حمى التطبيع تعود بقوة، وهذه المرة في سياق خاص يمر به العالم في مواجهة الحالة الوبائية المستجدة، يقدم الكاتب الفلسطيني تحليله للموقف الاماراتي الأخير في سياقات سياسية خاصة، ضمن الاستحقاقات الأمريكية المرتقبة وسياسات التهويد للكيان الصهيوني وفي ظرف تواجه فيه القضية الفلسطينية العادلة موجة من أشرس طعنات الغدر والالتفاف على حقوقه التاريخية المشروعة.

الإماراتُ تخونُ الأمانةَ وتعقُ الأبَ وتنقلبُ على المؤسسِ

مصطفى يوسف اللداوي

 

لم يكن ما جرى بين دولة الإمارات العربية المتحدة والكيان الصهيوني مفاجئاً لأحدٍ، أو صادماً لنا أو لغيرنا من المراقبين والمتابعين، فهذه الاتفاقية كانت متوقعة إن لم تكن قائمةً أصلاً وموقعةً مسبقاً، ولكن أوان الإعلان عنها قد حان، وأصبح كشفها والاعتراف بها في هذه المرحلة ضرورة، فهي مسيسة لخدمة ترامب في معركته الانتخابية الرئاسية في الخريف القادم، وهي لخدمة نتنياهو وتحسين أوراقه الائتلافية والانتخابية في حال قرر خوض غمار انتخاباتٍ برلمانية مبكرة، وقد أحسن الطرفان استخدام هذه الورقة التي يعرفان قدرها، في الساعات الأخيرة والحاسمة في مسيرتهما السياسية، إذ عندهما ما يربحانه، ولكن بالضرورة ليس عندهما ما يخسرانه، سواء كان وعداً ونيةً، أو تعهداً والتزاماً.

هذه الاتفاقية ليست جديدة، بل هي قديمة في حقيقتها وإن كانت جديدة في الإعلان عنها، فقد سبقها غزلٌ كثيرٌ، ولقاءاتٌ عرضية ومنظمة، وابتساماتٌ ودية ومصافحاتٌ رسميةٌ، وحواراتٌ معلنةٌ وسريةٌ أكثر، وتخللها زياراتٌ واستقبالاتٌ وتبادلٌ للمعلومات والبيانات، وسبقها تطبيعٌ للملاحة الجوية، وتسييرُ طائراتٍ مدنية بين الطرفين، وتنظيم رحلاتٍ إنسانية مظهرها العام بريء، وحقيقتها تطبيعٌ مقيتٌ، وشارك في مناسباتٍ عديدةٍ وزراء إسرائيليون، تم استقبالهم رسمياً في مطار "أبو ظبي"، وعزفت فرقها الموسيقية النشيد "الوطني الإسرائيلي"، وجابت ميري رغيف التي كانت وزيرة الرياضة في شوارع المدينة، وزارت مساجدها، والتقطت صوراً تذكارية لها في صحن مسجد الشيخ زايد ومحرابه.

لا نقلل أبداً من خطورة هذه الاتفاقية، فهي انقلابٌ على القضية الفلسطينية، وإضرارٌ بالغٌ بمصالح الشعب الفلسطيني، وتخلي صريح عنه وعن نضاله الوطني، وغدرٌ به مشينٌ، وطعنٌ له في الظهر جبانٌ، وتحالفٌ ضده مدانٌ، ووعدٌ بنصرته مكذوب، وتعهدٌ بحمايته غير مضمون، في الوقت الذي لا نقلل فيه من خطورة الاتفاقيات العربية السابقة، كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، فهي كلها اتفاقياتٌ خيانيةٌ، حللت الحرام واستطعمت المنكر، وفرطت في الثوابت وتخلت عن الأصول، فلا يتمسك بها إلا كل مارقٍ من الأمة ومرتدٍ عنها، ولا ينكرها إلا كل مخلصٍ للأمة ومدافعٍ عن قيمها ومتمسكٍ بثوابتها.

عجيب أمرهم إذ يدافعون عن جريمتهم ويبررون فعلتهم ويشجعون غيرهم على الاتيان بمثلها، وهي التي وصفها مؤسس بلادهم الشيخ زايد بن نهيان بأنها حرامٌ وخيانةٌ، ورذيلةٌ مشينةٌ، وأن الاعتراف بإسرائيل جريمةٌ وردةٌ، وأن الثقة بها وهمٌ وخيالٌ وخبلٌ وسفهٌ، فهي محتلٌ غاصبٌ وقاتلٌ جبانٌ، وعدوٌ يقف للأمة كلها بالمرصاد، يتآمر عليها ويريد بها شراً، فكيف بأولاده من بعده يأتون الحرام الذي نهى عنه، ويقترفون المنكر الذي كان يتجنبه، ويصرون عليه أنه فضيلة وعملٌ صالحٌ، وأنه بوابة خير ومفتاح سلام، وأن الاتفاق معها سيصنع السلام، وسيعيد الحقوق، وسيرجع الأهل إلى الوطن، وسيبني الدولة ويحقق العدالة.

أصم هؤلاء وغيرهم آذانهم عن تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، إثر التوقيع على اتفاقية "أبراهام" للسلام بين "أبو ظبي" وكيانه، التي كذب بها كل حالمٍ، وصفع بها كل مخدوعٍ وواهمٍ، إذ قال فيها أنه لم يتخلَ عن مخططاته في ضم "يهودا والسامرة"، واستعادتها للسيادة الإسرائيلية، وأنه ماضٍ في خطته حتى النهاية، ولكنه سيلتزم التوقيت المناسب للإدارة الأمريكية، وحينما تكون الظروف مناسبة فإنه لن يتأخر عن تحقيق حلم الشعب اليهودي في استعادة أرض أنبيائه ومدن وممالك ملوكه، وكأنه يقول بجرأةٍ أو وقاحةٍ، وببلاغةٍ أو صفاقةٍ، أن من يدعي أن هذه الاتفاقية ستوقف مشروعه الاستراتيجي فهو واهمٌ وجاهلٌ.

هذه الاتفاقية كما غيرها لا تخدم الشعب الفلسطيني ولا تصب في صالحه، ولا تحقق أهدافه ولا تجعلها قريبة أو ممكنة، بل هي تخدم العدو الصهيوني وتساهم في تحقيق أحلامه وفرض أوهامه وتكريس أطماعه، إذ يريد نتنياهو أن يستفرد بالشعب الفلسطيني، وأن يجعله وحيداً في مواجهته، وأن يقصي باتفاقياتٍ زائفة الدول العربية عنه، ليحرمه من الحاضنة العربية والعمق الشعبي الكبير الذي طالما كان درءاً للشعب الفلسطيني وسياجاً له، يحميه من الخطوب، ويقف إلى جانبه في الحروب والمحن، ليتمكن بعد ذلك مع الإدارة الأمريكية ورئيسها دونالد ترامب من فرض صفقة القرن وتنفيذها، ودفع الدول العربية جميعها لتكون طرفاً فيها وجزءاً أسياسياً منها، تدافع عنها وتساهم في تطبيقها، وتكون مسؤولةً عن تنفيذها وحمايتها.

ولعل العدو يدرك تماماً أكثر من غيره، أنه لا سلام إلا إذا أقر الفلسطينيون به ورضوا عنه، ولا استقرار أو هدوء إلا إذا استعاد الفلسطينيون حقوقهم، وبنوا دولتهم، ورفعوا فيها فوق رباها وعلى قباب ومآذن مساجدها أعلام بلدهم ورايات وطنهم، وهو ما لايكون إلا باستمرار المقاومة، وبالتمسك بالحق، وبالإصرار على النضال، الذي به تتحقق الأهداف المنشودة والخواتيم المأمولة.

رغم الغصة والمرارة، والحزن والألم، والإحساس بالغدر والخيانة، فإن الشعب الفلسطيني الذي يرفض هذه الاتفاقية وغيرها، ويستنكرها ويدعو لنقضها وعدم الالتزام بها، فإنه يصر على مواصلة نضاله، والتمسك بحقوقه، والدفاع عن مقدساته، ويؤكد للعدو والصديق معاً، ويحذر الوسيط والسمسار سويةً، أن هذا الشعب سيبقى حاملاً لواء المقاومة حتى يحرر وطنه ويستعيد أرضه، ويطهر مقدساته، ويعود إليه أهله وأبناؤه، وأنه لن يضعف إن تخلى عنه البعض، ولن يلقي البندقية إن خان فريق أو فرط قطاعٌ آخر، فأمتنا لن تضل أبداً، ولن تفرط في قيمها طويلاً، وهي إن كبت حيناً أو ضعفت قوتها وخبا أوارها، فإنها ستنهض من جديد، وسيتقد جمرها ناراً ولهباً، وإن غداً لناظره قريب.

مسؤوليةُ الفلسطينيين عن جرائمِ التوقيعِ وموبقاتِ التطبيع
ما كان سرياً لسنواتٍ أصبح علنياً اليوم، وما كان يوصف بالعيب والخزي والعار، بات يوصف بالشرف والسيادة والمصلحة، وما كان جريمةً وحراماً أصبح مشروعاً ومباحاً، وما كان إخوةً وتضامناً أصبح منافع ومصالح، ما يعني أننا دخلنا مرحلةً جديدةً تختلف كلياً عن المراحل السابقة، وإن كانت تتفق معها في الجوهر والحقيقة، ولكن ما يتم في الليل ويحاك في الظلام ويجول في السر وينفذ بكتمان، يختلف تماماً عما يتم في وضح النهار وينسج تحت ضوء الشمس، ويبوح به فاعلوه ويجاهر في تنفيذه مرتكبوه.

قصدتُ بما أسلفتُ ووصفتُ محاولاتِ التطبيع العربية، واللقاءات الرسمية السرية، والاتفاقيات الخفية التي كانت تتم تحت الطاولة ووراء الكواليس، وغيرها مما كانت تخجل منه الأنظمة العربية وتخاف، ومما كانت تنكره وتخفيه، حيث كانت تدافع عن نفسها، وتنفي الاتهامات الموجهة إليها، بل وتهاجم من يعلن تطبيعه مع العدو، أو يجاهر بعلاقاته معه، وتعتبر فعله جريمةً وخيانةً، وطعنةً للقضية الفلسطينية والقومية العربية في الظهر، وكانت تدعو جامعة الدول العربية إلى اجتماعاتٍ عاجلةٍ لمناقشة جريمة الخروج على الإجماع العربي، وكبيرة الاعتراف به والاتفاق معه.

كانت الأنظمة الرسمية العربية تخاف وتنافق، وتجبن وتتردد، وتتخفى وتتلصص، ربما ليس حباً في فلسطين وإيماناً بقدسيتها وعدالة قضيتها، وحرصاً عليها وسعياً لتحريرها واستنقاذها من براثن العدو الصهيوني، بل كانت تخشى مجابهة شعوبها والاصطدام مع مواطنيها، الذين كان ولاؤهم للقضية الفلسطينية بلا حدود، وحبهم لأهلها إلى أبعد مدى، وقد ترجموا مواقفهم الأصيلة تجاه فلسطين دعماً مادياً، ومؤازرةً شعبية، ومظاهراتٍ ومسيراتٍ عامةً، ومساهمةً في صفوف المقاومة قتالاً وتدريباً، وارتقى منهم على مدار سني الثورة الفلسطينية مئات الشهداء من مختلف البلاد العربية القريبة والبعيدة، وأسر المئات منهم في سجون العدو الإسرائيلي.

في تلك الفترة كانت الشعوب العربية كلها مع القضية الفلسطينية وما زالت، إلا أن حجم تعاطفها مع الفلسطينيين تراجع، ودرجة تفاعلهم مع قضيتهم قد خفت، ولم يكن مرد ذلك إلى ضعف عقيدتهم، أو انهيار مفاهيمهم، أو تصدع قيمهم، بل كان مرده السلوك الوطني القيادي الفلسطيني، على مستوى القيادة الرسمية الممثلة في السلطة الفلسطينية، وقوى المقاومة الفلسطينية جميعها، على امتداد قوسها الفكري والعقائدي، حيث خذل الفلسطينيون شعوب أمتهم إذ اختلفوا وانقسموا وتشتتوا وتشرذموا، ووقعت بينهم خصوماتٌ ونزاعاتٌ ومواجهات، الأمر الذي أدى إلى تشويه صورة الفلسطينيين وتردي قضيتهم، وانفضاض الشعوب من حولهم، وتراجع التأييد القديم الموروث الذي كان لهم.

رغم الصورة المشينة التي رسمها الفلسطينيون عن أنفسهم من خلال مشاحناتهم الداخلية وخلافاتهم الحزبية، إلا أنها لم تنجح في إقصاء شعوب أمتنا العربية والإسلامية، حيث حافظت على دعمها للقضية الفلسطينية، واستعدادها للتضحية في سبيلها، ولعل الصفحات المشرقة التي رسمها الفلسطينيون خلال حملات دفاعهم عن المسجد الأقصى وحرمته، وإفشال محاولات العدو إغلاق أبوابه وفرض بواباتٍ إليكترونية عليه، إلى جانب جولات الصمود وصولات القتال التي خاضتها المقاومة الفلسطينية خلال العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة، كان لها أثرٌ بالغٌ ودور مشهودٌ في دفع شعوب الأمة إلى الالتفاف حول الفلسطينيين وتأييدهم، والاصطفاف معهم والدعوة إلى نصرتهم ومساعدتهم.

أما الجريمة الكبرى التي ارتكبتها القيادة الفلسطينية في العام 1993، فإنها اتفاقية أوسلو للسلام مع الكيان الصهيوني، التي بموجبها اعترفت منظمة التحرير الفلسطيني بدولة إسرائيل، ونكثت ميثاقها واعتبرته لاغياً، وتخلت عن العديد من ثوابتها، وقبلت بالتنازل عن ثلثي أرض فلسطين التاريخية للعدو الصهيوني، الذي عاهدته ووثقت به، والتزمت معه تنسيقاً أمنياً ومفاوضاتٍ مفتوحةٍ بلا حدودٍ، أباحت فيها التنازل عن المقدسات، وأبدت ليونةً في الثوابت الوطنية والأصول التاريخية، ولانت في خطابها مع قادة الكيان الصهيوني، ونشأت بينهم صداقةً ومودة، وجمعتهم سهراتٌ ولقاءاتٌ، ورحلاتٌ ومفاوضات، وخلدتها صورٌ ووثائق، ومحاضرٌ وتسجيلاتٌ، جعلت من الصعب على أي عربيٍ أن يصدق أن الذي يجلس مع الطرف الإسرائيلي إنما هو عربيٌ فلسطيني، صاحب القضية والأرض والوطن.

لهذا فإن الفلسطينيين يتحملون كبيراً جزءاً من المسؤولية عن جرأة بعض الأنظمة العربية ووقاحتها، فهم بخلافاتهم البينية وتناقضاتهم اليومية، وبسابقتهم المشؤومة المسماة أوسلو، قد دفعوا البعض إلى اليأس منهم وعدم الإيمان فيهم، وإلى ألا يكونوا ملكيين أكثر من القيصر، أو فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وألا يتمسكوا بما فرط فيه أصحاب الشأن وأهل القضية.

ولعل هذا المنطق قد ساد بينهم وانتشر، ووجد مكانته وشغل حيزاً من تفكيرهم، ووجد له مناصرين ومؤيدين على امتداد الوطن العربي كله، في أوساط المثقفين والعامة، ولدى النخبة والخاصة، وساعدهم على ذلك تمادي السلطة الفلسطينية في مواقفها المعلنة، سواء بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، أو بلقاء قادة العدو الصهيوني من المجرمين السياسيين أو القتلة العسكريين.

لا أبرر ما ارتكبته الأنظمة العربية من جرائم التطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا أدافع أو أخذل عنها، ولا أمهد للباقين المضي على طريقهم، بل أوكد أنهم جميعاً ومن أيدهم من الفلسطينيين وسبقهم بالاعتراف والتوقيع، على الضلال المبين والباطل المشين، فهم جميعاً شركاء في الجريمة ومتشابهون في المصير والخاتمة، وعليهم تنصب لعنات الله ورسوله والمؤمنين بقضيتنا في الدنيا والآخرة، إذ لا يجيز لهم الحرامَ كثرةُ مرتكبيه، ولا يحلل لهم المنكرَ كثرةُ آتيه، فالحلالُ بَيَّنٌ والحرامُ بَيَّنٌ، والحق حقٌ وإن قَلَّ المؤمنون به، والتمسك بالحقوق والثوابت هو سبيل النجاة وإن قل سالكوه، ولا تكون فلسطين إلا عربيةً وإن استعلى فيها العدو وتكبر، وستكون يوماً بإذن الله حرةً مستقلة وإن بطش فيها العدو وبغا أكثر.