يرى الناقد المصري أن هذا الديوان يؤكد الحساسية الشعرية التسعينية في قصيدة النثر المصرية، وأبنيتها الجمالية التي تتجلى في سياقات فنية نسبية، ومختلفة لدى أصوات هذا الجيل؛ مثل السرد الشعري، والاحتفاء بالحلمي، واليومي، والهامشي، والإحالة إلى بعض الفنون الأخرى، أو إلى شعرية الأداء التمثيلي المجازي للجسد.

بنية الاستباق

في ديوان «يمشي كأنه يتذكر» للبهاء حسين

محمد سمير عبدالسلام

 

تنطوي شعرية لحظة الحضور – في كتابة الشاعر المصري المبدع البهاء حسين – على بنية الاستباق، وتخييل حالات الأداء المجازية في المستقبل؛ وهذه الحالات الأدائية المنتجة في الوعي، تحمل أثر الماضي ممزوجا بالاستبدال العلاماتي المتجدد في صيرورة النص، وتداعياته؛ وكأن الحنين إلى الماضي يقع في بنية الاستباق الدائرية التي تجمع بين كل من التكرار، والاختلاف؛ فلحظات التحول الزمني –في خطاب الشاعر – تتجاوز الانفصال، والاستاتيكية باتجاه تداخل الأزمنة، وديناميكية لحظة الحضور، وصيرورة الأداء الجمالي اللاواعي؛ والذي يعكس امتزاج علامات الحلم بشعرية الحياة اليومية، وأحداثها الهامشية البسيطة التي تحمل عمقا وجوديا، وإنسانيا في علاقة الذات بالآخر.

تبدو مثل هذه الثيمات واضحة في ديوان البهاء حسين المعنون ب "يمشي كأنه يتذكر"؛ وقد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2020؛ ويؤكد الديوان أيضا الحساسية الشعرية التسعينية في قصيدة النثر المصرية، وأبنيتها الجمالية التي تتجلى في سياقات فنية نسبية، ومختلفة لدى أصوات هذا الجيل؛ مثل السرد الشعري، والاحتفاء بالحلمي، واليومي، والهامشي، والإحالة إلى بعض الفنون الأخرى، أو إلى شعرية الأداء التمثيلي المجازي للجسد؛ مثلما نعاينه في خطاب المتكلم الذي يمزج اللغة بالأداء؛ ومن ثم تتسع بنية الاستباق الزمني بداخل الصوت الشعري؛ لتنطوي على المونولوج، والإحالة إلى شعرية سير الجسد باتجاه مستقبل حلمي يحمل أثر الماضي.

ويشير رومان جاكوبسون – في كتابه الاتجاهات الأساسية في علم اللغة – إلى اتساع السيميائيات في كل من الرسائل اللفظية، وغير اللفظية في عملية التواصل، وأن الرسائل غير اللفظية تفترض سلفا دورة الرسائل اللفظية؛ ومن ثم يمكن دراسة الأدب ضمن أشكال أخرى تداخلية، كما يؤكد منظور بيرس للكلام الداخلي بوصفه اتصالا بين الذات الماضية، والمستقبلية.(1).

قد تتداخل – إذا – شعرية الرسائل اللفظية – طبقا لجاكوبسون – مع ما يتجاوزها ضمن الإشارات غير اللفظية، أو الإشارات الفنية المتداخلة في عملية التواصل، كما يؤكد ثراء المونولوج، وبنيته الزمنية التداخلية في الأدب؛ ويمكننا أن نعاين مجموعة من الإحالات الإشارية اللفظية – في خطاب البهاء حسين – تحتفي بما وراء اللفظي من داخل اللفظي نفسه، ومن داخل اتساع علامات الكتابة؛ وهو ما يعكس ثراء اللغة، ودلالات العلامة، وكذلك تعددية اللحظات الزمنية في بنية الاستباق، وفي فعل التخييل في نصوص الديوان.

وتعكس عتبة عنوان الديوان / يمشي كأنه يتذكر تواتر لحظة الحضور، وشعريتها، وصيرورتها في المضارع الذي ينطوي على الاستباق الذي يعيد إنتاج علامات الماضي، وتشكيلها مجازيا في فعل الكتابة في المستقبل؛ وسنجد تواتر مثل هذه الصيرورة في بنى العناوين الأخرى؛ مثل أصطاد أعضاءها بصوتي، وأسند ذاكرتي بعكازك، ورجل يكلم شرفته بحرقة، وغيرها.

يمتزج وهج الماضي القديم – في وعي المتكلم في قصيدة أسند ذاكرتي بعكازك – بتخييل الذات، والآخر / المرأة في بنى تصويرية شعرية تستعصي على التحول الزمني، والمرض؛ يقول:

"أحصي التنهدات / سأحكي لنفسي عن المستقبل / كأنه أرض ميعاد / عن جسدي / كأنه رغيف خبز / عن الأشخاص الذين يتعاركون بداخلي / كأنهم أصدقاء مختلفون في الرأي / عنك / كأنك عكاز يسندني كلما أردت أن أتذكر"(2).

تواترت – في الخطاب الشعري – مجموعة من العلامات التي تعكس تخييل الذات والآخر في المستقبل ضمن بنية الاستباق؛ مثل تخييل علامة الجسد في صورة رغيف الخبز، وتخييل المرأة في صورة العكاز، بينما يكثف الأشخاص المتعاركون كثافة الماضي المتجدد حلميا وجماليا في لحظة الحضور، والمستقبل؛ ومن ثم تحيا علامات الذاكرة حياة أخرى، وتتجدد – في وعي المتكلم – من داخل فعل التأمل الذاتي، وفي فعل الحركة، والصخب الشعري الكامن فيما وراء التحولات الزمنية.

وقد يحيلنا الصوت المتكلم إلى اختلاط بنية اللعب بالفراغ، وعلامات الحلم الفنية، وحالات الاستبدال الأدائية في نص بلا أهداف، بلا ذرية؛ يقول:

"سأضم طفولتي إلى صدري / مثلما أفعل بابنتي / سأحكي لها بين الشوطين عن النصر الذي تنتظره المقاعد منا / سأخبرها أنني بخير / أنا بخير يا طفولتي / حتى أنني أضرب ظهر الأرض أحيانا بقوة / لأصنع بحذائي خاتما / أنا بخير رغم صمت المدرجات، وغياب الحكم"(3).

يؤسس الخطاب الشعري هنا إلى ثلاث بنى سيميائية متداخلة؛ تتضمن هذه البنى علامات اللعب في المباراة العبثية المتخيلة التي تنطوي على تناقض إبداعي نيتشوي، أو ما بعد حداثي بين استمرارية بهجة اللعب، ومأساة الفراغ الافتراضي، واتساع حالة الأداء نفسها في المباراة، والتي تبدو مثل تشبيه فني لحالات الأداء الجمالي المحتملة في المسرح مثلا، كما تومئ المباراة الافتراضية إلى علامات الحياة اليومية نفسها، وقد جاءت بصورة استعارية كثيفة، وضمنية فيما وراء اللعبة الدائرية المتجددة.

وقد بدأ الشاعر ببنية الاستباق في الفعل "سأضم ..." الذي يؤسس لاستعادة لحظة الطفولة في الاستباق الزمني، وفي ذلك اللعب الحلمي الذي يجدد الطفولة، وصخب الأداء في المشهد؛ وقد بدا المستقبل الذي يحمل وهج الماضي، وحكاياته في علامة الخاتم التي تعكس تجدد الطفولة في زمن جلمي آخر، وفي استمرار الأداء الحلمي في المباراة المتخيلة، أو في فضاء المسرح الافتراضي الذي يقع فيما وراء اليومي.

وينتقل الصوت المتكلم من بنية السلب التي تعكس انفصالا جماليا مؤقتا عن شعرية الأشياء الصغيرة، إلى بنية الاستباق الجمالي لحالة من الأداء الحلمي المفرط، أو الطفرة الصاخبة؛ يقول في نص ثقبتني التجربة:

"غلبني العرق على أمري / لم تعد هناك مئذنة، أحصي لمباتها المحترقة / لم تعد هناك سلالم لولبية أصعدها / لن أصنع كرة من إسفنج الباصات / لن تهبط الكرة وتعلو فوق رأسي / سأغافل النسيان / سأهرب من جسدي"(4).

تعكس شعرية التفاصيل الصغيرة هنا كلا من بنيتي السلب، والحنين إلى البهجة القديمة، وحالة الأداء اللاواعي للذات في لقائها الأول، والمتجدد بالعالم؛ ومن ثم ارتكزت بنية الاستباق على الهروب من الجسد باتجاه تجدد الذاكرة في حلم جديد آخر، وبوعي شعري إبداعي مختلف، يقوم على استبدال البهجة القديمة، ببهجة أخرى ممزوجة بالحنين، ومقاومة التحول الزمني من داخل شعرية التفاصيل اليومية في السياق اليومي / الحلمي المنتج للتو في بنية الحضور.

وتبلغ حالة الأداء الجمالي ذروتها، وتأتي ممزوجة باحتمالية الحدث، وتحولاته الخيالية في نص رقص؛ إذ يشكك المتكلم في حدوث الرقصة بينما يؤكد فعل الرقص الأدائي المفرط الذي قد يصير طيرانا، أو نوعا من الخلاص من الثقل الزمني الاستاتيكي؛ يقول:

"لم أكن أرقص أصلا / ولكني كنت أستطيع إذا أردت / أعني أنني أتجاهل الرقصة الآن / وأكون الراقص / أترك الهواء يحركني / أفرد رجلي / وأغمض العينين / أبدأ في التخفف مني ومنكم / ثم أشرع في الطيران"(5).

إن الصوت يفكك بنية الرقص عبر ثلاث إحالات سيميائية متباينة للرقصة؛ فهو يشكك – في البداية – في حدوث الرقصة كفعل بهيج، أو كبدايات لعمل فني، ثم يحول توقعات المتلقي إلى إمكانية تحقق الرقصة بمدلولها الفني الجمالي، ثم يحيلنا إلى فعل آخر هو فعل الطيران الخيالي الذي يبدو كشكل من التأمل لذات متخيلة طيفية تستطيع الخلاص، وإعادة التشكل في وعي القارئ؛ وهي تتماس بدرجة كبيرة مع الذاكرة الجمعية، وعلامات ألف ليلة، أو مع التأملات الحدسية التي تذكرنا برؤى شوبنهاور حول العالم الداخلي؛ ومن ثم يؤجل النص حدوث الرقصة في تحولاتها العلاماتية التي تؤكد الأداء الذي يستعيد الطفولة، ويتجاوزها.

وقد يستخدم الشاعر تقنية التداعي الحر لعلامات الأشياء الصغيرة؛ ليكشف عن تجدد حياتها الخاصة في الوعي، واللاوعي، أو في سياق الهارموني بين الحلم، والواقع؛ يقول في نص أصطاد أعضاءها بصوتي:

"سأظل أراقب جارتي / وهي تنشر الملابس / أراقب حبل الغسيل حين يتوقف مصيره على فتلة / الحبال تحب الملابس الملونة / تعتقد أنها أطفال / ... تحب الحبال أن نمسح عنها التراب / تنتشي بالماء ..."(6).

ينتقل الصوت المتكلم هنا من فعل التأمل المتجدد في التفاصيل الصغيرة، وبلاغتها، واتصالها بوجود الذات والآخر، إلى الحياة الخاصة بالتفاصيل نفسها مثل علاقة الهارموني بين الحبال، والمياه، أو الحبال، والألوان، ثم صورة الأطفال المتخيلة، وصوته الخاص الذي يبدو قديما كأثر يحاول القبض على وهج تجدد الحياة في علامات الأشياء؛ وكأن التداعيات الحرة – في هذا السياق الشعري – تؤكد عودة تلك الحياة الشعرية للتفاصيل اليومية الحلمية فيما وراء الفراغ المحتمل.

*هوامش /

(1) راجع، رومان جاكوبسون، الاتجاهات الأساسية في علم اللغة، ت: على حاكم صالح وحسن ناظم، المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، وبيروت، ط1، سنة 2002، ص-ص 58، 59.

(2) البهاء حسين، يمشي كأنه يتذكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 2020، ص 27.

(3) البهاء حسين، السابق، ص 33.

(4) السابق، ص 73.

(5) السابق، ص-ص 76، 77.

(6) السابق، ص-ص 48، 49.

 

msameerster@gmail.com