يتأمل الكاتب المصري المرموق هنا شغفه بالسينما، وعلاقته الحميمة بها منذ أن كان صبيا ينتظر بشغف الذهاب إليها كل أسبوع، وكيف أنها كانت الباب الذي دلف منه إلى الأدب واكتشف عبره شعرية الصورة ودلالات طوفان المشاركين في جنازة عبدالناصر. وتركت آثارها الأيروتيكية في الجسد الروح، وفي منطق الرؤية والتفكير.

ما شهدت به مقاعد السينما

أحمد زغلول الشيطي

 

الفيلم ملهمٌ كبيرٌ، هذا ما تَكَشَّفَ لي خلال تجربة طويلة. أرتاد السينما منذ الطفولة المبكرة، في العطلة الأسبوعية يوم الجمعة، وفي الأعياد، صحبة أخي، أمي وصديقتها، أي من أصدقائي، أو حتى وحدي. بتذكرة قيمتها ثلاثة قروش ونصف، يمكنك مشاهدة نجم الويسترن الشهير «جوليانو جيما»، بأحزمة الرصاص المتقاطعة بإحكام على مؤخرته، وسرعته الفائقة في التسديد من فوق الحصان، وفي كل الأوضاع المستحيلة.

كانت سينما اللبَّان قريبةً من بيتنا، أَمُرُّ بمضرب أرز البدري الذي أممه جمال عبد الناصر، أخترق الحارات الضيقة التالية للمساكن الشعبية، لأكون في مواجهة الأفيش الأمامي الهائل للسينما، بطرازها المعماري الفريد الذي يرجع ربما إلى ثلاثينيات القرن العشرين، وعلاقة قرابة واضحة بالعمارة الخديوية. حتى ما بعد المراهقة، كانت هذه الرحلة هي المكافأة الأسبوعية. كانت هناك أيضًا السينمات الشعبية التي تعرض موادَّ دعائية عن يوليو 1952 وإنجازات الدولة، كما تعرض أفلامًا ترفيهية. تحضر سيارة نقل مجهزة بصندوق مغلق في المساء، بعد أن تكون المحلات قد أغلقت أبوابها، تستخدم العربة حائطًا أو بابًا كشاشة عرضٍ، تنتشر الإثارة في الجو، حتى قبل أن تسقط الأشعة السحرية على الجدار. يجلس الأولاد على الأرض الترابية، فيما يجلس الكبار على مقاعد مجلوبة من مقهى الشوشنجي، أو مقهى محمد القَلَّا. ينشط عبده الصعيدي في بيع أكواب «البوظة»، يملأها بوعاء معدني من صفيحة يحملها، تتسايل البوظة على جوانب الأكواب، مثيرة الرغبة في الحصول عليها، تتحول بلكونات البيوت إلى منصات للمشاهدة، حيث الإحساس بزمان مستقطع من التراتب اليومي، فجوة سحرية بين لحظتين.

لا أذكر تحديدًا متى أخذتني السينما إلى واحدٍ من أهم مصادرها: الأدب، إحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ، بدا أن لكل منهما طابعه الشخصي، حيث المسافة الواسعة بين «أبي فوق الشجرة» قصة إحسان عبد القدوس من إخراج حسين كمال، وبين «ثرثرة فوق النيل» رواية نجيب محفوظ للمخرج ذاته، لقد توقفتُ كثيرًا حول ماهية الطابع الشخصي المختلف لكل من الفيلمين المأخوذين عن نصين مختلفين بحدة، وما هو مصدر الجاذبية؟ وكذلك مصدر اختلاف الحساسية في المقاربة الجمالية، بين الفيلمين على الرغم من أن المخرج واحد؟

لقد كنت إزاء نوعين من الموسيقى، يمارسان سلطانهما علىَّ، ذلك أني كنت أصطحبُ الأبطال معي إلى البيت، حيث نجاور قسم شرطة ملحقًا به سجن، وكانت مزيكا احتجاج المساجين بالخبط على الجدران والشتائم الحادة، وكذلك أصوات من يعذبون تحت التحقيق بمعرفة مخبري وحدة المباحث، هي أصوات معتادة في بيتنا، لا تمنعنا من السهر إلى جوار الراديو للاستمتاع بحفلة شم النسيم مع العندليب الأسمر بقلبٍ منقبضٍ، مصرٍّ على الحياة، هل كانت الجاذبية بفعل فن المخرج؟ أم للأصل الروائي المقتبس عنه الفيلم؟ وهل كان الإبحار الطبقي بين عالمين هو السؤال الذي سوف يترك بصمته عليَّ؟

لقد بدا أن تقديم الجسد الفتي العاري مكافأة صورية، تعوض عن هزيمة النكسة 1967 ثم الرحيل التراجيدي لجمال عبد الناصر، وجنازته المحيطية التي ابتلعت في ثقبها الأسود تواريخ وأساطير وأزمنةً. كأن الجنازة كانت نذيرًا بتحولات هائلة سوف تعم المنطقة بأسرها، هذا الفيلم الناصري المأهول بالطوفان البشري، لم أمل أبدًا من مشاهدته كلما حانت فرصة، هو فيلمٌ كتابٌ، مثل كتاب الرمل في قصة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، لا يمكنك العثور على صفحته الأولى، ولا صفحته الأخيرة، كما أنك لن ترى صفحة منه مرتين.

كانت مسافة بين زمنين، مرحلة لنزع الملابس الداخلية، والتلويح بها عوضًا عن فعلٍ جنسيٍّ حقيقيٍّ. على أن الوقت كان وقتي للانتباه إلى تجليات الجسد الأنثوي في «حمام الملاطيلي» لصلاح أبو سيف، عن رواية لإسماعيل ولي الدين بنفس الاسم، سوف يرسي الزمن الوهابي القادم مع الحقبة النفطية جمالياته الخاصة، فترتدي شمس البارودي الحجاب، وتعتذر عن أفلامها، ومنها «حمام الملاطيلي»، الذي ثبتني وغيري لا شك عند أناقة مثل هذا الحلم الأيروتيكي، على أن الأحلام يصنعها الممولون بمقاييس تخصهم.

هناك دائمًا جانب آخر لقاعات السينما، في بيئة محلية مثل مدينة دمياط، تحمل مواريث طبقية ممتدةً في الزمن، واتجاهات مستجدة تؤبد الماضي بشتى الوسائل، حتى تبدو الطبقات كديانة غير مكتوبة، متفق عليها في صمت دون أي اتفاق. كان ظلام «الترسو» أدنى السلم الطبقي في السينما مقرًّا لمثليِّ الجنس من الذكور، حيث تعقد الاتفاقات، وأحيانًا لقاءات كاملة، بينما يتواصل العرض، وهناك حكايات عن اتفاقات بدأت في الحمامات أثناء الوقوف أمام المبولة، وما تسمح به من تجاور شخصين، كذلك ما افتُضِح من وجود الكثير من Pedophiles المولعين بممارسة الجنس مع الأطفال.

كان تعرفي إلى نادي السينما بقصر ثقافة دمياط نقلة هائلة، موعدًا مع تقاليد أخرى في المشاهدة أختبرها لأول مرة. كان العرض الأسبوعي التاسعة مساءً، يوم الأحد من كل أسبوعٍ، يُعرض فيلم من عيون السينما العالمية، يأتي مع الفيلم ناقدٌ من القاهرة لإلقاء محاضرة قصيرة عن الفيلم وللمناقشة، كان العرض لجمهور نوعي، يحرص على حضور المناقشة بعد العرض، ولا يُصدر صفيرًا بفمه للمناداة على الأصدقاء لتنبيههم إلى اللقطات الساخنة، ولا يستخدم المقاعد في إرسال أصوات احتجاج عنيف، إذا ما بدا أن الفيلم تعرض للغش أثناء العرض بتعجيل النهاية. يشغل جمهور نادي السينما عددًا محدودًا من مقاعد صالة العرض، هكذا شاهدت «المومياء» فيلم شادي عبد السلام، لقد أبهرتني الصورة، حركة الممثل، الإضاءة، يمكنك بوضوح التحدث عن شعرية الكادر. وجه نادية لطفي في ردائها الأسود المنسدل من فوق رأسها بجلال، كأنها خارجةٌ لتوها من بين النساء المرسومات على جدران المقابر الفرعونية التي تملأ الجبل، عينا أحمد مرعي المفتوحتان على مساءلة التاريخ الذي يسكنه ويحيط به، كادرات هي نصوص قائمة بذاتها، مكتنزة بالمعنى، وتطرح جمالياتها، وسياستها الخاصة.

ارتيادُ السينما شغفٌ لازمني في رحلتي إلى إنجلترا، دخلت عدة قاعات، كنت كأنني أمام الأصل الذي نسخنا عنه، وهو في أبهى صورة، من المعمار إلى الصوت والصورة والمقاعد والأسقف والحمامات، رائحة الهواء، من سينما أوديون كينج ستريت، ومشاهدة فيلم «عبد لاثني عشر عامًا»، إلى سينما أوديون بمنطقة ويست اند على تخوم الحي الصيني، وفيلم «رجل السكة الحديد»، إلى سينما أوديون في «كانتربري» وفيلم «إبراهام لينكولن - 2012» ويتضمن أحداثًا خرافية عن شخصية الرئيس الأمريكي المؤسس.

لماذا كانت السينما هامة بالنسبة لي، وكيف أثرت فيَّ، غالبًا يكمن الأثر في صنع البهجة والإثارة، في التخلص من صنمية الواقع ولو لدقائق، لا بد أن من رأوا القطار يدخل محطة «لاسيوتات»، وبدا أنه يتحرك باتجاههم، قد شعروا بإثارة مماثلة بسبب فيلم الأخوين لوميير، كانت الصورة معكوسة، حيث يرون القطار داخلًا المحطة عبر عدسة الكاميرا، فتجعلهم داخل المشهد وخارجه في آنٍ، لقد أعاد الفيلم موضعة الزمان والمكان، هذا ما حدث، كأنك مقذوفٌ بك بواسطة آلية الطرد المركزي، فيما تنتظرك روافع خفية، لا تضمن متى ستنفتح لتقابلك بوسائد واقية. كذلك لحظة إثارة الطفل حين يقذفه والده في الهواء ويتلقاه بيديه.

من حيث يأتي الشغف، تُصبح بمضي الوقت جزءًا مما أنت شغوفٌ به، سنواتٌ طويلةٌ من الجلوسِ على مقاعد قاعات السينما، صرتُ واحدًا من هذه الخيالات التي تظهر على الشاشة، صرتُ واحدًا ممن يقفون خلف هذا النوع من الضوءِ، حتى إن روايتي الأولى «ورود سامة لصقر» قد حُولت بتردد وارتباك عظيمين إلى فيلم سينمائي، وحين أصبحت الفرصة مواتية للمشاركة الجدية فيما يجري على الشاشة، جاءت المشاركة منقوصة، باهتة، لا ترقى إلى مستوى ما شهدت عليه المقاعد. لم أشاهد الفيلم، ربما لن أشاهده أبدًا، لقد تلصصت على «تترات» الأسماء، ولاحظت أن اسمي قد جاء وحده دون ذكر لعنوان الرواية، كذلك جاء الاسم بعد كل الأسماء التي احتلت لوحاتٍ منفردة، ويؤمل أن يشاهدها المتفرج قبل أن يغادر مقعده، يمكن القول إني كنت أول الأسماء التي لن ينتظر أحد لقراءتها، ما حدث أن اسمي سوف يطل على ظهور المشاهدين، فيما يغادرون القاعة. كان هذا هو ما حققت من الجلوس أمام الشاشات، لأوقات لا حصر لها، لأشاهد حيوات وأعمال الآخرين، إلى أن بدأ اسمي، بحكم حتمية خفية في البروز بدوره، على نفس هذه الشاشات وداخل نفس القاعات، لا يهم إن كان قد جاء أمام مقاعد خالية. فالأمل معقود على أن تتلو هذه المقاعد ما حدث يومًا ما، ولِمَ لا، إنها السينما، حيث الإيمان العميق بالإمكانية المطلقة للسحر.