منطق القلق والسؤال هو ما يتحكم في النص الإبداعي، هو من يدفع الشاعر الى فتح حجاب ظلمة وغياهب الأسئلة الكاشفة والعالمة، في هكذا عالم مليء بالالتباسات تعيد العزلة المتفردة اليوم، فتح نوافذ لعوالم القصيدة كي تصبح اللغة جسرا مفتوحا على الكشف، لا على الدهشة فقط.

العُزلة وأسئلة أُخرى

مجد عربش

 

في السّوق الصغير
لكأنّي من كَثرةِ ما انعزلَ القلبُ
أحبُّ النّاسَ جميعاً
وضجيجَ الدّنيا
وغبارَ الطرقاتْ
أتشهّى أن أحضنَ هذا الشارعَ
أن أغرسَ فيه خطايْ
أتمنّى أن أصبحَ نسْماتٍ هبّتْ وسْطَ زحامِ النّاسِ
تجرُّ عطورَ الفتياتِ
ورائحةَ الأشياءِ منَ العرباتِ
بهذا السوقِ الغارقِ في عمقِ رؤايْ
أو بائعَ ألبسةٍ
أُطفئُ حَرَّ حنيني بامرأةٍ أتغزّل كالمجنونِ بها
وهْيَ تُفَتّشُ عن ثوبٍ لابنتِها
وأغيّرُ نبرةَ صوتي كي أسحرَها بصدايْ
أتمنّى أن أصبحَ سوقاً والناسُ إليّ تفِدْ
كخليَّة نحلٍ
فأنا مُقصىً ووحيدٌ جدّاً
تبلعُني الوَحدةُ منذ قرونٍ
تجعلُ قلبي من نارِ الظنّ يرِدْ
أرجِعُ للبيتِ شريداً
ليسَ معي غيرُ خيالاتي وخطايْ
ليس معي غيرُ الصمت وأهذي:
ما أقسى تلكَ العزلةَ
ما أعمقَ هذا السوووقْ

 

في مديحِ الحواسّ

لا أحتاجُ إلى أحلامٍ لأراكْ
لا أحتاجُ إلى أفكارٍ أو حدْسٍ وظنونْ
بحواسي أتعمّقُ في روحِكَ
بالطّعمِ السائبِ في الحسّ
وبالعطرِ السارحِ في عرسِ الوردةِ
بالضّوءِ إذا حلَّ بعتمِ عيونْ
من روحِك نورٌ في كلِّ الأشياءِ يكونْ
لا أعرفُ بيتَكَ أو اسمَكَ
لا أفهمُ معنى الأبديّةِ في وهجِكَ
لا أفقهُ أيّةَ موسيقى أنتَ
ولا أيَّ سكونْ
لكني أتلمّسُكَ الآنَ
أعيشُ على صوتِكَ بي
أقتاتُ على سِلْمٍ تمنحُهُ ليكاني
وعلى بردٍ منك بنارِ وجودي المجنونْ
فلماذا أبحثُ كلَّ نهارٍ
ولماذا أسألُ أدياناً مظلمةً
تعرفُ كلّ الأشياءِ عداكْ؟
ها انتَ بضوءِ الشّمسِ إذا لامسَ خديَّ برفقٍ
ها أنتَ على أزهاري المرويّةِ
ها أنذا في في عينيْ أنثايَ أرى قنديلَكَ
يا ذا القنديلِ الخالدِ لم تطفئهُ سِنونْ
لي في النّهدينِ حياةٌ
في التّفاحِ اللامعِ
في دفءِ أحاديثٍ تحتَ الأمطارِ
بأوراقِ الأشجارِ تزورُ النّهرَ الجاري بهدوءٍ عندَ نسيمْ
ها أنتَ أمامي كحياتي
لمَ أبحثُ عنكَ وكلّ حواسي تحضنُ
نوراً منكَ عظيمْ؟

من أحلامِ اليقظةِ لمتأمّلٍ شكّاك

يفتحُ النّافذةْ
يتأمّلُ شمسَ الصّباحِ التي بَلَجَتْ
كالإلهِ سعيدةْ
ويحلمُ حينَ يعودُ إلى جمرِهِ:
ليتَني عاملٌ في بلادٍ سليمةْ
من الصّبحِ للشّغلِ أخرجُ
تلسعُني الشّمسُ عند الظّهيرةِ
والأرضُ حينَ أبادرُها تتأبّى علي
كامرأةٍ في السّريرِ عنيدةْ
وعندَ المساءِ أعودُ إلى البيتِ
يلتمُّ حولي الصّغارُ عصافيرَ تِينٍ
لِيلتقطوا قُبلةً وهدايا
فأحملُهم ناسياً همّ دنيا أليمةْ
أرى زوجتي وأحدِّثُها عن نهاري
أضخّمُ أحداثَ يومي الرّتيبِ
أداعِبُها فتؤنّبُني لاحتمالِ دخولِ الصغارِ
بلحظتِنا المُستكينةْ
وأؤمنُ باللهِ من غيرِ ظنٍّ
وتُغوي كياني الأساطيرُ..
حينَ يداهمُني الرّيبُ
أهربُ من وَحدتي لِرفاقي
فتنقذُني النّمنماتُ البسيطةْ.
ولكنّهُ الآن عن لمسةِ اللهِ في كل شيءٍ يفتِّشُ
يأخذُه الفِكرُ في بُرهةٍ للتأمّلِ
يرميهِ في بقعةٍ من قلقْ
وحريقْ...

لن أقفَ الآن
هل كلُّ الطرقاتِ مغلّقةٌ
أم أني عن سَمْتِ الدَّربِ ضلَلْتْ
كالمهووسِ أفتّشُ عن نفسي
أبحثُ عن مرآتي
ألمسُني فأغيبُ
أطيرُ بسربِ دخانْ
سرتُ إلى الضوءِ طويلاً
وإلى اللهِ كثيراً سرتُ
إلى عينينِ من العسلِ الصّافي
تحتضنانِ وجودي بحنانْ
ما زلتُ وحيداً
مازالَ اللهُ قريباً وبعيداً
ما زلتُ أحنّ إلى جسدٍ يؤوي روحي العطشى
وعلى الحرمانِ ظَلَلْتْ
هل هذي دربي تمتدُّ إلى أزهاري الموعودةِ
تحملُني لسلامي الدافئِ
تفضي للبيت الهادئ
حيثُ تأمّلتْ؟
رغمَ لهاثي
أنذا
رغمَ ضبابي
رغمَ القلبِ المُترعِ بالأسئلةِ الحرّى
رغمَ اليأسِ
سأمشي
لن أقفَ الآنْ