يغامر الباحث العراقي هنا في أصقاع نقدية جديدة يسعى فيها إلى استقصاء كيفية التعامل مع النص الرقمي التفاعلي الجديد، ويربط بين مغامرة النصوص الرقمية الجديدة، والتشجير والتوزيع التشكيلي للشعر على الصفحة قديما، وصولا إلى محاولة استنباط قواعد جديدة للتعامل مع تلك المتون

متون متجاورة متساكنة

الشعر من السماع والقراءة إلى التفاعل

باقر جاسم محمد

 

لقد أنجز الشعر، عبر تأريخه الطويل، بناء جملة من الأسس المهمة في التلقي والاستقبال، وحقق لنفسه، في هذا المجال، سياقاً يعتمد أصلاً على الطبيعة الخطية للغة سواء حين يكون التلقي سماعاً من خلال إنشاد الشاعر لنصه الشعري، أو حين يكون التلقي قراءة عبر الوسيط التدويني الورقي. وقد استقر السياق الخطي حتى صار عرفاً مسلماً به بين الشاعر وقارئه. وهو عرف مدعوم من استمرار النتاج الشعري على وتيرة واحدة هي الارتباط الوثيق بالوسيط الكلامي في الإنشاد/ السماع، والتدويني الورقي في الكتابة/ القراءة حتى صار هذا العرف الموغل في القدم من أهم عوائق أي محاولة لكسر الأداء الخطي للغة واستحداث طرق بث لسانية شبكية ومتفرعة تفارق ذلك البث اللساني الخطي، ذلك البث الذي أفرز بدوره آلية خطية في الفهم والاستيعاب جعلت تلقي النصوص غير الخطية غاية في الصعوبة. وقد كانت هناك محاولات بسيطة ولكن مهمة لكسر الأداء الخطي من خلال الشعر الهندسي والقصائد المشجرة أو المكتوبة على هيئة صور لحيوانات وأشكال نباتية. ونعتقد أن هذه المحاولات الريادية أشارت إلى الحاجة الفعلية لكسر طبيعة الأداء الخطي للنص الأدبي.

لكن هذا الخرق للأداء الخطي كان محكوماً بطبيعة الوسيط الورقي وتقدمه من إمكانات. وقد شكل الوسيط الورقي حاجزاً تقنياً يحول دون ابتكار طرائق جديدة في هذا السياق. ومن هنا كان ظهور الأدب التفاعلي الذي ارتبط بجملة من التطورات العلمية والتقنية في مجال الحاسوب والإنترنيت قد أسس لظهور مرحلة جديدة في المحاولات الرامية إلى كسر الأداء الخطي في اللغة والأدب. إن الارتباط بين الحاسوب والأنترنيت من جهة والأدب التفاعلي من جهة ثنية لم يكن ارتباطاً تضايفياً، أعني أنه ليس نتاج إضافة بعض ممكنات الحاسوب والانترنيت إلى الكتابة التقليدية، وإنما هو ارتباط وظيفي أتاح لنا الكشف ليس فقط عن أهمية البث غير الخطي للنص الشبكي الأدبي في الشعر والسرد والمسرح، وإنما أيضاً عن الممكنات الهائلة التي ينطوي عليها هذا الضرب الحديث من الإنشاء الأبي. وهي ممكنات تومئ إلى تشكل جديد للمؤسسة الأدبية برمتها قد يتجاوز كل ما هو مألوف أو سائد من ضروب الكتابة والإنشاء الشعري إلى الحد الذي يمكننا القول فيه أننا على أبواب ولادة نقلات جوهرية في طبيعة مؤسسة الجنس الأدبي وإدماجها بجملة من الفنون الموازية مثل فن التصوير والنحت والموسيقى والغناء فضلاً عن ما يقترحه الحاسوب والإنترنيت من إضافات فنية وفكرية مؤثرة في صوغ هذه الأشكال الجديدة من الأجناس الأدبية.

فاختلاف الوسيط من الورق إلى الشاشة الزرقاء وجهاز الحاسوب والأنترنيت لم يمدَّ القصيدة والقصة والمسرحية بوسائل تقنية شكلية فحسب، وإنما أثر في طبيعة البث الشعري والسردي ونقله من الخطية إلى الشبكية، وأثر في طبيعة الإنشاء الأدبي من حيث أنها لم تعد محض فن كلامي فحسب، إنما اقترنت بجملة من الفنون البصرية كالرسم والنحت والتصوير السينمائي، والفنون السمعية الموسيقى والغناء، وبذلك لم يعد لدينا فن قولي واحد يتمثل في النص الشعري أو القصصي أو المسرحي، وإنما صارت لدينا حزمة من الفنون القولية والأدائية والبصرية والسمعية، وهذه الحزمة تعمل بوصفها متوناً متجاورة ومتضافرة في إنتاج الأثر الكلي للمشهد السمعي البصري الجديد. وغدت وظيفة الشاعر والكاتب أكثر تعقيداً لأنها لم تعتد تقتصر على التأليف التدويني المعروف، وإنما صارت مهمته تتضمن التـأليف والتوليف معاً، كما يقول الدكتور أمجد حميد، فضلاً عن انفتاح عمليتي التأليف والتوليف على ممكنات أخرى لإسهام المتلقي في صوغ النص وإجراء تعديلات وإضافات عليه حتى ليمكن القول أن النص الأدبي التفاعلي ليس نصاً بعينه، إنما هو نص متحول ونامٍ وفي حالة صيرورة دائمة. وتلك هي سمة جديدة تماماً تجعل الأدب التفاعلي مختلفاً كلياً عما سواه.

فالقصيدة التفاعلية، على سبيل المثال، تقدم نفسها بوصفها جنساً أدبياً جديداً وإن كان ذا صلة لم تنقطع بالشعر. إنها شعر من حيث الانتماء والفعل. لكنها تخرج على كثير من ضوابط الشعرية العربية، أو غير العربية، وسماتها التقليدية أو الحداثية. وهي تقدم نفسها أيضاً بوصفها محاولة للخروج على كثير من خصائص النص الشعري الورقي وأطره المألوفة والمستقرة وذلك لكونها تتعامل مع وسيط مختلف تماماً هو الحاسوب والشاشة الرقمية، مع ما يمكن أن يقدمه هذا الوسيط من ممكنات فنية وتقنية تؤثر في طبيعة الإنشاء الشعري نفسها وفي عملية التلقي في آن واحد. ومن الناحية التداولية، كانت الوسائل التقليدية في التوصيل الشعري تتسم بكونها تعتمد اللغة الشفاهية أو المقروءة، وفي كلتا الحالتين كانت لغة تلقي النص الشعري خطية على الدوام. فحين كان الشعر يلقى شفاهاً، كنا نستمع له، وكان السماع خطياً، أعني أننا ننصت لبداية تقود إلى نهاية. وحين كان الشعر يكتب في ورق أو يطبع كنا نقرأه، وكانت القراءة خطية أيضاً. أما حين يؤلف شاعر أو منشئ القصيدة التفاعلية ويصمم مجموعة متونه الصوتية والصورية والتدوينية، فإننا نقوم بمشاهدة العرض الشعري ولا نقرأ نصاً لسانياً فقط، فنسمع موسيقى ومؤثرات صوتية، ونشاهد لوحات فنية وأشكالاً وهندسية وإيقونات، وفي الوقت نفسه نقرأ نصاً لسانياً مدوناً. وسيكون ممكناً لنا أن نسهم في كتابة النص أو نضيف إليه أو نحور فيه، فضلاً عما يقدمه لنا النص اللساني في القصيدة التفاعلية من الاحتمالات والمسارب المتداخلة والمتعامدة مع بعضها أو المتفرعة عن بعضها. ومن خلال وسائل تقنية تكنولوجية متنوعة فتنتفي الحالة الخطية للتلقي بشكل نهائي إذ لا تعود هناك بداية ولا نهاية محددتان للنص، ومسار واحد لتشكل مادة النص أو تلقيها بين البداية والنهاية اللتين نختارهما نحن. وسيكون ممكناً أن ينمو النص الشعري في أية لحظة باتجاهات مختلفة قد تكون رأسية أو عمقية أو تراجعية أو متفرعة. وإذا كانت الخطية تشير إلى خصيصة زمنية في الإنصات للشعر، وخصيصة مكانية في قراءة الشعر المدون، فإن للقصيدة التفاعلية مزية مهمة هي أنها ذات بعد زماني يتعلق بما تتضمنه من الموسيقى والمؤثرات الصوتية التي هي جزء أساسي من القصيدة التفاعلية الرقمية.

ونحن نعلم أن الموسيقى والمؤثرات الصوتية توصف عادة بأنها من الفنون الزمانية فضلاً عن اللوحات الفنية التي تعد من الفنون المكانية، وبهذا تكون القصيدة التفاعلية قد امتلكت خصيصة مكانية ذات أبعاد رباعية زمانية ومكانية وليست خطية من خلال الصور الفنية والتشكيلات الهندسية المجسمة والموسيقى والغناء(1). وحتى النص أو المتن اللساني المدون نفسه سيكون مؤلفاً من طبقات تلغي الكينونة الخطية ويجري إنتاجها من خلال الأيقونات لتشكل نمواً وتفرعاً عرضياً للنص مما يجعله في حالة تحول وتغير ويقبل أن نبدأ قراءته من مواضع مختلفة جداً. فالقصيدة الرقمية التفاعلية ليست نصاً لسانياً أضيفت له لوحات فنية وأرفق بموسيقى عالمية أو محلية، وإنما هي نص معقد من كل هذه المكونات بوصفها متوناً متجاورة وتحظى بالأهمية نفسها، ولم يعد النص اللساني سوى عنصر تكويني واحد من عناصر أخرى. ويتطلب هذا النوع الصعب من الأداء، المفضي إلى إحداث تأثير جمالي وفكري متميز، ذائقة جمالية مختلفة، وهو يستفيد من التكنولوجيا ويدمجها في صلب عملية الإنشاء والتلقي دون أن يغيب عنه الهدف الجمالي في نهاية المطاف. وتتسم موارد التأثير هذه بالتنوع في مداخلها إلى النفس لأنها تتلقى النص من خلال حاستي البصر والسمع، وليس البصر فقط، فضلاً الحركات الحسية لليدين أثناء إسهام في المتلقي في عملية إنشاء النص فضلاً عن سعة ممكناته التأويلية، والخصوبة والجدة الذين يتحققان في لحظة التفاعل والمشاركة في توجيه بناء النص وإدخال تغييرات جوهرية في شكله ومحتواه. وهي لحظة تتجاوز كثيراً طرائق التلقي السابقة مما يسوغ إطلاق صفة التفاعلية على هذا النمط من القصائد(2). والحقيقة أن خصائص النص الشعري التقليدية التي عصف بها الأدب التفاعلي، وغيرها على نحو جوهري تتوزع كالآتي:

1 ـ وحدة مادة النص وثباتها: إن وحدة مادة النص سمة قارة في النصوص الأدبية كافة بصرف النظر عن الجنس الأدبي تنتسب إليه. وأعني بوحدة النص أننا يمكن أن نقرأ نقدياً قصيدة (أنشودة المطر) للسياب، مثلاً، وأن نتدارسها وتظل القصيدة مرقونة بعدد محدد من الكلمات، والجمل والعبارات الشعرية. وقد رسمت أو طبعت على نحو يراعي خصائص شعر التفعيلة، وفيها صياغات لسانية شاخصة لها طابع موضوعي. ويمكن لنا أن نصف ما فيها من وزن أو أوزان شعرية وما تنطوي عليه من مظاهر بلاغية وأسلوبية وصور شعرية، وأن نحصي ذلك بدقة وشمول فلا يعود بالامكان أن يضاف إلى ما أحصيناه شيء. وهذا ما يمثل المظهر الموضوعي للنص الأدبي لأنه مكتمل وذو وجود فيزيائي محسوس. وترتبط وحدة مادة النص اللسانية بالحفظ الشفاهي من جهة وبالتدوين الكتابي التقليدي من جهة أخرى. ويمكن لنا أن نستثمر هذا المعيار، مثلاً، عند قراءة رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، وقصة "تاج لطيبوثة" لمحمد خضير، وقصيدة "المقصورة" للجواهري، ونص مسرحية "هاملت" لشكسبير، أو أي نص آخر.

لذلك نقول بوحدة هذه النصوص وثباتها. والمتغير الوحيد في هذه الحالة هو القراءة والتأويل. لكن القراءة والتأويل من مسؤولية القارئ، وهما يمثلان احتمالية مفتوحة لعدد لا نهائي من القراءات والتأويلات من الناحية النظرية في الأقل. ويطيح الأدب التفاعلي بهذا المبدأ لأنه أدب يقوم على أساس إمكان زيادة حجم المتن اللساني أو نقصانه أو تحويره. والأهم من هذا أن المتلقي مدعو بصدق وحرارة من المؤلف إلى الإسهام بفاعلية في مثل هذه التحويلات على النص الأصلي. إذن يعني ثبات مادة النص أن النص التقليدي يتخذ سمة الثبات حين ينتهي منه المؤلف، فلا يعود بالإمكان أن نضيف إليه شيئاً أو نحذف منه شيئاً، وتلك سمة قارة فيه. وحين يضيف أحدنا شيئاً إلى النص أو يحذف منه فإن عمله هذا يعد تحريفاً للنص قد يتطلب الإدانة لارتباط شكل النص بإرادة المؤلف التاريخي الذي منح النص هذا الشكل لغاية معينة ترتبط بوحدة الرؤية التي يتبناها المؤلف. وحتى حين يعمد مؤلف النص نفسه إلى إعادة كتابة نصه مرة أخرى فإن ذلك سيؤدي إلى إنتاج نص مختلف وجديد تماماً. فالنص الشعري التقليدي لا ينمو ولا يتحول لأنه صيغة ثابتة ومستقرة.

وحين أعاد أدونيس كتابة بعض قصائده واصفاً ذلك بأنه "صياغة نهائية" فإنه قد أنتج، في الواقع، نصوصاً جديدة لأن أي تغيير أو زيادة في المبنى تؤدي لا محالة إلى تغيير في المعنى. إذن فقد صار لدينا لكل نص أعيدت كتابته من نصوص أدونيس نصاً رديفاً له، أو متناصاً معه. أما القصيدة التفاعلية فإنها تحرض القارئ على أن يتدخل في النص في حالتين الأولى إذا كانت القصيدة التفاعلية مبثوثة على الإنترنيت ضمن برنامج يقبل دخول المتصفح/ المشاهد عليه وإجراء ما يراه من تغيير. والثانية أن تكون القصيدة التفاعلية مرقونة في قرص CD وفي هذه الحالة يكون بإمكان المشاهد أن يغير في النص من خلال عملية الانتقاء والتوجيه لمسار التلقي ومن خلال إحداث نوع من النمو الكمي عبر التكرار، كما يسمح البرنامج المستعمل في رقمنة النص الأدبي التفاعلي للمتلقي أن يضيف للنص ما يراه من تحوير أو زيادة إذا كان ذا خبرة فنية مناسبة في البرامجيات.

2 ـ وحدة الرؤى في النص: فإذا كان النص الأدبي ينتج رؤى محددة للعالم لها صلة على نحو ما بالرؤيا الاجتماعية للمؤلف وبقصديته وموقعه الطبقي، كما يقول لوكاتش، فإن الرؤيا التي يمكن أن نجدها في قصيدة أبي العلاء المعري:

"غيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي نوحُ باكٍ ولا ترنمُ شادي"

قد تتغير في عملية القراءة ثم التأويل، ولكن هذا التغيير لن يكون إلا على نحو محدود. فلا يمكن الزعم، مثلاً، بأن هذه القصيدة تطرح رؤيا مبتهجة بالوجود، أو أنها تمتدح أميراً ما، أو أنها تتغزل بامرأة. وحتى إذا ما زعم أحد أن هذا ممكن فإن ذلك يقع في باب التوسع في التأويل للنص دونما ضوابط، ولا يقع في باب قصدية النص أو المؤلف. ولسوف يطاح بهذه الخصيصة في حال تعدد المؤلفين وكذلك في حال تمكن القارئ/ المشاهد من أن يتدخل في إنشاء النص وتوجيه صيرورته أثناء القراءة أو الإضافة إلى متنه اللساني أو الصوري المصاحب. وهذا مما يحدث في القصيدة التفاعلية والرواية التفاعلية. أما المسرح التفاعلي، فإن له خصيصة مهمة هي أنه يمكن أن يكون نصاً مسرحياً تفاعلياً، وفيكون حاله مثل حال الرواية أو القصة القصيرة التفاعلية، وقد يكون الأمر متعلقاً بالعرض المسرحي التفاعلي، وهنا تكون إمكانات الإسهام في العرض أكثر تعقيداً لأنها تفترض مشاركة أكثر من شخص يملك القدرة على الدخول على العرض على نحو متزامن، أي في الوقت نفسه، والتفاعل والإضافة إلى العناصر العرض المسرحي، من نص وممثلين وبناء مشاهد وديكور وموسيقى تصويرية ورؤيا إخراجية للعرض. وقد قام الدكتور محمد حسين الحبيب من كلية التربية الفنية في جامعة بابل بتجربة أولى في هذا السياق وبالاشتراك مع أشخاص آخرين من داخل العراق وخارجه. وقد أظهرت هذه التجربة مقدار الصعوبة العملية التي تكتنف الإسهام في العرض المسرحي التفاعلي(3).

3 ـ تتميز النصوص الأدبية التقليدية: بكونها مبنية من المادة اللسانية فحسب. وقد يعمد الشاعر أو الروائي نفسه أو أحد الناشرين إلى إرفاق المادة اللسانية برسوم أو صور أو أشكال معينة، وهي إضافة تسمى في النقد الحديث بالنص الموازي. وهذه الرسوم والأشكال ثابتة وغير قابلة للتغير. وهنا نلاحظ اقتصار النص الموازي على مادة بصرية غير لسانية فحسب، ونلاحظ أيضاً أن ذلك لن يؤدي إلى التقليل من قيمة المادة اللسانية التي تحتفظ بأهميتها وهيمنتها على بقية مكونات النص البصرية. أما في القصيدة التفاعلية أو الرواية التفاعلية فإن المادة اللسانية ليست سوى مكون من جملة من المكونات البصرية والسمعية المتنوعة مما ينهي، أو يقلص إلى حد بعيد، هيمنة المادة اللسانية على بقية المكونات.

4 ـ السمة الأجناسية للنص الأدبي: فالقصة أو الرواية تتميز بسمات فنية أدائية محددة تختلف كلياً عن سمات الشعر وعن سمات النص المسرحي مشتقة من الخصائص الخمسة أعلاه. ولعلنا قد أثبتنا أن الوصف الدقيق للقصيدة التفاعلية يظهر أنها نص مختلف على نحو جوهري عن جنس الشعر من حيث الخصائص ويتجاوز مفهوم جامع النص أو architext إلى مفهوم أوسع وأكثر شمولاً حتى من مفهوم جامع الأجناس الأدبية archigenre لأنه نوع من جامع الفنون والآداب archiarts. فهو مفهوم مفتوح يشمل الأنواع الأدبية والسينما والأنواع الفنية كافة.

5 ـ والحقيقة أن عملية تلقي النص التفاعلي تختلف عن عملية تلقي النصوص التقليدية: فنحن نتحدث عن عملية مشاهدة للقصيدة الرقمية التفاعلية بإزاء عملية القراءة أو الإصغاء للقصيدة التقليدية. وقل مثل ذلك بالنسبة للرواية التفاعلية والقصة القصيرة، وأثناء المشاهدة، قد يحدث انقطاع أو توقف في تلقي أحد المتون، مثل المتن اللساني، ثم يجري استئناف تلقي المتن اللساني ولكن ليس من نقطة التوقف نفسها. والفرق كبير بين أن نشاهد متوناً لسانية وصورية وموسيقية، ويكون متاحاً لنا أن نوجهها وأن نؤثر في تشكلها أو أن نضيف إليها، وبين أن نقرأ نصاً مطبوعاً أو نصغي للشاعر أو سواه وهو يلقي النص. وسوف يتعين على النقد الأدبي الذي يقرأ، أو لنقل يشاهد القصيدة التفاعلية أن يتعامل مع جملة من الفنون المرئية والسمعية، وأن يستثمر الأدوات والممكنات في الحاسوب وفي شبكة الانترنيت على نحو متكامل.

ونقدم هنا خطاطتين لتوضيح الفرق بين التلقي الخطي والتلقي التشعبي والمتفرع في الأدب التفاعلي. تمثل الخطاطة رقم (1) الاختلاف البنيوي للقصيدة الرقمية التفاعلية أو الرواية التفاعلية عن القصيدة والرواية التقليديين، مع ملاحظة أن مصطلح "القصيدة التقليدية" يعني هنا قصيدة الشطرين وقصيدة التفعيلة معا لأنه ينصرف إلى معنى كونها خطيين من حيث التشكل اللسانيً.

الشكل (1) القصيدة التقليدية
المتن اللساني

أما الخطاطة رقم (2) فتمثل القصيدة الرقمية التفاعلية والراوية التفاعلية وبنيتها المعقدة والمكونة من متون مختلفة في طبيعتها، ومن طبقات وتشعبات عنكبوتية مختلفة لكونها قصيدة أو رواية متداخلة في مكوناتها، ومتعامدة ومتناسجة في طبقاتها.

الشكل (2) القصيدة الرقمية التفاعلية
مجموعة المتون اللسانية والصورية والصوتية
بدايات محتملة
------------


------------

نهايات محتملة

واستناداً إلى كل ذلك، يهمنا هنا أن نعلن عن الحاجة إلى قيام نقد تفاعلي يستثمر إمكانات الحاسوب من جهة، ويتمكن من التعامل مع مكونات القصيدة التفاعلية البصرية والسمعية والتقنية كافة بكفاءة وبأدوات مناسبة تتلاءم مع طبيعة تلك المكونات من جهة أخرى. والحقيقة أن القصيدة الرقمية أو التفاعلية تتميز بأنها تغير الخصائص الفنية للقصيدة الشعرية التقليدية على نحو جوهري، وتقدم عدداً أكبر لاحتمالات النقد والتأويل الذين يجب أن يقترنا بكشف يبين اللحظة الزمنية التي تحدد الدقيقة والساعة واليوم الذي جرت فيه قراءة النص فضلاً عن مسار القراءة وخطتها التي سلكها الناقد أثناء القراءة لأن النص التفاعلي موضوع النقد قد يختلف ويجري عليه تغيير كبير بعد حين قد يطول أو يقصر بما يدخله عليه المؤلف الأول أو المؤلفين اللاحقين أو القراء، هذا فضلاً عن كون القصيدة الرقمية التفاعلية تمتلك سمة إضافية هي أنها تتعامل مع وسيط مختلف تماماً هو الحاسوب وشبكة الإنترنيت وتسمح بمسارات مختلفة للقراءة. وكل من هذه الخصائص يمنح القصيدة الرقمية سمة الاحتمال لا القطع في التشكل والنمو والتغير في كي حين. وننوه هنا بالمسعى العلمي الذي يقوم به الدكتور أمجد حميد التميمي في الشروع الأول بالكتابة والسعي لتقديم بنية نظرية وتطبيقية لمثل هذا النوع من النقد الأدبي التفاعلي(4).

القصيدة التفاعلية في النقد التطبيقي
لعل من المهم أن نشير هنا إلى أهمية أن يقترن الإبداع التفاعلي في شتى صوره بالنقد التطبيقي الذي سيسهم في إضاءة الطريق ورسم المنهجية المناسبة لتلقي النص التفاعلي على مستوى القراءة المنتجة. وقد يكون مناسباً أن نشير أيضاً إلى أن عملية تلقي النص التفاعلي عملية صعبة إلى حد بعيد وتقتضي إلماماً بطرائق تشغيل الحاسوب والاستفادة من إمكاناته. وفي مسعانا لنقد نص تفاعلي اخترنا مجموعة قصائد الشاعر مشتاق عباس معن المعنونة "تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق" لأهميتها الفنية ولكونها أول قصيدة رقمية تفاعلية عربية(5). وبما أن نقد الأدب التفاعلي لا ينبغي أن يقتصر على المتن اللساني وإنما يجب أن يشمل المتن الصوري أو اللوحات والمتن الصوتي أو الموسيقى، والمتن التشكيلي الكلي أو التصميم النهائي وطرائق استثمار ممكنات الحاسوب، فسوف نسعى إلى حصر الملاحظات المهمة حول كل هذه العناصر التكوينية مع ضرورة ملاحظة أن هذه القراءة ستكون للنص كما هو حتى يمكن الكشف عن الإمكانات غير الخطية وعن تفاعل مكونات النص اللسانية والصورية والتوليفية أو الإخراجية دون أن يعني ذلك الغض من القيمة الأساسية لدعوة القارئ الضمنية إلى الإسهام في بناء النص بالإضافة والتعديل والتغيير التي تبقى باباً مفتوحاً على مدى شاسع من الممكنات.

عند فتح المتون المتجاورة لقصائد "تباريح"، وسنكتفي بالصفحة الأولى للإشارة للمجموعة كلها. وسنستعرض مباشرة لتأثير المتون الصوري والصوتي واللساني. وهذا الترتيب هو ما يحدث للمتلقي الذي يبدأ بالمشاهدة. والصفحة الأولى للتباريح تظهر تصميماً قصدياً قائماً على إدماج أثر مادة بعض المتن البصري المتمثل بمادة من فن النحت هي صورة تمثال لإنسان يشرع بالصراخ رغم وجود أربطة على فمه لمنعه من الكلام. ويقدم هذه التمثال لحظة حركية على المستوى النفسي معبراً عنها بالألم الظاهر على الوجه، وعلى المستوى الخارجي بهذه الصرخة الصامتة التي دعمها الفنان صاحب التمثال بحركة إضافية تتمثل بتجزؤ النصف الأسفل من الوجه. وهذا التجزؤ يمكن أن يفهم على أن هذه الصرخة لن تذهب جفاء، وإنما هي ستتكرر حتى تحدث أثرها. ولكن أين هي هذه الصرخة؟ ولِم َ لـَمْ نسمعها، وكان بإمكان الشاعر صاحب المتون أن يقدم لنا في المتن الصوتي المصاحب صرخة ما بصوت أحد الممثلين أو حتى بصوته الخاص؟ هنا ينبغي الانتباه إلى أن البنية البصرية التي يمثل التمثال مركزها قد أدمجت عضوياً بالبنية الصوتية التي هي موسيقى تكتظ بالحزن والألم عبر صوت الكمان المهيمن بوصفه صوتاً موسيقياً يرتبط باستثارة مشاعر الحزن والكآبة والتشاؤم. إذن فإن الصرخة تترجمها الموسيقى التي شكلت متناً صوتياً شاملاً لبقية المكونات أو المتون. فهناك في المتن الصوري يمرق أمام عيوننا، من اليسار إلى اليمين، العنوان "تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق" متحركاً كما العنوانات المتحركة في التلفزيون.

ونلاحظ هنا وجود نوع من التناشز بين الألوان البراقة والحارة للونين الأصفر والأحمر اللذين نفذ بهما العنوان المتحرك، وهما من الألوان الحارة، والألوان الكامدة والمعتمة التي نفذت عبرها بقية المكونات باستثناء الأيقونات الخمس على اليسار التي تشكل متناً لسانياً هو عبارة عن قصيدة ومضة، وهو ما سنتحدث عنها لاحقاً. أما على الجانب الأيمن من الصفحة، فإننا نواجه بأيقونتين تحملان العبارة الشعرية التوجيهية نفسها، ونصها "اضغط فوق ضلوع البوح" وهي دعوة للنقر على الأيقونة لتتكشف كل أيقونة عن مكونات المتون المتفرعة عن جملة من القصائد المصحوبة بمتون صورية وصوتية يمكن أن تقرأ استطرادياً أو دون ترتيب معين. ولكن هذه الدعوة ليست بريئة من الدلالة المجازية، فأنت مدعو إلى الضغط على ضلوع البوح، وهو فعل يسبب الألم أو كتم النفس. ولننتبه إلى المجاز العقلي في إضافة الضلوع، وهي مما ينتمي إلى عالم الأشياء الملموسة، إلى البوح، وهي كلمة تدل على ما مدرك بالعقل. وكل أيقونة تتكشف عن أيقونات أخرى داخلية تتيح لنا الدخول إلى المتون التي تقبل الدخول عليه والتغيير في مكوناتها لمن يملك مقدرة فنية في الحاسوب. وتتفاوت طبيعة المتون اللسانية من قصائد ذات بناء تقليدي، بمعنى أنها من قصائد الشطرين. وبعضها من قصائد التفعيلة. وفي كل صورة أو صفحة من الصفحات التي تتكشف عنها الأيقونتان المذكورتان سابقاً هناك متن لساني ثابت وصورة مصاحبة أو خلفية للنص الثابت فضلاً عن متن لساني متحرك بشكل عنوان ثانوي، وأيضاً عدداً من الأيقونات التي تنفتح على صفحات أخرى مما يشكل خرقاً في العمق من الصفحة لينفتح على نصوص أخرى محققاً الأبعاد الثلاثة للمكان. وهناك في الصفحة الأولى أيقونة تحتوي عنوان الشاعر على البريد الالكتروني لتذكير القارئ بطبيعة النص المرتبطة بالحاسوب والأنترنيت.

وهنا نعود إلى القصيدة الومضة التي ذكرناها سابقاً وأجلنا الحديث عنها لما تتسم به من معالجة خاصة على المستوى التقني الفني وعلى مستوى الانفتاح والتعالق بين كل كلمة من هذه القصيدة القصيرة مع كلمة تبدأ بها قصيدة قصيرة أخرى أفقية تنبثق من الشاشة حالما نضع المؤشر على الكلمة المعنية. فهذه الأيقونات الخمس تمثل خمس كلمات هي عبارة شعرية أو قصيدة من نوع ما نسميه في النقد الأدبي بقصائد الومضة، وهي تقرأ من الأعلى إلى الأسفل على النحو الآتي:

أيقنتُ
أنَّ
الحنظل َ
موتُ
يتخمر.

وهذا النص يعبر عن رؤيا متشائمة تجمع بين كلمة أيقنت التي ترفع القناعة إلى مستوى الجزم بأن الحنظل، ذلك النبات المر، ليس سوى موتٍ، أو انتهاءٍ للحياة. وهنا تنشأ العلاقة المجازية في التشبيه البليغ، أو لنقل الاستعارة الناتجة عن الرؤية المرفوعة إلى درجة اليقين، تجعل من العنصر المادي، أو المشبه، وهو الحنظل، موتاً، أي عنصراً معنوياً، ثم تأتي العبارة الفعلية "يتخمر" لتصف هذا الموت، ولتؤكد أنه يزداد رسوخاً وتشبثاً بوعيد إنهاء الحياة الآن وفي المستقبل. ولو عدنا للنصوص الأفقية المتفرعة من كل كلمة عمودية لرأينا كيف يستثمر الشاعر هذه الرؤية شبه العدمية ليؤكد شرعية الصرخة التي يطلقها التمثال ويترجمها المتن الصوتي أو الموسيقى. ففي الكلمة الأولى "أيقنت" نقرأ نصيصاً يقول:

"أيقنتُ/ حين قرأت (كتاب الدنيا) بأنَّ الناس توابيتٌ/ والأحلام برأس الموتى/ كطراز القبر/ المنقوش بأحلى مرمر/ والعطر المنثور على أبواب اللحد/ وبخور الأعواد الثكلى/ تنزف عنبر.../ أيقنتُ أنَّ المولودين ضحايا/ ونعيش.../ لكي... نقبر".

ونلاحظ هنا أن هذا النصيص يحتوي على مادة لسانية أكبر من النص الذي تفرع عنه. لكنه يكشف أن يقين الشاعر ما كان وهماً، ففي كتاب الدنيا، عرف أن الناس توابيت، وأن المولودين ضحايا. ولو أن الشاعر استغنى عن العبارة الأخيرة "ونعيش لكي نقبر" لكان ذلك متسقاً مع الرؤيا المجازية المتشائمة للوجود بعيداً عن حقيقة أن نهاية الحياة هي القبر التي عبر عنها النص ضمنياً فلم يعد بحاجة إلى هذه العبارة التقريرية. وفي النصيص المتعالق مع الحرف المشبه بالفعل المتمثل بكلمة "أن"، التي ستتحول إلى "إن" لكونها ابتدائية، ننتقل إلى تناص مع النص القرآني المعروف. لكن هذا الانتقال والتناص قد منحا اليقين مغزى اجتماعياً وتاريخياً ودينياً وحتى سياسياً. فما يحصل على أرضنا التي تنث ملوكاً، وهنا يخرق الشاعر الاستعمال المؤسسي (المعجمي) للفعل "ينث" لينقله من التعبير عن السقوط بشكل رذاذ إلى معنى آخر هو أن الأرض إنما "تنبت" ملوكاً يفسدون في وهذا ما يبدو على ظاهر هذا النقل المجازي للفعل "ينث".

ولو انتقلنا إلى البعد التأويلي لهذا النقل لقلنا أنه يكشف عن يقين ثانٍ ثاوٍ في أعماق الذات الباثة للرسالة الشعرية هو أن نزول الملوك من السماء، كما تنث السماء المطر، إنما هو قدر مقدر ولجذر ميتافيزيقي راسخ في هذه الأرض. إذن فإن إنساننا هو موضوع الرسالة الشعرية مع اختلاف الأسباب بين أرضية وسماوية. وتتصل الجملة الأخيرة من هذا النص بالموت المهيمن على الرؤيا مما يعطى للتشاؤم سمة موضوعية تتعلق بما هو اجتماعي أكثر من تعلقها بما هو تأملي أو وجودي أو ميتافيزيقي. إذن فإن صرخة التمثال المكمم تفصح مباشرة عن القهر السياسي والاجتماعي. أما الموسيقى المكتنزة بالصراخ والبكاء والحزن فهي استقصاء لحالة اليأس والتراجع الروحي نتيجة للموت المهيمن، ذلك الموت الذي هو نتاج الممارسة الاجتماعية. وهذا المغزى المتعاضد للمكونات ستعززه القصائد القصيرة المتعالقة مع بقية الكلمات، فما الحنظل إلا ما أدمن شرب هموم المنصاعين ليوم الحزن، ذلك الحزن الذي لم يجد من يرفضه، لذلك تحنظل الحنظل، أي اكتسب مرارته الشديدة من جراء شرب الخنوع المعبر عنه بهموم المنصاعين ليوم الحزن. هنا ينبثق نداء الرفض الضمني للحنظل ولمرارته. ومن كلمة "موت"، يتفرع نص يقول: موت يعدو... ماذا يبغي هذا العداء ُ المسكين؟! إذن، فإن الموت الذي يعدو في أرضنا التي تنث ملوكاً فجرة، لن يكون رهيباً، أنما هو عداء مسكين يجهل المتكلم هدفه أو غايته. وكأن بالباث للرسالة الشعرية قد نقل عبثية الموت إلى سؤال عن هدف الحياة. لكن هذا السياق التأويلي لا يستقيم إلى النهاية من حيث الوضوح، فتقل درجة البوح ونعود إلى نمط من الأداء الشعري الذي يومئ ولا يقرر في النصيص الأخير المتعالق مع كلمة يتخمر. فنقرأ:

يتخمر ظلي في الغربة. وأنا عار في طرقات الروح/ أتلمسني/ لعل الغربال المتلفع جلدي/ يوقظ ظلي الموغل في التوحيد بدوني/ كي يشرك بي.

فالموت وظل الباث للرسالة الشعرية في غربته يشتركان في فعل التخمر أي اكتناز القدرة على التحول إلى الفعل، وقد يؤمي الفعل "يتخمر" إلى الخمرة، وما يصاحبها من نشوة من جهة ومن خمود الإحساس بالخارج وتوقد الإحساس بالداخل وتهيج المخيلة، تلك المخيلة التي تصور الذات الباثة للرسالة الشعرية عارية في طرقات الروح، وهي لا ترجو سوى أن يعود إليها ظلها الذي استنفر أفعالاً لها علاقة بما هو ذو دلالات ترتبط باللغة الصوفية من إشراك وتوحيد. والحقيقة الانتقال من التجربة البشرية التي يمكن أن تعبر عنها اللغة على نحو أكثر وضوحاً حتى وإن كانت مجازية، إلى تخوم التجربة الصوفية قد أدخل النص في مشكلة تعدد مستويات التعبير اللساني عن الرؤيا وخلط التجربة الاجتماعية بالتجربة الصوفية. فاللغة المجازية التي تعبر عن التجربة الحياتية يمكن أن ترد إلى حدود الدلالة التأويلية، أما التعبير عن القضايا الحدسية والصوفية فهو أمر لا يمكن أن يخضع لمنطق التفسير نفسه لأن الخبرة الدينية المعبر عنها بالتجربة الصوفية غير قابلة للوصف إطلاقاً، لأنها يمكن أن تعاش فقط(6).

ولعل الذات الباثة للرسالة الشعرية أرادت القول أن التجربة الوجودية، في شقيها الاجتماعي والميتافيزيقي، تجربة مريرة ومغموسة بالموت والدم. ونجد أن الكلمات الخمسة التي تستقل بوصفها أيقونات لها فضاؤها اللساني الخاص بكل منها، وتتشابك دلالياً بوصفها مكونات لجملة شعرية رؤيوية ترتبط وتتعالق دلالياً على مستوى الرؤيا التي تعبر عنها النصوص الأفقية. ولكن العلاقة بين مكونات المتن اللساني العمودي لكل كلمة هي علاقة فعل يحفز سرعة القراءة لأن المتون الأفقية تظهر وتختفي بسرعة لا تتيح قراءة متمهلة أو تأملية. وتلك سمة من سمات الأدب التفاعلي فهو لا يقدم نفسه بطريقة مماثلة للنص الورقي، وإنما يفرض إيقاعاً أكثر سرعة على المتلقي فضلاً عن أنه يتطلب تنوعاً ثقافياًَ وسيعاً حتى يلم القارئ بكل المتون على إيقاع سريع. وفي أدباه، نعرض للأيقونات الخمس وما يتفرع عنها ولكن بطريقة عرض تثبت النصوص كافة حتى يتمكن القارئ من رصد العلاقة الدلالية على نحو أكثر تبصراً.

أيقنتُ ـ أيقنتُ/ حين قرأت (كتاب الدنيا) بأنَّ الناس توابيتٌ/ والأحلام برأس الموتى/ كطراز
القبر/ المنقوش بأحلى مرمر/ والعطر المنثور على أبواب اللحد/ وبخور الأعواد
الثكلى/ تنزف عنبر.../ أيقنت ُ أنَّ المولودين ضحايا/ ونعيش.../ لكي... نقبر.
أنَّ ـ إنَّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها/ وأرضي تنث ملوكاً/ كان آخر من أورق فيها...
ملك الموت
الحنظلَ ـ الحنظل: أدمن شرب هموم المنصاعين ليوم الحزن؛ فتحنضل.
موتُ ـ موت يعدو... ماذا يبغي هذا العداءُ المسكين؟!
يتخمر ـ يتخمر ظلي في الغربة. وأنا عار في طرقات الروح/ أتلمسني/ لعل الغربال المتلفع
جلدي/ يوقظ ظلي الموغل في التوحيد بدوني/ كي يشرك بي.

وبما أن بإمكان المتصفح أو المشاهد أن يبدأ من أية كلمة من الكلمات الخمس للقصيدة العمودية فسوف تظهر له اعتباطية التشكيل النهائي للمتن اللساني على المستوى الأفقي لأن له أن يتخذ في قراءة هذا المستوى أي مسار يشاء. ولكن كل المسارات المحتملة لن تهرب من تأثير موسيقى الكمان الحزينة المصاحبة أو من صورة التمثال الذي ينزف صراخاً. ولو عدنا للنصوص المتكونة أفقياً وحللناها لوجدنا أنها تدعم دلالياً حالة اليأس والألم والحزن التي افتتح بها الشاعر متونه المتجاورة اللسانية والصورية والصوتية. ولو قرأنا الأيقونتين على اليمين لتكشفتا عما يدعم مثل هذا التحليل والتأويل. وعلى أية حال يمكن القول أن قصائد "تباريح" قد أظهرت إلى العيان حالة القطيعة في الإنشاء والتلقي، وهو مما يمنح الشاعر مشتاق عباس معن شرف الريادة في الوطن العربي على مستوى الشعر التفاعلي (الرقمي). وهذا ما يجعل من مهمته اللاحقة في مجال تعزيز الصور الإبداعية في الأدب التفاعلي، مع عدد من المبدعين والمهتمين بهذه التجربة الرائدة.

كلية الآداب ـ جامعة بابل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ كان مفهوم الأبعاد الأربعة، ويتضمن الأبعاد الثلاثية للزمان (الطول والعرض والعمق) زائداً الزمن بوصفه بعداً رابعاً، أحد أهم النتائج التي حققها الفكر الفلسفي المعاصر. والمفهوم بالإنجليزية هو spatiotemporal. والجمع بين الأبعاد المكانية الثلاثة مع البعد الزمني هو أحد المظاهر الفنية الحداثية التي تتجاوز حركة الحداثة التي أنتجته ليغدو إنجازاً إنسانياً مهماً وثابتاً. وهو ما تستثمره حركات ما بعد الحداثة. للمزيد حول الدلالة الفلسفية لهذا المصطلح، أنظر:
Robert Audi (general editor) (1999) The Cambridge Dictionary of Philosophy، 2nd edn. Cambridge University Press. Cambridge an New York. Item spatiotemporal Continuity. P 867.
(2) ـ تغري ممارسة أدونيس في هذا المجال بإجراء دراسة معمقة تظهر مدى صحة فرضية أن إعادة كتابة النصوص قد تسببت بوجود نصين لا نص واحد.
(3) ـ قدم الدكتور محمد حسين الحبيب محاضرة حول المسرح الرقمي في مقر الاتحاد العام للكتاب والأدباء في بابل. وقد أوضح فيها الكيفية التي تمت على وفقها تجربة العرض المسرحي الرقمي (كما يحب أن يسميه الدكتور الحبيب).
(4) ـ ينظر الدكتور أمجد حميد "مقدمة في النقد الثقافي التفاعلي" الذي صدر حديثاً في بغداد.
(5) ـ ينظر الإصدار الأول لقصائد الشاعر تحت عنوان "تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق" وهي أول محاولة في القصيدة التفاعلية العربية على قرص مدمج CD. وكان صدوره في الشهر السابع من العام 2007.
(6) ـ ستيس، ولتر، "الزمان والأزل: مقال في فلسفة الدين" ترجمة الدكتور زكريا إبراهيم ومراجعة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني. المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر. بيروت، 1967. ص. 205.