية الصحيحة. فلطالما تصّوّرت؛ (مثل كثيرين) أن المخطوطة السّرّية، أو (كتاب دالي): محض وهم من بنات خيال (علي) ولم أتصوّر أنها حقيقية أبداً، حتى التقيت ودّالخزّين صدفة، في لحظة من لحظات الحنين، التي زرت فيها مدينة الفردوّس.

صافحني الرجل بحميمية، عندما عرّفته بنفسي، وأخذّني الى ود الباهي، وهكذا أصبحنا (شُلّة أُنس) نلتقي في المساءات، لنبث حديث الذِّكريات، في جهاز التسجيل، نحاول أن نتماسك به، ونعلِّن وجودنا و استمراريتنا على قيد الحياة، أو كأن شلتنا، تؤكد قدّرتها، على أنها لا تزال قادرة على الفعل!

 

كانت حكاياهما، تستند على ما ورد من معلومات حقيقيّة، في المخطوطّة السّرّية، التي لم يدعاني أراها أبدا، إذ نفيا حصولهما عليها!

وكنتُ واثقاً أن لديهما على الأقل نسخة منها، وأن كل ما يسردانه أمام جهاز التسجيل، إنما هو مستقى منها!

كنتُ أشعّرُ بوّدِ الخزّين، عندما يتحدث كأنه لا يخاطبني، أو يخاطب جهاز التسجيل، نعم.. كنتُ أشعّرُ به كأنه يرى آدمو، متربعا في الكُرسّي المجاور له، في قاعة إجتماعات أبو لكيلك، وكأن حديثه موجّه إليه هو وحده.. وكنتُ أرى في ذات المقعد، أحيانا.. شخص (علي)جالسا ورأسه منكساً كعلم القصر الجمهوري، يستمّع لتداعيات ودّ الخزّين، في صمت مطبق!

وكثيرا ما أختلط لدىّ، الشخوص المتعاقبين بين آدمو وعلي.. حتى ظنّنت أن هذا الإرتباك والتشوّيش، هو من فعل درجات الصّوت المتغيرة، في حنجُّرُة ود الخزّين.

إذ أن وّد الباهي عندما يتحدث، يجعلني أشعُرُ بأنه لا وجود لشخص إسمه آدمو، أو علي البتة بيننا!

وأن ما بيننا، فقط زجاجة النبيذ الأحمر المغشوش المهربة من اريتريا، و كؤوس الويسكي red label وجهاز التسجيل..

غاص ودّ الخزّين بذّاكرته بعيدا .. بعيدا. إلى تلك اللحظة التي تجلّى فيها آدمو، فاستحال إلى محض ذاكرّة مكثّفة، للأرض والإنسان والتاريخ والأشياء!

 

من أعماق صوت ود الخزّين، انسحب الأهالي خلف جيش المملكة المنهك، وهم يحملون على ظهور الإبل وظهورهم ما استطاعوا…

انسحب الأهالي من كل شبرٍ من أرض الوادي، أو موطيء قدم في كهوف الجبال، حيث

خلّفوا ذكرياتهم التليدّة..

في هذا الوادي أنشأ الأسلاف مملكتهم المجيدة، التي استقطبت الأصدقاء والأعداء، لوقتٍ طويل.

في الأرض والطبيعة أنتسجت حياة النّاس.. وفي رمال هذا الوادي وعروق الجبل، توحد مصيرهم لوقت طويل، طويل..

عاشوا غربتهم في غربته. وتآلفوا في أُلفة جبل الكبش العظيم!

ظلّت حياتهم تأخذ معناها من الجبل، والجبل يأخذ قيمته، من هذه الحياة المتجدِّدّة. بمغامراتهما معا. وأحلامهما التوسعية، التي لم تتحقق أبدا. فبقيت كملحمة مكبوتة طّيّ الذّاكرة والنسيان.

في هذا الوادي ولّدت عدّة أجيال. في كهوف جباله تعاصرت أجيال أخرى. وخرج كل هؤلاء وأولئك، يودعونهم في اللحظة الرّاهنة، وهم يغادرون إلى الأبد!

 

فمنذ اختلفت العشيرة المالكة على المُلك، بعد أن دهمهم الوباء الذي طحن المملكة، وأُصيب آري جراءه، حتى أنشغل أبناؤه الثلاثة، باقتسام السلطة، فعمّ السّلب والنهب، و انفرط عقد الأمن، لتلتهم الفوضى كل شيء!

منذّها غادر تاريخ الوادي حياة إنسانه، وظل يراقب العشيرة المنهكة، وهي تتفرق وتلتف، حول انقساماتها الثلاث.

 

الهزّات التي أصابتهم بها الصراعات على سلطة الملك، تجلّت في انفعالاتهم وقراراتهم ومصائرهم.

قالت والدة الابن الأكبر دودو:

"أنت أحق بالعرش من أخويك"

قالت والدة الابن الأصغر سوني:

"أدّر أنت الجيش وأترك لأخيك أمر المملكة. المملكة هي الجيش!"

وقالت والدة الابن الأوسط بنقا:

"أسمعني جيدا. لقد أوصى لك أبيك آري العظيم بعرشه. فلا تخذّله مهما يكُّن من أمر. فلم يوص لك به عبثاً!"

 

انسحبوا بإنقساماتهم الثلاث؛ ييِمّمون وجهات الشرق والوسط والشمال.. ينطّوّون على أحزانٍ شتىّ، وذّكرياتهم.. كل ذّكرياتهم تنأى عنهم، وتتلاشى في فراغ الذّاكرة الفسيح..

تجمعت أقسام مملكة الجبل والوادي الثلاث، في السهل الممتد. تجمعت كجيوش مهزومة، تنسحب من آخر معاركها الخاسرة.. تقدّم بنقا:

"تناحرنا فيما بيننا، ولم نحقق وصية آري العظيم. لم نحقق أحلامنا ولم نحافظ على ما ورثنا، ولم ننجز شيئا! والآن لم يبق أمامنا سوى أن نفترق! ونتفرّق في هذه الأرض، ليحاوّل كلٌ منا البدءِ من جديد كما يشاء!"

"ما مضّى مضّى.. لم تعد ثمّة جدوى من القاء اللّوّم على أحد. أنا سأيمّم وجهي شّطر البحر"

أضاف سوني:

"سأمضي باتجاه الرّيح؛ لأُشيد مملكة أُخرى"

وشخصا بعيونهما في وجه دودو؛ الذّي أبتسم في خبث دون أن ينبس ببنت شفّة! ثم أشار لرجاله والأهالي الذين خلفه، ومضى في طريق الصحراء!

تركهما خلفه يكفكفان ذكرياتاً لن تفارقهما أبداً، ذكريات بعضها يعود الى الطفولة الباكرة..

تنهد حسن:

"كان دودو منذ طفولته كأبو لكيلك الجنجويدي. كلما رأى شيئا جميلا بيد أحد شقيقيه، سارع لإنتزاعه.. يضرّبهما دونما سبب واضح.

يلهو معهما عندما يرغب هو بذلك. يفسد عليهما ضحكاتهما العذّبّة عندما يشاء، فيعكِّر صفو الذّاكِّرة، التي نشطت في اختزان التفاصيل المقيمّة والعابرة، ودفقة الإحساس لحظتها!

فشلت كل أساليب التنشئة الملكية؛ مع دودو المغرّم بعراك الصبية، وقتل الحيوانات الأليفة! دونما حاجة لذلك أو مبرر..

 

عندما كبِّرَ دودو قليلاً، أخذ ينتزع أراضي الفلاحين، ويزداد جبروتاً على جبروته بمرور الوقت!

فاض كيل النّاس بدودو. فأخبروا آري الذي قام ب (تبخيره بالشطّة) وربطه عاريا على شجرة قمبيل، أسفل الوادي. في أوجِّ البرد! وأعتقد أن ذلك سيكون درساً قاسياً.

كأن بخوّر الشطّة وزمهرير البرد، أطلقا شياطين الجحيم في دماء دودو..

إذ صار يدخل بيوت المزارعين، في أطراف المملكة عُنّوّة.. يختطِّف بناتهم ويهرب بهنّ، الى الفيافي، التي يعرّفُ كلُ شبرٍ منها. يجدّون في البحث عنه، يقودهم شقيقيه، وبعد بحث مضّن،ٍ يجدون الفتيات منهكات و منتهكات، وملوّثات بالدّم، وعلى أجسادهن القروح النيئة، ولا أثر لدودو.. كأنه ذرّة غبار تلاشت في رمال الوادي القاحل!

 

نفاه السلطان الى أرضٍ بعيدة، على حدود المملكة، يحكمها أحد أمراءه الأشداء، الذي خصص لحراسة دودو العبيد القساة، والجواري الصُّم!

توسطّت أُمه.. توسطّت شقيقته الوحيدة لاروي الحبيبة. توسطّت العشِّيرّة الملكية، قاصيها ودانيها. توّسط الجميع.. ولم يتراجع آري العظيم عن قراره أبداً!

كان متعجباً من هذا الإبن الغرّيب!

 

عندما غادر دودو، لم يكن مسموحاً لأحد بزيارته في منفاه، سوى شقيقته التي يحبها كضياء عينيه، ووالدته (إياكوري) (6)الحقوّدة، التي كانت عندما ترى ذلك البرّيق في عينيه؛ وهو ينظر إلى شقيقته لاروي.. البرّيق ذاته الذي رأته في عيني آري، قبل أن يتزوجا.. تخشى عليهما إغتراف الفعل الشنيع، الذي يحرِّمه عليهما العرف ودمهما الواحد.. البريق اللعين ذاته تراه في عيني دودو، وهو يحلّق حالما في وجه لاروي وجسدها..

 

ذات البرِّيق تراه في عيني لاروي، وهي تتفحص بنظراتها الحالمة، جسد دودو الفارع مفتول العضلات!

تحادث إياكوري دودو، و يطمئنها. تحادث لاروي فتهديء بالها.. وحالما تخرج من منفىّ ولدها، تتجوّل مع العبيد و الخصيان في أرجاء المنفىّ المنبسط، حتى ترتمي لاروي على أحضان دودو!

الآن دودو يريد أن يبني مملكته الخاصّة، في هذا الشعب الذي حلّ به على غفلة من الزمان..

كان كل شيء في الجوار، يبدو غريبا عليه. فشعب الجوار ليس كشعبه، الذي تفرق في السباسب والوّهاد، عاريا إلا من (الكنافس) الكتانية، التي تلّفها النساء حول اسفل الخصُور والعجيزات والفخذّين، والمآذر التي يلِّفها الرجال حول أصلابهم..

 

نساء الجوار، كُنّ يسدلنّ على صدورهن أغطية من القطن، تتدلى من العنق لتصّل الخصر، تلامس كنافيس القطن الناعمة. بينما يكتفي الرّجال بلّفِّ أصلابهم وحزم بطونهم.

كان شعب الجوار هادئا في طباعه، ليس مثلهم هم: ساكني الكهوف والحجرات المنحوتة في الجبل..

 

الأكواخ التي يسكنها شعب الجوار، بنيت من القصّب و فروع الأشجار على قاعدة الحجر والطين اللّبِن، كانت هذه الأكواخ مشيدة في نظام دقيق. مدهش! لم تقع عليه أعينهم من قبل!

"أنه شعب متفوِّق علينا. هنا سأحقق أحلامي. سأبني مجداً، لم يتصوّره آري أبداً"

قال دودو لأفراد عشيرته، الذين ترددوا:

"لكنهم يعبدون القِّط!"

فرد عليهم بحسم:

"دينهم هو ما ترونه من نظام"

حسم آري دودو الأمر؛ وبدأ يُشيِّد بمساعدة الأهالي مملكته العُظمى؛ بعد ان سوى امورِّه مع هذا الشعب الجديد!

وقتها كان بنقا قد استقرّ في وادِِ فسيح؛ بعد مسيرة أيام طوال في درب الأربعين. وادِ جدد فيه الذكرى والشجن والحنين لمملكة الجبل والوادي. التي تركها خلفه وبدأ مع رجاله يعملون بجد، يشيدون نواة مملكتهم الجديدة.

"ماذا نسميها؟"

"ساورا.. سنشِّيدها للأجيال إرثاً ليس كمثله إرث"

أضاف أحد الرّجال:

"أحد الغرباء يقول أن دودو حطّ رِّحاله؛ على مسيرةعدة ليال ونهار من ساورا"

"إنها مملكة الجوار التي يحلم بها"

"ماذا تعني؟!"

"لا شيء، لننهي ما بدأناه من عمل في أقصّر وقت"

كان دودو قد تسبب في كل ما حلّ بهم؛ برفضه لوصية آري. إذ أوغرّ بعد موته الصدور، وأشرّع أبواب المملكة على مصاريعها للغرباء، واعتقد أن الوباء الذي تسبب في موت آري، وأخذ ينتشر إنتشار النار في الهشِّيم، سيجعلهم يتخلّون عن وصيّة آري، وينصِّبونه آري مكانه.. قال آري وهو في النزع الآخير:

"ستكون يا بنقا خلّفي؛ وترأس أنت الجيوش

يا سوني"

"وأنا يا أبي؟"

قال دودو فقطّب آري حاجبيه:

"أنت ولدي الاكبر؛ لكنك لم تقُم بواجب الإبن الأكبر أبدا.. تخلّيت عن بكوريتك و ظللت كالبعير الشرّود! فلا يحق لك أن ترِّث في مُلكي!"

اتسع نطاق انتشار الوباء، الذي ظلّ يحصِّد في طرِّيقه الأرواح، كما يحصِّد المزارعون قناديل العِّيش، قال الكهنة:

"انتشار الوباء وموت آري من علامات الزّمان!"

نشِّط دودو وعشيرة أُمه، يعبئون رجال المملكة وأهلها، مستعينين بالنساء الملكيّات، في دسائسهم ومؤامراتهم.

تفرّقت الكلمة وعمّت الفوضى فاجتمع الأُخوّة الثلاث بالكهنة والشيوخ الذين أكدوا:

"لابد من تنفيذ وصيّة آري"

"لكنها خرّقت العُرّف!"

قال دودو وتبعه سوني:

"مثلما يحق لبنقا تولِّي العرش؛ يحق لي ذلك أيضاً.. لكنني سأكتفي بأن أكون سلطانه على الجيوش. إذا تنحى دودو عن المطالبة، بالحق في العرش"

ولم يفلح الكهنة والشيوخ في إقناعهم. فانقسمت المملكة إلى ثلاثة أحلاف. كل ابن من الأبناء الثلاثة؛ تسنده أُمه وعشيرتها وبعض الأهالي..

في الطفولة البعيدة كان دودو يحكي أحلامه التوسعية العظيمة:

"عندما أُصبح آرى سأستولى على مملكة الجوار"

"لماذا تستولى عليها؟!"

يقول سوني، فيرد دودو:

"هناك الرّجال الذين يصلحون للجندية، والخصب والعمارة"

"ذلك كله لا يعني شيئا، في غياب رخاء العيش و العدل. هل تستطيع تحقيقهما؟!"

"ليس العدل هو المطلوب"

"ماذا تعني؟!"

"أعني أن المطلوب هو الهيمنة"

انسحب بنقا من خواطره الكثيفة، على صوت أحد الرّجال:

"وضع سوني نواة مملكته عند منحنى النهر"

"إنها أرض مكتظة بالممالك الصغيرة. لن يتركوه"

 

7

منذ أن حطّ سوني رحاله على شطِّ النهر؛ أدرك أن الممالك التي جاورها؛ لن تدعه يهنأ بهذا المكان؛ الذي أختاره بعناية؛ لإقامة مملكته الجديدة.

فحرِّص على زيارتها واحدة تلو الأُخرى.. جلس الى ملوكها وأكد لهم:

"نحن إنما قوم مسالمين، نزحنا نبحث عن وطن، بعد أن قضى الوباء على مملكتنا"

"ستكونون تحت إمرتنا"

"أنتم أصحاب الأرض؛ ونحن لا نريد سوى الحياة في سلام"

كان سوني قد أدرك تماماً؛ أنهم لن يتركوه وشأنه. وأنه لن يستطيع إحتمالهم طويلاً. لكنه ظل يسارع إلى تلبية طلباتهم المتكررّة، والمستمرّة دون توقف.

واجتهد في تهدئة خواطر عشيرته، حتى لا يفلِّت زمام الأُمور، وهم في هذا الحال من الضّعف!

"يجب أن نكمل بناء هذه المملكة اولا ً؛ وعندما تقوىّ شوكتنا، يمكننا أن نستعد للحرب، لتثبيت حقنا و استقلالنا عمن جاورنا، وفرض سلطتنا عليهم إن تمكنّا من ذلك"

استقرّت مملكة سوني ونمّت وازدّهرّت، بكفاح شعبها الصغير، وتجمع جيشها ليخوض أولى الحروب، التي تقرر مصيره بشكل نهائي وحاسم.

لم يخال أحد أن هذه الحرب القاسية، التي منذ بدايتها، قلل فيها الجميع من شأن سوني وشعبه ستنتهي يوما!

وضعت الحرب أوزارها؛ بانتصار سوني على آخر مملكة، تبقت من الممالك الصغيرة حوله. كان قد ضمها إليه، وعيّن على كل واحدة منها، ملكاً من أقوى عشائرها، حاكماً من قبله، وتحت سلطانه يساعده طاقما من عشيرة سوني المالكة!

أصبح آري سوني مهاباً ومطاعاً.. وهكذا نهضت مملكة الحلفاء، من غياهب تاريخ مزّقته المحن والعداوات والتآمر!

قال ود الباهي:

"إذا كانت الجبال (كما قال آدمو) وقد وفرّت الملجأ الضروري؛ لمملكة الجبل والوادي. فإنها أيضاً قد حجبت بداياتها!"

أكد ود الخزِّين وهو يواصل ما أنقطع من حدِّيث بعد أن قلب حسن شريط الكاسيت على الوجه الثاني..

مرّت عشرات السنوات بل المئات منها، وربما عدّة قرون (كما يزعم آدمو عندما تنتابه نزعات تطرّفه الخاصة جداً).. مرّت هذه الفترة الطويلة من ذكرى الأسلاف الكبار: آري سوني و آري بنقا و آري دودو.. الذين أصبحت ذكراهم أصداء متلاشيّة، لماضٍِِ عميق الغّور!

مرّت مئات السنوات الأُخرى، لتندثر ذكراهم تماما فلا تنبعث، الا في الكشف الأثرِّي بجلابي ودعرّبي..

هذا الكشف الذي استقت منه المخطوطة السرّيّة، تفسيراتها لوقائع ما يجري. الجذور التاريخيّة، التي تنهض فيها هذه الوقائع والأحداث!

هذه الأحداث التي يعود نموذجها؛ لا في ذكرى الأسلاف الأوائل فحسب، بل في مرحلة لاحقة.. في ذكرى الكيرا (كما عرِّفها آدمو)؛ التي نهضت بأسرتها من جذور هؤلاء الأسلاف الكبار.

وأصبحت ذكرى الكيرا نفسها، كأصداء متلاشيّة لأُسرّة ملكيّة، نهضت في الغرّبة والترحّال..

ضربت بجذورها عميقا، في أرض الوادي، وشيئا فشيئا توسعت المملكة، خلال التحركات الملكيّة، وبسطت سلطانها من الصحراء الليبية، حتى حدود النيل. يقودها الأب المؤسس لهذه المرحلة والفاتح العظيم آري سولونق.

قبل ذلك بوقتٍ طويل، في فجر تاريخ البلاد الكبيرة، كان سوني قد شيّد قصرِّه على غرار قصوِّر أسلافه.. قصراً مهيبا بقاعدته الواسعة وحجراته المتداخلة في بعضها، وأبهاءه العديدة، التي جلب لها المثّالين والبنائين من الممالك المجاورّة.

شيدوها بإحساساتهم الجياشة، ونحتوا فيها النقوش، التي تصّوِّر الايام الآخيرة لمملكة الجبل والوادي، وآريها في النزع الآخير، وقد إلتف حوله أبناؤه الثلاثة.

نحتوا تاريخ المملكة البائدة بمحبة وود شدِّيدين، كانهم ينحتون تاريخ محبوباتهم..

كان سوني طموحا، يتطلع لإعادة بناء مجدٍ مفقود كضياء النجم الغارِّب. جلس الى حلفاءه، الذين أستهل أحدهم الحدِّيث:

"لقد شيّدت مملكة عظيمة؛ وسوف تزداد عظمتها كلما مضت الأيام والسنون"

"تذّكروا دائما أنها ليست مملكة سوني وحده؛ فهي مملكتنا جميعا. فدونكم لما استطاع سوني فعل شيء وحده"

استحسن ملوك الحواضر كلامه؛ فاندفع أحدهم قائلا:

"كلنا فداء لك أيها السلطان العظيم؛ آري سوني"

صفق سوني بيديه ونهض قائلا:

"أعدوا مجلس الخمر والطعام"

أسرع العبيد والخصِّيان، الى القاعة المجاورة. نهض خلفه ملوك الحواضر. كانت رائحة الطعام الشّهي، ونكهة الخمر المغرّيّة تضوّعان، في فضاء القاعة، السابحة في العطر البّرّي..

تفرّق مجلس سوني، بعد أن تداول أحوال المملكة وهموم شعبها، وتوسيع تجارتها وزيادة رحلات القوافل وتدريب الجيش..

وقتها في مملكة ساورا، كان بنقا قد جمع رجاله وقسم بينهم الحواضر و (الشرتايات) (7) و (الدماليج) (8)

 

تفحص رجاله مراراً وتكراراً؛ واحداً تلو الآخر ثم قال:

"ستكون أنت ملكاً للحراب، وأنت للسيوف.. وأنت للمدى ّ التي تُرمى، وسيكون ثلاثتكم.. كل واحد منكم مسؤول عن حاضرتين. أُريد منكم، أن تحكموا كما كان الحال في مملكة الجبل والوادي.. مملكتنا العظيمة التي قضى عليها الوباء وموت والدنا آري"

ثم أطرّق بنقا قليلا، قبل أن يُضيف:

"وأنت ستكون ملكا للحصاد، وأنت للقوافل، والجبايات.."

"أمرك آري.. لكن ملك العبيد والخصيان.."

"أعلم ما تُريد قولّه. هو أيضا ملكا للقضاة"

"سنكون طوع أمرك آري العظيم"

"تذكروا أن الجيش مسؤوليتكم جميعا، وأنكم أنتم المملكة.. دونكم لا وجود للمملكة"

 

8

عندما أنهى دودو في مملكة الجوار تشييده لقصره، شرع في احتفالات التنصّيب، مقرونة باحتفال زواجه من شقيقته لاروي..

استمرّت احتفالات المناسبتين السعيدتين لأيام. جعلت الناس متنازعين بين مشاعر متناقضة بين الفرّح والحُزن، و الإحساس بالخطيئة. فقد مرت عقود عديدة، منذ توقفوا عن زواج الاقارب، حتى لم يعد مألوفا الآن!

وما أن علِم دودو بمعارضة بعض أفراد العشيرة الملكيّة، لهذا الزّواج الذي خرّق العُرف ولم يجرؤ أحدهم على قول ذلك، مباشرة لآري دودو، حتى اختفى هؤلاء المعارضين في ظروف غامضة! دون أن يُعثرلهم على أثر بعد ذلك أبداً!!

 

9

جلس دودو وزوجته الصغيرّة الجميلة (إياباسي) (9) لاروي، في قلب المخدّع الملكي الواسع الوثير.. قالت لاروي:

"يكفينا أن نخرُق العُرف مرةً واحدة"

"وما جدوى كل ما فعلناه اذن؟!"

 

10

مرّت عشرات السنوات، على ذكرى الأسلاف الكبار: سوني، بنقا ودودو، فحكم شاو من سلالة سوني مملكة الحلفاء. وحكم حفيد بنقا دورشِّيت ساورا الجميلة، ومن سلالة دودو ولاروي جاء بولدِّين..

عندما نهض بولدِّين من مخدّعه، كانت إياكوري زوجته لا تزال تغطُّ في نوم عميق، تمعن جسمها الممتليء تسبقه أصابعه المتشهيّة.

كان جسمها يكاد يتدفق من السرِّير الوثير. سحب عليه الغطاء وخرج. ولج على الكهنة والشيوخ حجرة عملهم الواسعة:

"أنتم تعرفون أنني مغرّم بأسرار الجسد؛ أريدكم أن تكشفوا لي عن هذه الأسرار؛ لا تدعوا حيواناً دون أن تشرِّحوّه. أريد معرِّفة كل وظائف جسمه:

ومضى يجلس على (الكّكّر) (10) بعد أن طلب العبد العملاق القصير نمرود:

"أنت جديد في خدمتي. سأُجربك بأول مهمة. اذا نجحت لك مني كل ما تحلم به؛ وإذا فشلت فلن تستطيع تصّور، مدى بشاعة الميتة التي أُعدّها لك!"

  • ... …"

"ستمضي أنت وأعجوبة إلى مملكة الحلفاء.. أعجوبة تعرف كل شيء"

 

11

عندما وصل النمرود بأعجوبة الى مملكة الحُلفاء، وضعا رحلهما ريثما يُهيء لها النمرود مكاناً بقلب الحاضرّة، بين الفواشر (11) و القصر الملكِّي..

 

12

كبرقٍ يخلخِّل كيميائهم، فوجيء أهالي الحاضرّة بالجمال المذهل لاعجوبة! هذا الجمال الذي أنتزع عيونهم من محاجرها، وقلّب حاضرتهم رأسا على عقب!

أُصيب البعض بالجذب، وغرق آخرين في الشعر والغناء، حتى ماتوا ولهاً وصبابة.. حتى أن الكهنة ارتبكوا، وشعروا باحساسات لم يسبق لهم الشعور بها!..

كان جمال أعجوبة، شيء، من ذلك النّوع العجيب، من الجمال الشرِّير!..

تسآل قادة الجيش، الذين قهرّهم دلالها وسحرها، وداعبت ملوك الحواضر أحلام، جعلتهم في بللٍ مستمرْ، فسأل الملك عن سر هذا الاسم، الذي يتردد في الأُغنيات والأشعار، بل و متسربا أغان الحصّاد، وتجليد النحاس وعيد الجلوس على الككر، وشعائر الرجولة وذكرى الحلف المقدّس، وأُغنيات الحداد الجنائزي، على مملكة الجبل والوادي، وموت آري بالوباء الغامض!

"أعجوبة؟ يا له من إسم!"

تسآل آري شاو وآثر السلامة. رفض رؤية أعجوبة عندما رغب ملك العيون أن يأتي بها إليه..

تسآل الشرتايات والدماليج، وأخذوا يتسلّلون خفيّة من خلف ظهور ملوك الحواضر و (الكامني) (12) ليمتعون أبصارهم برؤيةِ أعجوبة، ويمضون وقتهم الموتّور، في مصِّ الشفاه اليابسة، على ضوءِ نار الحطّب، التي تتوّسط ساحات بلداتهم وقراهم، وهم يتسامرون مع الأهالي، الذين لا يُصدّقون ما يسمعون!

"كيف لم تبق ِ بوجدان الرِّجال شيئا لآخريات؟!"

"أنه ما يحدث لكل من يراها يا خَيّ!"

أصبح مجلس عجوبة؛ عامراً بكبار القوم الذين يتقربون ُزُلفى.. يتزلفون دون حياء..

كانت النيران قد اشتعلت في قلوبهم، وهاجهم الوجد، وقضّ مضاجعهم الإشتياق، الذي أقلق منامهم برِّيح الصّبا، التي تجيء من الحكايات البعيدة، خلف "بحر مالِحْ"..

قال النّمرود:

"لن يلبثوا أن ينقضوا عليك عجوبة؛ فلن يحتملوا أكثر مما احتملوا من إغواء.. أرى ذلك في عيونهم!"

"وماذا ترى؟!"

"يكفي ما أثِّرناه فيهم.. لقد وضعنا أساس الخلّل.. يجب أن نهرب لتأتِ هند ودعد، تنجزان ما تبقى من المهمة"

"أنسيت تهديد آري؟!"

"فعلنا ما هو أكثر من المطلوب!"

 

13

ومثلما جاء بها النّمرود فجأة. فوجدها النّاس بينهم على حين غرّة، ودون سابق إنذار، اختفى بها فجأة، فأصبح النّاس وكأن أعجوبة لم تكُن بينهم قبل ليلة واحدة!..

اختفت أعجوبة مخلفةً وراءها الحكايّا الأُسطوريّة، والأشواق العارمة الملتهبة! وأقسم قادة الجيش وملوك الحواضر، بأنهم سيفترسونها دون إبطاء، لو وقعت أعينّهم عليها مرة أُخرى!..

 

14

تنهد ود الخزِّين وحاول أن يُكمل، فقاطعه صوت ود الباهي:

"ما فعلته أعجوبة بالناس لا ينمحي، من ذاكرّة التاريخ"

"أيُّ تاريخ، وأيُّ ذاكرة؟!..التاريخ الرّسمي؟!"

خرج صوت شاو متحشرجا من أعماق حُنجرّة ود الباهي، وهو يخاطب خصِّيه الأول:

"سمعت بجارِّية بديعة، بهرّت النّاس؟"

"إنها امرأة ظهرّت فجأة. أشعلت النيران وأختفت!"

"كيف أختفت؟"

"لا ندري .. كل ما حدث أننا اكتشفنا فجأة أنها لم تعد موجودة.. ربما عادت من حيث جاءت"

"دون سبب؟!.. لابد أنكم لاحقتموها جميعكم، وهي مجرّد إمرأة وحيدة.. أخبرني ملك العيون"

انصرف الخصِّي الأول متعجبا من أطوار شاو الغريبة، فيما كان (كتركوا) (13) يدخل على مجلس دورشِّيت في ساورا البديعة:

"أحد التجار جاء بجاريتين لم نرْ من هنّ في مثل جمالهنّ البديع من قبل!"

رد عليه ملك القوافل:

"أعتني بهما ثم أحضرهما بعد ذلك إلى آري العظيم"

التفت آري الى ملك الخيول:

"هل تمّ عدد سائسي الخيل؟"

"نعم آري العظيم. وأشترينا المزيد من الجياد الأصيلة"

"فرساننا أشداء. يستحقون جياداً كريمة. أخبر ملك القوافل بأن يأتيك بالمزيد. أُريد جيشا لا يُقهر"

"لسنا بحاجة لمثل كل هذه الإعدادات آري"

"أنا من يُحدد ما نحتاجه وما لا نحتاجه، فلا تنس ذلك مرةً أُخرى"

أخيراً خرج (الأُورنانق) (14) عن صمته:

"يجب أن نكون أقوياء"

خيّم صمت عميق على قصر بولدِّين، الذي كان لحظتها جالسا على عرشه، وأمامه تلمع ثمانية عيون ببرِّيق عجيب، بين الشرّاهة و الأحلام المحلِّقة.

قلّب بولدِّين عينيه متفحصاً المشاعر، التي تبوح بها العيون الثمانية المتغوِّرَّة، في الصّمت العميق الذي لَفّ المجلس. زفرّ بعمق:

"تدركون تلك الحكاية.. حكايتنا.. كيف تفرّق شعبنا الواحد و انقسم إلى ثلاثة شعوب منذ عشرات السنين.

لقد أورثنا الجد الأكبر دودو وخلفائه مهمّة صعبة. مهمّة توحيد شعبنا مرةً أُخرى!"

قالت ماريانا:

"أنجزّت أعجوبة جزءً من المهمّة"

"لكنها لم تشعل النّار في قلب آري شاو.."

قال عبد اللّه الجُرهمي، وسألت ماريانا:

"أين عجوبة الآن؟"

ردّ الجُرهمي :

"بصُحبة إبنتيها الكنداكة وسابا.. إذ لم ترهما منذ وقت طويل"

فتساءلت ماريانا مرة أخرى بضيق:

"لماذا لا نقنّع ساورا والحلفاء بمهمّة آري؟"

خرج آري بولدِّين عن صمته:

"لقد فاوضتهم كما فاوض أجدادي أجدادهم، الذين يأخذون على الجَدِّ الأكبر دودو ما حلّ بهم من فرقة وشتات، ويقولون أن شعبيهما لم يعودا ذات الشعبين الذين رحلا من مملكة الجبل والوادي.

يقولان أنهما الان شعبان مختلفان مثلنا.. اختلطوا بالنّاس الذين وجدوهم والذين جاءوا إليهم..

تحدث فوك الذي كان صامتا منذ جلسوا الى آري بولدِّين:

"ليس أمامنا الآن سوى الحرب"

"لا، الحرب هي المرحلة الأخيرة، فهما مملكتان قويتان.. ربما أقوى منا"

تسآلت العيون كلها، فأجاب آري بولدِّين بابتسامة خبيثة:

"أنت ماريانا. و.. فوك ستذهبان معاً إلى ساورا. ستشغلِّين أنت آري دورشِّيت، وتصرفينه عن هموم القصر والناس.

وأنت فوك عليك بتغيير مزاج الناس واهتماماتهم. هناك آخرين كُثُر سيساعدونكم. بعضهم تعرفونهم (ربما) وبعضهم لا تعرفونهم!"

ثم التفت آري ناحية عبد اللّه الجُرهُمي:

"وأنت منذ الآن أيها الجرهمي، محض تاجر يسرِّي عليك اسم التاجر، أكثر من أي شيء آخر.. تتنقل بين الحواضر الثلاث بقافلتك، تنقل أخبار العيون الينا و أوامرنا اليهم"

"أود أن.."

"أفهمك. سترحل أعجوبة إلى الحلفاء، ولن تعود مرةً أُخرى إلا بعد إنجاز المهمة كاملة"

"ابنتيها صغيرتين بعد؛ وقد أثر غيابها فيهما"

ستحملهما معها هذه المرّة"

لم يستطع عبد اللّه الجرهمي النُطق ببنتِ شفة. انفضّ المجلس، وما أن ابتعد الجرهمي حتى أوقفه صوت هند. انتحت به وهمست في أُذنه:

"انجِ بنفسك.. أعجوبة ستقتلك!"

"ماذا تقولين؟"

'أنها تخدعك.. تخونك مع العبد النّمرود!"

وحكت له الحكاية.. منذ تلك اللحظة العاصِّفة في المغارّة، التي بسفح التّل الصّخري عند جرف الوادي، حتى لحظة هربهم. وجاءت دعد لتؤكد له الحكاية:

"أنت ابن عمنا مهماً يكُن من أمر، ولا نريد لك الموت أو الأذى بسبب عاهرة أسلمت قيادها لعبد.."

قاطعها بغضب وجسمه يرتعد:

"سأقتلها.. سأقتلها"

"سيقتلك آري بولدِّين، ولن تهمه إفادتك عنهما.. لا يهمه لذا سيقتلك فهو يعتمِّد عليها في تحقيق حُلمُه بضّم مملكة الحلفاء وساورا و الرأي عنّدي أن تهرب ببنتيك"

أطرق قليلا ثم قال بعد تردد:

"كيف وهي لا تفارقهما؟!"

"سنساعدك في ذلك"

بدى الجرهمي مجروحا ومخترقاً إلى أقصى حد، حتى أنه لم يقوى على المشي فانهد على الارض كجبل.

 

15

أخذ شاو يحكِّي عن الجد الأكبر سوني، وهو يُشيد مملكته، من عذابات الرّحيل وأسى الغربة والفرقة والشتات، لتترابط وتتوحد وتقوى بوجه الأعداء..

"لقد أورثنا سوني العظيم مملكة عظيمة علينا أن نحافظ عليها"

قال شاو، ففهم الحلفاء ما يرمي إليه، فالبلبلة التي اشاعتها أعجوبة في صفوفهم، كانت محور مجالسه. نظروا الى بعضهم البعض. وأطرقوا رؤوسهم. قال أحدهم:

"سيظل حلفنا خالداً أبد الّدّهر"

قال شاو :

"إنما جمعتكم الليلة لتجديد الحلف"

فتدخل آخر:

"لدي أمر كنت أود أن اطرحه"

  • ... ... …

"نحن حلفاء لساورا منذ كوّن الأجداد هذه المملكة العظيمة. وساورا يفصل بيننا وبينها مملكة الجوّار؛ وهي مملكة لا تقل عظمة عن ساورا"

أطرق شاو حفيد الجد الأكبر سوني قليلا، ثم قال:

"ربما حكى لكم أجدادكم عن الجوّار. فهي المملكة التي أسسها دودو شقيق جدّنا الأكبر. ودودو وخلفائه لا يتحالفون مع أحد مثلنا. فهم دائما يطمعون فيما بيد غيرّهم"

أضاف أحدهم:

"أغلق دودو أبواب العشيرة الملكيّة دون الإختلاط بشعب الجوار. وظلوا يستولدون في هذه العشيرّة المنهكة"

أكد السلطان:

"تزوّج دودو من شقيقته الوحيدة لاروي، ومنهما تحدرّت هذه العشيرّة الملعونّة، التي ظلّت تحكم الجوّار"

"أنهم ليسوا أهلا للثقة"

"ويعبدون القِّط"

"رغم انغلاقهم على أنفسهم، غلب عليهم دين الشعب الذي وجدوه في الجوار وحكموه، بعد أن تركوا عبادة الكبش المقدس"

 

16

استقبلت ساورا يومها المعتاد بنشاط النحل وهمته. دلفت إياكوري إلى مخدعها؛ لتجد آري لا يزال يغط في نوم عميق. جلست تنتظره لوقت طويل، إلى أن فتح عينيه بتثاقل، فابتسمت في وجهه:

"هكذا أنت دائما"

جذبها إلى أحضانه:

"ومن الذي جعلني هكذا؟!"

دخل كتركوا:

"هيأت لك الحمام آري"

نهض آري وهو يقول:

"هيء إياكوري أيضا"

فهتفت به:

"ليس الآن.. ليس الآن.."

ابتعدت خطوات آري، فقالت إياكوري تخاطب كتِركوا:

"ما هي أخبار المحظيات.. محظيات آري.. وجواريه؟!"

"أنت تعرفين كل شيء أكثر مني"

قالت في غضب:

"أجب فقط"

"أنه يقضي أكثر لياليه معك. لا تستطيع أيُّ جاريّة أن تأخذه منك"

ابتسمت إياكوري في صمت ثم صرفته بإشارة من يدها.

 

17

حمل بولدين مولوده الصغير من إيابا سي. تمعن وجهه وهمس:

"سيكون لك شأن عظيم، كجدّك دودو بني" وضع المولود برفق على صدر أمه، التي ابتسمت في عذّوبة، وأغمضت عينيها في دِّعة واطمئنان.

خرج بولدِّين.. عبرممراً طويلاً. وقف في نهايته ودخل واحدة من الحجرات، استقبلته هند بالأحضان:

"غبت عني حتى خلتك نسيتني"

"لقد انشغلت بولادة الصغير"

"إياباسي تنسيك كل شيء"

ردّ في غضب:

"أنت تعلمين أنني لا أُحب أن يتحدث عنها أحد"

"إنني أُحبك"

"بل تخافين منِّي"

حدقت هندْ في عمق عينيه؛ وانسحبت إلى ذكرّى بعيدة.. ليلة هربت وشقيقتها دعدْ مع أُختهما أعجوبة، وخطيبها عبد اللّه الجرهمي..

كان الرُّعب يقود خطواتهم، ويقفز بقلوبهم خارج أقفاصها. لم تهدأ نفوسهم إلا عندما وصلوا مملكة الجوار.. تقدّم الجرهمي من أحد النّاس:

"دلني على قصر السلطان"

وقتها كان آري بولدِّين يجلس وحيداً.. مطرقاَ برأسه في تفكير عميق، عندما هتف بهما الحاجب:

"ادخلوا"

 

18

بينما اجتمع فوك بماريانا كان التاجر، الجرهمي يهمس في أُذُن أعجوبة:

"يجب أن نعود إلى موطنّنا.. هناك حيث الجبال.. جبال البحر الكبير"

"كيف نعود وأنت تعلم ما تعلم عن عشيرتنا! سيقتلوننا"

"مشكلتنا مع الملك وليس مع العشيرة"

"لكنه الآمر الناهي!"

"كان ينبغي أن نبقى.. ونعالج الأمر. يجب أن نعود. لقد أخطأنا بالهروب"

"ومهمتي في بلاد الحلفاء؟"

"انسي كل شيء.. لا شأن لنا بهذه الأمور"

"لا استطيع بعد كل ما فعلت. ولا أضمن البقاء على قيد الحياة. لم يعد الأمر بيدي، وليس سهلاً سهولة هرّبنا من ديارِّنا"

 

19

قال الكاهن الكبير:

"لقد صنعنا هذا السائل الشفاف، من عصِّير بعض النباتات النّادِّرة ومزجناه بسائلي القِّط والفأر"

أخذ آري بولدِّين يتفحص الحيوان الصِّغير، المسلوّخ الممسوّخ الرأس دون أن يُعلق.

"لقد كررّنا الأمر أكثر من مرّة.. أنه لا يستمر في النّمو"

ظل صامتا..

"لن نألوا جهداً آري حتى ننجح"

 

20

لاحظت أعجوبة التغييرات، التي أخذت تطرأ على عبد اللّه الجرهمي، ولاتدري لها سببا.. فانتابتها الشكوك.. افترقت عن النّمرود الذي أوصاها بمراقبته، و ما أن وطأت أقدامها عتبة الكوخ حتى فوجئت بالجرهمي الذي داهمها بالسؤال:

"أين كنت أعجوبة؟!"

"طلبني آري لأستعد للرحيل إلى مملكة الحلفاء"

تفكّر قليلا:

"أُفكر في العودة الى الدِّيار وحدي واقتسام الملك مع أخي"

"سيقتلك. إنها علاقة دّم"

"العرش لا يعرِّف علاقات الدّم"

"العرش يقوّى بعلاقات الدّم.. ثم خير لي أن يقتلني أخي من أن اقتل هنا في ديار غريبة!"

"لم أعد أفهمك! ما الذي تخبئه عنِّي؟!"

كان الجرهمي قد تأكد من صِّحة مزاعم هندْ ودعدْ، حول علاقة عجوبة بالنّمرود وحاول أن يستجيب لنصيحتيهما. بمقاومة الأتون الذي يعتمل في دواخله..

و اخيرا قرّر أن يهرب ببنتيه التؤام (سابا والكنداكة)، ما أن تحين له الفرصة المناسبة..أبعدّت أعجوبة بصرِّها عنه. قال:

"ماذا عن شقيقتيك؟!"

"ما بهما؟"

"هل طاب لهما المقام هنا؟"

"لا يهمني.. لم تعودا أُختاي اللتين أعرفهما.. حوّلهما بولدِّين إلى عاهرتين تخصّانه"

كان الجرهمي يخطِّط للهرّب الى مكان لا يعرفه فيه أحد. انشغلت أفكاره بتؤامتيه الصغيرتين؛ حتى لم يتمكن من النوم، الى أن دهمته من أثرِّ الأرق والإرهاق غفوّة.

 

وعندما صحىّ انتبه لغياب أعجوبة، ثم أخبرته جاريتها أنها رحلت مع النّمرود في الفجر، الى مملكة الحلفاء وتركت له واحدة من تؤامتيه..

كانت أعجوبة قد اطمأنت على صغيرتها التوأم سابا.. ألبستها أيقونة منقوشة بدقة.. لفتها جيدا بالقطن والكتان.. حملّت الكنداكة برفق ونادت جاريتها:

"اعتني بها جيدا"

ثم التفتت إلى النّمرود:

"لنرحل الآن"

"والجرهمي؟!"

"تركت له إحدى تؤامتيه.. سيدبر أمره"

"إنها قسمة عادلة"

"لابد أنه سيعود إلى ديارنا"

وابتلعت غلالة الفجر الضبابية في حشيتها النّمرود وأعجوبة..

كانت أعجوبة لحظتها، تكرر ذات قصة هروبها من ديارها، في ذلك الليل البهيم..

عندما نمَّت أعجوبة وترعرعت. وأدركت أن عشيرتها لن تتركها تتزوج من النّمرود، الذي تفتحت وردتها عليه ذات عاصفة وزمهرير. جاءته:

"ليس أمامنا سوى الهرب"

أطرق الفتى العملاق. وبعد صمت عميق أجاب:

"سيلحقون بنا ويقتلوننا. الرأي عندي أن أتقدّمك إلى مملكة الجوار.. لن يلحظ أحد اختفائي سريعا، سأبقى و أنتظرك هناك الجرهمي يحبك. (إملأي رأسه) ليهرب بك، وسنرى بعد ذلك في أمرنا وأمره ما يكون"

كانا يتحدثان خلف أحد أعمدة البهو الكبير؛ في القصر الملكي. لم يلحظا هندْ ودعدْ اللتان كانتا تراقبان أعجوبة، وتصطنِّتان إلى حديثها مع النّمرود..

اختفى النّمرود صبيحة اليوم التالي. ولم تمض أيام معدودات، حتى ملأت أعجوبة رأس الجرهمي، فتعارك مع أخيه الملك الشّرِّيف.. فيما كانت هندْ تهدِّد أعجوبة. أنها ودعدْ تعرفان كل ما خطّطت له مع عبدها النّمرود، ولن تدعاها تهرب مع الجرهمي دونهما.. وإن فعلت أو حاولت خداعهما، سيكشفان للجرهمي أمرها.

عبأت عجوبة الجرهمي وأقنعته، بأن أخيه الشريف يتآمر لقتله، حتى يخلص له الملك و يصفوّ له الجوّ فيتزوجها دونه، وأنهما يجب أن يهربا.

"لن أترك هندْ ودعدْ خلفي. لا أطمئن عليهما هنا دوني"

"لا أعجوبة. إنهما في أهلهما لن يحدث لهما شيء"

"لا.. لا أستطيع فنحن يتامى لا أحد لنا سوّى بعضّنا البعض"

وبعد جهد جهيد تمكنّت أعجوبة من إقناع الجرهمي. ومضيا ُيخطِّطان إلى أن حانت الفرصة المناسبة فهربا إلى الجوار..

كانت أعجوبة في أشدّ الإشتياق للنّمرود. ُتمنِّي نفسها باوقات مختلسة معه. هنا في الجوار.. فكانت طوال مسير الهرب، إلى الجوار تتأوه كلما وضعا للراحة الرحال، وتتنهد عندما تطأها الأشجان كما تطأ الأقدام جسر عتيق منهد:

"آه يا نمرود يا غرّة عينِّي.. وشغَّاف قلبي"

 

21

ما أن استقر المقام بفوك وماريانا بمملكة ساورا؛ حتى شرعا يُنفذّان خُطة بولدِّين ملك الجوار. استطاعت ماريانا انتزاع آري من محظياته وجواريه، وأجهدّت نفسها كثيرا لإنتزاعه من إياكورِّي..

كانت تسلُّب لبه بما تعلمته من أفانين في قصر الجوار.

أختلَّت مواقيت آري، وأخذت اهتماماته بأحوال المملكة، وشعبها تقل شيئا فشيئا.. كانت السنوات تمر، والأشياء تتبدل شيئا فشيئا، فيما كانت على الجانب الآخر، الكندّاكة تكبر وتتكوّر. ُفتجدِّد أحلام القادة بأعجوبة، التي ظلّت تشعِّل مواجدهم..

 

22

كان التاجر عبد اللّه الجرهمي، قد أدرك أنه فقد طفلته الكنداكة الى الأبد. فحمل سابا توأمتها ومضى إلى أن وصل طريق الملح، فقصد مالحة.

حمل الجرهمي حقده و (غبينته)، و تسلّل في ليلٍ بهيم، مخلفاً وراءه هروب أعجوبة، التي هربت مثلما هربت سلفها سوبا، من زوجها الصياد! ومثلما هربت بناتها اللاتي تحدّرن من صلبها من أزواجهنّ، ومثلما هربت شقيقتيها هند ٍ ودعدْ إلى ساورا..

 

23

إنه الحنين إلى الدّم.. دّم آخر في النار والشفق.. لا يقوى وجدانه على احتماله. دّم ينحدر من الجنّ الذين حبسهم سليمان في قماقمه.

كرّس عبداللّه الجرهمي حياته لصغيرته سابا، التي طبعّت العزلة حياتها فوسمتها بالإنطواء والانزواء. لاتنشرِّح إلا وحدها في الجبل. تأنس بصديقات لا يراهنّ أحد.. صديقات تراهنّ وحدها..

وفيما عبدالله الجهني وابنته سابا غارقافي في عالمهما الجديد، كان فوك وقتها ينشط في استقطاب شباب ساورا، يطلعهم على فنون لا يعرفونها في قاعة اتني الفسيحة، التي شيدها بعد أن أستأذن آري.

زينها بالزخارف والنقوش، و رَصّ عليها طاولات، من عروق الشجر. ودِّكك من الحجر الرَّملي وعروق الجبل.

 

ألحق فوك أتنّي بسلسلة من الأكواخ، التي جلب لها الجواري الحسان من الجوار، ليسكن اليهن مرتادي أتنّي.

وظلّت غرفة فوك المُلحقة، بأتنّي مغلقة دون النّاس، لا يدخل فيها إلا خاصته من قادة الجيش وملوك الحواضر والملوك المحتملِّين.. يجلس إليهم ويحدِّثهم عن الأولين والآخرين، ويُهيء لهم الأكواخ لقضاء متعتهم، ويهديهم الجواري اللواتي تعجبهم، ليرحلن معهم الى حواضرهم وقصورهم..

قد يأتي فوك أحياناً بشباب ساورا المميزِّين إلى غرفته الساحرة يسقِّيهم الخمر، ويمضي بهم إلى غياهب، يخرجون بعدها منهكين متألمين!

 

24

سأل التاجر الجرهمي الصّبي الصغِّير، الذي ظلّ يحدِّق في القافلة:

"ما أسمك؟!"

"سورِّنق"ْ

"هل ترغب في أن تصبح تاجراً؟!"

"لا.. أرغب في ارتياد الآفاق البعيدة.. اريد ان اصبح أري ساورا"

"عندما تكبر قليلا ستمضي معي"

"شارفت على سن الرجولة"

"إذن بعد أن ُتجرى لك شعائر التدريب الرّجولي"

انتسجت في فكر التاجر الجرهمي خواطر مبهمة. فراسته تفيد بأنه سيكون لهذا الصّبي شأن في مملكة ساورا.. هذه المملكة اللعينة التي فقد بسببها زوجته، وتوأمه الكنداكة، فتيممت وتوحدّت الصغيرّة سابا وتوحشّت في وحدة التي بلا أنيس!

"إذن تريد أن تحكم ساورا"

"نعم"

"الجوّار لن يتركها لك"

"وما شأن الجوّار بساورا؟!"

"ثأر قدِّيم.. اسمع كلامي كي تنتصِّر على الجوار"

"سأسمعه"

"سأعدِّك إعداداً جيداً لن نتركه يحقق حلمه أبداً"

"ألا تأخذني معك الآن؟!"

"لا تتعجل الأمور، لا يزال هناك وقت كاف.. فقط اكتم الأمر بيننا"

بعدها ببضعة سنوات مضى سورِّنقْ إلى دالي الذي دهمه:

"لقد قررّت أن أرحل سورِّنقْ"

"إلى أين؟!"

"لا ادري وجهتي.. سأمضي إلى أي مكان"

"وساورا؟!"

"آري يقودها إلى الدّمار. سآتي لإنقاذِّها يوماً! أنا لا أُريد أن أحكم سورِّنقْ. التعاليم هي التي يجب أن تحكم.. هناك هاتف يناديني سوِّرنقْ"

"إذن تريد أن تمضي لتتعلم المزيد؟!"

"أُريد أن أتأمل لأرى ما يجب أن أراه.. سأمضي سائحا في البرّاري، لتكتمل أفكاري لأجل ساورا العظيمة"

"ستجدها خراب عندما تعود!"

"لكنك ستنقذها. أنت من ينقذها سورنق!"

أطرق سورِّنقْ قليلاً:

"أنت إذن تتنازل لي عن عرش لم تملكه بعد!"

"العرش لمن يختاره شعب ساورا"

"سيختار من العشيرة الملكية"

"أنت من العشيرة الملكية"

"من جهة أُمي فقط! يجب أن أرحل معك"

"بل ستبقى وإن أردت سترحل وحدك؛ فأنا راحل وحدي"

وأفترقا…

 

25

أصبحت الكنداكة الفتاة الفارعة، ذات الجمال المجنون، والجسد المتمرِّد سلطة قابضة، يزورها الملوك وقادة الجيش، أكثر مما يزورون سلطانهم.. محمّلين بالهدايا الثمينة والأحمّال الغالية.

كانت تستقبلهم جميعاً، ثم أدّعت ضيق المكان، بعد أن جعلتهم يدمنونها. فأمر أحد قادة الجيش ببناء قصر بديع لها. لا يضاهيه سوى قصر آري..

"أُريد الزّواج من الكنداكة"

قال القائد فردّت أعجوبة بمكر:

"اصبر قليلا فهي لم تصبح إمرأة بعد"

"لكنها بسن الزّواج!"

"ذلك لأن جسمها الفارع، نضج قبل أوانه، لا يخدعنّك الجسد. فلجسد المرأة معجزاته. لا تزال البنية صغيرة!"

"سأصبِّر لشهور قليلة فحسب"

"لا نريد أكثر منها"

أحاطت الكندّاكة قصرّها بالعبيد والخصّيان، وصارت تحدد مواعيد متباينة، لزوارها حتى لا يصطدِّمون ببعضهم البعض.. قالت أعجوبة لآري:

"قادة الجيش.. كل واحد منهم يريد الحصول على الكنداكة؛ وأنت الوحيد الذي يستحقها؛ فهي خادمتك التي تحبك، ولا تستطيع القبول بأحدهم إلا بعد معرفة ردّك"

قالت ذلك فيما كانت ترميه بنظرّة أورثته ألف حسرّة.

"وأنا أُريد الكنداكة"

"لقد قلت لهم أن السّلطان يريدها (أعذرني يا مولاي) فهددّوا بقتلها وقتلي"

مضت أعجوبة، تاركة آري خلفها يتميز من الغضب، ثم لم يلبث أن جلس متفكر، إلى خواصه؛ فيما كان، قائد الجيش يلحق بالكندّاكة:

"يجب أن نتزوج الآن"

"لكنك لم تكمل تدريب عبيدي وخصّياني"

"بل فعلت"

"أعني الجدد"

"في كل مرّة تأتين بالمزيد من العبيد والخصّيان. ماذا تريدين أن تفعلي بكل هؤلاء؟!"

"أُريد أن أحميك وأحمي نفسي من السلطان؛ والملوك الآخرين"

"كيف؟!.. ما الذي يجري؟!"

"سأُخبرك في الغدِّ عند مجيئك، فأعجوبة الآن متوعكة قليلا!"

وبالفعل كانت أعجوبة في النّزع الآخير لحظتها.. فيما يبدو أن أحدهم في قصر أري، قد قرر التخلص منها، فدّس لها السُّم دون أن تستطيع الكندّاكة معرفته. قالت أعجوبة بصوت واهن حشرجه السم:

"تفرقنا عن بعضنا كندّاكة.. تركنا ديارنا.. وحرمنا أنفسنا من تؤامك سابا.. وكل هذا ثمن غال.. فلا تسلِّمي هذه البلاد للجوّار.. ان تحقق الُمرّاد.. ولا تكونِّي لأحد الرّجال فتضيعي مثلي"

حشرجت بكلماتها الاخيرة، ثم لفظت أنفاسها تاركة الكندّاكة خلفها تبكيها، فيما جيشها الصّغير الذي كوّنته من عبيدها وخصّيانها. كان لحظتها يدهم إحدى القوافل، بعد أن قتل كل من في قصر الكندّاكة، ممن طالهم الشك في دس السم لأعجوبة!..

قيَّد جند الكندّاكة كل رجال القافلة، ومضوا بهم إلى حيث كانت الكندّاكة تقيم..

كانت الكنداكة وقتها قد أنشغلت بأحزانها على أمها، رغم مضِّي أيام وأسابيع وشهور، مرّت كلمح البصر، دون أن تئد حدة حزنها. الى ان دخلت عليها واحدة من الجواري، فلملّمت الكندّاكة آلامها، وسألت في أسى:

"ماذا تريدين؟!"

"لقد مضى وقت طويل على أمر القافلة التي استولى عليها رجالنا، دون أن تنظري فيه"

نهضت الكندّاكة من مكانها، ومضت تتفقد

حجرات حبس الأسرى.

اشرع سورِّنقْ، الذي كانت السياط قد مزقت ظهرّه.. عينيه على آخرهما، في دهشة واسعة، ولم يعد يشعر بالألم وهتف:

"سابا؟!"

التفتت إليه الكندّاكة، التي بوغتت وفي ذهول اقتربت منه:

"ماذا قلت؟!"

"سابا.."

"هل تعرفها؟!"

"انها زوجتي"

"زوجتك أنت؟!"

قالت باستنكار؛ ثم أشارت الى العبيد، بان يفكوا قيدِّه ويحضروه الى مجلسها.. جلست تنتظره. أدخله عبدها (ميمون) كان ممزقا، نحيلاً، تغضّن جلدّّّّه، على خيوط الدّم المتجمدّة، التي تقيّح بعضها. دفعه ميمون بقسوّة .فعاجلته:

"والآن أحكِّي لي ماذا تعرف عن سابا؟!"

"تزوجتها من أبيها وليّ نعمتي الشيخ عبد الله الجرهمي"

"هل تعلم من أكون؟"

"لو لم أكن أعلم أنها وحيدة لقلت توأمتها"

"نحن تؤام بالفعل"

"لم تخبرني!"

"ربما لا تذكر، والجرهمي لم يخبرها"

اخذه العبيد إلى إحدى الحجرات. تركوه دون قيد، واعتنوا به. أحضرت له جاريتها ثوبا من القطن، لفَّ به صلبه وصدرَّه، وألقى ما تبقى على كتفه..

مكث سورِّنقْ في ضيافة الكندّاكة أسابيعاً وأيام؛ حتى شُفى،ّ وعاد أحسن مما كان. وقتها كانت الكنداكة تبحث الأمر مع ميمون. تحدثا طويلاً وتشاورا، ثم أمرت بإحضاره اليها.

"اذن انت من ساورا الهالكة، لا محالة؟"

"كيف؟"

سردت عليه الكندّاكة خطة الجوار، التي ظلّ آري بولدِّين، يعمل عليها بهدوء شديد منذ سنوات طويلة. فقال بغضب:

"يجب أن اخبرهم"

فختمت بحدة:

"اخبارهم فات عليه الاوان، ووحدك لن تستطيع عمل شيء"

"سأحاو ل"

اطرقت قليلا ثم قالت:

"و سأساعدك لكن بشرط"

"ما هو؟!"

"أن نتوحد بعد ذلك معا في مملكة واحدة، نحكمها ثلاثتنا. وتكون انت "الكامني: سلطان الظل" فما بيننا دّم، انت زوج توأمي ووالد عيالها"

فكر سورنق قليلا! لم يرقه عرضها، لكن لم يكن في وضع يسمح له بالرفض فوافق:

"قبلت"

أطلقت الكنداكة سراحه وسراح قافلته، وأعطته من عندها ثلاثة قوافل..

"انها لأجل سابا. أحكِّي لها خبري"

"لا محالة سأفعل"

كان سورنق قد قرّر، ألا يأتي على ذِّكر الأمر لسابا. سيكتفي بمناقشته مع الجرهمي فحسب.

مضت قوافله لأيام وليال وأسابيع عديدة، وعندما وصل الى مالحة، كان الجرهمي، قد مات. فكتم الأمر بعد نزاع يشتد ويخف في نفسه، فالكنداكة كما تقول فراسته، لا يؤمن شرّها! كما أنه لم يُرِّد تعديل أحلامه، بإضافة تفصيلات جديدة.

وقتها كان آري شاو ومملكته، يعيشان أيامهما الآخيرّة، إذ اجتمع قادة الجيش، وتحدّث أحدهم إلى ملك القادّة بغضب:

"أنت ملكنا وهيبتك من هيبة المملكة'

تطاير الشرّر من عينّي ملك القادة:

"ماذا تريد أن تقول؟"

"كل النّاس تقول، ان الكنداكة تعبث بك"

"لا أحد يجرؤ على العبث معي"

"ما قالته لك في أمر الزواج، قالته لغيرك"

"لم تخبرني العيون بشيء من هذا"

"لأنها وعدت ملك العيون أيضا"

نهض قائد الجيش في غضب، ومضى إلى الكندّاكة، التي جاءتها جاريتها ركضا لتجدها في أحضان ميمون.. فغرّت الجارية فاهها، لملّمت الكندّاكة نفسها بسرعة، وهي تصِّيح بالجارية في غضب:

"ما الذي جاء بك على هذا النحو، وفي هذه الساعة؟!"

"انه قائد الجيش.."

همست الكندّاكة في أُذن ميمون:

"أقتل هذه الجارِّية فهي لا تؤتمن، حتى لا يعرف القادة أنك لست خصِّيا، فيقتلونك ويقتلونني!"

نادى ميمون على الجارِّية، التي أدركت انها لا محالة هالكة، فالكندّاكة قلبها كأنه قُدّ من الصّلد. لا يعرف الرّحمة. والحجر يشعر وميمون لا يشعر.. إرتاعت الجارِّية:

"أُقسم أننّي لن أُخبر أحداً"

أطبق ميمون بيديه على عنقها. تلّوّت حتى جحظت عينّاها، مع تهشُّم سلسالها الفقري، تحت وطء كفيه الغليظتين!

 

26

عندما ذكر قائد الجيش الأمر للكنداكة، قالت له أن ذلك القائد تقدّم لخطبتها، فرفضته كما رفضت سواه، ولذلك يكِّيد لها.

فغضب قائد الجيش، وقاد عدداً من الجند لاعتقال ذلك القائد .. هاج بعض القادة .. فاعتقلهم. تدخل ملوك الحواضر، والقادة المتبقين. تدخل آري وأحتشدّت الجيوش ضد بعضها.

وقتها كانت الكندّاكة، على رأس جيشها تنتظر لتقاتل المنتصر.

 

27

صفق آري بولدِّين بيديه، وصاح بالحاجب.

جاء على إثر ذلك الكهنة والشيوخ والعيون. وما أن جلسوا حتى وجه بولدين حديثه إلى الكهنة:

"كيف تمضي الأمور؟!"

"لا زلنا نُشرِّح القِّط؛ لنكتشف أسراره. فهو حارس عالم الأموات وأسراره كثيرة"

أضاف آخر:

"ستحمل لنا الأيام القادمات أسرارا كثيرة"

تحدث كبير الكهنة:

"عبادة القِّط تنتشر في ساورا ببطء شديد!"

قال آري بولدِّين:

"أنتم لا تبذلون جهداً كافياً!"

"سنفعل آري العظيم.. سنفعل"

عقّب أحدهم:

"حدثتنا النجوم عن وباءٍ كثيف ومحلٍ شديد؛ سيحل بساورا، في السنوات القادمات!"

قال آري بولدِّين:

"وما جدوى سيطرتنا عليها، إذا كانت ماحلة وموبوءة"

"بدأنا نعد الترياق آري. والنجوم تقول، أن الجفاف الذي سيضربها، سيعقبه خير وفير. سنعمرها بعد أن ينقشِّع عنها الوباء. هذا هو الرأي عندي!"

"الجفاف والوباء أمران لم أضعهما في الحُسبان"

"لكنهما يفيدان في اسقاط ساورا"

أكد بولدين:

"والعيون تفيد ايضا، أن الأمور في مملكةِ الحلفاء تمضي كما نشتهي. فالحرب بينهم أشتعلت، ولن تلبث الكنداكة إلا قليلا، حتى تسيطر على الأمور كلها"

علّق أحد الكهنة:

"و هل ستعطينا لها الكنداكة لقمة سائغة، بعد أن أجهدت نفسها فيها؟!"

"أنها عاملة من عمالنا، ثم أنها بذلك تشتري عتق والدها الجرهمي وتوأمتها سابا"

"ربما تعرف أنهما لم يمكثا في الجوار.. فالجرهمي هرب بابنته بليلٍ.. اختفى بها على نحوٍ غامض!"

"لو كانت تعلم بمصيرهما كما تقول؛ لأفادنا ميمون بذلك. لكن يبدو انها لا تزال تظن أنهما ها هنا، حيث تركتهما أعجوبة، قبل أن تغادر مع النّمرود"

"قد لا تبالي لهما؛ فبريق العرش ليس دونه إغراء!"

"فلتكن إذن الحرب بيننا"

"ستلتف حولها العشائر المتحالفة"

"ستقضي الحرب على العشائر. وستقضي الكنداكة على ما يتبقى. هكذا أوصتها أعجوبة"

"لكن قد تكون أعجوبة، خرجت عن الخطة الأساسية، وأضافت تفصيلات من عندها"

"وإن يكن فالحرب بيننا. وستكون لصالحنا؛ فالكنداكة لن تقوى على الدخول في حرب جديدة، وقد خرجت من حرب للتو"

"منذ مات النمرود بصورّة غامضة؛ اصبح من الصعب، الوثوق فيما يرِّد من أخبار الكنداكة"

 

28

إمتلأت ساورا بالجواري الحسان، اللاتي جلبهن تجار الجوار، بأرخص الأثمان. لم يخلو كوخ من الأكواخ في ساورا منهن. انتشرّن كما ينتشرالسُّم في الدّسم، وعجّت بهن حانة أتنّي الناهضة في قلب ساورا، يتجمعنّ فيها ليتدفقن على امتداد ساورا الجميلة.. يعدن مرة أُخرى ويمضين بالأهالي إلى عالم ظلالي لاهب، وحُلُم لا ينتهي..

يدخل الناس غلالتهن الشفافة ولا يخرجون، إلا وهم على حافة الإغماء، بالرّهق الذي كأنه رهق سنوات عديدة.

تحرّشت هندْ بالعجوز دورّة:

"ألا تريد أن تعود لصِّباك أيها الشيخ؟!"

زجرها دورّة وهو يمسح لحيته الكثّة..

لحظتها؛ كانت دعدْ تتلوىّ بين أحضان حاكم الحاضرّة الشمالية، في غرفة فُوك الحُلُمية الغامضة! تشعِل أحلام الحاكم بأشواق ومواجد لم يعرفها أسلافه أبداً..

 

29

حشّد سلطان الجوّار جيشه، بعد أن تأكد له سقوط الحواضر السِّت لساورا، وزحف بهدوءٍ شديد..

زحف جيش ساورا المنهك، مثقلا بهزائمه المريرّة.

زحف الجيشان تجاه بعضهما البعض!

اقتربا.. اقتربا.. ولم يتوقفا عن الزحف أبداً!

أراد جيش الجوار أن يستريح، لتكون المعركة الفاصلة، فجر اليوم التالي..

الشرّر الذي يتطاير من عينّي آري، منعه الإستجابة، فأصدر قراره المباغت بالالتحام.. حارب ببسالة فائقة أدهشت الجوّار.. كان يقاتل كألف رجل، ركبهم الجنّ، وشياطين الجحيم، إلى أن اخترقه سهم مسموم، فأرداه قتيلاً..

سقط آري.. سقط القتلى.. سقط الجرحى.. وتفرقت بقايا الجيش في السهول الواسعة، لساورا المنهكة..

وقتها، كانت الكندّاكة قد هيمنت على مملكة الحلفاء، ودان لها الأمر، فمضت تبني مملكتها وجيشها، على غرار تنظيم الجوار، الذي أخذت تستعد له، في سرّيّة وصمت تامين!

جاءها ميمون فبادرته بالسؤال:

"هل انتهت تدريبات الجند الجدد؟!"

"صار لدينا جيشاً عظيما، منذ استلمت زمام الأمور كنداكة.. لكن يبدو أن الجوار لن يتركنا وشأننا، اذ يستعد لمعركة!"

ثم أستطرد:

"ثمة رجل وأمرأة من الجوار، يريدان لقاءِك"

"ألا تعرفهما؟!"

"ومن لا يعرف فوك وماريانا!"

"لماذا لم تدخلهما؟!"

"لم أرى لذلك ضرورة عاجلة؛ فاستضفتهما في إحدى الحجرات، إلى حين إبلاغك بأمرهما"

نهضت الكندّاكة يتبعها ميمون، الذي تقدمها إلى إحدى الحجرات.. دخلت.. كانت ماريانا وفوك مقيدين إلى ظهري بعضيهما البعض.. وكانت الدماء تسيل على جسديهما، وقد تغوّر حبل غليظ من عروق الأشجار، في لحميهما"

"أتيتما اذن برسالة بولدِّين اللعين. هل يتوقع بعد كل ما فعله بأُمي وخالتي وأبي وتوأمتي.. بعد كل ذلك، هل يتوقع أن نسلمه مُلكنا لقمة سائغة؟!"

"وما ذنبنا نحن.. إنما نحن رسل؟!"

  • ... …"

"نحن نكرّهه أشدّ مما تكرّهينه"

سارع فوك بالقول. فأمعنت الكنداكة نظرها في عينيه، ثم انتقلت إلى عينّي ميمون، الذي أومأ لها هامسا:

"لقد أخبراني عن كل العيون، التي يعرفانها"

أامسكت بهم؛ أم ليس بعد؟!"

"وجميعهم اعترفوا"

ابتسمت الكندّاكة في رضا:

"اسمع فوك. لدي من العيون في كل مكان، أكثر مما لدى بولدين، اعرف حتى ما الذي يجري داخل حجرات نسائه، وأعلم بقصتك مع ماريانا؛ التي أجبرها بولدِّين اللعين على فعل أشياء؛ لا ينبغي أن تفعلها مع سواك، كما أجبرك أنت أيضا. أنا لن أُجبركما على شيء، وأُقدِّم لكما عرضاً لن تجدا مثله أبداً! عرض فوق أحلامكما!"

"مُرينا"

"أريد خبرتكما في كل شيء؛ ولن تندما على ذلك أبداً، ستحصلان على ما يفوق عطاء بولدين لكما.. أُريد أن أعرِّف كل شاردة وواردة في الجوّار"

"هل ستطلقين سراحنا؟!"

"لا أعنّي ذلك بالضبط في هذه اللحظة.. أقصد الان، أن تدلانا على من نحن بحاجة إليهم في الجوّار. وعلى من يُشكِّلون خطراً فعلياً علينا هناك"

 

30

كرّر ميمون على عيونه التي اجتمع بها، الأسماء التي يجب أن يتخلّصوا منها..

"تقربوا منهم بحذر، ودسوا لهم السُّم دون ان يساورهم الشّك. بولدِّين هدفكم الأول. ثم قادة جيشه وملوك حواضره.. والمؤثرين في العشيرة الملكية، لا أُريد فشلاً. والذي يتمكن من قتل بولدِّين له عند الكندّاكة ما لم يحلم به يوماً وله مني كذلك عطاءٌ عظيم!"

 

31

مضت العيون لتنفذ مهمتها، بينما حاصر أحد الشيوخ، الذين التف حولهم جمع من الناس، ميمون.

أصرّ الشيخ الوقور، على الدخول للكنداكة، التي كانت غارِّقة في أفكارِّها، عندما دخل عليها ميمون يبلغها طلب الشيخ:

"حوله جمع من النّاس ويصِّرُّ على رؤيتك!"

"أهو من الجوّار؟!"

"لا.. يقول أنه من مكان بعيد، ومن كل مكان.. يقول كلاما لا أفهمه.. يقول أنه أتى برسالة المخلِّص؟!"

 

32

دخل الشيخ الوقور، في جسمه الملتف كله بالكتان، وبقي أحد كتفيه عارياً. كان يحمل عصا معقوفة من الحرّاز، ذات شعبتين في مقبضهما..

حيا الكندّاكة، التي اعترتها رهبة غامضة، لا تدري مصدرها، عندما وقعت عينيها على عينيه المرحبتين، اللتين طوّقتا وجهها في هدوء واطمئنان..

انتظرته الكنداكة أن يستهل حديثه، فظل صامتا. كان بعينيه لمعان غريب!.. لمعان عميق يفعل فيها فعل السِّحر.. جاء صوته بعد برهةٍ من الوقت كصّدى بعيد:

"أتيت لأُخلِّصّك بمشيئة المخلِّص، من عبادة الكبش، لتصبح مملكتك بشارّة الممالك"

كانت خواطر الكندّاكة المعتمِّلة قد هدأت. قالت بصوتٍ آلي كالمسحورة:

"أشرّح حديثك ايها الشيخ المبجل"

أخبرها عن البلاد البعيدة، التي جاء منها، وعن أنبياءٍ ورسُلٍ كُثُر..

اخبرها عن عذاباتهم وآلامهم، والبشرى (الخبر السار) الذي جاء يحمله إليها..

حدثها عن الكلمة.. كلمة اللّه وحملها الذي يزيل الخطايا، وتكلم عن خطيئة العالم..

تساءلت الكندّاكة عن العالم..

"ما هو العالم؟!"

فاتسعت إبتسامته المرحبة أكثر فأكثر.. و تخللتها بالصّفح والغفرّان، الذي يتحدث عنه وسلام المدن والبحار والأنهار والصّحارى والغابات.

حدثها عن اللّه روح الكون الموجود في كل شيء في الوجود.. و بدأت الكندّاكة تفهم معنىّ العالم الواحد، بناسه مختلفي الأشكال والألوان..

"مع ذلك.. لكنه واحد"

هكذا همست لنفسها.. والشيخ يحكِّي لها عن معجزات المخلِّص، الذي حوّل ماء العرس في"قانا" الجليل الى خمرّة جيدة، وأظهر مجده، وكيف أطعم خمسة آلاف بسمكتين وأرغفة شعير خمس، بعد أن عبر البحيرّة، ومشى على الماء، دون صرح ممرد..

حدثها عن السلام والعدل والاخلاق والقيم، والمثل والفقراء ملح الارض، فقالت:

"طوبى لهم"

كان الشيخ قد أشعل فضول الكندّاكة، فأفردت له حجرة في القصر، وأبقته ليحكِّي لها كل يوم عن الأنبياء، والرُّسل وبشارّة المخلِّص.

ويوماً بعد آخر، كان النّور يتسرب، ليملأ وجدان الكندّاكة المعتم! أصبح للكندّاكة هدف، بعد كل الذي فعلته بحياتها! اذ أخذت تفكر، في كيف تنشُّر هذه الرِّسالة، ليعمّ نورها العالم الذي تعرفه!

"أرسلي المبشرِّين ليجوبوا البلاد، بعد أن أعطيهم معرفتي"

"وحربي مع الجوار؟"

"ربما أرادها الرب أن تكون لنشر البشارّة"

"وهل أصلح لنشرها، وأنا كما تعلم؟"

كانت الكندّاكة؛ قد حكّت له عن والدها الجرهمي، الفتى الغّر الذي خدعته أمها، ولم يُلاحظ أبداً العلاقة السِّرِّية، التي تربطها بالنّمرود.. النّمرود الذي أنطلت عليه حيلة ساذجة، واضحة وضوح الشمس دون أن يشعر بها!

 

33

كان الجرهمي منذ طفولته.. يراقب نمو أعجوبة، وإثر كل يوم، يتنامى حبه لها ويزيد، حتى عميّت بصِّيرِته.

لم يكن يُدرِّك أنها ليست له، هي التي حوصِّرَّت بالعاصفة والبرق والرّعد، ولم تعد تنتمي لعالم الجرهمي، المنبسِّط كصّحراء أجداده، الذين تناسلوا مع الجنّ..

حكّت الكندّاكة عن قتلها الأنفس، ونهبها للأموال و إغترافها الخطايا.. مسح الشيخ رأسها وتمتم يعمدها بالماء المقدس، فامتلأ قلبها بالصفح والغفران!

ثم أخذ يحكِّّي لها، عن النّاس في جبل الزيتون، وقد اجتمعوا عند الفجر، يتعلمون من المخلِّص، فجاءه بعضهم بإمراةٍ ضُبطت تزنِّي، يريدون إعدامها رجماً بشرِّيعةِ موسىّ، فقال لهم:

"من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر" فاضطروا للانسحاب واحداً تلو الآخر، وبقى وحده مع المرأة التي خاطبها:

"أنا لا أحكم عليك. إذهبي ولا تعودي تُخطئين"

تنفست الكندّاكة الصّعداء، فهمت ما أراد الشِّيخ قوله.. كان النّور قد عمّ وجدانها..

 

34

اجتمع آري بولدِّين، بمجلسه السُلطاني، منهوباً بالقلق والتوتر. قال في غضب:

"تأخرت العيون و الرُّسل كثيراً في العودّة. لم يحضر أحد ليخبِرنا عن الكندّاكة؟!"

قال قائد الجيش:

"و ليست هناك أخبار، عن ما يجري معهم كذلك"

قال ملك العيون:

"اختفت العيون كلها من مملكة الحلفاء، ولم نعد نعرف لهم أثر!"

ثم أضاف باستياء:

"الأمر واضح وضوح الشّمس أن الكندّاكة، أسرت ماريانا وفوك، فدلاها على العيون التي يعرفانها"

اشتد غضب آري:

"كيف تجرؤ على أسر رسلنا اليها؛ ألم تسمع بانتصارِّنا الباهر على ساورا؟!"

قال قائد الجيش:

"انها الحرب آري"

فنهض آري وعيناه تقدحان بالشرّر، آمراً قائد الجيش:

"استعد للحرب إذن"

 

35

لم تكُّف الكندّاكة عن عقد مجلسها السّلطاني، لمتابعة أمور المملكة، واستعدادات الحرب وما يدور في الجوّار.. سألت النّمرود، الذي أجاب:

"عيوننا تمضي بخطىًّ حثيثة في التنفيذ"

"والنتيجة حتى الآن؟!"

"سُمِّمَّت كل أفراد العشيرّة الملكية، الذين يخشى خطرهم.. خاصة القادة وملوك الحواضر، ولم يبق سوى آري نفسه، لكنه سما بطيئا غير ملحوظ، مفعوله يحتاج لوقت طويل!"

"ورجالنا الذين قاموا بهذا الأمر؟"

"اختفوا جميعهم، بعد التنفيذ، بعضهم في الطريق الينا، وبعضهم لا نزال، بحاجة لوجوده هناك"

"وآر ي؟"

"يجدون صعوبة كبيرة، في اختراق مطبخه، فهو لا يأكل إلا من يد إياباسِّي زوجته"

"ما أن يصّل رجالنا، الذين أنجزوا مهامهم، أُوكِّل لهم بأمري، قيادة فرُق الجيش، وأكمل معهم استعدادات الحرب.. وآتني بالأخبار أولاً بأول"..

 

36

للمرّة الأولى يشعر بولدِّين بالإلتياع، وكل هذا الحزن، وهو يرى كبار قادته، يموتون الواحد تلو الآخر، يوماً بعد يوم. بعد أن تتهرأ أجسامهم وتتفسّخ!.. والعشيرّة الملكية يسقط أفرادها..ملوك حواضرها.. قادة جيشها.. بذات الطرِّيق.. في البدء من انها لعنة.. وباء.. إلى أن خطر له خاطر:

"إنه السُّم!"

قال آري بولدين بحزن عميق..

نقّب الجند والعيون في أرجاء المملكة، وقلبوا عاليها سافلها! ولم يعثروا على أثرٍ، يدلهم على واضعي السُّم..

لم يكن حينها قد تبقى من العشيرّة الملكية، سوى آري بولدِّين ووليّْ عهدهِ الوحيد. ضرب آري بولدِّين الجدار بقوّة:

"لابد أنها الكندّاكة. لا أحد سواها يجرؤ على مثل هذا الفعل!"

"ولماذا لا يكون الفاعل من ساورا، التي قضينا عليها؟!"

"لا.. انها الكندّاكة.. قلبي يحدثني انها الكنداكة.. لقد باغتتنا!"

قال أحد الحكماء وهو يضِّيف:

"إنها اللعنة اري.. نصحناك بايقاف زواج الاقارب فهو ملعون، لكنك لم تسمع، وقبل أن تحارب ساورا نصحناك آري، أن لا تفتح أبواب الحرب، فالمنتصر مهزوم! وأخبرناك بما قالته النجوم عن علامات الأزمنة!"

أضاف آخر:

"الحرب عندما تبدأ، لا أحد يستطيع إيقافها، أو توقع ما يحدث فيها"

تدخلت إياباسِّي:

"لم تترك لنا الكندّاكة الآن خياراً سوى الحرب"

والتفتت إلى آري:

"أم تريد أن تتراجع عن ُحلُم أجدادنا؟!.. إذا قرّرت التراجع سأتولى الأمر بدلاً عنك؟!"

نظر إليها في غضب:

"آري حفيد الجد الأكبر دودو، لا يتراجع أبداً عن أمرٍ بدأه!"

التفت الى القائد الجديد للجيش:

"ليبدأ الجيش في الزحف منذ الصباح الباكر"

"الجيش بحاجة لرفع معنوياته أولاً.. الإغتيالات هزّته تماماً.. خاصة أننا لم نتمكن، من القبض، على الذين قاموا بهذه الاغتيالات!!"

"ماذا سأفعل للجيش، أكثر من سجنَّي لملك العيون؛ الذي قصّر في أداء واجبه، في حماية المملكة من المدسوسِّين، وفشلِّ في قيادة عيونه، والقبض على القتلة، قبل أن يغترفوا جرائمهم.. ماذا أفعل للجيش أكثر من ذلك؟"

"لنتريث حتى ينقضِّي موسم الحصاد، ومجيء القوافل"

"لقد أعلنت الكندّاكة الحرب، ولن تتريث"

"أعلم أنها قوِّيَّة بما يكفي؛ لكنها ليست أقوى منا.. ويجب ألا نغامر"

نظر اليه آري برِّيبة:

"مع من أنت؟ معي أم مع الكندّاكة؟!"

تراجع القائد الجديد للجيش، وهو يهزُّ راسه في دهشة:

"سأُنفذ ما أمرتني به آري"

أوقفه بولدِّين قبل أن يمضِّي:

"كانت ساورا، أعظم كثيراً من الحلفاء؛ وأنا من قضّى عليها.. الزحف صباحاً"

كرّر آري عبارته الآخيرة بحسم..

وقتها كان فوك والنّمرود. ينهيان آخر تدريبات الجيش الضخم، الذي أبقياه، على أهبة الاستعداد، على حدود المملكة..

 

37

من قلب الفناء، الذي يتوسّط المدِّينة المقدّسة ساورا، جاء الصّوت عميقاً مبحوحاً ومتحشرجاً:

"الى ساورا جاء الغزاة"

عندما أقترب الغزاة من ساورا، تفقد بييه الفتيات الملكيات.. وسأل:

"أين شبونة؟!"

فأجبن بصوتٍ واحد:

"لا ندري!"

فقاد بييه الفتيان الملكيِّين الأربعة الى خارج أسوار ساورا..

 

38

عندما هجم الغزاة على ساورا، كانت شبونّة مع صولمنج في الكّهف.. خلف الدّغل عند الجرف الصّخري.. عشّهما الذي لطالما التقيا فيه.. فكّ صولمنج عن شبونّة غلالتها.. كان وقع حوافر الغزاة، لكأنه يشعل فيهما مواجداً لا تنتهي!

كانت الشّمس تجرجر أزيالها، في الأفق البعيد؛ وثمة ضوءْ شاحب، ُيلقِّي بظلاله على الكّهف، الذي أختبأت فيه نيردِّيس وساوْ، الذي ابتعد عن جسدها مرتاعا، وهو يتبيّن في الخطىّ القادمة شبح نبتة:

"عليك اللعنة نبتة. أخفتينا!"

قالا في صوت واحد؛ فضحكت نبتة في صهيل ملتاع، ردّد صداه الكّهف..

"نبتة، ألم أقل أن نلتقي صباح الغد؟!"

"لم أستطع الإنتظار، ماذا لو فعلت كما يفعل اري مع نسائه"

تسآلت نيردِّيس، التي عقدت زراعيها على صدرها:

"كيف؟!"

"لا تكوني غبية.. أنت تعرفين كل شيء.. ألم تعلمينِّي أنت ما علمتك إياه ماريانا، جارية آري؟!"

طوقهم صمت عميق. قطعته نبتة وهي تنتقل بالحوّار:

"ألم تسمعا بنبؤة دالي.. بفناء ساورا؟!"

"انه يهزِّل! ساورا جنَّة الحياة"

قالت نيردِّيس وهي تجلس شبه عاريّة، على حجر ساوْ، فأسرعت نبتة تجذبها وتقول:

"أليس لديك صبر؟"

"ألم تجدي لكوَّي ّرجلا بعد؟!"

"إنها لا ترغب في رجل سوى بييّه!"

"لكن بييّه يحب لنقي!"

"هي مثلها لا تريد رجلاً سوى سورِّنقْ" "فلتنتظرا إذن، إلى أن يصيبهما الجفاف!"

ضحكت نبتة بخلاعة، كفتيات أتنّي البيضاوات:

"رأيتهما مراراً في الدُّغل، مع قرود الطَّلح"

"ماذا تعنين؟!"

"أعني ما أقول.. الغرباء جعلوا الناس يكتشفون أشياء مذهلة؛ نحن اليوم لسن كأسلاف آري.. أجدادنا"

"النّاس الآن في ساورا يعيشون حياتهم، كما يريدون؛ حتى الأغراب يأتون الى ساورا، ينفضون وعثاء الطّرِّيق والمنفىّ"

"ولذلك دورة لا يفتأ يخيف الناس، بفناء ساورا الوشيك"

 

39

كان دورّة الراعي العجوز، والد سورنق، قد تخلى عن الكهانة، وامتهن رّعي الجاموس والأغنام.. ولا يفتأ يردد لكل من يصادفه في طريق العودة إلى ساورا:

"تحالف المجرمين مع شعب ساورا، سيفنيها..لم تعد ساورا هي ذاتها التي نعرفها.. لا محالة لعنة لا تبقي ولاتذّر، ستحل بنا"

 

40

قلبت شريط الكاسيت، وأنا أوقف ود الباهي (بإشارة من يدي) ريثما أدخل شريطاً جديداً.. زفرت بعمق، وأنا أرى مؤخرة المدينة الشاسعة، التي كانتها جلابي ود عرّبي يوماً، وهي تتمدّد على شريط النِّيل!

الفردوس الآن تغتسل كسابا الفارعة، من ذكريات آخر لياليها البهيجة مع سورنق.. تقف سابا أعلى الّتل ترقبه، وهو يمضّي بعيداً، يتضاءل شيئاً فشيئاً.. حتى يستحيل إلى نقطة صغيرّة، في أُفق رحيب.

نقطة في صحراء لا متناهية.. ويذوِّي كانطفاء جمرة. يتلاشى ليكون الغياب، في الفضاء اللامتناهي، حيث ساورا تخرج من أعماق ود الباهي، تنضّو عنها ذكريات يوم آخر في الفجيعة، وترقب قادماً من بَوح أحزانها.. يجدد أفراحها ويشرِّعها للقادمين من غياهب سحيقة، لأزمانٍ قادماتْ.. ليخطوّن مدينتهم الجديدة، وليحيا سورِّنقْ في الذّكريات.. ذكريات لنقِّي الحبيبة.. الصّبية الصّغيرّة التي تكبر يوماً بعد آخر، وتتفتح كالطبيعة في الخرائف المثمرّة، عن أفواف الزّهر و الثّمر الحلو، وربما تتفتح كالطبيعة، عن الورود والأزهار الشوكية السامة، والاعاصِّير والزوابع الأنثوية الخالدة في قصص العشاق..

"أين اختفيت الأيام الماضية سورِّنقْ؟!"

"اعتزلت مع أبي العجوز دورّة.. يقول أنه يجب أن ابتعد عنك"

"لماذا ؟!"

"أنت الآن امراة صغيرة؛ وأنا أصبحت شاباً"

"ألهذا السبب فقط؟"

أحتوت ببصرِّها البرِّيق الغامض، الذي يشِّعُ من عينيه:

"أنت تخيفني سورنق!"

"إهدأي لنقِّي"

"لم أعد أفهمك"

"سأرحل؛ وعندما أعود سأكون آري مهابا،ً سأبني لساورا سوراً ضخماً؛ عالٍ من الحجر! وأضعُ الحرّاس على أبوابه، وأكتب على جدرانه أسرار الكبش المقدّس. سينِّير مجد الكبش ساورا، في ليالِ الشتاء الطويلة، ويدفئها..

و سيأتيها الغرباء الذين يهربون الآن منها.. نعم سيعودون وتحميهم مرةً أخرى، من جور الأهل والأوطان..

ستظل ساورا مفتوحة، ولن تغلق أبوابها أبدا، إلا في الليل، فالليل لا يأتي عليها.. سأحمل إليها كنوز الممالك الأخرى وامجادها، ولن تمضي بغير شريعة الكبش"

"لا أفهمك سورِّنقْ!"

 

كان سورِّنقْ يبدو غريباً على لنقِّي، غريباً على أقرانه، الذين لم يعد يجالسهم، مكتفياً بصحبة دالي إبن آري شقيق لنقِّي. والاعتزال معه لأوقات طويلة، في محراب الكبش، أسفل المنحدّر الصّخري خلف الهضبة، التي يدفن في سفحها الأطفال..

الفتيان الملكيين كانوا يهابون سورِّنقْ، الذي كان يبزَّهم منذ الطفولة الباكرة، في الرّكض والصراع وتسلق الأشجار كالقرد، كانوا لا يتجرأون على إزعاجه أبدا، بمؤامراتهم الصغيرة، التي يحيكونها ضد بعضهم البعض..

 

الفتيات الملكيات في أُنوثتهن الطِّفلة، كنّ يتعمدن اللهو معه دونهم جميعاً، ويبتعد عنهن ليلهو مع لنقِّي وحدها. يغرن منها، ويبدين كراهيتهن له دون تحفظ، ومع ذلك ظل سورِّنقْ فارس أحلامهن منذ الصِّغر، كلما كبرن يرّين جواده الأبيض ينأى ويبتعد.. قالت نيردِّيس:

"سورِّنق لا يشبهنا؛ فهو ليس إلا إبن راعي جاموس"

رمتها لنقِّي بنظرّة حادة:

"لا تنسي أن أُمه من العشيرة الملكية، وان هذا الراعي كان كاهن ساورا"

"إنه لا يحب النّاس. يرى نفسه أفضل منا و من الفتيان الملكِّيين. ثم أن تكون أمه اياباسي شقيقة آري، مثل ام كوّي وشبونة، فذلك لا يكفي. فسورِّنقْ من أب ليس من دّم آري على عكسنا.. ولا تنسى أن آري القادم هو شقيقنا (دالي)، وليس إبن الرّاعي العجوز دورّة" صمتت نيردِّيس فجأة، كأنها تتذّكر شيئا، ولم تعلِّق لنقي.. تغيّر عمق عينَّي نيردِّيس، وهي تحاول أن تجوس في أعماق عيني لنقِّي:

"اسمعي لنقِّي. بييه يقول أنك تهربين منه!"

تدخلت نبتة على نحوٍ مباغت:

"اسمعي أنت نيردِّيس. لنقِّي تحب سورِّنقْ وتكرّه بييه، أي جزء من هذه العبارّة غير مفهوم؟!"

أضافت كوِّي:

"لماذا لا تتركينها وشأنها، دائما تلاحقينها ببييه؟!!"

ابتسمت نيردِّيس في خبث:

"يبدو أنكنّ وقعتن في غرام بييه فجأة!"

تدخلت شبونّة التي ظلّت صامتة طوال الوقت:

"نيردِّيس، لقد ظللت لفترة طويلة تتدخلين في شئوننا، كلنا.. لن نسمح لك بعد الآن، بمثل هذا التدخل!"

قالت في حدّة، فنهضت نيردِّيس غاضبة:

"ستلجأن الىّ كالعادة، عندما تقعنّ في المشاكل، تذكرن ذلك جيداً!"

ضحكت شبونّة بسخرِّية:

"مشاكل أكبر من لو أخبرت دالي، بما تفعلينه مع ماريانا؟!"

التفتت في حدّة:

"لكنكن تفعلن ذلك معي!"

"سننكر جميعا كل شيء؛ ووحدِّك ستقعين في المشاكل، ألم تعلمينا أنت كل شيء؟!"

أطل التساؤل من عيني لنقِّي:

"ما الذي تفعلنه مع جارية آري؟"

تراجعت نبتة:

"لا شيء. فقط نريد إيقافها عند حدِّها"

والتقت نظراتهن في صمت وتواطؤ.. فتجربتهن مع ثرثرّة لنقِّي، بإحساسها الدائم بالخوّف منذ الطفولة الباكرّة، علمهن أن يخفين عنها اسرارهن، التي كانت تعلم بعضها بطريقتها الخاصة، ولا تجعلهن يشعرن بانها تعلم.

كانت ترغب في ألا تكون جزءً من عالمهن، فاكتفت بالعلاقة الحميمة، التي تربطها بكوِّي..

 

41

كان الضجيج في بهوِّ العرش قد بدأ يتعالى، فصمتن ثم بدأن يتفرّقن، في حجرات القصر الكبير، بعيدا عن بهوِّ العرش، الذي أزدحم برجال المملكة، الذين بدوا منشغلين على غير عادتهم، أكثر من أي وقتٍ مضى..

التفوا في مجلسهم حول آري، الجالس على (ككرِّه) بمهابة. وقد بدت على وجهه علائم التفكير العميق.

ران الصّمت لفترة ليست قصيرّة، وتلاشى الضجيج شيئا فشيئا.. جاء صوت آري حاسما وهو يقلِّب بصره في حاشيته، موجها حديثه الى حاكم الحاضرة الجنوبية الغربية، من مملكة ساورا المقدّسة:

"ستأخذ معك أبناء العائلة المقدّسة، هذه المرّة ليتدربون، على فنون القتال تحت إشراف (الأورنانق) بحاضرتك"

"سيشرف عليهم حكام المقاطعات آري؛ فقد جئت بالأورنانق الى هنا"

"اذن على الاورنانق أن يتصِّل بالحاضرة الشمالية، ليرسل كل شبان حاضرته اليه"

استأذن كبير خدّم القصر فسمح له آري:

"ماذا هناك؟"

"حاكم الحاضرة الشمالية، يستأذِن ويعتذر عن التأخير"

"ليأت"

ابتدر قائد القوافل الحديث:

"نحن على أعتاب سنوات جدب، وأرى إذا سمح آري، أن يأمر بأن تتولى (إياكوري) تخزين الطعام والإشراف على إنتاج (الحواكير)"

"لقد أوكلنا هذه المهمة للقضاة؛ ورُّماة المدى وحاملي السيوف، ستشرِّف عليهم إياكوري"

قال ملك حاملي السيوف:

"أخبرني ملك سائسي الخيل؛ بما تحدثتم به آري.. في أن الجوار يعبئ جنده؟!"

"لم تردنا أخبار جديدة أُخرى. ربما تكون وجهة.جُند الجوار. مملكتنا المقدسة؛ ولذلك أرسلنا الى حلفاءنا وطلبنا منهم العون والمجيء الى ساورا.. وأرى أن يهتم حكام المقاطعات؛ بإجراء الإحتياطات اللازمة للدِّفاع عن ساورا، إذا كانت نيّة الجوار مهاجمتها"

ومضى آري يرتب مع مجلسه الحاشد، شؤون مواجهة الجدب والحرب المحتملة، وعندما أنهى حديثه صفق فيهم بيديه لينصرفوا:

"عليكم موافاتي بكل ما يطرأ"

ترك آري الأمر لرجاله، ومضى مطمئناً، الى أحضان محبوبته ماريانا، مكتفياً بتلقي الأخبار عن طريق (كتركوا) الخصِّي المسئول عن ماريانا جارِّيته المفضلة!

وأخذ"كتركوا يصرف الحكام والقادة؛ دون أن يدعهم يلتقون آري، الذي كان قد أنزل هموم المملكة عن عاتقه، ووضعها على ظهر رجاله، وتفرّغ لمحظياته وجواريه.

 

42

وبعد مرور وقت طويل.. طويل جدا، جاء سورنق إلى ساورا الخراب..

"أخيرا وصلنا"

أشار سورنق بيده، من على صهوة الجواد؛ فتوقف الركب خلفه.. توقفوا جميعا يحدقون في الوادي المترامي الأطراف، بعيونهم المتسعة دهشة!

ومع ذلك شعروا جميعا لحظتها، بحنين وشجن بعيد، يشدهم إلى هذه الأرض. نزلوا من صهوات جيادهم، وتفرقوا حول مجاري المياه، يغسلون وجوههم، من وعثاء السفر الطويل. طوقوا بأبصارهم الوادي، الذي بدى شاسعا، كأنه يمتد في اللانهاية، ليلتقي بحافة السماء متناهية البعد..

على إمتدادات الوادي، بدت أكمات متفرقات هنا وهناك.. مدّغِلة وساحرة!!

أشار سورنق لبييه، فتوغل الآخير في الأكمات، يتبعه خمسة من الجند الأشداء..

هواء الوادي البارد، لطّف نفوسهم العليلة برهق الجفاف، وإنهاك الوباء الغامض.

خراب ساورا والترحال، المضني أسابيع وأيام طويلة!

هواء الوادي المنبسط، ينعش الوجوه المرهقة، التي أضناها فراق الأحبة والغياب، الذي خالوه.. لأيام الشجن الوديع..

قلّب سورنق بصره في الوادي، رغم ترحاله في طرق عديدة، منذ هرب في تلك القافلة، هو الخبير بالقوز، في شبه الصحراء عبر مالحة، قريباً من جبل الميدوب. حيث الطرِّيق العرِّيق لتجارة الملح. لم يجد أبدا في حله وترحاله مثل هذا الوادي!

طوّق سورنق الوادي ببصرِّه المنهك؛ وكان قد أتخذ قراره! وخُطّط العمران، ترتسم في عقله المكدود. الذي بدأ يستفيق، وتتجدد حيويته هناك؛ على أمتداد هذا الجبل؛ الذي يبدو كما لو أنه الكبش الإلهي المقدس، بظِّلِّه الملقى على السهل، كأنه فروة تظلِّل الوادي من الهجير. وبقمته المشرعة: ذروتين تبدوان ككفي العجوز دورّة، لحظة التضرع بالدعاء الحار.

كأن دورّة هو الذي يجلس، على إمتداد هذه القاعدة، مرتديا عباءة رسولية مهيبة، يدعو لساورا الجديدة بالمجد والخلود..

قطع عليه الكاهن دورّة، الذي كان قد تخلى عن الرعي واسترد وظيفته القديمة، تأملاته:

"ظلت الطبيعة هنا تمنح أجدادنا هويتهم.. خصبهم.. خصب الكبش المقدس. هنا أستقر الكبش وأسلاف دالي، في وقت سحيق.. غادرها اجدادنا الثلاث بعد وفاة والدهم آري دالي الأول، وبعد أن اجتاحها الوباء، تفرقوا يشيدون ممالكا جديدة، لكن ظل حنين العودة إليها مشتعلا، لا تنطفيء جذوته المتقدة!

 

تنهد سورنق بعمق:

"وهنا سيشيد البناءون قصر آري، على هذا التّل، الذي تحتضنه أقدام الكبش، ستكون مدافن آري، والى يسارها سينحت ساو من عروق الحجر، خصيتي الكبش، رموز الخصوبة، ويقين تجدد الحياة!

هزّ المبجل دورّة رأسه في رضا وانسحب، كانت حوافر جواد بييه لحظتها تقترب، تدخل في خطط سورنق وخواطره، تتدخل في حبل أفكاره:

"أنها مليئة بالحيوانات المتوحشة"

قال بييه، ففرك سورنق بيديه:

"ليس ثمة أكثر توحشا من النّاس، سنستأنس

منها ما نستطيع، ونطرد الباقي"

وواصل حديثه:

"هنا سيشيد سورنق مملكة أخرى؛ بدلاً عن ساورا المهجورة. هنا سنبدأ من جديد. في أرض ميعادنا، التي غادرها الاجداد، لكن ها نحن عدنا اليها، لتتواصل مسيرة الأجداد وتستقر أرواحهم الهائمة اخيرا، في وطنهم الأم!..

هيا ليبدأ الجميع في تعميرهذه الأرض! وأنت أيها القائد بييه.. اذهب الى المملكة المهجورة وآتِ بالباقين"

"الآن؟!"

"نعم الآن. اذهب"

وانطلق بييه يتبعه عدد من الجنود في رحلة طويلة شاقة. رحلة إلى ساورا..

التي كانت تعاني الجدب، ثم ما لبثت أن انهارت تماماً، بعد أن دهمها الغزاة وخربوها.. قتلوا آري وأستحيوا النساء، وهدموا المعابد.. ونهبوا قطعان الجاموس.. التي لم تنفق في المحل والجفاف. قضوا على كل ما تبقى، من مجد ساورا ومضوا..

 

43

منذ ترك كتركوا الإهتمام بإياكوري منذ وقت طويل، إستجابةً لأمر آري، بأن يعطي جل اهتمامه لماريانا. لم تعد إياكوري تهتم بالحصول على العطر البّرِّي..

كانت محاصرة، بذكرى تلك اللمسات البديعة، لأنامل كتركوا الخصي، وهو ينقل أنامله المدربة، على تضاريس جسدها المتحفز، ويدلِّكها بأعشاب البّرِّية النديانة، وينتف الزغب شعرةً فشعرة، هكذا كان يهيئها ويعدها لآري كل مساء..

 

حتى لحظة انتحارها، عندما دهم الغزاة ساورا واستباحوها، كانت لا تزال تشعر بتلك اللمسات، وذلك الدفء الذي يخلخل كيانها، ويجعلها تهتز كرِّيشة في مهب الرِّيح، بين الوعي واللاوعي.

 

وفي النزع الأخير، أحست بتلك الحالة من التوهج، التي يعقبها انطفاء وخدّر وخوّر، عقب التنهدات اللاهثة، والتأوهات الخابية.. فارقت إياكوري الحياة، وهي راضية عن نفسها! ومرضية عليها!

على الرغم من وجه ماريانا! فقط وجه ماريانا، الذي ظل يحدق فيها، من موقع بين عالمين، يلاحقها بنظرات آخر الوجوه البغيضة، إلى نفسها!

 

قبل أن تنهار ساورا بقليل، نشط حفارو القبور؛ وصانعو الأثاث الجنائزي؛ وبعد أن خرّب الغزاة ساورا. هرب من تبقى من الغرباء، الذين هجروها، هربا من الجدب وخوفا من الحرب.. هربوا في سباسب الصحراء ووهادها؛ لا يلوون على شيء!

كان شعب ساورا يتناقص بالحسرّة والجوع، والوباء الغامض يحصِّد الأرواح سريعا، سريعا دون رحمة! كأن ما حدث لمملكة الجبل و الوادي القديمة، يتكرر مرةً أُخرى في ساورا..

 

الوباء الغامض أضطر الغزاة إلى المغادرة سريعا، واضطر الغرباء للجوء الى الجوار. وعندما جاء سورنق، لم يجد سوى بقايا ساورا وأحزانها، التي تدفع الشيوخ للتفكير الحازم، في إنقاذ ما تبقى من شعب ساورا!

فأرسل سورنق الرُّسُل ليستكشفون الأراضي البعيدة..

 

44

لا يزال دورّة يذكر تلك الأيام البعيدة، وساورا قد بدأت تنهار، تحدث وقتها مع دالي طويلاً، ونصح آري فاختفى دالي وتلاشى كفص الملح، وأنشغل آري بنسائه العديدات..

 

في تلك الأيام لم يكن خاطر دورّة منشغلا سوى بأحوال المملكة، التي كان يرى ضياعها رؤية العين، فحكام الحواضر والقادة، لم يعد أحدهم مهتما بإبلاغ آري بما يجد من أمور، وانصرفوا مثله إلى ملذاتهم!

 

كانت الحياة في المملكة تتعطل، وآري لا يهتم، أرسلت إياكوري زوجة آري في طلبه، فلبى متكاسلا، ليخبرها بما وصل إليه، في شأن تعليم الفتيات والفتيان الملكيين، الذين كانت تخطط لهم دورا، في انتزاع القصر من هيمنة، الجواري، والمحظيات والخصيان، كيما تعود ساورا إلى سابق عهدها، مملكة للمجد! سألته إياكوري:

"كيف يمضي إعداد الفتيات والفتيان؟!"

"شارّف على الإنتهاء"

"أحوال القصر تسؤ دورّة!"

"بل أحوال المملكة كلها"

"أين تركت الفتيات الملكيات؟!"

"في سومنق"

"يبدو أن نيرديس خرجت من هناك، دون أن تراها. فقد جاءت إلى هنا قبل قليل"

"انها متمردة، إياكوري"

نادت إياكوري على نيرديس المراهقة، ذات الجسد المتحفز، أتت نيرديس مطأطأة الرأس!

نظر دورّة في عينيها.. أعماق عينيها بحنق.. ابتلعت ريقها، وهي تتذكر تلك اللحظة، التي سبقت مفاجأته لها: هي وبييه في حجرة فوك الملحقة بالحانة..

 

قبلها بأيام، كانت قد جاءته تركض في فزع، والدّم يسيل على فخذيها، كان وقتها يجلس وحده في سومنق. فهدأها وهو يقول مبتسما:

"لا تجزعي يا صغيرتي.. اهدئي.. لقد أصبحت إمرأة. كل النساء يحدث لهن ذلك. ستمر أيام قليلة، وتعودين نظيفة، دون ألم، كما كنت دائما، إذهبي الآن الى إياكوري و أخبريها!..

قبلها، لم يكن دورّة منتبها للتطورات، التي بدأت تعتري أجساد الفتيات الملكيات! وجسد نيرديس بصفة خاصة!

 

45

تنهد دورّة بعمق، وقلقه يتنامى، فالرسل الذين أرسلوا، لاستكشاف المناطق المجاورة، لم يعد منهم أحد. والأحوال تزداد سؤاً.

كان الرسل قد غابوا لشهور عديدة، خالها الناس سنوات ودهور. طال الغياب وزحف اليأس، يقنط النفوس المنهكة، وعندما رأى الناس أول القادمين من الكشاف، استبشروا خيراً. و ركضوا بنفاد صبر، لسماع الأخبار الجيدة، التي يمنون أنفسهم بها.

 

توالى الكشاف واحدا تلو الآخر، يحكون عن محصلة رحلاتهم المرهقة، وفي كل مرة يشعر سورنق والناس بالخذلان.

لكن ظل الشيخ دورّة يهديء النفوس القانطة، ويحاول أن يبعث فيها الأمل من جديد، بحكمته النافذّة، ويصِّرُ على الحكي عن أرض موعودة.. أرض الأجداد التي لم تصورها حكايات الرسل، الى أن جاء بييه بعد مضي وقت طويل، وأخذ يصِّف أرضا بعيدة، خالية إلا من وحوش البرِّيّة والأدغال، تجري فيها المياه العذّبة، وتنتصِّب الصخور في صورّة الكبش! أرض كأرضهم تماما قبل أن تصيبها لعنة الغرباء، الوافدون من خلف البحار العظيمة، فتجف وديانها وتصاب بالمحل، ويدهمها الوباء الغامض، ويتسلط عليها الغزو الساحق لمملكة الجوار!

لتتحوّل في لمح البصر، إلى قبور متراكمة، وبيوت مهجورة، وهياكل تمشي على قدمين!

 

وبينما أنشغل الرّاعي العجوز دورّة، بإعداد الفتيات الملكيات الخمس، لممارسة السلطة المباشرّة على القصر، بعد أن أنهى إعداد الفتيان الملكيين الأربعة، لطرد نفوذ المحظيات والجواري، اللاتي سلبن عقل آري، فصار يتخبط ولا يفعل شيئا إزاء الخراب، الذي بدأ يحل بالمملكة. أخذ يراقب الفتيان الأربعة، منسحبا من إنشغاله بالفتيات الخمس شيئا فشيئا، فنبهته نيرديس:

"أبا دورّة.. نريد أن نمضي لنرتاح"

التفت اليها في هدوء:

"كيف ترتاح من اختيرت بعناية، لتكون زوجة إلهية، وممثلة للسلطة بين كهنة الكبش وآري؟!"

وقتها كان آري قد جمع نساءه، وأجلس إياكوري إلى جواره.

كان مهدوداً ومنهاراً. لأول مرّة يشعر بالخذلان، كما يشعر به الآن! وتحدث في حزن عميق:

"حكام الحواضر أصبحوا يتجرأون علىّ. لا يهتمون بأنني آرى سليل الكبش المقدّس!"

تنهدت إياكوري في عمق:

"لقد جلبت ذلك لنفسك آري. إهمالك لأمور المملكة؛ جعلهم يتجرأون عليك. لقد فقدت هيبتك"

التفت اليها بحدّة:

"آري لا يفقد هيبته أبداً"

قالت بهدوء:

"الجوار يعد جيشاً، بينما القواد لم يفعلوا شيئا مما أمرتهم به.. القواد والحكام منشغلين بمحظياتهم وجواريهم. اللائي هن أهم من تنفيذ أوامر آري!"

قالت ذلك وهي ترمي ماريانا بنظرّة متأففة.. ردّ عليها بغضب:

"سأعزلهم جميعا!"

"لست في ظروف تسمح لك بذلك. الوقت غير مناسب. ثم أنك يجب أن تجد دالي أولاً و بمساعدة الفتيان الملكيين، يمكنك استرداد هيبتك. هيبة ساورا.. لكن قبل كل ذلك يجب أن تعود الأمور إلى نصابها. هنا في هذا القصر" نظر آري الى إيا كوري في ألم، ثم ألتفت إلى ماريانا. نهض فتبعته وهي ترمي إياكوري بنظرّة شامتة!

 

46

غاب الرّاعي العجوز دورّة مرّة أخرى، حيث الفتيان الملكيين، وتذكر سورنق: إبنه الوحيد، الذي اختفى ذات صباح بعيد!

نشأ سورنق محباً للعزلة والانطواء، ميالاً للتأمل والأحلام الكبيرة، لم يكن ترك أبوه للكهانة والعودّة للرّعي في ذلك الوقت يروقه، لشدِّ ما أنف عن الرّعي وحلم بإرتياد الآفاق البعيدة.

ظلت أحلامه تكبر معه يوما بعد آخر.. أحلامه بعبور الصحراء الشاسعة، ورؤية ما تخفيه خلفها من عوالم جديدة، والوصول الى ذلك البحر البعيد، الذي يفصل بين عالمين: عالم السافنا والمستنقعات والصحراء، وعالم آخر غامض و مجهول!

وذات صباح شاحب أختفى سورنق، مثلما اختفى دالي من قبل.

أختفى سورنق مباشرّة، بعد أن أُجريت له طقوس الرجولة. هرب مع إحدى القوافل الماضية من ساورا إلى طريق الملح، منتهزا فرصة أن عرض عليه قائدها الجرهمي اصطحابه، وتعليمه التجارة وفنون الحياة. كان التاجر عبد اللّه الجرهمي رغم محظياته وجواريه العديدات، لم ينجب سوى تلكما التوأمتين من أعجوبة، التي اختفت من حياته منذ وقت طويل، تاركةً له سابا، التي نشأت في كنفه نشأة غريبة، إذ كانت ميالة للوحدة والتوحد، منذ طفولتها الباكرة!

تمضي خلف جبل الميدوب، فتحضِّر إليها الجنيات ثمار غريبة، تأكلها بسعادة غامرة، فتشعر بنفسها قوِّية وخفيفة، تملؤها طاقة غامضة!

تلهو معهن وتعود في المساء، إلى مهجعها دون أن تكلم أحد. قال العرّاف لأبيها:

"إبنتك مأخوذّة بجنيات الجبل. روح جدتها التي حبسها سليمان الحكيم في (سواجن) )16) وأنقذها ذلك الصّياد وتزوجها.. هذه الرّوح ترافقها الآن.

 

كانت سابا متوحشة وشرِّسة. تقاتل كرّجل، عندما يقترب منها أحدهم أو يتحرَّش بها. كانت كالحُلُم المستحيل، لأقرانها المبهورِّين بجمالها الساحر.. ذلك النّوع من الجمال الفريد الذي لا علاقة له بالبشر.

وعندما رأى التاجر ذلك البرِّيق؛ في عينَّي سورنق. تلك الرّغبة العميقة في المجهول، والتي لا تخطئها العين المدرّبة. ذلك الشيء اللامع، الذي كان يُقلق الرّاعي العجوز، كلما رأى أقران سورنق، فتأكله الحسرّة وتتجددّ في أعماقه الأحزان.

كان بييه، ساو، صولمنج وكوري أقران سورنق يكبرون أمام عينيه يوماً بعد آخر. يتخطّون مراهقتهم، ويهيجون عليه الذّكرى، التي لا تفارقه أبداً. ذكرى ذلك اللمعان القلِّق، في عينَّي سورّنق، الحبيب الغائب.

عندما يرى ساو وهو يصنع من عروق الحجر تماثيلاً دقيقة لشبونة، يتنهد:

"سورّنق افضل منه"

ويتعلق بصرّه بصولمنج.. بقسماته الهادئة، في عزلته المحببة المهيبة، يتعبد في محراب الكبش، ويقدِّم القرابين للطبيعة..

"لو كان سورنق موجودا لدخل يتعّبّد للآلهة" ويتأمل كوري المغرّم بصنع الطبول الصّغيرّة، ويتذّكر كيف يُحضِّرَّها في المهرجانات، ويُنصِّبها على مبعدّة من ضاربي الطبول، ثم يقرّع بإيقاع وديع يخلخل القلب، ويرعِّش السِّلسِّلَّة الفقرِّيَّة..

لو كان سورّنق موجوداً لترفع عن ذلك..

وعندما يصرّع بييه أقرانه في لهوِّهِّم البريء، يتأوه الرّاعي العجوز في ألم..

"آه سورّنق، أنت أقوى منه.. أين أنت يا بني

بعينيك شيء يسحبك بعيدا وعميقاً"

ومنذ اختفاء سورّنق، في ذلك الصباح البعيد، أخذ الآباء يشددّون الرقابة على أبنائهم، أن يتخطّفهم التجار والغرباء، فيصبحون مثل الرّاعي العجوز دورّة، يلوكون الحسرّة والأسى والأسف..

الوحيدون الذين كانوا يعلمون كدورّة، أن سورّنق لم يختطف: هم أقرانه الفتيان الملكيين.. كانوا عندما يجتمعون بعيداً عن القصر، بين الأكواخ أو قريباً من حقول الذُّرة والفول والسمسِّم، أو في جناين الموالح.. يتذكرون سورنق إبن معلمهم الرّاعي العجوز، الكاهن دورّة.. لم يحدث أبداً أن نسوه، رغم مضي سنوات عديدّة، منذ أختفى بغموض (فمثله لا ينسى!) في ذلك الصباح الشاحب الذي فقدت فيه الشمس بهاؤها!

أراد سورّنق أن يحقق أحلامه.. أن يجوب الآفاق ويتعلم أكثر.. ويعرف..

قال ساو فعلّق بييه كأنه يطرد طيف سورّنق، الذي يشِّل تفكيرّه:

"لقد اختارك آري مثالا ملكيا ساو"

" ... ... …"

علّق كوري بخبث:

"لكنه لم يعد ينحت سوى الفتاة شبونة!"

قاطعه بييه في حزم:

"إحذّر كورِّي ولا تنسى أنها فتاة ملكية"

وعقّب صولمنج في هدوء:

"والفتيات الملكيات مقدسات، لا يتزوجن. وأن تزوجن ليس لأزواجهن سلطة عليهن.. هكذا علمنا الكاهن العجوز دورّة"

"تقصِّد الرّاعي العجوز"

قال ساو ووجه يتعكر ثم أضاف:

"أنتم تتحدثون كثيرا، كأنني لا أعرِّفُ عنكم شيئا. أنت يا كورِّيّ تختلي بنبتة كثيرا، ولقد رأيتك أنت كذلك يا صولمنج برفقة نيرديس، و رغم ان القصر يعدك روحيا، لتكون كاهنا ملكيا هل تصدِّقون الكاهن صولمنج، يحب فتاة ملكية، وأنت ايها المصارع بييه، هل أتحدّث عن فتاتك؟!"

تعكر وجه بييه:

"ماذا تعني بحق الكبش؟"

"أليست لك علاقة غامضة بنيرديس، وفي ذات الوقت تلاحق شقيقتها لنقي.. شقيقة دالي؟!"

ردّ ساخرا:

"لا؛ لم يحدث ذلك. لقد أخطأت، فالتي تلاحقني هي كوِّي"

"أنا لم أتحدّث عن التي تلاحقك. بل عمن تلاحقها أنت؟!"

قاطعه بييه:

"انت ترميني بما ليس فيّ. أنت تكذِّب. لأنك تحسدني؛ لأنني اصرعك دائماً، الوحيد.."

قاطعه:

"وكذلك أنت الوحيد، الذي له علاقة غامضة مع عامل حانة أتنّي!!"

كان بييه الوحيد بين شبان ساورا، الذي يُسمح له بدخول حانة أتنّي!

عندما دخل أول مرّة، أهتم به الغريب الأبيض فوك، أكثر من أي شخص آخر، وسقاه الخمر بسخاء غريب!

فظل بييه منذها يتردد على الحانة، واصبح وفوك كالأصدِّقاء القُدامى، رغم فارِّق السِّن ولغة فوك المتعثرّة..

أخذّه فوك ذات مرّة إلى غرفته الملحقة بأتني، وأتى بالخمر المعتق.. شرِّبا كثيرا حتى غابا عن الوّعي!

عند الفجر أفاق بييه ووجد نفسه عارياً! نظر حوله. كان فوك ايضا عارياً. إرتدى إزاره بعجلة. وهجم على فوك يضرِّبه حتى أدماه.. ظل فوك صامتا يبتسم في سخرِّية، وكأنه لا يشعر بألم الضربات، التي أستمر بييه يوجهها إليه كيفما أتفق..

"ما الذي فعلته بي؟!"

"لم أفعل بك شيئا. إنها الخمر، هذا النّوع.."

استرد بييه خواطره وهو يمسك بآخر كلمات صولمنج.

"وكلنا يعلم منذ طفولتنا الباكرة، أن لنقي تحب سورّنق. ألا تذكرون كيف كانت تغضب، حينما لا تجده معنا. فتركض بعيدا إلى ما وراء الحقول، حيث مراعي الجزو. تبحث بين الجاموس والأبقار عن سورّنق، إلى أن تجده. كنا نجلس مع بعضنا البعض، ونلهو إلا سورّنق ولنقي. دائما يبتعدان عنا. يتهامسان ويضحكان في رنين ينتزع العشب من فم الجاموس، و يجعل الأبقار تنسى أجتر ارها وخوارها فتصهل!

 

47

تمدّد آري عاريا في مخدعه، حاولت ماريانا، أن تنسيه همومه وأحزانه، لم يأته أحد بأخبار دالي ولي عهده، وأحوال ساورا تسوء كل يوم، أكثر عن اليوم الذي سبق. وهو مشوّش لا يدري ماذا يفعل.

"إنس يا حبيبي كل همومك، فأنت معي الآن.. معي. مع حبيبتك ماريانا.. إنس كل شيئ ولا تتذكر شيئاً سواي"

كانت كلماتها تهدئه. ترتخي أعصابه، ويشعر بصّفحٍ وغفران فيبتسِّم.. فتداعبه ماريانا، وهي تتمتِّم بين لحظة وأخرى:

"ستبقى قوياً آري.. ستبقى لأجلي.."

الأيام تمضي ببطء؛ في غياب سورّنق. والبهاء الذي يشِّع من حواضر المملكة السِّت، يخبو شيئا فشيئا، وذلك البرِّيق الساحر لساورا يتضاءل، ومع ذلك تضاف الى قصر آري مبانٍ حجرية جديدة، فالأسرة الملكية تكبر، وقد آن الآوان لإعطاء الفتيات الملكيات والفتيان الملكيين حجرات خاصة بهم، بجواريها وعبيدها.. حجرات منفصلة وبعيدة عن حجرات أمهاتهم..

الأمطار غيرّت مواعيدها منذ عدّة مواسم، وبدأت علامات الجدب تتضح شيئا فشيئا، خشى الناس الخطر، الذي يتهدد حقول الذُّرة والفول والسمسم..

النباتات البرِّية الوحشية، بعضها لم ينبت في السنوات الآخيرة، والقوافل التي تجيء الى ساورا مرتين في العام قلّت كثيرا.. وصارت مثل الأمطار تأتي في غير مواعيدها..

عندما تهطل الأمطار الشحيحة، تصيب الأرض والناس بشيء من الخصب. تتوالد الماشية لكن ليس كثيرا كما مضى.. تنمو الذُّرة، لكن ليست شاهقة كما كانت.. يجدد الناس إزاراتهم الصّوف والجلد بالكتاّن، لكن ليس القطن و الغلالات الناعمة، التي أصبحت ذكريات تنتمي إلى ماضي ساورا الزاهر..

 

48

الذين يرتادون حانة أتنّي الكبيرة، في قلب ساورا، عددهم يقِّل.. لقد ولى زمن الخصب الوفير الذي يريح البال و تتنامى معه الأحلام الكبيرة!

في ذلك الصباح البعيد، غامرت نيرديس بدخول مخدع آري، بعد أن تأكدت من خروجه الى غرفة الككر.

كانت متلهفة لمعرفة: لماذا تريدها الجارية الفارعة البيضاء ماريانا، التي منذ وطأت قدماها أرض ساورا حتى لم تعد الأشياء هي الأشياء، إذ أحدثت وفوك فرقاً كبيراً في كل شيء..

كان كل من في القصر قد انقسموا إلى قسمين في موقفهم من ماريانا: قسم أعجب بها كثيرا (الرجال) وقسم يشعر تجاهها بحقد عظيم (النساء).. لكن كل القسمين كان يتحدث عن سطوتها على آري للدرجة، التي جعلته لا يقرب جواريه ومحظياته ونساءه.عزف عن الجميع وولع بها وحدها.

منذها أشتعلت النيران، في قلب إيا كورِّي،ّ التي أخذت تحاول وسعها استرداد مكانتها، في قلب آري، دون أن تصيب شيئا من النجاح.

وقفت نيرديس إلى جانب الباب بتلصص، ولم تشعر بوقع خطى ماريانا، إلا وهي تقف أمامها وتضع يدها على كتفها:

"أدخلي لا تخافي فلن يراك أحد. خشيت ألا تحضري. طلبت من كتركوا أن لا يطلبك، إليّ إلا إذا رآك وحدك..

"إياكورِّي لن ترضى عني؛ لو علمت أنك طلبتني"

"لن تعرف أنك جئت إليّ. كما ترين أنا هنا وحدي، أريدك أن تكوني صديقتي"

  • ... …"

"لا أحد يحضر إلى هنا.. إيا كوري حاصرتني وحرضّت نساء آري ضدي!"

"آري هو الذي منع الفتيات الملكيات؛ من دخول هذا الجزء من القصر. لماذا طلبتني؟!"

"لأتعرف إليك. لقد أصبحت في سن إمرأة صغيرة؛ تؤهلك لمعرفة الكثير"

كانت نيرديس قد أصبحت أنثى مكتملة، منذ أيام قليلة فقط.. حديث دورة الراعي العجوز إليها وحديث أمها، أشعلا في رأسها أفكاراً غامضة، وأوقد في نفسها فضولاً خابياً، منذ وقت طويل..

"لماذا لا تجلسين؟!"

كانت نيرديس بادية التردد فجذبتها ماريانا، من يدها بلطف. أجلستها على الدّكة الملتصقة بالمخدع وجلست.

"أنت إبنة آري وإياكوري الصّغرى. أليس كذلك"

"أنا تؤام لنقي، ونبتة تكبرنا"

ثم أطرقت نيرديس برأسها.. ثم تلفتت في قلق تجاه فتحة الباب.

"لا تخافي. لا احد يأتي الى هنا. وآري منشغل بمجلسه"

ثم نهضت:

"سأعلمك أشياء جيدة آن الأوان أن تعرفيها"

"أي أشياء؟"

"إنها أشياء تخص النساء"

استبد بنيرديس الفضول، سحبتها ماريانا من يدها دون أن تترك لها فرصة، لتجيب ومضت بها إلى حجرّة داخلية مجاورة، وأغلقت الباب ثم أسدلت ستارا كثيفا، بعد أن أجلستها على مخدع الغرفة..

 

49

قال ساو:

"أحلم بساورا كلها مبنية من الحجر، بدلاً عن هذه الأكواخ"

"هل جننت؟!"

قال بييه ثم أضاف:

"أتريد أن تساوي النّاس بنا.. تريدهم أن يصبحوا ملكيين؟!"

"أليسوا شعبنا؟!"

قاطع صولمنج بييه ثم أكمل:

"أما أنا سأصنع طبلا كبيرا. أكبر من الطبل المقدس، ليكون بديلاً عنه!"

تدخل كورِّي:

"دعونا من كل ذلك الآن"

"ألا توجد أخبار عن دالي. ألن يعود.. ؟!"

"كيف يعود وقد خرق آري العرف.. حتى أن دورّة تخلى عن الكهانة بسبب ذلك.. إستبدل آري الأم القوية إياكوري بمحظية لعوب، يقول دورّة أنه استمرأ خرق العرف، و لا يأبه للجوار الذي يعد الجيوش لمحاربتنا"

"الجميع يتخلون هذه الأيام عن الأعراف!"

"ماذا تعني؟!"

"ألم تفكر أنت في مساواة الأهالي بنا.. ألم تفكر في استبدال الطبل المقدس؟!"

"أحذر بييه؛ ستجلب لنا اللعنة!"

"اللعنة حلّت منذ فقد آري سيطرته؛ على أمور المملكة. ولم يعد لنا دور يذكر في مملكة ساورا!"

خيّم عليهم الصمت لفترة، فقطعه ساو محاولاً تغيير مجرى الحديث:

"أنتم لا تفكرون بصورّة صحيحة. يجب أن نصرف اهتمامنا لرد هيبة ساورا، فحقنا في الملك، لا يقل عن حق دالي فيه.. كما أنه بالاختفاء الغامض لدالي، نكون نحن الورثة لعرض اري، وعلينا التصرف على هذا الأساس!"

نظر بييه إلى ساو في خبث:

فقال صولمنج:

"استطاع دالي التمكن من الحروف، وحكمته لا تخفى على أحد لو كان موجوداً؛ فهو أحق بالعرش من غيره"

قال كوري فقاطعه بييه:

"أنتم تتحدثون وكأن آري لم يعد موجودا!"

فعلق كوري:

"نحن نتحدث عن المستقبل؛ ولا نعني الوقت الحاضر. كما أنني أعرف جيداً، أن دالي زاهد في العرش. لقد أفسده الغرباء الذين كانوا يجالسونه لأوقاتٍ طويلة!"

"لكنهم مكنّوه من معرفة أشياء كثيرة"

"الغرباء كانوا يأتون فقط لبيع مقتنياتهم العجيبة. لقد أفاد من سورنق.."

"بل سورنق هو الذي أفاد منه"

تغير وجه بييه:

"كل ذلك ليس مهماً الآن. يجب أن نفكر في تدارك الأوضاع، فالمملكة تتهاوى! نحن لم نعد صغار، ويجب أن يكون لنا دور!"

قاطعه كوري:

"لكن مهم أيضا أن نعرف لماذا وأين أختفى دالي؟!"

"نبتة تقول أنه غضب من كون أبيه؛ ألعُوبة في يد ماريانا"

"بل قل ألعوبة في يد كل المحظيات و الجواري والخصيان!"

"المحظيات البيضاوات اللائي جلبهن له التجار؛ من خلف البحار البعيدة؛ هنّ أساس المشكلة"

"أرسل آري الرسل والمراسيل؛ المحملة بخيرات ساورا. الأمر الذي أوغر صدر الجوّار.. الذي أرسل يحذره، لكن آري لم يستجب"

"مال الجوّار ومالنا ان ارسلنا الى حلفائنا المراسيل.. وشيء من خيرات ساورا أو لم نرسل؟!"

"الجوار يريد ساورا أن تعامله مثلما تعامل الآخرين الذين يبعد بعضهم عنها إلى ما وراء الأُفق السحيق.. يرى نفسه الأقرب إلينا في المسافة والدّم!"

"انهم يعبئون جيشهم يا صديقي.. كيف لنا أن لا نتوجس منهم؟!"

 

50

عندما دخل رسل آري مدينة الحلفاء. كانت رائحة الخراب تفوح من كل شيء.أستوقفتهم الأنغام الحزينة، التي تصدر من (زمبارة) أحد المغنين عند مدخل المدينة، و استمعوا باهتمام للشاعر الذي ينشد خلف الأنغام مأساة الحلفاء..

 

عندما أنهارت المدن القديمة بفعل الحروب، اجتمع ما تبقى منها وتحالفوا ثم تواضعوا على بناء مدينة واحدة كبيرة. اختاروا لها من بينهم حاكما يديرونها معه كمستشارين له.

نمّت المدينة وازدهرت، وأصبحت قوة لا تقهر. وإلى هذه المدينة الجديدة، جاءت المرأة بارعة الجمال أعجوبة.

فتنت الوزراء وقادة الجيش.. لعبت بقلوبهم وأفئدتهم، ولم يحظ بها أحد منهم أبدا ثم أختفت عجوبة.. غابت لسنوات عدة قبل أن تعاود الظهور مرة أخرى! فعلموا منها أنها عادت إلى موطنها في الشرق البعيد، لترعى إبنتها الوحيدة!

 

وكانت الكنداكة ابنتها آية المدينة الكبيرة؛ كعلامة لآخر الزمان، لم ترى مثل جمالها عين بشر.

جنّ الشعراء وفقد الوزراء هيبتهم، وكاد قادة الجيش لبعضهم البعض. مضت الأيام وخطّ الشيب على شعر أعجوبة رحاله، ووسمتها التجاعيد والأخاديد، لكن ظل شيء من الجمال القديم في المحيا و القامة، التي لم تنحنِّ.

وكلما أشرقت شمس الصباح، كان جمال الكنداكة، يغوِّر حنين الجراح، أكثر فأكثر ويشعل صبواتا لا أول لها ولا آخر!

كبرت الكنداكة إذن، وداعبت في خيال الناس، ذكرى ذلك الجمال البعيد، الذي عاشوه يوماً، وهم يتذللون تحت قدمي أعجوبة، حتى ترضى.

 

تقدم الوزراء وقادة الجيش واحدا تلو الآخر، يخطبون منها الصبية البضة، التي سلبت عقولهم، وأشعلت في وجدانهم حماقات آلآف السنين..

ألهبهم يفاعها وغصنها المياد، الذي لم يترك المغنِّين جزء فيه لم يدبجوا فيه أغنية عارمة الأوار..

وفي هذا الجو المشحون بأهواء الأشواق، واشتياقات الوصل، نسجت أعجوبة مؤامرتها، وأخذت تقول لكل من يتقدم لخطبة الكنداكة، أنها ترغب في أن تزوجها له، ولكنها تخشى هذا الوزير أو ذاك..

 

وعندما أرسل السلطان في طلبها، زعمت له أن قواد الجيش والوزراء، هددوها وأمروها بألا تقبل بخطبة الملك لإبنتها..

وهكذا أخذ كل وزير، يشعر بأن الآخرين، يقفون أمام حلمه بالكنداكة.. كما شعر السلطان بالغضب، تجاه قادة الجيش والوزراء. تنتابه مشاعر شتىّ.

إذ اعتقد أنهم لم يعودوا يهابونه، و يتجرأون عليه، ناسين أنه آري المملكة، ولا يقيمون له وزناً. ولابد له من استرداد هيبته التي أهدرت.

وهكذا ردت أعجوبة التحالفات، التي نهضت عليها المملكة إلى جذورها. فتمايزت إلى مكوناتها التي نهض فيها التحالف، واشتغلت الأحقاد القديمة، والإساءات والمرارات والاحن والضغائن المنسية، واصطفت الجماعات ضد بعضها البعض..

 

قال المغني لرسل آري:

"أكلت المدينة الكبيرة نفسها، ليصفو الجو لحكم الكنداكة، التي تزوجت من أحد الخصيان!

 

51

نظر الرسل إلى بعضهم البعض، وقرروا التراجع إلى ساورا بخفي حنين!..

كانت المدينة المقدسة، تنتظر مجيء الرسل، مثلما تنتظر الأمطار، التي مضت ثلاث سنوات منذ آخر هطول لها. جفت الوديان و أمحلت الأرض، وأصيب الناس بالهلع.

الغرباء الذين كانت أزقة ساورا، وحواريها تمتليء بهم هربوا.. أتنّي الكبيرة، التي تتوسط ساورا، نسج فيها العنكبوت شباكه الآمنة.. وسكنته الخفافيش والبوم.. هجرت أتنّي ولم يعد أحد يرتادها.

عمّ الضيق أرجاء ساورا، التي بدأت تذوي أكثر فأكثر، مع مشرِّق كل صباح جديد.

صباح كل يوم، يحمل الناس جثمان طفل أو طفلين، فالوباء بدأ بالأطفال، الذين لم يبلغوا السادسة، و لم تُجرى لهم بعد طقوس التدريب الشعائري. فهم ليسوا كاملي العضوية في الجماعة. ولذلك يدفنون في مدافن مخصصة لهم، تحت سطح الهضبة بعيدا عن مدافن الرِّجال بعد أن يوضعوا في أوعية الفخار مقرفصِّين..

أخذ الوباء الغامض ينتقي الرجال شيئا فشيئا، فنشط حفارو القبور وصانعو الأثاث الجنائزي أكثر من أيّ وقت مضى على التاريخ المجيد لساورا، التي عمتها الأحزان الآن.. حتى آري نفسه بدا مرعوباً، من هذا الذي يحدث، و يستشعِّر أن أيام ساورا الآخيرة قد دنت.. أفزعه ما أصابها، وهو يرى أيامها الجميلة تولى إلى الأبد. كان يائسا ومحبطاً ومنهكاً ومنتهكاً حتى النّخاع!..

 

أصاب الجفاف الأشجار فصارت يابسة كالحة! الوباء الذي يحصد الأرواح، والوديان التي صارت، أمتداداً لصحراء قاحلة. الوباء لم يدّخر شيئا.

 

وتلك الأخبار التي تتواتر عن جيش الجوار الجرار، والرُّسل الذين لم يعودوا أبدا، تزيد النفس قنوطاً على قنوطها!

حاول آري ترتيب الأمور في المملكة! نشِّط وسط جنده بعد أن أستيأس، من عودة الرسل ومؤازرة الحلفاء..

 

كان جيش الغزاة يقترب شيئا فشيئا من ساورا، عندما أجلست إياكورِّي لنقي على حجرِّها، وأخذت تداعب شعرها في حنو:

"ليس لساورا إياباسي سواك لنقي. أختيك ليست لديهما حكمتك، ودالي قد لا يعود. فمن لساورا غيرك. أنه أمر عظيم، لكن طاقتك ستحتمله. تستطيعين لنقي، و تقدرين على النهوض بشؤون المملكة. إذا دهم الغزاة ساورا، ولم نعد أحياء بقربك. يجب أن تعيدي بناء كل شيء اذا حدث المكروه.. عديني لنقي أنك ستحافظين على عرش أجدادك!

 

اقترب الغزاة أكثر فأكثر؛ فارتجفت قلوب الناس، وأهتزت الفروع اليابسة، وتشققت أرض الوادي القاحل وازداد اضطراب آري، فهتف بقائد الفرسان بييه:

"دع كل شيء واهتم فقط بحماية الفتيات الملكيات!"

"ألن أحارب؟!"

"نعم أنت والفتيان الملكيين، يجب أن تتم حمايتكم كما علمنا الأسلاف. يجب أن يبقى من يستمر لأجل ساورا"

"والفرسان؟!"

"سأجد من هو كفء لقيادتهم"

 

أعاد آري تنظيم جيشه من جديد. أكثر ما كان يُقلقٌه، هو إمدادات حواضر ساورا السِّت، اذ لم تصل، رغم مضي وقت ليس بالقصير، ما أربك خُططّه! فساورا تحارب في أوقات عصيبة.. انهارت معنويات آري تماما، عندما تواترت الأخبار بأن الحاضرتين الشمالية والغربية الحدوديتين مع الجوّار، سقطتا في يد الجيش الغازي.. أسقط في يد آري!

"لكن كيف؟ جيشهم لا يزال يزحف! كيف؟!"

"لقد تعاون معهم بعض قادة الجيش ووزراء بلاط الحاضرة؛ كما أنهم أوكلوا مهمة إسقاط المدينتين لجيشين آخرين".

"والعيون؟ عيون ساورا؟ اين العيون؟!"

"إنها مسئولية كتركوا"

بحث آري عن كتركوا الذي كان كفص ملح وذاب! بكى آري كما لم يبكي من قبل. كانت ماريانا أيضاً قد اختفت! ربت دورّة على كتفه بحنو؛ وقالت إياكوري في لوم:

"لم تسمع كلام أحد"

التفت إليها دورّة في إستسلام:

"ليس هذا وقت اللوم"

تنهد آري المجروح المخان:

"ترى أين يكون دالي الآن؟ أنا بحاجة إليه الآن أكثر من أيّ وقتٍ مضى"

"لا تشغل بالك به. سيأتي. لا محالة سيأتي..

هز آري رأسه في أسف وأسى. أطرق إلى الأرض ثم رفع رأسه ببطء؛ وأمر قواده بسحب الجيوش من الحواضر الأربعة؛ المتبقية ومركزتها شمال ساورا.. المدينة المقدسة. لم يعد أمامهم الآن.. سوى الانتظار على أبواب المدينة، لمقاومة الغزاة، فساورا لا تستطيع إختيار الميقات والمكان للمعركة الفاصلة.

خرج آري في قيادة الفرسان، ليلتحق بالجيش شمال العاصمة!

فيما تداعت في هذه اللحظة بالذات الى ذاكرته، ماريانا بطيفها الساحر في تلك اللحظة الأولى.. تلك اللحظة التي دخل فيها كتركوا يعلن عن وجودها..

 

"قافلة قدمت من درب الأربعين؛ جاءتك بهدية"

"هدية؟!"

"تركها التاجر الذي جاء بها ورحل"

"لماذا لم يقابلني؟!"

"ربما لم يسمح له حراس القصر، تنفيذا لأوامرك. فاختفى. ربما يعود مرةً أخرى"

"اهتم بها وبعد أن ترتاح آتني بها"

ولم يمض سوى أسبوع حتى دخلت عليه ماريانا. وقف مشدوهاً. لم يكن يتصورّها بهذا الحسن البديع.

تمنى لحظتها رؤية التاجر، الذي أتى بها ليشكره. لكنه لم يرّه أبداً، وبمرور الوقت كان قد نسيه. أنسته ماريانا كل شيء ولم يعد يتذكر شيئا سواها. ظل طيفها الملائكي الساحر، لحظة رآها لأول مرة مسيطراًعليه، حتى وهي بين أحضانه!

"اللحظة التي رأيتك فيها، لم أرى أنثى. كنت أمامي جسرا بين الشجن واللوعة. طيف من اشتياق أزلي.."

 

حاول آري أن يطرد طيفها، ويبعث في الجند شيء من الحماس والأمل. لكن الهزيمة التي جاءوا يحملونها، معهم من الحواضر، التي أخذت تسقط واحدة تلو الأخرى. تحت سنابك خيل الغزاة وتركع كالسبايا والصبايا المهزومات، وهن يقهرن تحت وطأة الغزو..

كانت النفوس متآكلة آخذة في الانهيار المتسارع، فلم تتبق سوى ساورا العاصمة. والغزاة يقتربون. عما قليل ويكونون على أبواب ساورا.

 

الحلفاء البعيدين لم تأت منهم أخبار. فالرسل لم يصل منهم أحد، وساورا تمضي لتنمحي من الوجود بخطى حثيثة، وتكون أثرا دارسا..

الشائعات تضعضع الجيش المنهار.. الشائعات التي لا يعرف مصدرها أحد، تتحدث عن قتل الكنداكة لرسل آري:

"لحقت بهم خارج المدينة الكبيرة وقتلتهم.رمت بجثثهم لطير الفلاة.. الشائعات تتحدث عن اللعنة التي جلبها تجار القوافل، وتتحدث الشائعات عن غضب زوجة آري.. إياكوري الأم القوية المقدسة. وحسرتها.. ورفضها مفارشته منذ سنوات عدة.. بالضبط منذ جاءت ماريانا، و أخذ يستخدم طرقا غريبة عليها في المخدع فلفظته لها!"

 

الشائعات تحاصر الجيش الموجوع المتداعي..أرسل آري لملك الجوار، أن يتراجع ويترك ساورا وشأنها، فرد عليه بأنه لن يتراجع، إلا إذا جاءه آري صاغرا، وركع عند قدميه وذرّى التراب على رأسه وناح مرددا:

"أنا امرأة.. أنا امرأة.." غضب آري غضبا شديدا حتى صارت عيناه بلون الدّم. أصدر الأوامر بالزحف الذي كان يدرك أنه زحف اليائس..

زحف الجيشان تجاه بعضهما البعض.. اقتربا..اقتربا.. ولم يتوقف الزحف أبدا. أراد جيش الغزاة أن يستريح، لتكون المعركة في اليوم التالي. الشرر الذي يتطاير من عيني آري منعه الإستجابة، فأصدر قراره المباغت بالالتحام..

 

حارب آري ببسالة أدهشت أعداءه، كان يقاتل كألف رجل، ركبهم الجن السود و شياطين الجحيم الحمر. قاتل ببراعة وحماس بالغين، كأن ماردا مجنونا، فائق القوّة تلبسه!..

قاتل كما لم يقاتل أحد من قبل أو من بعد، إلى أن اخترقته مدّية سامة فأردته.

 

سقط آري فارتبك الجيش وارتعب.. سقط القتلى.. سقط الجرحى، وتفرقت بقايا الجيش المهزوم في السهول الشاسعة لصحراء لا قلب لها!

حمل الغزاة معهم جثمان آري، ودخلوا به ساورا المفزوعة. كان الناس ينتظرون قدرا غامضا، حتى أنهم لم ينتبهوا لإنتحار زوجة آري للوهلة الأولى، مثلما لم ينتبهوا لإختفاء الفتيات والفتيان الملكيين!

 

عندما دهمت جيوش الغزاة ساورا، عمّ الخراب كل شيء! خلى القصر الملكي.. الذي لم يكن فيه سوى بعض الخصيان و الجواري، والمحظيات والعبيد، كانت كل الكنوز قد اختفت ولم يعثر لها الغزاة على أثر!

قتلت جيوش الغزاة كل من وقف بوجهها.

 

52

قبل أن يستبيح الغزاة ساورا ، كان بييه وساو قد انسحبا من مؤخرة الجيش. دخلا المدينة يبحثان عن الفتيات الملكيات. وجد بييه الفتيات الأربعة، فذهب يخفيهن في ركن حجري، خلف الأكمة الصخرية في الوادي القصِّي، الذي يجاور ساورا من جهة الجنوب، بينما اختفى ساو بشبونة في مكانهما الأثير..

 

53

عندما أفاق الذين تبقوا أحياء من أهالي حاضرة مملكة ساورا، من هول الهزيمة، تدافعوا يزحمون الفناء، الذي أخذ يزدحم أكثر فأكثر، بالنازحين من حواضر المملكة كلها، فامتلأت بهم المدينة الخراب، التي شغرت من سكانها الأصليين، واغرابها الذين هجروا أكواخهم منذ وقتٍ مبكر. قرر من تبقى من شيوخِ وكهنةِ ساورا تنصيب آري جديد، فتدخل دورّة:

"نحن لا نعرف مصير دالي حتى الآن.. خبر خراب ساورا؛ ومقتل آري ملأا الآفاق وقد يجيء دالي في أيُّ وقت. إذا كان لا يزال حياً بعد!"

أتى صوت نيرديس من قلب الجمع:

"لا تضيعوا وقتا؛ نحن بحاجة لآري، وبييه هو الأصلح لهذا الأمر، وإذا جاء دالي يتنحى بييه له"

قلّبوا أبصارهم بين نيرديس وبييه؛ الذي كان صامتا. لا تعبر ملامح وجهه عن شيء، قال أحد الشيوخ:

 

"نحن في محنة وهذا أمر سابق لأوانه.. سيدير ساورا مجلسا من الشيوخ، وبعضٍ من أفرادِ العشيرة الملكية، إلى حين عودة دالي، لقد استشرنا الكبش المقدس في ذلك.. سيكون جزء من هذا المجلس كل من تبقى على قيد الحياة من كبار رجال ساورا"

ثم ألتفت الشيخ إلى بييه وساو وصولمنج وكورِّي:

"نحن نثق بكم. فلا تفعلوا شيئا دون أن ترجعوا إلينا"

أضاف دورة:

"عليك يا ساو بتصوِّير الخراب؛ الذي حلّ بساورا على جدران المعابد.. وأنت بييه عليك جمع ما تبقى من الشبان وتدريبهم، واتركوا لكورِّي أمر الجمع الصبية في سومنق.."

قاطع صولمنج الشيخ دورّة:

"أنتم تنسون شيئا مهماً؛ ليست لدينا مقومات للبقاء هنا، وتعمير ساورا من جديد"

انسحب دورّة بخياله بعيدا، طفا على سطح ذاكرته، وجه وحيده الغائب سورِّنق..

"أنت تحلم كثيرا سورِّنق!"

"كل ما نفعله يا ابي في ساورا هو أحلام.. احلام ليس لدينا غيرها"

"ماذا قال لك دالي هذه المرّة؟"

"لم يقل شيئا. نظر إلىّ عميقا ثم أطرق كنبيٍّ تؤرقه رسالة عظيمة.. غامضة لا يدري هو نفسه كُنهها!؟!"

"ماذا تعني؟!"

"دالي يخفي بين جوانحه أسرارا كبيرة"

"وكيف عرفت أنت ذلك؟!"

"عندما أسأله دائما يكرر: سيجيء الوقت الذي تعرف فيه كل شيء!.. و.. الأمر لا يتم بدونك!"

"إذن هو الذي يغذِّي فيك جنونك؟!"

"أيُّ جنون يا أبي. أنا لا أعرف حتى ماذا يعني!"

"لا؛ أنت تخفي عني شيئا سورنق. لن أُجبرك على الحديث. أنا أشعر بك. ما تفكِّرُ فيه مستحيل!!"

"في ماذا أفكر؟!"

"لن تصبح آري بالسهولة التي تتصوَّر!"

 

54

انعقد في الأفق البعيد، غبار كثيف جعلهم يتجمعون في زعر، من كلِّ أزقة وحواري ساورا.. حدق صولمنج في الغبار، الذي أخذ يقترب شيئا فشيئا. و هتف صولمنج:

"أنهم الغزاة مرةً أُخرى!"

كان قلب دورّة قد انتفض بشدّة. أمعن بييه النظر:

"لا؛ ليسوا الغزاة.."

اقترب الغبار فتبينوا خلاله ثلاث قوافل كبيرة؛ من الجمال المحمّلة، يتقدمها قائدها على جوادٍ أبيض. اقتربوا منه. صرخ دورّة:

"سورنق!"

 

55

بعد أن أنهى الأهالي احتفالهم بعودة سورنق، اجتمع الشيوخ، وقرروا أن يكون سورنق قائدا للمجلس، الذي يدير شؤون ساورا الى حين مجيء دالي. أو اختيار آري جديد، إذا استمر غيابه!

باشر سورنق مهامه في نشاط محموم. وزع الأحمال التي جاءت بها قوافله بنفسه، على الأطفال والنساء والشيوخ، وكان عندما يناله الإعياء يدخل الى غرفة دالي، يغمض عينيه ويرحل في أسرار ساورا.

كانت الفتيات الملكيات مستاءات، من فرض الشيوخ لسورنق قائدا على الشباب الملكِّيين؛ وللمجلس الذي يدير ساورا. قالت نيردِّيس:

"لقد اشتراهم بأحمال الطعام التي وزعها عليهم"

 

تدخلت لنقِّي مستاءة:

"انت دائما هكذا نيرديس. لقد أنقذ الأهالي من الموت. أعرف انك تريدين أن يصبح بييه آري.. لكنه لا يستطيع أن يقدم لشعب ساورا ما يستطيع أن يقدمه سورنق. فالغزاة لم يتركوا شيئا حتى لنا نحن الملكيين. وبييه يعرف ذلك جيدا.. وحتى الان لا ندري اين اختفت كنوز ساورا، التي بعهدة آري الراحل"

 

كان مجيء سورنق، قد أحيا الأمل في النفوس البائسة.. صوته العميق المؤثر، و كلماته النافذة تفعل في جراحات نفوسهم فعل البلسم الساحر. تشفيها مما ألم بها من مرارات وآلام وأحزان غائرة، وتجعلهم يشعرون بالطمأنينة. كان كلام سورِّنقْ الهاديء الواثق الدافيء يرمم وجدانهم ويأسرهم ويجعلهم يحسون أن بالإمكان مواصلة حياتهم، كما في السابق.. أيام مجد ساورا المقدسة!

مضت أيام عدة على وصول قوافل أخرى لسورِّنقْ، وكلما مرّت الأيام تزداد لنقِّي قلقا وتوترا.. تشتاق للقاء سورنق، ويحزُّ في نفسها أنه تزوج وأنجب كما اخبرها المبجل دورة، فتتراجع عن لقياه!

ظلت تتهرب من لقائه لعدّة شهور. كانت كلما مضت باتجاهه، لتحادثه تغيِّر رأيها..

قالت نبتة:

"لم يحفظ سورنق العهد لنقي. لا تأبهي له، الأفضل أن تستجيبي لبييه"

ردت لنقي بتوتر:

"لكنه لم يعاهدني على شيء!"

في اليوم التالي لوصول سورنق؛ كانت لنقِّي قد تحينت الفرصة مرة أخرى للإختلاء بدورّة الذي بادرها:

"أين أنت؟ سورنق يسأل عنك منذ عاد؟"

"عزمت في نفسي ألا ألتقي به؛ إلا بعد أن ألتقيك"

"ما الذي يدور برأسك؟"

"هل أنت متأكد أنه تزوج في غيابه الطويل؟"

أطرق دورة قليلا؛ تفكر عميقا وهو يزفر ببطء:

"نعم لنقي.. لقد كان.."

ركضت لنقي مبتعدة؛ لم ترغب في أن تسمع أكثر.. واخذت تصر منذها على تحاشي الإحتكاك بسورِّنق، تعاني احتراقاتها وحدها في صمت وتوتر مؤلمين..

اصرّت شبونة:

"حتى لو لم يعاهدك؛ كان لزاما عليه ألا يتزوج وبينكما ما بينكما من حب منذ الطفولة!"

هزّت كوِّي رأسها:

"انتم تحمِّلون الأمور فوق طاقتها؛ لنقي هي الاولى.. انها ابنة آري.."

أضافت شبونة:

"كلام كوِّي صحيح. يجب ألا تهتمي لنقي بزواجه من تلك الغريبة؛ التي لم نراها ولا نعرف عنها شيئا، فهو لك وسيظل لك.."

قالت نيرديس التي كانت تراقب حوارهم في استياء:

"اسمعي لنقي أمامك أحد خيارين فقط. إما أن تتزوجي بييه، وهو الذي سنساعده كلنا ليكون آري، واما ان تتزوجي سورنق، بشرط أن يترك الغريبة، ولا يأتي على ذكرها. وفي هذه الحالة أيضا لن نتركه يجعل من نفسه آري علينا.. فنحن نريد بييه"

 

وسرحت نيرديس في خواطِّرِّها؛ بعيدا الى تلك اللحظة؛ التي فاجأها فيها الشيخ دورة مع بييه في غرفة فوك الملحقة بأتني..

كانت بعد لم تمض سوى أيام قليلة على لقائها بماريانا.. نقل دورّة بصره بينها وبين بييه.. صفع بييه بقوة على وجهه، ثم سحبها من يدها ومضى بها إلى سومنق، ثم أخذها بعد ذلك إلى القصر.

كان كلاهما مرعوبا، فاعتكفا بعيدا عن عيون دورة و تجنباه لأيام عديدة إلى أن اصطادهما وتحدث إليهما طويلا..

"لم أخبر أحدا بما رأيت، على ألا تعودا إلى ذلك مرة أخرى"

أشد ما كان يقلق سورنق هو لقاءه المتوقع بلنقي، التي أزعجه تجنبها له كل هذه المدة.

 

دخل عليه الشبان الملكيين، وأخرجوه من عزلته.

سألوه عن الوديان والسباسب والوهاد والصحراء الشاسعة، وما خلف البحار البعيدة.. سألوه عن أشياء لا حصر لها، فحكى كل شيء منذ لحظة هروبه في تلك اللحظة، من ذلك الصباح الشاحب، إلى أن جاءه خبر خراب ساورا..

ثم أنهى سورنق حكاياته قائلا:

"سيطرنا الآن على المجاعة؛ لكننا لا نستطيع السيطرة على المحل والجفاف والتصحر!"

 

"الأحمال التي جاءت بها القوافل الآخيرة؛ شارفت على الإنتهاء"

ارسلت في طلب الذّرة والكتان والقطن، لكن ليست تلك هي المشكلة، فالخراب الذي حلّ بساورا حطم ما تبقى من الناس، ولذلك علينا أن نرحل بهم، من هنا ليبدأون حياتهم من جديد"

قال سورنق فقاطعه بييه:

"كيف نهجر أرض الأسلاف وننزح عنها سورنق؟!"

"الأرض كلها للآلهة؛ والأسلاف معنا أينما ذهبنا"

خيم الصمت على الوجوه الشاحبة؛ صعب عليهم إبتلاع أمر الرّحيل، لكن خشيتهم من تخلي سورنق عنهم للموت والوباء كانت أكبر. الهزيمة التي ضعضعت النفوس، جعلت للخراب طعما أكثر مرارة من الحنظل.
قال ساو بحسم:

"نعم يجب أن نهجر هذه الأرض. ساورا لم تعد هي ساورا. كل شيء هنا سيذكرنا بالهزيمة"

قال بييه:

"انها ليست المرة الأولى؛ فساورا دخلت في حروب من قبل، انتصرت وهزمت لكنها لم تغيِّر أرضها"

أكد سورنق:

"لكن ليس طوال تاريخها؛ تتعرض وديانها للجفاف. وناسها ومواشيهم للوباء!. لو أصرّ الناس على الاستمرار بالبقاء هنا. سيموتون. كما أن دالي يريد للنّاس الرّحيل. أخبرني ذلك.

أشرع الجميع عيونهم وقلبوا أبصارهم. في بعضهم البعض . أضاف سورنق بحسم:

"نعم جاءني دالي في خلوّتي. وأخبرني أنه علينا الرّحيل"

تداولوا الأمر بينهم، ثم عرضوه على الشيوخ صباح اليوم التالي. قلّب الشيوخ والكهنة الأمر في أذهانهم من كل وجوهه، ومضوا إلى المعبد يستشيرون الآلهة. غابوا لأيام في عزلة تامة ثم جاءوا فتحدث دورة:

"لقد فوضني الشيوخ والكهنة بالحديث عنهم، سنعود إلى الأرض التي جئنا منها في البدء"

اتسعت عيون الجميع دهشة:

"الأرض التي جئنا منها؟!"

"نعم جاء أسلافنا من مملكة الجبل والوادي، جبل الكبش التي بدأت، تتكوّن بإتحاد غامض في الأزل بين الإله الكبش وروح الوادي. شكلا معا المملكة المهابة. على أرض الوادي الخصِّيب. حيث ينتصب الجبل العظيم آري ,ليُطِّل على الجوار كله من علٍ.. يطِّل على الدّغل والسهل والقيزان.

شهد الأسلاف ولادة الجبل، في روحهم وروح الجبل فيهم. وهذه المملكة التي صارت خرابا (ساورا) ما أنهارت إلا لتقديس البعض للقط حارس مملكة الأموات وتركهم عبادة الكبش المقدس..

انفصلت ساورا عن روح الكبش، لتؤلف مع القط مملكتها الهالكة.. في مشورَّة الآلهة أن دالي سيجيء، ويشيد مرة أخرى ساورا..سيبعث مملكة الجبل من قلب الوادي.. من روح السلف الهائمة (دالي المختار منذ الأزل) للحقيقة والنظّام.

خيم صمت عميق، على الوجوه المنهكة. غرقوا في الدهشة والرّهق. أضاف دورّة:

"لقد سقطت مملكة الجبل والوادي؛ في زمن سحيق. كانت قد تضافرت عليها، دفعة واحدة عشائر الغرباء والمحل والوباء القاتل، ووحوش البرِّية. أنهار كل شيء دفعة واحدة. مثلما حدث لساورا. فضرب الأسلاف في الآفاق إلى أن وجدوا هذا المكان، الذي أنشأوا عليه ساورا. كان أجدادنا نحن الشيوخ المعمرِّين، بعد لم يضع أجدادهم بذور آبائهم في أرحام أمهاتهم. انه زمن بعيد.. بعيد.. بعيد جدا…

مدّ أحد الشيوخ تاجا من العاج، نقش عليه الكبش رمز القوّة والخصوبة. أخذ دورة التاج بيد، ووضع اليد الأخرى على رأس سورنق، وأخذ يتمتم:

"انه قائدكم لمملكة دالي الجديدة. باركه الشيوخ والكهنة. باركه دالي إبن الكبش والجبل روح ساورا القديمة روح الجبل القديم الحي أبدا.. انه ابن دورة الراعي لشعبه.. الكاهن المعلم.. أمه أخت الملك الكبرى، ابنة الكبش المقدس. انه سيدكم.. سيشيد مملكة دالي لشعبه العظيم. آمين"

هتف الكهنة والشيوخ خلفه:

"آمين"

وضع دورة التاج على رأس سورنق:

"ستقودنا منذ الآن؛ إلى أرض الأسلاف.

كان الجميع ينظرون الى بعضهم البعض؛ ويطرقون رؤوسهم و يقلِّبون وجوههم في حيرّة وقلق. تنتهبهم الأحاسيس والأفكار الغامضة؛ دون أن ينبسوا ببنت شفة"

قال سورنق:

"ِصف لنا أرض أسلافنا الأوائل أبا دورة" نحت الشيخ دورّة ذاكرته. هوّم بخلاياه؛ نقّب بعيدا بعيدا.. أغمض عينيه.. هدأت أنفاسه وأنتظمت، وأخذ يصِّف ببطء سهلا شاسعا، تتخلله المجاري والوديان والقيزان والجبال المتفرقات، والأكمات والادغال..

انطلق الرسل يبحثون عن هذ المكان؛ إلى أن جاء بييه ذات يوم غارقا في الغبار والحر:

"وجدت أرض الاسلاف سورنق"

"أهي جميلة؟!"

"لم أرى أجمل منها من قبل.."

وحكى بييه لسورنق كيف أن قلبه خفق بشدة؛ عندما وطأ أرض الوادي..

النقوش التي في جدران ذلك الكهف.. الذي تنحدر المياه من مكان ما داخله، هي نقوش ساورا ذاتها.. النقوش والرسوم تحكي مسيرة شعب الوادي في البدء والمنتهى، وتتحدث عن خيرات الوادي وطبيعته!

"كيف وجدت هذا الكهف؟! ما أعلمه أنه بعيد مغادرة أسلافنا لمملكة الجبل والوادي انها اختفت وزالت آثارها من الوجود"

"دخلت بدافع الفضول؛ فهو أول ما تقع عيناك عليه.. وأنت تدخل الى الوادي.. ما أن وطأته قدماي حتى تعلق قلبي بالمكان.. منذ الوهلة الأولى تعلق قلبي بالمكان دالي، لكأن حنينا بعيدا يشدني. انها حقا أرض الأسلاف.

 

نادى سورنق في الناس:

"ليستعد نصفكم للرحيل وليبق النصف الآخر. وتحرك الركب يقوده بييه إلى مملكة ساورا الخراب ليأتي بالباقين من شعبها المهدد بالانقراض.

نزل الركب وانزل الأحمال. وأخذ الجند يبحثون عن كهوف في الجوار وأسفل الجبل أدخلوا الشيوخ والنساء والأطفال إلى الكهوف، وأوقدوا النار عند مداخلها حيث نام الرجال يحرسهم بعض الجند.

في الصباح جمعهم سورنق ووزعهم إلى فرق للعمل. وتحوّل الوادي إلى خلية نحل دائبة الحركة.

 

كان المعبد الكبير قد اكتمل بناؤه، وشارف قصر آري على الإنتهاء ولم يعد الوادي الموحش هو ذاته. توغلت الحيوانات الضارية في مجاهيل الادغال، ونهض سومنق في أعلى التل، وحقق ساو أحلامه القديمة في تشييد الفاشر حول القصر من الحجر.

كانت حاضرة الوادي أجمل من ساورا المهجورة. كانت تنمو بسرعة مدهشة..

 

نظف الأهالي الأكمات. نصبوا "دناقل" العسل في الأشجار، وزرعوا الموالح والحبوب والخضروات. ونصبوا معاصر الزيوت والخمر.

أعاد ساو صياغة أحد الكهوف ليصبح مشغلا جميلا. كان يعمل بأزميله في أحد التماثيل الأنثوية، بينما داهمته نبتة. فتوقف عن عمله. وضع التمثال جانبا. وأخذ ينظر إلى صدرها نصف العارِّي تلمظ وهمس:

"سأنحتك يوما نبتة"

كانت تقف لا مبالية؛ وهي تبتسم في عذوبة:

"لماذا ليس الآن؟!"

مدت يدها تاخذ التمثال؛ الذي كان يعمل فيه:

"انها لنقي"

قالت وهي تقطِّب حاجبيها؛ فرد بهدوء:

"طلب مني سورنق نحتها"

كانت لنقي في هيئة الكبش، تفتح زراعيها تحتضن الهواء. شعرها ملفوف في جدائل صغيرة تتدلى على الكتف، وبين نهديها المتحفزين العارِّيين، تتدلى حبات خرز صُفت بعناية. كان الكنفوس القطني الذي ترتديه ينسحب قليلا عن باطن فخذيها، ويبدو موشيا.. قطبت نبتة حاجبيها في غيرّة.

"يجب أن تنحتني في الحال"

فضحك ساو وهو يقترب منها؛ فاتحا ذراعيه:

"لا تكوني مشاكسة مثل نيرديس؛ الأمر ليس بهذه السهولة"

ادارت وجهها عنه؛ وهي تفلت نفسها من بين زراعيه و أخذت تقلِّب بصرها في محتويات مشغله الصغير، الذي نقشت على جدرانه تصاوير تمثل خراب ساورا، ومعابدها المهجورة وزوجة آري المنتحرة، وآري يقاتل ببسالة واستماتة، وفي صورة أخرى: إياكورِّي في كنفوسها الملكي، وجسمها الفارع تحتضن بيديها؛ رأسا لكبش لامع العينين. كانت راكعة تحت قدمى كبش، يؤلف مع وجه ابنها دالي وحدة واحدة.

"مشغلك جميل ساو!"

قالت نبتة في دلال فأجابها في تزلف:

"وأنت بديعة نبتة"

"أنت كاذب"

"كيف؟!"

"أترك نيرديس إن لم تكن كاذبا!"

غيّر ساو مجرى الحديث:

"الم ترى الطبل الذي صنعه كورِّي؟!"

"انه أكبر طبل أراه في حياتي ساو.."

"بييه يقول أن هذا الطبل؛ سيحل محل الطبل المقدس الأكبر"

 

56

أخذ الناس يتوافدون إلى المملكة الجديدة؛ التي برزت الى الوجود فجأة. وأخذت قوافل الملح تمضي وتجيء، وأنتشر التجار من شعب الوادي (شعب ساورا القديمة) يتاجرون بمواشيهم ويستثمرون حقولهم بين الحدود القبلية والمهنية التي على الرغم من ثباتها، كان من السهل عليهم النفاذ منها.

فالمزارعين الناجحين يستثمرون في الماشية، حتى يصلوا الى نقطة تكون فيها قيمة ماشيتهم، أعلا من قيمة حقولهم، ولكي يحموا استثماراتهم في الماشية، يجب عليهم عبور حدود الجوار العرقية، تاركين لغتهم وأسلوب حياتهم، ليتخذوا أسلوب حياة الجوار، لكونه الأسلوب الملائم لبداوة الماشية، تماما كما كان يحدث في ساورا البائدة على حدود بداوة الإبل، حيث تكون الضغوط قوِّية على شعب ساورا، الذي يضطر للتكيف مع قيم الأبالة، عندما يعبرون الى حدودهم (*)

الجفاف الذي أصاب الأنحاء المجاورة للوادي أضطر الرُّحل أن يتوافدوا على المملكة الوليدة. إذ افقدهم الجفاف قطعانهم، وهدد الوباء حياتهم، فاستقروا في مملكة الوادي النامية، تخلوا عن ترحالهم وأصبحوا مزارعين، وعندما يهتاج الحنين إلى حياة البداوة في داخلهم، يذهبون في القوافل ويعودون، ولكن يظل الحنين هو الحنين..

أخذت المملكة تزدهر بسرعة وتنبض بالحياة، كأنها ليست تلك المملكة، التي انتشر فيها الوباء يوما وانقسم أبناء سلطانها الذي قتله الوباء إلى ثلاثة مجموعات، ضربت في أنحاء الأرض. كأنها ليست هي تلك المملكة التي درّست ذات يوم!

كانت تنمو بصورة عجيبة وتزدّهر كأنها تخرج من قمقم أزلي!

اجتمع الرّجال الملكيين الذين كانوا يوما مجرد فتيان مغرورين في ساورا البائدة..اجتمعوا في سرِّيّة تامة بكهف ساو قال بييه:

"مضى وقت طويل على سورِّنق وهو يقودنا، ونحن بعد لا نزال بدون آري.. والأمور تمضي كما توقعت نيرديس.. سورنق يخطط لتنصيب نفسه آري. ولن ينتظر دالي.."

تساءل كورِّي:

"ما العمل إذن؟"

رد صولمنج:

"أرى أن نجمع ما تبقى من العشيرة الملكية خلفنا. وبعد أن نضمن وقوف الجميع إلى جانبنا؛ سيضطر سورِّنق للتنحي"

قال بييه بعد تفكير عميق:

"سورِّنق عرف كيف يكسب ثقة شعب ساورا؛ عرِّف كيف يستقطب البدو الرُّحل "الأبالة" الذين لا موطِّن لهم سوى الترحال، ويوطنهم هنا، وجعل حتى الجنجويد يشعرون بالإنتماء إلى هذا المكان. سورِّنق عرف كيف يجعل لا شعب الوادي فحسب يحبه ويخشاه، بل حتى الشعوب الهائمة على وجوهها دون وطن..فهو الذي أنقذ شعب ساورا من الموت المحقق، وهو الذي منح هؤلاء الرجل الهائمة على وجوههم وطنا ليستقروا اخيرا!"

أضاف ساو:

"لا تنسى إضفاءه على نفسه طابعا إلهيا خارقا، لا يقوى بعده أحد على معارضته!

قاطعه بييه في حدّة:

"هل سنتركه يهنأ بالعرش لمجرّد هذه الادعاءات، في الإتصال بدالي وتلك التُرهات التي يحيط نفسه بها؟!"

أطرق كورِّي راسه وقال بعد تفكر:

"أرى أن نبدأ بمضايقته بالشائعات"

أضاف صولمنج:

"هذا جيد. يجب أن نضايق ايضا هؤلاء الدُّعاة والمبشريِّن، الذين فتح لهم الباب على مصراعيه"

لم تتحدث الفتيات الملكيات أو يعلِّقن. كن ينظرن في صمت إلى بعضهن البعض تارة، وتارة أخرى للرجال الملكيين.

نيرّدِيس هي الوحيدة لحظتها، التي انسحبت بخاطرها بعيدا عن أحاديث الرِّجال، ونظرات شبونّة وكوِّي ونبتة،

كانت هائمة في ذلك الليل البهيم، عندما أنسلّت خلسة في طرِّيقها الى بييه، الذي واعدها عندما ألتقته صباح اليوم الذي سبق. وصلته لاهثة الأنفاس! فبادرها:

"هل رآك أحد وأنت تخرجين؟!"

"لا، لقد كنت حذِّرة. أنت تعلم أن آري يشدد الحرّاسة على القصر. فلا يستطيع أحد الخروج. تمكنت من الخروج بأعجوبة.. إنها المرّة الأولى التي أفعل فيها هذا"

"أعر ف"

قال؛ وسحبها من يدها. مضيا في الدروب المتعرِّجة الخالية التي انتهت بهما، إلى غرفة فوك في أتنّي.. كانت نيردِّيس متردِّدة وخائفة وقلقة..

"أهدأي نيردِّيس!"

"أحقا ستتزوجني بييه؟!"

"لقد وعدتك بذلك"

"إذن لماذا نمضي متلصِّصين هكذا؟!"

"نيردِّيس؛ لقد اتفقنا أن يبقى امرنا سرا لا يعرِّفه أحد سوانا"

"وشقيقتيّ لنقي ونبتة؟!"

أجابها بحسم:

"لا أحد نيردِّيس. لا أحد.. أنا أريد أن أصبح آري، وأنتِ ستكونين إياكوري. ولنقي لا تريد لنا ذلك"

"لكنك تقول للجميع أنك تريد لنقي؟!"

"كلهم كاذبون"

نفضت نيردِّيس رأسها عن هذه الخواطر المرهقة، التي ظلت تصطرِّع داخلها لسنواتٍ وسنوات..

كانت قد جاءت بالفتيات الملكيات، ليحضرن إجتماع الرّجال الملكيين، من خلف ظهر لنقي. التي كانت تجلس لحظتها إلى سورِّنق، وتنظر في عينيه تداعبها كل الأحلام القدِّيمة لأزمانٍ لم تأتِ بعد..

 

57

"لقد حققت حلمك سورِّنق.. ماذا عن حُلمُنا؟!"

"حُلمي لم يتحقق بعد. وحُلمُنا تقفين عقبة أمام تحقيقه"

"ألأنني أصر على أن تترك سابا؟"

"إنها أم إبني الوحيد (دالي) وأم إبنتي (كيرا).. كيف أتركها؟!"

"لكنني ملكية. إبنة آري. شقيقة دالي. ولا أحتمل أن تشارِّكني فيك إمرأة أخرى. احتفظ بابنيك وأعد سابا إلى ديارها.."

"ليس لها أحد هناك. لقد جاء أبوها وأمها من جبال الشرق. من البحر البعيد.. نحن الان كل ما لديها!"

"بل قل انك تريدها!"

"اسمعي لنقي. لقد وقفت معي هي ووالدها؛ في وقت كنت فيه بحاجة لمن يقف معي. كنت وحيدا وغريبا!"

واخذ سورِّنق يحكي للنقي ما سمعته منه مرارا وتكرارا؛ عن ذكريات غيابه الطوِّيل. منذ هرب في تلك القافلة، في ذلك الصباح الشاحب، يرافق التاجر الجرهمي!

كان التاجر قد استرعى انتباهه هذا الفتى، الذي ما أن تصل القافلة الى قلب ساورا، حتى يقف أمامها ويحدِّق فيها بعينين تشِّعان ببرِّيقٍ عجيب، فيحدث نفسه: "سآخذه معي ذات يوم!"

كان التاجر يفكر في إبنته الوحيدة، التي تكرّه الإختلاط بالناس، وتعِّيش كالوحوش، دون أصدقاء سوى جنيات الجبل..

أكد العراف:

"سحرتها الجنيات اللائي خرّبن مدينة الحلفاء الكبيرة"

حدّث التاجر نفسه:

"صبِّي غريب مثله، قد يتمكن من إخراجها مما هي فيه"..

كان التاجر الجرهمي، منذ أن هربت زوجته أعجوبة، بعد ان أخذت الكنداكة تؤام سابا معها، وهو لا يفتأ يلتقي العرّاف الهرِّم بين آنٍ وآخر. و الذي كان قد أخبره مرارا، بأنه لن يلتقي أعجوبة مرّةً أخرى، ولن ينجب بعد الكنداكة وسابا، وإن تزوج كل نساءِ الأرض! ولن يتمكن من سابا سوى رجل غريب! موعود بالملك!

في الأيام الأولى. كانت سابا تحضر له الثمار والشواء واللبن دون أن تبادله كلمة. ولم يحاول الاقتراب منها أبدا. إذ كان يريدها أن تشعر تجاهه بالأمان..

كان يحاول أن يبدو أمامها لطيفا وعفيفا وطيبا. فكان سلوكه تجاهها مثل قسماته المرِّيحة، التي لا تشبه قسمات شبان مالحة الموتورِّين. فأخذت سابا تألفه ببطء، وتستمع للأصوات التي يحاول أن يعلمها إياها بإهتمام، وبعد مضي زمن ليس بالقصِّير، أخذت تردد أصواتا مشابهة، كانت قد بدأت تتعلم..

علمها سورِّنق لغة عشيرته الملكية، فمضت تتعلم من كل شيء حولها.. حتى كلام العصافير وأوراق الشجر وحشرات اللّيل..

"أنا سعيد بك سورِّنق"

قال التاجر الجرهمي وهو يُضيف:

"لقد علمت سابا الكثير. لقد أنقذتها من وحدتها ووحشتها. أذكر الآن حكاية ذلك العرّاف عنها. قال أن شفاءها يتم على يد ملك غريب! ومن صُلبِها يخرج ملوك أشداء. ملوك شعب فريد.. أرغب في الموت وأنا مطمئن عليها معك!"

كان شباب مالحة يحسدون سورِّنق على علاقته بسابا، اذ كانت تمثل حلمهم الكبير، من دون كل الفتيات.. يحلمون بمجرد إبتسامة منها ترِّيح صبواتهم، وتطلِّق لأحلامهم العنان..

منذ طفولتها بينهم، كانت سابا كطلّسمٍٍ عصِّي البوح.. ما أن يقترب منها أحد حتى تصرعه بعدوانية ليس لها مثيل. كانت تقاتل بقوّة فائقة، كأنها وحش ضار..

ظل سورِّنق يراقبها منذ أيام مجيئه الأولى بصبر وهدؤ، فقد شعر بها كفرس برِّي جامح، يشعل فيه التحدي. كل ما تمناه وقتها، ألا يفسد عليه الشبان الحمقى علاقته المتنامية بها!

لا يزال سورِّنق يذكر، كيف كان شبان مالحة يتحرشون به عن عمد، يقصدون استفزازه ولم يجد أمامه سوى أن يحتملهم بصبر. إلى أن استطاعوا اخراجه عن طورِّه، فأشهر في وجوههم هراوته الحجرية. ضحكوا منه و تحلقوا حوله يشاغلونه من كل اتجاه، إلى أن تمكنوا من تشتيت انتباهه..

فقد تركيزه فحاصروه.. اقتربوا منه.. رفعه أحدهم، وقيد آخر يديه إلى ظهرِّه. هزَّوه من مئذره وأخذوا يضربونه بالهراوات، وهم يضحكون حتى أغمى عليه!

"سأرحل سابا"

نظرت إليه بعمق:

"ألأنني دافعت عنك؟ لقد كانوا أكثر منك سورنق، لو تقدموا إليك إثنين إثنين لصرعتهم. أنا أعرفك و أعرفهم جيدا"

"لا، أعني سأرحل عن هنا ذات يوم"

لم يبد عليها أنها فهمت شيئا، هذه المرّة، فهزت رأسها:

"لن تستطيع. سأرسل في أثرك صديقاتي جنيات الجبل. سيأتين بك بعد أن يُثخنّك بالجراح. لقد خرّبن المدينة الكبيرة، فكيف بضربك أنت، سيكون امرا ممتعا لهن!"

فضحك وقال بخبث:

"لماذا تريدينّني أن أبقى؟!"

"ستعرِّف ذات يوم"

ولم تضف شيئا. أخذ يجهد نفسه في تعليمها لغة قومه، ولا يتوقف إلا ليغوص في ظلال ساورا البعيدة، التي تداهمه بوجه أبيه المبجل دورة، و أطياف الأقران والأحبة!

"سأرحل عن هنا ذات يوم، لأرى ما خلف البحار البعيدة والصحراء"

يقول لأقرانه؛ فيضحكون منه. يؤكد:

"دالي طلب مني الرّحيل"

صباح اصطحبه التاجر؛ كان قلبه يتلفت نحو ساورا. لكن حنينا أقوى للمجهول ظل يشدّه. قطعت القافلة السباسب والوِّهاد، إلى أن وصلت بعد قمرين إلى جبل الميدوب، فأناخت ووضعت أحمالها..

مضى سورِّنق مع التاجر، الذي أفرد له بيتا منحوتات داخل كهف يرتبط بكهف سابا، وكهوف زوجاته عبر ممرات معقدّة.. وجاءه بسابا!

"إنها إبنتي سورِّنق. اعتن بها. ربما يكون شفاؤها على يديك"

"هل هي مريضة؟"

"نوع غريب من المرض. إذ لا تكلم أحد ولا تحب الاختلاط بالناس؛ هكذا هي منذ طفولتها. إعتنِّ بها وسأعلمك كل شيء"

كانت سابا بلونِّ الطلح، فارعة كقمبيلة. معتدلة إعتدال البان. لم يرى أجمل منها أبدا..أبدا.. لا ترتدي على صلبها سوى كنفوس جلد خشن. اقترب منها سورِّنق، فكشرّت في وجهه!

كجنِّيات الودّيان ترسل سابا شعرها على ظهرها، وتزداد تكشيرا طيلة اليوم. في اليوم التالي دخلت تحمل اللبن والثمار. أكل متغاضيا عن بصرِّها الساهم، ونظراتها المهوِّمة.. قال لها أنه يريد الاستحمام، وأخذ يمثله بالإشارات. سحبته من يده ومضت به، إلى الوادي خلف الجبل. هبطا الوادي. أشارت إلى الأرض فلم يفهم شيا، ركعت على الأرض وأخذت تزِّيح الرّمل بكفيها. حفرت حفرة صغيرة، فانداح الماء ليملأ الحفرّة ويسيل. فهم مقصدِّها وأخذ يحفر الأرض حفرة واسعة عميقة.. خلعت كنفوسها وفك عنه إزاره وأخذا يستحمان معا في الوادي!

"لقد نسيت عهدنا سورِّنق"

قالت لنقي بأسى؛ فرد بحزن:

"لم أنسى. لكنها الغربة عن الأهل والوطن"

"لم تعد أنت سورِّنق الذي أعرِّفه"

كانت لحظتها وصايا إيا كورِّي؛ تنساب في خاطرها:

"يجب أن تحافظي على مُلك آري لنقي. وكانت لحظة المواجهة، التي ظلت تتجنبها، بما يعتمِّل في دخيلتها، من أفكارٍّ متضارِّبة ومشاعر متناقضة، تشعلها وصايا إيا كورّي.. وحبها اليتيم وحصّارات بييه، الذي يُصِّر على تصيدِّها، لإدراكه أن مشروعية الملك لها بعد دالي وفقا لتراتبية ساورا الملكية، فهي كبرى بنات آري الراحل.

"توقفي لنقي. لماذا تكرهينني؟!"

"أنا لا أكره أحد"

"قلبك مع سورِّنق؛ وسورِّنق ليس لك. ثقي بي لنقي. أنا لا أريد سواك"

كانت لحظة المواجهة الأولى، بعد غياب سنوات طويلة، وتهرب شهور عديدة. أشدّ إيلاما من الغربة والحنين وانتظار اللقيا وتداع ذكريات الطفولة الضائعة، مع إشعاعات النجوم البعيدة، عندما تهجع كل مساء. تقلِّب ذاكرتها، تجدهما يختبئان في الأكمة البعيدة. هي وسورِّنق. خلف الحقول. يجلسان.. يضحكان في عفوِّية. فتغني لنقي في شجنٍّ عميق، يلِّف الصّمت والأشواق في غلالة من المشاعر الدافئة. تحتوِّي كل عذاب آت. يكتشفان يوما إثر آخر أحاسيسهما، أشياؤهما الخاصة، وشعورهما بعذاب مرتقب. فتمضي أصابع سورِّنق، وأنامل لنقي بعيدا بعيدا.

تدِّب كالنمل. تحفز البوح والشجن، وتشيع الدفء لتصبح تشابكات الأنامل، زادا للذكريات القادمة خلسة، وخلسة يتوتر الجسد المتحفز، يسيل على رمال الوادي الذهبية كحطام اوانِ الفخار عندما يجرفها السيل بعيدا. عميقا في الصحراء التي لا نهاية لها.

"انه الظمأ والحنين سورِّنق"

"لقد قلت وقتها سأتزوجك"

"وأجبت وقتها؛ أننا سنخرِّق العرف"

"لا، اننا لا نخرِّق العرف، فالخالق جعل الناس، منذ البدء ذكرا وأنثى، وقال لذلك يترك الرجل أباه وأمه، ويتحد بزوجته ليصير الاثنان جسدا واحدا، فلماذا يفرق الإنسان ما جمعه الخالق. الإنسان لأجل التوحد في نصفه الآخر، لا يترك أمه وأبيه فقط. يترك العرش لنقي. هل تدركين ما أعني؟ يترك العرش"

ظل سورِّنق يتحدث بلغته الغريبة؛ عن أحلام وخواطر أكثر غرابة..

"ومع ذلك سأكون آري.. وسأتزوجك لنقي.. الرؤيا التي أراها تقول ذلك"

"الرؤيا أم الأفكار الغريبة لأخي دالي؟!"

"دالي يقول انك الوحيدة التي تفهمينه"

"هو أيضا يفهمني"

"لذلك تعتزلان الناس عندما تلتقيان. ماذا عن الرؤيا"

"أرى فتاة هي أنت ولست أنت. فتاة تشبهك في كهف محاط بدغل كثيف. تحدِّق في طيف بعيد. أظنّه أنا.. طيف يحدّق في العرش.. عرش خلف ظهرِّها.."

"ماذا تعنِّي سورِّنق؟"

"بل ماذا تعنِّي الرؤيا.. العرّاف يقول أنني سأصبح آري ذات يوم، بعد غربة ورحيل. لكن لن اصبح آري إلا إذا وجدت تلك الفتاة!"

نظرت إليه في شك:

"ماذا تعني ب إذا وجدتها"

أدرك أنه لا يستطيع خداعها:

"أتحدت بها!"

"أتفعل سورِّنق؟!"

قالت ونهضت غاضبة. أمسكها من يدِّها. وهدأ بالها. ولم يعد للحديث عن تلك الرؤيا أبدا. حاول جاهدا أن ينسيها إياها.. أجلسها على حجره.. دائما يجلسها على حجره.. ظهرها علي صدرِّه، ويديه تعبثان في شعرها و صدرِّها!

"عندما ترحل سورِّنق خذني معك"

"لا لنقي يجب أن تبقى"

 

58

منذ أصطحبته القافلة، وذاكرته تمتص كل شيء حوله: علامات الطرِّيق: صوّى الساري؛ نجوم السماء.. حارب وأسر.. عُذِّب وفرّ من الأسر.. وتاجر.. رأى الأهوال و الأعاجيب، وعندما عاد. وجد صاحبه التاجر الجرهمي قد مات، وسابا أنجبت له طفلا وسيما، أسمته دالي كما أوصاها.

قبل أن يغادر مالحة، بتجارته وتجارة الجرهمي.. كان التاجر العجوز قد ترك لسابا وابنها دالي كل شيء: الكتان والذُّرة والجمال والجاموس والأغنام.. كل شيء!

"انها لك سورِّنق"

"ستبقى لدالي إلى أن يكبر سابا"

"..."

"ما ذقته في أسر الكنداكة سابا كان شاقا على نفسي"

بعد أن مات الجرهمي، توقف سورِّنق عن السفر بتجارته، وأصبح يكتفي بإرسالها مع تجار مالحة، لتأتي له قوافلهم عند عودتها بالخير الوفير.

وينتظر عودة القوافل بنفاد صبر وقلق، ليتعرف منها على أخبار ساورا البعيدة..

وحوّل سورِّنق مالحة من مركز لتجارة الملح، إلى حاضرة شبيهة بساورا المهجورة.

كان أهالي مالحة قد أوكلوا له مهمة قيادتهم، فصار أشبه بآري لمالحة. لكن لم يخبو حنينه لساورا أبدا!

 

59

"أحكي لي لنقي كيف حدث ما حدث؟"

"انهن الجواري البيضاوات؛ اللائي جئن من أقاصي البحار.. أحضرن معهن لعنة سبيهن..

كن يحاصرن آري ليلا ونهارا.. وهو بينهن لا يكِّل الطِّراد، ولا يهتم للملكة الأم التي ملّت وهي تذّوِّي شيئا فشيئا..

كان الناس في ساورا يفعلون ما يعنّ لهم، ولا يهتمون لأحد.. بعضهم تخلى عن ميراث الأسلاف، وأخذ بما يقوله، أولئك الملتحين الأدعياء.. الذين نهوا الناس عن عبادة الكبش.. ودعاة آخرين تحدثوا عن نبِّي يدعوا لخالق لا يراه أحد.."

قاطعها:

"وكيف ترِّين أنت حديثهم هذا؟"

أطرقت برهة:

"انه أشبه بما كان دالي يزعمه. لكنني لم أفكر في الأمر فالأسلاف تركوا لنا الكبش، وهو عندي كل شيء!'

"انه لا يختلف عن القط!"

"كيف؟!"

"هناك أمور لا نستطيع إيجاد إجابة مباشرة لها.. هناك أمور تحدث بسبب معجزة ما؛ بتدبير قوى ما؛ قوى لا نراها؛ تدير حياتنا دون أن نراها!"

"كان دالي يكرِّر ذلك قبل أن يختفي!"

 

60

"المهرجانات التي يحدث فيها فعل الأرواح الشرِّيرة، جعلت دالي يبتعِّدْ.. هل تصدِّق سورِّنق كيف أصبحت الحياة في ساورا.. الرِّجال يأتون بعضهم، وكذلك يتبادلون النساء! والنساء يفعلن ذات الشيء مع بعضهن البعض!

الأجنبيات جئن بذلك. دفعن الناس لفعله، فأختفى دالي وأنت، وزّوَّت الملكة الأم التي كانت تحذِّر آري فلا يستجيب.

كانت تتآكل مما حدث حولها؛ حتى أستحال جسدها إلى هيكل! جفَّت في عروقه مياه الحياة، وآري بين جوارِّيه ومحظياته!!..

كان دالي يلِّج عليه المخدّع، فلا يسمع منه ويطرده. يجيئه مرّةً أخرى.. يحتدان فيطرده، فيخرج إلى أن جاءه يوما منعقِّد الجبين، وقبل أن يقول شيئا طرده آري فخرج..

انعقدّت سحابة رمادية في أبهاء القصر! تفتق عنها صوت هاتف:

(سقطت ساورا الجاحدة لرّحمة الخالق. طوبىّ لدالي. طوبىّ للذين يرحلون عن ساورا الجاحدة)

و تكشفت السحابة عن كبش، قرونه تلمع في ضوء الشمس، ووجهه كبرد الشتاء، الذي يتجمع قرب الجبل، أقصى الوادي البعيد!

كان الكبش يشرع قدمين من نار! يحتضن بهما القصر، الذي تسيل على جدرانه الدّمامل، والقروح الخبيثة وتزكم أبهاؤه الروائح النتنة. ثم هدأ كل شيء!

بحثنا عن دالي ولم نجده. كان دالي قد اختفى. قال آري أنها رؤيا دالي التي رأى! حتى المبجل دورة التزم تجاهها الصمت فلم يقل شيئا!

أحتضنته ماريانا:

"لا تهتم؛ انه كابوس. روح شريرة.. وهم بسبب إكثارك من الخمر.. لا شيء!"

وكان معبد التّل يتكشف عن دالي يهتف بالشيوخ يمنعهم من أداء ِ الشعائر للقِّط، وتقدِّيم القرابين الآدمية ويحثهم على الخروج إلى أرض الأسلاف.. يقول:

"مثلما جئتم منها، إليها تعودون .." ..

تنهدت لنقي وهي تسنِّد رأسها، على صدر سورِّنق وتضيف:

"كل هذا حدث في غيابك انت ودالي، وتسبب في دمار ساورا"

"أعرف ذلك كله فقد كنت بينكم، ورأيت كيف ستؤول الامور!"

"دمر الغزاة ساورا"

عندما تناقلت الصحراء والوديان والغابات؛ أخبار خراب ساورا، كان سورِّنق يستفيق من رحلته الطوِّيلّة للتّو، وهو ينظر إلى الصَّبي الصّغير دالي، وهو يلهو مع سابا، ثم يركض خارج الكوخ.

كان سورِّنق وقتها يستفيق للتّو، من قصة هروبه ذات صباح شاحب، في إحدى القوافل المتجهة إلى مالحة مركز تجارة الملح قُرب جبل الميدوب.. قال لسابا:

"سأمضي إلى ساورا.. إنها بحاجة إلى"

"وأنا؟"

"أنت نور عيني اللتين أرى بهما. ما أن يستقِّر بي المقام حتى لآخذك"

حلّت سابا كنفوسها القطني وسألته:

"أتذكر يوم جئت أول مرّة. يوم ضربك شبان مالحة؟!"

"لم أعد ذلك الفتى سابا"

ابتسمت:

"لا تغضب. ما قصدت إغضابك. أعني هنا لديك هذا الصّبي، ولديك ذكرياتك منذ كنت فتّيًّ غرْ.. كيف تستطيع ترك كل ذلك وتمضي تاركا خلفك حياتك مع عائلتك؟!"

"أنا إبن ساورا في النهاية؛ وهي تحتاجني الآن. انه واجبي"

".. … …"

سحبته من يده خارج الكوخ؛ وقادته عبر سلسلة معقدة من الكهوف المتصِّلة، بممرات متعرِّجة.

"إلى أين نمضي؟!"

"إلى كهفي. حيث أستقبلتك أول مرّة"

كانت تقوده وكنفوسها في يدها.

"لماذا؟"

"سأنتظرك ولن أنظر إلى رجل في غييابك"

دلفا إلى الكهف وهي تسحبه من يده. بحثت في أشياءها. أخذت كنفوسا قديما من الجلد..

"انه ذلك الكنفوس الذي وجدتني عليه! سارتديه الآن وأنت تغادِّر..أتذكره؟!"

ورحلت بذاكرتها الى تلك اللحظة الأولى التي أثارت فيها معه على رمل الوادي إلى أن غابت عن الوعي.. وعندما أفاقت وجدت نفسها لا تزال، مرتدية كنفوسها الجلدي. ومستلقية تحت قمبيلة ظليلة..

نظرت اليه في تردد وتساؤل غامض يطِّلُ من عينيها.. تلمست بين فخذيها في عناية ودِّقة.. فحصت نفسها جيدا و سألته بدهشة:

"لم تفعل شيئا؟"

"لا، لم أفعل شيئا"

"لماذا؟!"

"لانك لا تريدين"

ولأول مرّة تبتسم سابا بهذه العذوبة في وجهه.. في المساء جاءته بلبن كثير؛ وثمار وشواء.. أخذت تلقمه وتحكي له عن الجنِّيات اللائي سحرنها..

أكل سورِّنق كما لم يأكل من قبل.. وشرِّب من كفيها ماء الآنية الفخارية، المعطرّة بالسِّعدَّة ونام.

عندما تسللت أشعة الفجر، الكوات المجهولة في الكهوف. تسحبت سابا. جاءت تحمل آنية ملأى باللبن. أخذت تشاغله حتى صحى. نهض بتكاسل وشرِّب من اللبن حتى أرتوى. مدّت سابا يدها الى مئزره تحاول أن تفك العقدة التي تربطه.

حسر عنه مئزرها.. حلّ كنفوسها.. نهض.. جذبها اليه.. واحتضنها بقوّة..أسندت سابا يديها على جدار الكهف.. وحنّت ظهرها.. باعدت بين ساقيها..

الحمامة في مدخل الكهف حلقت.. حلّقت إلى عشها وهدلت.. ركعت سابا على ركبتيها والعرق يبللها.. كانت كأنها تعود من رحلة بعيدة..

كانت لا تزال تتألم وسورِّنق ينسحب منهكا ومهدودا.. استلقيا على ظهريهما يحدِّقان في سقف الكهف..

وضعت رأسها على كتفه. خيّم عليهما الصّمت. وأصابعهما المتوترة وانفاسهما اللاهثة تهدأ ببطء، والزّبد الذي سال منهما، يخطُّ على الرّمل أحاديث الأولين والآخرين، و يزركِّشها بأُغنيات جنِّيات الجبل..

كانت الشمس قد غربت، عندما ارتدت سابا كنفوس الجلد وخرجت من تلك الذّكرى المتجددة، وهي تنظر لطفلها الصغير دالي الذي بدأ وكأنه يبحث عنهما.. إلتفتت إلى سورِّنق:

"ستجيء بنتا تؤاخِّي هذا الصّبي"

أرعيهما جيدا سابا"

"اهتم لنفسك سورِّنق"

ومضى سورِّنق صّوب ساورا المهجورة، مخلِّفا وراءه سابا والصبي الصّغير دالي، وكيرالتي في رحم الغيب، كيرا التي ربما تولد في جبل الميدوب..

بينما أنشغل شعب الوادي، في ذلك الصّباح النديان باستعدادات الإحتفال البهيج، لإكتمال المملكة الوليدة، التي ألتفت حواضِّرّها النامية، حول الجبل الناهض، في قلب الوادي مقسما الأراضي الشاسعة، مترامية الأطراف. إلى مستنقعات وسافنا.. إذا بالجبل المقدس يهتز في عنف. سقطت له القلوب، وبرزت له العيون من محاجرِّها. توقف الناس عن أعمالهم وأخذوا يحدِّقون في بعضهم البعض..

أطلّ سورِّنق من قبة القصر، وهتف في صوت حاول أن يجعله عميقا ومؤثرا:

لا تهتموا. واصلوا أعمالكم..

كان بييه وقتها يجلس إلى نيردِّيس، التي احاطت وجهه بيديها:

"ألم يحن وقت زواجنا بعد؟"

"ليس قبل أن أصبح آري يا نيردِّيس؛ ألا تريدين تحقيق أحلامك كإياكورِّي"

"ولنقِّي"

"أنت تعرفين أنني أريدك أنت. و تعرفين لماذا ألاحقها هي"

"محاربة سورِّنق في كل شيء"

"إذهبي الآن نيردِّيّس قبل أن يفاجئنا أحد.. لم يتبق سوى القلِّيل ثم نعلن عن علاقتنا"

 

61

خرجت نيردِّيس من كوخ بييه، الذي تنفس الصعداء. كان واثقا أنه لو إنتصّر على سورِّنق، لن تواجهه مشكِّلّة سوى نيرِّيّس، لكنه بحاجة إليها الآن، اكثر من أيُّ وقتٍ مضى!"

نفض عن نفسه غبار التدريب، وخرج الى حيث أجتمع سورِّنق بالكهنة والشيوخ، يتداولون أمور المملكة الوليدّة بينهم.. قال أحد الشيوخ:

"إذا كانت السماء حمراء صافية عند الغروب تقولون: سيكون صحو (*) وإذا كانت السماء حمراء متجهمة في الصباح تقولون: اليوم مطر! انكم تستدِّلون على حالة الطقس من منظّرِ السماءْ. أما علامات الأزمنة فلا تستطيعون الإستدلال عليها؛ (**) حدّق فيه سورِّنق طويلا دون أن يعلِّق، اذ انتقل مباشرة للتأكيد على ضرورّة الاستعدادات للتنصيب!

خرج الكهنة والشيوخ يكلِّمون الاهالي، ويحاولون تهدئة بالهم، ثم مضوا مع الجيش الجنِّيني لإكمال الإستعدادات..

اجتمع سورِّنق بعائلته الصّغيرّة، أحاطها بزراعيه وهو يقول:

"لقد تأخرنا كثيرا لابد أن ننهي هذا الأمر الليلة"

فيمل كان القرع على الطبول يشتد، والأهالي شيئا فشيئا يتجمعون في فناء القصر..

"آخيرا تحقق ُحلمك سورِّنق"

قالت سابا. فنظر الى ابنيه دالي وكيرا، ثم عانق وجهها ببصرِّه:

"حلمي سيحققه ولديّ"

ربت على كتف الفتى وشقيقته؛ وخاصر زوجته وخرج يتقدمهم..

توقفت الطبول حالما اطلّ بوجهه، وأخذ الأهالي ينظرون إليه بإعجاب وهو يمضي لاعتلاء الككر، ثم انطلقت الطبول مرة ً أخرى في إيقاعات حميمة، ما لبثت أن تلاشت في صمتٍ مرعب، عندما اهتز الجبل مرةً أخرى وبعنف أشدّ! أخذ الناس يتمسكون ببعضهم وينظرون إلى بعضهم البعض وأقدامهم قد تسمرّت في رمل الوادي الرطب!

تعالت همهماتهم التي بعثها الفزع والخوف! ولمرّة ثالثة اهتز الجبل، وأنشقّت عنه سحابة بيضاء تحيط بشخص ما. بدت ملامحه ضبابية في رُكّام السّحابة..

كانت السِّحابة تتقدّم باتجاه الإحتفال. حدث هرّج ومرّج. زاد رُعب الناس وخوفهم، فصرّخ فيهم سورِّنق وهو يحاوِّل الإمساك بتلابيب شجاعته:

"لا تجزعوا فتهلكوا! أثبِتوا وتثبتوا حتى تتبينوا الأمر!"

إقتربت السِّحابة من الجمع شقته. كاد الناس يموتون فزعا ورُعبا! لم يكُن أحدهم قادِّرا على إنتزاع قدميه من الأرض، أو ردّ عينيه اللتين شخصتا في السِّحابة كأنهما مسمرتان اليها، أتجهت السحابة صّوب سورِّنق.. و انقشعت ليتبدى عن رُكامها رجل وقور مهيب! شعر الجميع بنظراته تأسرهم. صرّخ سورِّنق في دهشة وترحيب:

"دالي"

أوقفه الرّجل الوقور بإشارة من يده ووضع يدّه اليمنى على كتفه وهو يقول:

"لقد نفذت رغبتي سورِّنق، وها أنا أعطيك المملكة واباركك"

أخرج دالي من تلافيف ثوبه الكتان الناصع البياض، كتابا من الجلد، صُّفَ بعنّاية، ومده لسورِّنق وهو يُضيِّف:

"هنا تجد المملكة المقدسة، كيف ولدت وكيف يجب أن تمضي.. أنني أعطيك مملكة أجدادي سورِّنق واباركك"

ثم نظر دالي إلى الكهنة والشيوخ وأشار لهم بأن يتقدموا لتتويج، سورِّنق. اقتربوا منه فأخرج من تلافيفه عمامة سوداء كبيرة..

انها عظمة العرش..

مدّها لهم وأشار بأن يضعوها على رأس سورِّنق بدلا عن تاج الكبش، ثم وضع يده على العمامة التي براس سورِّنق، وأخذ يتمتم بكلمات مبهمة. فتجمعت السِّحابة مرةً أخرى وأحاطتهما، تحولا الى ضباب ثم اختفيا..

عندما أنقشعت السِّحابة كان سورِّنق جالسا على العرش وحده وليس ثمة أثر لدالي.. كان دالي قد اختفى كأنه لم يمر من هنا أبدا!

هتف بهم سورِّنق ان يواصِّلوا الإحتفالات وأن يبهجوا.. في ذلك اليوم شعر الرِّجال أن طعم البّقو مميزا فوق العادة. وأحست النساء بصفحٍ وغفران وهن ينظرن للرِّجال المخمورِّين يتحرّشون بمنابع الخصب ومصدّر الحياة..

رقصّت الفتيات كما لم يرقصن من قبل، وأحس الشيوخ والكهنة للإحتفال طعم خاص فارقوه منذ وقت طويل، يدهمهم الآن بكل ما تتبدى عن الذّاكرّة من حنين..

وعندما توقف الناس عن الرقص والغناء، تحدث سورِّنق عن مجد ساورا المهجورة، وخطاياها وخرابها وتكلم بإسهاب عن الممالك النامية في الجوار، والتي قد تحسد شعب الوادي يوما على ازدِّهار مملكته، فتُسيِّر الجيوش..

اليوم أكمل دالي هيكل المملكة المقدسة، مملكة الجبل والوادي، التي أنشأها في ظلام الجبل. واليوم أعلِن لكم رغبتي في الزواج من لنقِّي شقيقة دالي العظيم في مهرجان تجليد النِّحاس القادم، ليكتمِّل إحتفالنا بإكتمال تدريب الجيش والزواج من إياباسي لنقِّي!

خيم على القصر صمت مهيب منذ أخترق السهم المسموم فؤاد سورِّنق، فأرداه وتآمر الكهنة والشيوخ مع بييه فزوجوا لنقِّي منه قسرا. مضت تلك الأفراح التي تخلِّفها المهرجانات البهيجة، ولم يعد لنسيم الوادي ذلك البوح العطِّر والدّفاق الرّيان بالحنين..

فمنذ سقط دالي طرِّيح الفراش شُلّت حركة الوادي، كما لم تشِّل لحظة اختراق السهم مجهول المصدر للجموع الغفيرّة واستقراره في فؤاد سورِّنق، مساء الإحتفال بتجليد النحاس!

كانت لنقي جواره مزهولة؛ لا تصدِّق ما تراه. تحدِّق عينيها في اللاشيء. فكل شيء بدا أمامها كحلم قصير متوهج لم يلبث أن إنطفأ..

قال دالي ابن سورنق يخاطب شقيقته، وهو يحاول أن يرفع رأسه قليلا:

"يبدو أنهم قد دسوا لي السُّم كيرا"

"العرّاف قال أن الترياق الذي تناولته سيشفيك.. لا تخشى شيئا دالي. ستشفى!"

ابتسم في وهن:

"لا تمنِّي نفسُك الأماني كيرا. لقد قضى الأمر إنها أيامي الآخيرّة. لحظاتي الآخيرّة ربما.."

دمعت عينا كيرا بغزارة.. ها هو دالي يحتضر الآن بين يديها، مثلما أحتضر والدها سورِّنق بين زراعيها من قبل، ومن قبل العجوز دورّة..

كانت تدرِّك أن العشِّيرّة الملكية لن تتركهم وشأنهم يهنأون بحياتهم، فكثيرا ما كان سورِّنق يقول:

"أنتما إبني سابا الغريبة عن هذِّه الدِّيار، لن يتركوكما فأحذرا"

ولم تمضِّ سوى سنوات معدودات على اكتمال المملكة وأنتشار تعاليم دالي التي حلّت محل شعائر الكبش حتى قُتِلْ سورِّنقْ..

وقتها بحث الحرّس السلطاني والجند، يقودهم بييه عن مشتبه يتهمونه. قلبوا الارض أعلاها أسفلها ولم يتركوا حجرا لم يسألوه. ونتفوا حتى لحاء الأشجار بحثا عن أثر، ولم يتركوا كهفا لم يبحثوا فيه حتى أحال بحثهم المسعور حياة العشيرة الملكية إلى شقاءٍ وضجر! وبعد كل ذلك لم يتمكنوا من العثور على مجرد أثر يشفي الغليل.

كان دالي قد باشر مهام والده سورِّنقْ بعد الدفن مباشرة، إذ أُجريت له طقوس التنصيب بسرعة وقرّر الكهنة، أن يراجع دالي القائد المخضرم بييه في كل صغيرّة وكبيرّة من شئون المملكة الناهضة!

كان دالي قد أدرك منذ الوهلة الأولى أن العشيرة الملكية تخطط لسحب البساط من تحته؛ لتنفرِّد بحكم المملكة النامية دونه.. قبل إجراءِ طقوسِ التنصيب نصّحته شقيقته كيرا:

"لقد تآمروا على قتل والدنا آري سورنق يا دالي. وسيتآمرون عليك. سيبدأون بفرض بييه عليك بحجة صِّغر سنك. يجب أن نجد مخرجا بعد انقضاء هذه الأحزان التي ستظل فينا ما بقى الدّهر"

حتى الآن لا تدري كيرا لماذا اصبح سولونق إبن الراعي العجوز يخطر على ذهنِّها كثيرا، خارجا من قلب أحزانها.. كان وجهه يطل ممزقا أغشية الأسى واللوعة، تستردها ملامحه الى فترة الصِّبا الباكر، عندما كانت تدربه هي ودالي.. قال دالي:

"أنت تحبينه"

فتأوهت ولم ترد..

 

62

كان المزارعين والرُّعاة وهم في طرِّيقهم الى مساكنهم في السّحر، الذي سبق أُمسية التنصيب، قد سمعوا صوت منادٍ في البرِّية يهتف بهم ان توقفوا.. كان المنادي يغطي جسده بثوبٍ من الكِّتان، ويحمل في يده اليمنى عصاة محنية، لا تخلو من التعرجات..هتف بهم:

"يا ابناء الزُّناة؛ كيف تجرأون على ارتكاب المعصِّية وتقتلون آري غيلة وغدرا.. آريكم الذي ابدلكم بساورا الهالكة مملكة الوادي اليانعة.. كيف جرؤتم.. كيف؟!"

أُصيب المزارعين بالرعب فتراجعوا، مزعورِّين يرتدون على اعقابهم، وهتفوا بالناس حتى تجمعوا فيهم، ليستمعوا الى حكايتهم..

أصبح هؤلاء المزارعين والرُّعاة هم كهنة المعابد الجديدة، التي شرع دالي في بناءها بمجرد أن خلف والده سورِّنق.. كان الواحد من هؤلاء الكهنة ما أن يقف وسط الجموع، حتى ينطلِّق لسانه ليأتي بحديث الأولين والآخرين، كأن ثمة من يُملِّي عليه ما يقول..

صدقهم البعض والتفوا حولهم يتجولون مغهم في حواضر المملكة.. وكذّبهم آخرون كُثُر.. فكانوا عندما يجتمعون بدالي، يسكنون إلى تطييبه خواطرهم ويقول:

"لقد ارتبط الناس بعبادة آلهة الأسلاف منذ وقتٍ بعيد ويصعُب عليهم أن يُغيروا ما ألِفوه في لحظةٍ واحدة. أرفقوا بهم وأصبِروا عليهم ولا تيأسوا.."

وصبر كهنة المعابد الجديدة على الأذى، الذي أخذ يزداد بمرور الأيام. وبين آنٍ وآخر كان دالي يدعوهم، يتفاكرويتذاكر معهم التعاليم! ويعطيهم صفحات من كتاب دالي لينشروها بين الناس!

"ليس ثمة جدوى، ما لم تكن هذه التعاليم متماهية في كل شيء يحكم المملكة!"

قال أحد الدُّعاة؛ فسأل دالي:

"ماذا تعني بالضبط؟!"

"يجب أن يُنشّر كتاب دالي في الجيش ويعمل به القضاة كقانون. ويجب أن يكون لك أنت نفسك مجلسا دائما دالي، تجتمع إليه وتستشيره في كل شيء من شئون المملكة.."

انني أجتمع بالشيوخ والكهنة؛ كلما تعقدّت الأمور، مثلما يفعل كل آري.."

"يجب ان يكون المجلس ثابتا، وليس كلما تعقدت الأمور.. مجلس يعبِّر عن المملكة كلِّها وليس عن أفكار العشيرّة الملكية والكهنة وحدهم.."

وأصرّ دالي على تجذر تعاليم دالي في الجيش الذي لا يزال جنينيا بعد. كما أخذ يقرِّن تعيين الشرتايات؛ بمدى تشبعهم بكتاب دالي، فاخذ لا يُنِّّصِّب أحدهم في منصّب شرتاي أو خلافه، إلا بعد تأكُدِّهِ من التشرُّب بتعاليم دالي..

وانتشر الكهنة والشيوخ يعلمون الاطفال الحروف، في أوقاتِ إضافية غير تلك الأوقات التي كانوا يقضونها في سومنق..

وعاد الاستقرار شيئا فشيئا إلى نفوس الأهالي التي جعلها ذلك السهم مضطربة خائفة مما هو آتٍ..

وبدأ الحزن يخف شيئا فشيئا.. يغادر دواخل الناس ونفوسهم، التي احبت آري الراحل سورِّنقْ وقدرته كما تقدر وريثه دالي الان..

استطاع دالي بمساعدة كيرا وبعض الكهنة والشيوخ الصادقين، توحيد الناس في فترة وجيزة. فلم يستطع بييه الذي لم يعد يقوى على إخفاء تذمره، الإنفراد بالحكم وتنفيذ ما ظل يخطط له لوقتٍ طويل..

أخذ عدد القوافل التي ترتاد المملكة النامية يزداد عن كل مرةٍ سبقت، ومع هذه القوافل كان يأتي أولئك الملتحين الذين كانوا يجيئون إلى ساورا المهجورة في أواخر أيامها وينذرون أهلها، ويبشرونهم بفجر جديد..

انتشر المبشرون والدعاة الغرباء، يتحدثون عن الكنداكة التي تملِّك البحر والساحل والسهل وكيف تخدِّم بإخلاصٍ في مملكة الرّب وملكوته وتغترِّف من مجدِّه، فتحقق الإنتصارات العظيمة..

تحدثوا عن عذابات إبن الإنسان وهو يقود الناس إلى الخلاص، حاملا عنهم خطاياهم وإنتكارهم ونكرانهم وجحودِّهم، الذي جبلوا عليه ومع ذلك صُلِّب لأجلِهِم، كي يتحققوا في المسرّةِ والسلام..

أصبح الناس يختلفون عما كانوا عليه في الماضي، فمنذ نشّط دالي في نشر تعاليم دالي العظيم، حتى أختفت تلك اللامبالاة، وأخذوا يستمعون باهتمام لكل شيء، ثم يمضون في طريقهم هادئي البال أو يتبعون طرقا مختلفة تفضي لدربٍ من النّور..

لكن لم يشأ أعداء المملكة النامية أن يستمر هذا الحال، اذ كان بييه الذي اضاف تفصيلات جديدة لخططه بعد أن حذف تفصيلات أخرى، لتتمخض بشائر خطته الجديدة فيما صنعه من جيش يخصه وحده داخل الجيش الجنينِّي للمملكة النامية.. وسومنق داخل سومنق المملكة الأساسي.. وهكذا.. فبييه كان قد تمكن من شراء عددا لا يستهان به من الشيوخ والكهنة الموالين لدالي. كما اصبح لديه عددا مقدرا من المبشرِّين والُّدعاة الذين أستمالهم لبعث شرِّيعة القط والكبش من جديد!

واستمال بييه من عبيد القصر الملكي وخصيانه، بعض الذين تضاءل دورهم داخل القصر عقب تولي دالي لزمام الأمور..

كان بييه يعمل بهدؤ في ظلامٍ معتم لا يراه فيه أحد، مستعينا بالجواري والمحظيات والنساء الملكيات اللائي تقودهن له نيردِّيس، مستعينة بأقران بييه من الشيوخ الملكيين: كورِّي، صولمنج وساو الذين لم يروقهم أبدا مسار الامور في المملكة الجديدة.. التي بقدر ما تنمو يوما بعد آخر؛ بقدر ما يتضاءل فيها نفوذ العشيرة المالكة لساورا الهالكة.. ويندفن في أعماق الماضي السحيق. اذ لم يبق من مجد ساورا المهجورة، سوى أصداء لذكريات عائلية منصرِّمة. أصداء بين جنبات القصر المهدّم لأري الراحل، أو بين جنبات أتني التي تتوسط ما أطلق عليه يوما "ساورا الجميلة" وتلك المشاوير الحميمة في السهول وبين الكهوف، مع الفتيات الملكِّيات، اللائي تعلمن من الجواري البيض الفنون الساحرة في العلاقة بالرجال..

فوجيء دالي ببييه يحكم قبضته على كل شيء فجأة، ويتعمد معارضته في كل أمر. أدرك لحظتها أن بييه أستغل انشغاله بتكرِّيس النظام والحق والعدل فنخر عميقا في جسم المملكة. وما أن يحين موعد المجلس حتى يجد دالي نفسه موضع اتهامات مثل كل مرة من قبل العشيرة الملكية وبعض الكهنة والشيوخ الذين طلبوا منه أن يتزوج لنقي إبنة آري الذي استمات في الدّفاع عن ساورا وسقط قتيلا لأجل إرث الأجداد!

"لكنها كانت ستصبح زوجة لأبي. لا يحق لي ذلك!"

قال أحد الشيوخ من أتباع بييه:

"لا دالي. أنت تريد أن تغير حياتنا وقبل ذلك تريد أن تقضي على ورثة العرش جميعهم"

"أختاروا لي اي فتاة اخرى"

كان دالي قد ادرك فداحة الفخ الذي نصبه له بييه، وشعر بأن تلك هي الايام الآخيرّة لسلطة سورِّنق، عندما دخل عليه بعض الجند يقودهم بييه على حين غرّة وأخذوه مقيدا، حيث حبسوه في حجرة تحت الارض..

استتب الأمر لبييه الذي عمل على تعجيل زواجه من لنقي وتشديد قبضته على مملكة الوادي.

أعاد بييه الناس قسرا الى عبادة الكبش بعد أن نكّل بكل الذي تخلوا عن عبادته، وأتبعوا ديانات الدّعاة وديانة دالي التي أحضرها في كتاب الجلد عندما فاجأ الناس يوم تنصيب سورِّنق..

حبس بييه بعض الدعاة والمبشرِّين الغرباء في حجرات تحت الأرض. وطرد بعضهم من مملكة الوادي. واعتقل كل الذين علم بتذمرهم من أهالي الوادي، وأودعهم حجرات مظلمة تحت الأرض..

كانت سابا وكيرا وقتها تزوران جبل الميدوب مستودّع الذِّكريات الحميمة، ولا تعلمان بما يجري في غيابهم، عندما رغبت سابا في العودة خالفتها كيرا الرأي فقد كانت تعلم من جنياتها بما يحدث في مملكة الوادي، وأقنعتها بالمكوث لفترةٍ أطول في مالحة إلى أن تهدأ الأوضاع التي لم تكن لدى كيرا فكرة عنها.

كانت سابا متوجسة وقلقة على إبنها دالي رغم التطمينات التي بذلتها الجنيات، وكانت تعلم أن تلك بداية النهاية لمرحلة فاصلة في حياة مملكة الوادي.

"لا أدري ما الذي يقلقك سابا. منذ غادرنا الوادي وأنت متوجسة"

كانت سابا مهمومة بتدعيم دعائم حكم دالي خليفة سورِّنقْ، وكانت مشتاقة لاداء آخر دور في حياة ابنيها قبل أن تغادر الى مملكة الجنيات صديقاتها لتستريح ما تبقى لها من ايام حياتها التي بدأت تشعر بدنو أجلِّها..

أصرّت سابا على الرّحيل، بعد أن أقنعت كيرا بالبقاء في مالحة، كانت تنتابها رغبة قوية تجبرها على العودة، فرافقتها كيرا حتى خارج مالحة، حيث يبدأ درب الأربعين..

قالت كيرا قبل ان تودِّع سابا:

"سأبقى لبعض الوقت لأكمل تدريباتي كما اتفقنا"

"هذا المكان حميم اليك؟"

"كنت اتدرب فيه مع دالي؛ قبل رحيلنا الى مملكة الوادي"

ومضت سابا برفقة العبيد والخصيان وبعض الجواري صوب مملكة الوادي، وما أن وصلت حتى ألقي عليها القبض، واودعت إحدى الحجرات الحجرية في القصر الملكي.. عندما حاولت صديقاتها جنيات الجبل التدخل منعتهن:

انني انفذ مشيئة أعجوبة. ستبقى مملكة سورِّنق في دالي والكيرا.. أحفادي وسورِّنقْ سينتصرون. وهذه هي معركتنا الأخيرة لإستقامة الأمر. ما كان كان وما تمّ تم.

ذهبت جنيات الجبل لرعاية كيرا وهن يوعزن في أنفسهن امرا أخفينه عن سابا..

مضى على سابا أكثر من قمر وهي ملقاة في حجرتها، يطل عليها فقط وجه بييه بين آنٍ وآخر، تلمع في عينيه الشهوة المغموسة في الخيانة والغدر..

"الا تقبلين بي زوجا سابا؟"

"لا زوج لي بعد سورِّنق"

"ألا تريدين الخلاص من السجن"

"كنت أعرف أنني سأسجن منذ وقت بعيد. وأعرف أنني سأهزمك"

ضحك بييه ضحكة مجلجلة وخرج.

أجرت سابا طقوس الاتصال بصديقاتها جنِّيات الجبل، اطلعتهم على خطتها فتشكلوا كأهالي الوادي واخذوا يحمسون الناس للثورّة، في ذات الوقت كانت قرينة سابا تمرِّر جسدها من كوّة الحجرّة وتدلّت من نافذة حجرتها، كان الناس الذين جمعتهم الجنِّيان دهشن الى حد الزهول، وهم ينظرون اليها تمرِّر نفسها من النافذة، ثم تسقط من هذا العلو الشاهق.. تهوِّي وتهوِّي قلوبهم معها، في ذات هذه اللحظة كانت جنيات الجبل قد اخذن سابا الى مدخل المملكة، يخبئنها في كوخ احد الرّعاة المخلصّين لملك سورِّنق،الذي كان احد كهنة المعابد الجديدة التي دمرها بييه..

كان الناس ينظرون في رعب وفزع متنازعين بين الهلّع والخوف والدهشة.. غاصت الأرض بقرينة سابا، تحلق الناس حول المكان الذي هوّت فيه، وبداوا يهمهمون. تبدى المكان عن رهد تسبح فيه خيول لم يشاهدوا مثلها من قبل..

كانت الخيول تسبح في الرّهد المغطى بالدم.. وشعر سابا قد انتشر عليه ممتزجا في ذيول الخيل وأعرافها..

هتف أحدهم منتزعا الناس من دهشتهم.. هتف آخر أختفى الرهد والخيول وجثة سابا ومضى الناس في هتافهم يجوبون دروب وشوارع مملكة الوادي مدفوعين بقوّة غريبة، فجرّت كل الغضب المحبوس في دواخلهم منذ مقتل سورِّنق.. كانت الثورّة قد انطلقت..

كانت سابا تدرِّك أن وجودها بعد مقتل سورِّنقْ يثير حفيظة العشيرّة الملكية، ويجعل شعب الوادي متنازعا بين ولاءين، لكن في واقع الامر كان شعب الوادي يعاني شعورا غريبا مزيج من الحزن والأسى والغضب المستعِّر.

فانبثاق رهد الخيول في المكان الذي مادت فيه الأرض تحت جسد سابا، شحنّهم بمشاعر شتى ليس كمثلها الا تلك المشاعر عند تنصيب سورِّنق وإطلالة دالي حاملا كتابه الجلد، والعمامة السوداء، لتنصيب سورِّنق بنفسه.. كانوا كمن يفيق من ظلام طويل.. ويمضي في طريق مفروش بشوك الهشاب والطلح والقتاد..

سرّت الهتافات سريان النار في الهشيم وتمددت الثورة، وانتشرت الشائعات التي تضخِّم الجراحات التي لا تنمحي منذ مقتل سورِّنقْ واعتقال دالي وحبس الاهالي والمبشرين والدعاة.. تمدد في الناس روح جديدة.. روح غاضب دواماته آخذة في الاتساع لا يقوى كل جند بييه على السيطرة على مدياتها. سقط القتلى. سقط الجرحى. وظل الناس يتقدمون وغضبهم يزداد إثر كل قتيل أو جريح استعارا .

تيار الحياة في المملكة تغيّر، كجبل يلقى على نهرٍ جار..

في ذات هذا الوقت كانت جنِّيات الجبل قد أعددن كيرا للزحف على المملكة، بعد ان اخبرنها بكل ما جرى ويجري..

تهيات كيرا على رأس جيش من العبيد والخصيان المدربين على القتال ومضوا، الى ان وصلوا مدخل المملكة حيث كوخ الراعي، الذي اختبأت عنده سابا. كان الكوخ خاليا. والراعي وابنه الوحيد سولونق منشغلين بتهييج الشعب وإطلاق سراح دالي وكل الذين سجنهم بييه، بعد ان انفلتت الامور تماما إثر معرِّفة جند بييه وأعوانه بإقتحام كيرا للملكة في مقدمة جيش جرار.

بحث جند كيرا عن بييه الذي كانت همته قد تضعضعت و انتابته المخاوف، وقتها كان سولونق الذي يقود الأهالي وجيشها الذي تقوده قد سيطروا على كل شيء! وتمكن سولونق من قتل بييه؛ وحطم الأهالي وجيش الكيرا أبواب الصنوبر التي أغلقت بها الحجرات الحجرية، التي حبس فيها بييه الناس.

كانت نيردِّيس ايضا قد نشطت، تطلِّق سراح كل الذين حبسهم بييه، وتدِّل الاهالي والجند على أماكن الحجرات الخفية في أنحاء متفرِّقة من المملكة. وتعبيء الناس ضد العشيرة الملكية. كانت نيرِّيس تنتقم لنفسها من بييه الذي باعها في سبيل الحصول على السلطة ولتقِّي..

هدأت أحوال المملكة شيئا فشيئا وحمل الناس دالي على أكتافهم..

انتصار كيرا في معركتها الأولى أعاد إلى ذهنها حاجتها لفتاها الذي ظل فؤادها يخفق كلما رأته في ذلك الصبا النائي.. فتاها سولونق الذي أنتزع سيفها من يدها بعد ان أكملت تدريبه بنفسها.. كانت تدرك ان الايام القادمات تحمل ما تحمل، فتشعل الحاجة والذكرى البعيدة لسولونق وهو يلتقط السيف قبل أن يقع على الأرض. ففغرت فاها دهشة واختل توازنها على صهوة الجواد.

فالتقطها سولونق كالرِّيشة قبل أن تصّل إلى الإرض..

تلك أيام الشجن تتجدد من الذكريات القديمة.. لحظتها أنفجر دالى ضاحكا عليهما وهو يراقبهما من أعلا التل، وهمس في أذن كونجو شقيقة سولونق، وهو يشير بيدِّه تجاههما..

لا تزال كيرا حتى الآن تشعر بأنفاس سولونق اللاهثة تسكنها. لا تزال تشعر بذراعيه القويتين تطوقانها وحضوره داخلها يقوى.. عندما حكّت لسابا في ذلك الوقت أجابتها:

انه رجلك..

ولم تأخذ إجابة سابا مأخذ الجد. الآن الإحساس بالأخطار المتنامية وفقد الأحبة والوقوف على مفترق الطرق، كل ذلك يجدد حضور سورنق أكثر من أي وقت مضى.. حضورّه داخلها. داخلها الذي لم تدرِّك هشاشته من قبل بقدر ما تدركه الآن.. منذ أن وقعت عيناها على سولونق وهو يقود ثورة الناس لأجل عرش دالي..

حكم دالي والكيرا شعب الوادي بهدؤ وتؤدة، وبعد عشرات السنين لم يعد لحكايات (الجدات) موضوع سوى دالي الذي تحدث بحديث الأولين والآخرين، وكيرا التي استطاعت أن تمضي بشعب الوادي إلى تميزه، مستعينة بأهل البلد وأهلِّها في جبل الميدوب، وتؤامي دالي من كونجو وجنيات الجبل صديقات أمها..

كان سولونق أخطر سلاطين الظِّل الذين مروا على تاريخ الكيرا "شعب الوادي"؛ فهو الذي دفع بساورا لترأس فئة الحدادين تلك الفئة المحتقرّة، التي تأكل الخبز، فتلاشى خطره على مملكة الكيرا الى الأبد.

عيّن سولونق والده توقوينق (17) وعيّن كورِّي شرتايا على كوبي، وجعل من صولمنج سامبي(18) وفرّق ما تبقى من سلطة ساورا الهالكة في أصقاع الوادي الواسعة بعيدا عن القصر الملكي!

ظلّت كيرا تعامل شعبها بألوهية. خاصة بعد أن انفتق عن المكان الذي هوّت فيه سابا؛ ذلك الرّهد السِّحرِّي الذي أشاع عنه الناس أنه فعل جنِّيات الجبل..

 

63

كانت توأمي دالي من كونجو، يبديان مقدرات غريبة منذ طفولتهما، فعندما تتأخر مواعيد المطر، يصعدان أعلا التّل الذي يواجه جبل الكبش، في زاوية القصر الشرقية، يتجمع الناس ليروا فعلهما يرفع التوأم أيديهم نحو السماء و يغيبان في صمت عميق. ثم لا يلبث جسديهما يتوتران وتتقلص أعصابهما وتنبسط. تبرز العروق النابضة على جبينهما، تتجمع سحابة وتنعقد عند قمة جبل الكبش، ثم تنبسط على الوادي..

مبارزة الكيرا الشهيرة وسطوة سولونق ورهد الخيل ومطر التؤام كل ذلك جعل شعب الوادي يستسلم لقيادة كيرا بطيب خاطر، حتى أنها عندما نفت العجوز نيردِّيس إلى ساورا المهجورة لم يجرؤ احد على فتح فمه!

عندما أخبر سورِّنق سابا بحزنه على لنقِّي التي لا تريد أن ترى ما يراه، مضت اليها سابا وظلت تلازمها الى أن جاءت بموافقتها

"كيف تمكنت من ذلك سابا؟"

قال سورِّنق، فأجابت:

"ساعدتني جنِّيات الجبل"

احتضنها بحب كبير:

"لكنني لن أحضر زفافك اليها، سامضي مع كيرا الى جبل الميدوب"

قدّر سورِّنق ما فعلته سابا لأجله تقديرا كبيرا:

افعلي ما يحلو لك سابا، ايتها الجنِّية خذِّي معك سارِّنقا وكوتنقو (سارنقا: قائد الفرسان الذين يحاربون بالسيف "سار"!

كان أزدهار الوادي حديث الناس في أرجاء البلاد الكبيرة، فنشط ساو الذي صار شيخا على مضض مع البناءين يصممون فواشرا جديدة للجيش المتنامي الذي تم تنظِّيفه من أتباع بييه والعشيرّة الملكية، وكونت كيرا بمساعدة سولونق قوّة خاصة ضارِّبة يقودها العبيد والخصيان وبعض الحراس الذين تثق بهم، وقالت:

ستمضون في مهمة مقدسة تفتحون الجوار وتحكمونه كما أحكم هذا الشعب. تصنعون هناك ما صنعناه هنا. وتحكمونه باسمي"

كان البناؤون كلما أكملوا بناء أحد الفواشر الجديدة حتى تعمر بالسكان الذين يفدون من وادي النيل وواحات الصحراء الخارجة بعيدا عن جبل العيون ومن حيث تهب رياح الشمال والجنوب..

"اسمعي كيرا. أريد أن أتزوج لكن ليس قبل أن تتزوجي أنت.. لقد جاء الغرباء بكثرة إلى الوادي وعما قريب سيصبحون اكبر عددا من شعب الوادي، سيختلطون بشعب الوادي ولن يحول بينهم وبين العرش شيء. يجب ان لا يبقى العرش في السورِّنق"ْ

"أتذكر ذلك الفتى الذي دربناه في صبانا؟"

"سولونق الذي قاد ثورة استرداد عرش سورنق. نعم اذكره"

"هو.. شقيق كونجو"

"انه فتىَّ شجاع، ومخلص للسورنق؛ عجلا بالزواج"

"وأنت"

"سأتزوج كونجو"

كان دالي جالسا على عرشه عندما دخلت كونجو ابنة الكاهن الكبير بصحبة والدها.. جلسا في حضرته.. تسآل دالي، فأجابه الكاهن:

"انها كونجو. أصرّت كالعادة على المجيء لتطمئن عليك قبل أن تنام"

ابتسم دالي في حنو وطأطأت كونجو رأسها ذات الطأطأة التي كان يراها عليها؛ وهما يجلسان على الربوّة، أعلى التل يتفرجان على مبارزة سولونق وكيرا.

"هل تشعرِّين بما أشعر به كونجو"

قال دالي في ذلك المساء البعيد. فلم تجب. أخذت يده بيدها، ووضعتها على صدرها ثم قبلته بعذوبة.

أخذ السم يسري في جسد دالي، وينتشِّر ورأسه على حجر الكيرا، يحيط بكل زراع تؤاميه الصغيرين، ومضت الى حجرتها باكية. وكيرا الفارعة كامها صارت شاحبة وبدا الشيب يظهر في شعر رأسها!

الأحزان التي تتابعت وقتها لم تترك لقلبها فرصة للوجيب البهيج. تتالت الأحزان منذ جاء دورة في صباحٍ بعيد؛ مغبرا من وعثاء السفر والحنين العميق الى احفاد لم يرهم؛ عرفوا فيه ملامح سورنق الحبيب الغائب، كما رسمته سابا في ذاكرتهم الصّلدة كجبل الميدوب، وشدوا معه الرِّحال صوب الوادي، الى مملكة سورنق، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى توفى العجوز دورة أثناء تعبده..

كانت الكيرا قد جلست بمحاذاته عندما غاب متضرعا في دعاء حزين. فاضت الدموع الغزيرة من عينيه الوادعتين، ثم ما لبث أن اتكأ في حضن حفيدته الصغيرة. وأخذ يدها في كفه الواسعة، رابتا عليها بحنو:

"أسمعيني جيدا كيرا؛ من صُلبك يجيء سلاطين هذا الشعب. ستدهمكم المآسي وتحاصركم الأحزان؛ وتدهمكم الآلآم كجيوش غازية.. لكن كل ذلك يعجِّن روحكم ولا يفِّت عضد أجسادكم.. فلا تضعفي"

كان الكاهن دورّة لحظتها يلفظ أنفاسه الأخيرة. انطبع كلامه الذي لم تفهمه وقتها في ذاكرتها، واصبح يتكرر كلما أختلّت الى نفسها، أو جلست تعيده على آري سورنق الذي يجيبها في حنان:

"نعم كيرا؛ العشيرة الملكية من بقايا ساورا لن يتركوك ولن يتركوا دالي، فالحذّر الحذر"

"كيف.. انت ألست منهم؟"

"إنما أنا ابن راعٍ عجوز من عامة الشعب"

"ولنقِّي الا تتزوجان؟!"

"انها لا تريد"

كان سورِّنق يخشى على كيرا من كل شيء حولها؛ دائم الإرتياب. فلا يدعها تخرج مع قريناتها فآثار الظلام الذي جعل القلوب تقيح والأفئدة تسيل صديدا في ساورا المهجورة، تلقي بظلالها على شعب الوادي!

"خذها دالي إلى عمق الوادي. علِّمها ما علمتك إياه سابا ووالدها. علمها كيف تقاتل كرجل وكيف تمتطي الخيل"

"غدروا بك سورنق"

قال دالي في حزن، بينما كيرا تسجيه وتتكيء رأسه على حجرِّها.. جلس دالي الى يساره متلقفا الصوت الواهن، الذي يخرج من اعماق سورِّنق:

"لا تدعهم يغدرون بك أو بشقيقتك"

"ستتعافى آري سورِّنق"ْ

ربت سورِّنقْ على يد دالي:

انت الآن شاب وكيرا صبية. لقد تعلمتما الكثير وتعرِّفان ما لا يعرِّفه أقرانكم. لا يوجد أحد مثلكما في المملكة. تذكرا ذلك دائما!

ولم تمض أيام معدودة حتى أعلن الوادي الحداد متشحا بالحزن والسواد والإحباط. صباح دفن سورِّنقْ في المقابر الجديدة، إكفهرّت السماء، واستحال لون أوراق الشجر الى صُفرّة شاحبة.

غردت الطيور في أشجار القمبيل الشاهقة بغناء حزين، رددّت صداه الجبال، وفراغ الوادي الذي خيّمت عليه اللوعة والأسى

وما أن انتهى الدفن حتى برقت البروق وأرعدت السماء وهطلت الأمطار لثلاثة أيام متتالية، دون أن تتوقف ساعة واحدة، تغير لون رمال الوادي إلى تربة داكنة، متقطعة وخالط المياه شيء من طعم الدموع.

اجتمع الكهنة والشيوخ ونصبوا دالي آري على المملكة، وأبقوا على بييه قائدا لجيشها الجنِّينِّي ومستشارا له!

 

64

التجارب المريرة التي مرا بها، تجعله وشقيقته كيرا أكثر حذرا من أىّ وقت مضى في التعامل مع العشيرة الملكية المتبقية من ساورا الهالكة. وأشدّ حذرا من الناس والشيوخ والكهنة الذين من لم يتآمر منهم كف عن الوقوف الى جانبهم مكتفيا بالفرجة على الوقائع والأحداث المأساوية التي بدأت بإغتيال سورِّنق وسجن دالي وانتحار سابا!

لم يعد دالي يثق بأحد ونشأ لديه اعتقاد بان الخلاص في تطبيق شرِّيعة دالي بحذافيرها على شعب الوادي؛ وجعل كل شيء ينشأ مستمدا منها. وما ان شرع دالي في تنفيذ هذه الفكرّة، غاضا الطرف عن إستفزازات لنقِّي المتكرِّرة حتى نشِط ما تبقى من العشيرة الملكية في الجانب الآخر فارسلهم في جيش الفتح للجوار.

وظل يخطط لشعبه ناشرا تعاليم سورِّنق. تعاليم دالي العظيم، بحرصٍ شديد!

"دسوا لي السُّم كيرا، انه السُّم يجب ان تنهضي بشئوون المملكة، لم تعودي الآن إيا باسي فحسب، بل آري هذه المملكة المجيدة"

"ستشفى دالي وتنهض بشؤون المملكة من جديد.. ستشفى"

كانت كيرا تحاول تمالك نفسها، وطمأنته، لكنها كانت تدرك ان دالي الآن يمضي في الطرِّيق الذي مضى فيه دورة وسورِّنق وسابا من قبل.

كانت إيا باسي كيرا جالسة على الككّر وقد التف حولها الشيوخ والكهنة مطرقين لصمتها المهيب، وهي تجوس في داخلها بين تلافيف ماضٍ شرخته الأحزان وخطّت عليه المآسي بصماتها..

كرّر الشيخ صولمنج:

"أنه العرف كيرا.. لم تحكمنا امرأة من قبل"

"بل حكمت"

"لابد أن تتزوجي"

"لقد تحدثنا في هذا الأمر كثيرا"

"نحن الآن أكثر إصرارا. فقد تركناك وقتا كافيا لتقرِّري وحدك"

أطرقت كيرا وفكرّت في عمق:

"سأتزوج لكن على طريقتي وبشروطي"

"ماذا تعنين؟!"

"في مهرجان الحصاد سأنازل الفرسان ومن يهزمني يكون هو زوجي"

"وإذا لم يهزمك أحد من الفرسان؟"

"يفتح النزال لعامة الشعب وللجميع حتى الغرباء!"

"حتى لو كان من يرغبون في نزالك العبيد والخصيان؟"

"نعم"

"يبدو أنك تخططين لأمر ما"

"ماذا تعني؟"

"سألتيني من قبل عن ذلك الفتى سولونق وأخشى أن تهزميه في النزال؟"

"إنه فارس وقد قاد ثورة استرداد العرش من قبل كما أنه شقيق حبيبتك كونجو"

"انه فتىَّ شجاع؛ ومخلص للسورنق، عجلا بالزواج"

"ليس قبل أن يهزمني"

ابتسم في وجهها؛ وهو يهمهم:

"نعم.. بالطبع!"

هزّ الشيخ صولمنج رأسه في دهشة وقلّب النظر في وجوه الشيوخ الذين لم يخفوا إستياءهم. ثم قال بعد تردد طال:

"لك ذلك"

دار بخلد الشيوخ والكهنة ما دار بخلد صولمنج في تلك اللحظة. إذ كانوا يشعرون أن إياباسي كيرا تخبيء شيئا ما خلف كلامها. شيء لا يدركونه الآن، فهي منذ جلست على العرش وحدها، وتتكشف كل يوم عن خبث ودهاء لا حدود لهما.

تصوروا في البدء أنها ستكون طيعة في ايديهم، وستمضي كما يشتهون، لكن مع الأيام بدت كيرا أشد صرامة من أبيها سورنق، وأكثر حنكة من شقيقها دالي.

لم تستسلم أبدا لإرادتهم في تزويجها لمن يختارونه. كانت تُصِّر في كل مرّة على الرفض عندما يعرض أحدهم عليها الزواج. وعندما أشتدّت شوكة أولئك المبشرون والدعاة من جديد، وأخذوا يعيدون الحديث القديم عن نبي آخر ظهر في مشرِّق الشمس، نبي لا يبحث عن ارض ميعاد ولا يتحدث عن حمله لخطايا البشر الذين عليهم وحدهم ان يتحملوا مسئولية خطاياهم واخطائهم، فتحت الباب واسعا أمامهم، وشغلّت الكهنة والشيوخ بمجادلتهم!

أعلن المنادي أن كيرا ستختار زوجها في مهرجان الحصاد، فأنتظر شعب المملكة بصبر نافد حلول موعد المهرجان وهو يشعر بالزمن يمضي بطيئا جدا، حتى بدت الضحوّة الواحدة لكانها ليلتين وقمر، والنهار لكأنه خريف كامل، أو بعض شتاء.. لم يكن سريان الزمن كما ألفوا دائما.

حلت مواعيد المهرجان ونازلت الكيرا كل فرسان المملكة وهزمتهم واحدا تلو الآخر، وهي تهتف إثر كل نزال:

"هل من منازل؟"

 

انتهى الجزء الثاني من ثلاثية: لا وطن في الحنين

يليه الجزء الثالث: تجاعيد ذاكرة البنجوس

كوستي- القاهرة- الإسكندرية

 

هوامش:

كل المفردات الواردة باللغة القديمة لقبيلة الفور، وهي مفردات لمعان وأسماء وألقاب في التراتبية الإدارية في سلطنات الفور القديمة:

  1. آري: السلطان العظيم. أو الملك العظيم.
  2. كنفوس: قماش تلف به المرأة ردفيها بطريقة معينة، يعد الثوب الداخلي للمرأة، حديثا.
  3. كيرا: هو اسم خيرة العربي نفسه.
  4. سولونق أو صولونج: العرّبي.
  5. سورنق: سيد الأرض.
  6. إياكورِّيّ: الأم القوِّية، الزوجة الأولى للسلطان.
  7. شرتايات: ج . شرتاي. وهو منصِّب إداري بمعنى (حاكم). رئيس مقاطعة. شرتاية: مقاطعة.
  8. دمليج: زعيم منطقة.
  9. إياباسي: أخت السلطان أو الأم الملكية.
  10. الكّكّر : كرسي العرش. كرسي السلطان.
  11. الفواشر: ج. فاشر، معسكر ملكي.
  12. الكامنِّي: سلطان الظِّلْ.
  13. كتِركوا: خصِّي السلطان.
  14. الأورنانق: قائد الجند الشباب.
  15. سومنق: خلوى بمعنى مدرسة لتعليم الأطفال.
  16. سواجن: هي مدينة سواكن الميناء على البحر الأحمر شرق السودان. تقول الأسطورة أن سليمان سجن فيها الجنّ العصاة؛ وحرِّف الإسم الى سواكن بمرور الوقت.
  17. توقوينق: رئيس الطقوس الدينية.
  18. سامبي: زعيم منطقة بين شرتاي ودمليج.

(*) برفيسور أوفاهي. المجتمع والدولة في دارفور. مركز الدراسات السودانية. طبعة أولى القاهرة.2002

(**) إنجيل متى: 15، 16