يكشف الباحث المغربي في هذه الدراسة عن مدى ريادة كتاب الباحث المغربي عبدالكبير الخطيبي الذي رحل عنا مؤخرا، وعمق استبصاراته ووعيه الباكر بما بلوره إدوار سعيد من أليات ارتحالات النظرية النقدية وضرورات تحويرها عند تطبيقها على أعمال من ثقافة مغايرة وسياقات مختلفة

«الرواية المغربية» للخطيبي

سياق التأليف والاختيارات المنهجية

محمد مريني

أنطلق في البداية من فرضية عامة، سأحاول تأكيدها من خلال هذه الدراسة، تتمثل في وجود إضافة نوعية وكيفية قدمها عبد الكبير الخطيبي في مجال النقد الأدبي. لا تقوم الدراسة على استقصاء كل النصوص التي كتبها الأستاذ الباحث في هذا المجال، إنما تتقصد نصا نقديا واحد، يتمثل في كتاب «الرواية المغربية»(1)، الذي نشر باللغة العربية سنة 1961. وقد كان اختيار هذا الكتاب تحديدا بالنظر إلى ريادته في مجال تخصصه. لقد كان الخطيبي حريصا على إنتاج خطاب نقدي يتجاوز النقد السائد يومذاك، سواء في شكله الانطباعي، أم التاريخي. هذا ما عبر عنه في الكتاب المذكور بقوله: "يتحتم على المشتغلين بالدراسات الأدبية المقارنة أن يفهموا بأن العلوم الاجتماعية قادرة على أن تجدد منهجهم اللانسوني، وتمده بحلة قشيبة"(2). سنتناول الموضوع على مستويين: يتعلق أولهما بالسياق العام الذي كتب فيه الكتاب، وثانيهما بالمنهج المعتمد في الدراسة.

1 ـ السياق:
المقصود بالسياق هنا الإطار السياسي والفكري والثقافي الذي يحيل عليه الكتاب، مع إثارة الجوانب المتصلة بعمليات المثاقفة واستلهام المصادر النقدية الغربية. وإذا كان الكتاب قد نشر باللغة العربية سنة 1971، فإن "رؤية العالم"(*) التي تبلورت ضمنها عملية الكتابة قد تشكلت من خلال معطيات تاريخية وسياسية وثقافية سابقة لهذا التاريخ. يمكن ـ من الناحية الإجرائية ـ تحديد إطار تاريخي لها يعود إلى بداية العقد الخامس من القرن العشرين. ودون السقوط في المقاربات التبسيطية في تناول علاقة النشاط الثقافي بالواقع، يمكن الإشارة ـ بإيجاز ـ إلى الشروط ذات المستويات المتعددة التي مارست تأثيرا ـ مباشرا أو غير مباشر ـ في الاختيارات المنهجية والفكرية لعبد الكبير الخطيبي، خاصة في كتاب الذي نحن بصدده هنا:

1 ـ 1 ـ السياق السياسي: كانت هذه الفترة غنية بالأحداث: ابتداء من اعتراف الحكومة الفرنسية باستقلال المغرب في مارس 1956، ليبدأ المغرب بعد ذلك فصلا جديدا من تاريخه الحديث. وستنخرط النخبة السياسية في بناء وتحديث المؤسسات "وتنظيم الوعي الوطني وتأطيره ضمن قوالب وأشكال العمل السياسي التي أفرزها الفكر السياسي الحديث، مثل التنظيم الحزبي، والعمل النقابي، والتنظيم الطلابي، والجمعيات الثقافية وما إلى ذلك من صور المجتمع المدني وعلاماته"(3).

وقد كان للحركات اليسارية حضور قوي في هذا السياق العام. يمكن الإشارة هنا إلى 1959 باعتبارها السنة التي شهدت أول ظهور رسمي ومنظم لهذه الحركة، من خلال تأسيس حزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، بعد صراعات قوية داخل حزب الاستقلال، الذي كان يمثل يومذاك الهيئة الوطنية الرئيسية داخل البلاد(4). وقد قاد هذا الانفصال كل من "المهدي بن بركة" و "عبد الله إبراهيم"، اللذين قاما بمجهود كبير في تأطير وتوجيه هذه الحركة اليسارية الناشئة: الأول، من خلال كتاباته التنظيرية، خاصة كتاب "الاختيار الثوري" الصادر سنة 1962، الذي جعل منه المؤتمر الثاني للحزب (1962) الوثيقة الرئيسية في تحديد هويته الإيديولوجية. والثاني، من خلال رئاسته لأول حكومة بعد الاستقلال (17 دجنبر 1958)، حيث قدم برنامجا يهدف إلى إحداث تغيير في البنيات الاقتصادية والاجتماعية لصالح الأغلبية من الجماهير الشعبية.

يمكن القول إن هذه الحركة قد شكلت في السبعينات رافدا أساسيا لدى النخبة المثقفة، خاصة منها الأجيال الشابة التي كانت تدرس بالجامعات. إذ وجدت في النظرية الماركسية معينا على فهم وتحليل الواقع، والمطالبة بتغييره. ستشتد هيمنة الخطاب الماركسي بعد نكسة يونيو 1967، حيث سيعتبرها اليساريون دليلا ساطعا على فشل الخيارات الليبرالية والبورجوازية.

1 ـ 2 ـ السياق التعليمي: كانت السياسة التعليمية للمستعمر الفرنسي تهدف إلى إحكام سيطرتها على المغرب، وقد حاولت تحقيق هذا الهدف من خلال استراتيجية قائمة على مجموعة من الإجراءات(5). وقد تمثل رد فعل الحركة الوطنية في إقامة "مدارس حرة"(6)، اتخذت صبغة عصرية، لكنها متحررة من هيمنة الإدارة الفرنسية. أما في فترة الاستقلال فقد حددت "اللجنة الملكية لإصلاح التعليم" ـ سنة 1957 ـ المبادئ التالية، للتخلص من الإرث الاستعماري:

ـ التعريب، في مقابل التعليم الاستعماري الذي كان مفرنسا.
ـ التعميم، في مقابل التعليم الاستعماري الذي كان نخبويا.
ـ التوحيد، في مقابل التعليم الاستعماري الذي كان غير متجانس.
ـ المغربة، للحد من كثرة الأطر الفرنسية في الإدارة(7).

في سياق هذا الإصلاح التعليمي ستنطلق "الجامعة المغربية" أيضا في السنة نفسها (1957). وقد كان لها دور كبير في تفعيل المشهد العلمي والثقافي بشكل عام، إذ في رحابها تخرجت أجيال من الأكاديميين الذين أسسوا لبنات البحث العلمي في المغرب. وإذا كان من الصعب تغطية مختلف جوانب البحث العلمي الجامعي، فإنه يمكن ـ مع ذلك ـ حصر الحديث هنا في مجال البحث الأدبي. الملاحظة العامة التي يمكن تسجيلها حول هذه المرحلة تتمثل في هيمنة الاهتمامات المرتبطة بجمع وتحقيق التراث. في هذا السياق تندرج الرسائل الجامعية للباحثين الرواد أمثال: محمد حجي (1963)، عبد الهادي التازي (1963)، محمد بن شريفة (1964)، الحسن السائح (1965). وعلى الرغم من كون أغلب هذه الأبحاث قد اشتغل على التراث فإن بعضها قد اشتغل على الأدب الحديث، مثل أحمد اليبوري (1967).

وقد تعززت هذه المكتسبات بإدراج مادة الأدب المغربي ضمن مقررات الأسلاك الجامعية، بل سيتم ـ بعد ذلك ـ إقرار هذه المادة كتخصص في الدراسات العليا.

1 ـ 3 ـ السياق الثقافي: كانت تبعية المغرب للمشرق ـ إلى حدود العقد الرابع من القرن العشرين ـ شبه مطلقة، ذلك أن الانبهار بكل ما هو قادم من المشرق لم يترك مجالا لمصادر أخرى للاستلهام الثقافي. يقول محمد بن العباس القباج:

"وهذه صحف الشرق ومجلات مصر على الأخص تعنى بالنقد عناية فائقة وتطلع علينا بمقالات مليئة بنقد شعراء تلك الجهة، ولا تكاد تخرج المطابع ديوانا حتى يسرع إليه الكتاب، وتتلقفه الأقلام فتشبعه نقدا وتحليلا، أفلا يكون لنا بعض اقتداء بهم ومسايرة لخطتهم"(8).

وإذا كان المثقف المغربي قد عمل في فترة لاحقة على تنويع مصادره الثقافية، من خلال التواصل المباشر مع الغرب، فإن النزوع العربي القومي ظل ثابتا في وجدانه. لذلك فإن أغلبهم يقول ـ على حد تعبير "بول شاول": "ما ينفع المغربي إذا ربح أوربا والعالم كله... وخسر جذوره المشرقية"(9).

وكان للإعلام المشرقي دور مهم في ترسيخ هذه العلاقة، وذلك من خلال الجرائد والمجلات التي كانت تصل إلى المغرب، مثل الهلال، الرسالة، المنار والمقتطف... إلخ.

وبالموازاة مع ذلك ستظهر فيما بعد بعض الصحف الوطنية، في طليعتها السعادة، مجلة المغرب (1932)، جريدة العلم (1945)، رسالة المغرب (1947). كما ظهرت بعض المجلات الأدبية المختصة مثل رسالة الأديب (1958)، مجلة القصة والمسرح (1960)، آفاق (1963)، أقلام (1964). كما تطور الأداء الصحفي الأدبي من خلال إصدار الملاحق الثقافية لبعض الجرائد الوطنية: (العلم الثقافي: 1958)، (المحرر الثقافي: 1974).

1 ـ 4 ـ السياق الفكري: لقد كان السياق الثقافي العام يسلم ـ في ذلك الوقت ـ بالقدرات التفسيرية والتحليلية للفلسفة الماركسية. وإذا كان الأستاذ عبد الله العروي قد أشار في كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة" منذ وقت متقدم (النسخة الفرنسية 1967) إلى أهمية تعريب المفاهيم الماركسية، وتقديمها في دراسات عينية حول جوانب متعددة من تاريخنا وواقعنا(10)، فإن بعض المفكرين العرب قدموا مشاريع لقراءة التراث العربي الإسلامي استنادا إلى المرتكزات النظرية للمادية الجدلية. هكذا نعثر في كتابات الطيب تيزيني على ما يسميه "دليل عمل منهجي عام في البحث التراثي"(11)، وهو دليل يعتمد على المادية التاريخية باعتبارها حسب تعبيره "آلة علمية"(12).

أما حسين مروة فقد بحث عما يسميه "النزعات المادية" في الفلسفة الإسلامية منطلقا في ذلك من نظرة متعصبة للمادية التاريخية باعتبارها "مفتاح الحقيقة كاملة"(13)، على حد تعبيره!

وقد شكلت هذه الشروط الثقافية والسياسية والاجتماعية الخلفية المناسبة لظهور النقد السوسيولوجي بتنويعاته المختلفة. وهكذا سيجد الناقد المغربي في الفلسفة الماركسية المرتكزات النظرية والإجرائية لربط النص بالواقع.

وقد كان النقد المشرقي ـ في البداية ـ هو الوسيط في تقديم هذه المرتكزات. وذلك لأن النموذج النقدي المشرقي ارتبط في أذهان النقاد المغاربة ـ على حد تعبير أحد نقاد المرحلة ـ "بالوضعية الميثيولوجية للمشرق الذي يثور، ممثلا في بعض الأسماء: محمد مندور، محمود أمين العالم، لويس عوض، إلخ. ومع كثرة القراءة، استقرت هذه الأسماء كنماذج في الذاكرة، وفي اللاوعي"(14).

لذلك لم يكن من الغريب أن نلاحظ ـ منذ الستينات ـ حضورا لبعض مقولات الخطاب السوسيولوجي من قبيل "الواقعية"، "الالتزام"، الإيديولوجيا... الخ. يقول عبد المجيد بن جلون في نص يعود إلى سنة 1966: "إن الغرض من القصة في نظري أن تصور في عين القارئ حياة واقعية بكل ما في هذه الحياة من غنى وأصالة"(15).

كما نجد في هذه الفترة بعض المحاولات للتنظير لمفهوم الواقعية في الأدب. يقول مبارك ربيع:

"فالواقعية مهما تعددت مذاهبها وتنوعت في التفاصيل والجزئيات، فإنها على العموم تنزع إلى تصوير الواقع كما هو أو تسير في هذا الطريق(...) ومثل ذلك يقال عما تفرع عن الواقعية، كالواقعية النقدية التي لا تهتم فقط بتصوير الواقع بل تنقده وتعمل لإصلاحه بطريقة إنسانية شاملة"(16).

كما يؤكد الأستاذ محمد برادة منذ سنة 1969 دور الأديب في تحمل "المسؤولية للمشاركة في رصد التحولات ودلالاتها والإلمام بالقيم الجديدة واستيحائها، ومعارضة الواقع المتجمد المعرقل لتفتح ونمو قدرات الإنسان وإبراز خاصية تطبع هذا الصنف من الأدباء هي التعبير الواعي الباحث عن التجديد الذي تفرضه اللحظة التاريخية لمواكبة العصر وتطوراته"(17).

وكان لبعض المنابر الثقافية، مثل "اتحاد كتاب المغرب"، مساهمة أساسية في توجيه النقد والأدب عموما اتجاها إيديولوجيا وتحريضيا، فقد نظم هذا المنبر في بداية السبعينات ندوة في موضوع "الثورة الثقافية"، وأشار رئيس الاتحاد يومذاك، عبد الكريم غلاب، إلى دور الثقافة في التغيير. إذ لم يعد معنى الثقافة اجترار الأفكار القديمة أو ابتداع أفكار جديدة في انعزال عن الحياة وعن الشعب الذي يمارس الحياة. وانتهى إلى القول: إن المشاركة العملية هي التي تعطي للثقافة طابعها العملي وطابعها الإنساني والأخلاقي معا(18).

كما تحدث عباس الجراري ـ في الندوة نفسها ـ عن "الثورة والثقافة والوطنية". ووصف هذه الثورة بكونها "معركة إيديولوجية تستمد قوتها وروحها من الجماهير، لتخدمها ولتحارب المستغلين والمحتكرين والوصوليين، ولتكشف الحقيقة وتفضح الفساد وتقاوم التزييف والتزوير، ولتصون استقلال الأمة وتحفظ شخصيتها وتذود كرامة المواطنين"(19).

وهناك عامل آخر له أثره في هيمنة هذا الخطاب النقدي الإيديولوجي، يتمثل في التطور النسبي للصحافة الأدبية خاصة في شكل ملاحق ثقافية تابعة للصحف الوطنية اليومية مثل "المحرر الثقافي" و "العلم الثقافي"... مما أدى إلى ظهور صراع بين الخيارات الفكرية والعقائدية المختلفة، كثيرا ما كانت تأخذ شكل مهاترات ومساجلات ساخنة.

وهذا السياق العام جعل خطاب السجال مشدودا إلى فكرة "الواقعية"، الداعية إلى "الالتزام" و "الأدب الهادف"، ومطالبة المبدع بضرورة استيعاب تفاصيل الواقع المغربي وتصويره وتجسيده، وجعل النص السردي أداة من أدوات تصحيح الوعي. لقد ترك هذا السياق المشدود إلى الفورة الإيديولوجية بصمات واضحة على الإبداع الصادر في ذلك الوقت، إذ حدد له أفقا أوليا: تحقيق الواقعية بوصفها جواز مرور إلى الجمهور الواسع، وإلى منطقة الأدب الجاد الملتزم بقضايا المجتمع. ومن ثم كانت القراءة النقدية تنطلق من الواقع ـ كما يتصوره كل ناقد ـ لتقرأ العمل السردي وتسأل صاحبه: "أين هو الواقع في ما كتبت؟". وفي كثير من اللقاءات النقدية، كان النقاد يحاصرون المبدعين بأسئلة عن "واقعهم": "فكانوا يبدون عاجزين عن الإجابة مهما حاولوا، كان اللقاء ينتهي بحثهم على المزيد من الواقعية فيما يظل العمل المنجز خارج دائرة التحليل والتفاعل والفهم من الداخل"(20).

لكن، هيمنة الخطاب النقدي الإيديولوجي المباشر لم يمنع من انفتاح بعض النقاد المغاربة الرواد على نظريات نقدية كانت تعيد النظر في كثير من المفاهيم والتصورات، في طليعتها علاقة الأدب بالواقع، وعلاقة النص الإبداعي بالإيديولوجيا. وقد كانت هذه المعطيات تؤشر على تراجع درجة مقبولية الخطاب الإيديولوجي المباشر، مما سيستلزم ضرورة البحث عن تصورات جديدة سيجدها الناقد المغربي في مصدر منهجي آخر، هو البنيوية التكوينية.

وقد كانت بداية هذا الخطاب في النقد المغربي من خلال تداول أفكار "جورج لوكاتش"، ولا شك في أن "متابعة علاقة النقد الروائي الناشئ في المغرب خلال السبعينات بالنقد الأجنبي لمن شأنها أن توضح إسم جورج لوكاتش كمصدر نقدي مهيمن بحيث لا تكاد أية مساهمة نقدية مغربية تخلو من الإشارة إليه، واعتماد بعض آرائه ومفاهيمه في مجال نظرية الرواية"(21).

سيتعزز هذا الحضور ـ بعد ذلك ـ من خلال الانفتاح على المفاهيم الأساسية للبنيوية التكوينية، كما صاغها "لوسيان غولدمان". إن تتبع مسارات تسرب الجهاز المفاهيمي لهذا الخطاب في النقد المغربي تبين درجة مقبوليته، والقوة التداولية التي أصبح يحظى بها على الساحة النقدية المغربية. لقد شكلت هذه الشروط الثقافية والاجتماعية والسياسية، السياق العام الذي كان يستلهم منه النقاد المغاربة مصادرهم المنهجية. لعل من نافلة القول التصريح بأن هذا السياق العام كان له تأثيره الكبير في النقاد المغاربة الرواد. في طليعتهم الأستاذ عبد الكبير الخطيبي. ذلك ما سنؤكده من خلال تحليل كتابه "الرواية المغربية".

2 ـ الجوانب المنهجية:
يتناول "عبد الكبير الخطيبي" في الكتاب المذكور الرواية المغاربية التي كتبت بين سنتي (1945 ـ 1962)، وقد قارب هذه الروايات من المنظور الاجتماعي، على اعتبار أن هذه المقاربة من شأنها أن تسمح بالكشف عن الظروف والتحولات الاجتماعية والتاريخية التي كان المغرب العربي مسرحا لها، وذلك من خلال تحديد البنية الذهنية التي كان الأدباء يصدرون عنها في أنتاجاتهم الروائية. وأما المتن الذي اشتغل عليه الخطيبي، فهو يغطي الفترة بين 1945 ـ1962. يتكون هذا المتن في عمومه من روايات مكتوبة باللغة الفرنسية، أما الروايات المغاربية المكتوبة بالعربية فهي قليلة(22). وقد أشار محمد برادة ـ مترجم الكتاب ـ إلى "أن الرواية المغربية المكتوبة بالعربية لا تأخذ في الواقع مكانها ضمن هذه الدراسة القيمة"(23). وفي تقسيمه للمراحل التاريخية لتطور الفن الروائي المغاربي يركز عبد الكبير الخطيبي على المضمون الاجتماعي للروايات المدروسة:

ـ ففي الأربعينات هيمنت على الرواية الرؤية الاثنوغرافية التي تهتم بالوصف الدقيق للحياة اليومية، وما يتصل بها من العادات والطبائع.

ـ كما طغى في الخمسينات موضوع المثاففة، حيث أصبحت معضلة التقاء ثقافتين ـ عربية وغربية ـ هي المحور المستقطب لاهتمام الروائيين.

ـ بينما ازدهر في الستينات موضوع "النضال" المستوحي من حرب التحرير الجزائرية(24)، وهذا التحليل الذي كان يربط بين التطور التاريخي وبين المضامين الروائية كان يستدعي تحليلا اجتماعيا.

لكن يبدو أن الخطيبي كان واعيا بطبيعة المآزق التي آلت إليها الدراسات النقدية التبسيطية التي كانت تطابق بطريقة ميكانيكية آلية بين الواقع والأدب. لهذا ينتقد بعض المفاهيم والمقولات السائدة في النقد الاجتماعي التقليدي مثل مقولة "الانعكاس" و "الشهادة على الواقع"، مبينا أن العمل الأدبي الأكثر "تحللا من الالتزام (...) يحتفظ بعلائق جد معقدة مع المجتمع، ولا يمكن للنقد أن يكتفي بمقارنة عمل أدبي مع عصره، أو فرد مع فئة اجتماعية"(25).

وإذا كان النقاد الاجتماعيون التقليديون يؤكدون قيمة إنتاج أدبي ما من خلال ما يشتمل عليه من قدرة على "الشهادة على الواقع"، فإن الخطيبي يلفت النظر إلى أن "عنصر الإيهام في الكتابة لا يساعد على تحديد مدى صدق الشهادة، كما أن واقعية العمل الفني ليست متناسبة بالضرورة مع مجتمع أو عصر من العصور، ذلك أن التحوير الفني لوقائع اجتماعية إلى تحليل داخلي، ليس خاضعا لمنهج محدد، وليس تام الشفافية"(26).

وكأننا بالخطيبي هنا يستلهم ضمنيا مقولة "التماثل البنائي" Homologie structurelle كما جاءت في أدبيات البنيوية التكوينية: إن الأدب من هذا المنظور لا يمكن له أن يعكس الواقع، كما لا يمكن له أن يكون شاهدا عليه. بل يمكن له أن يماثل بنية أحد التصورات الموجودة في الواقع الاجتماعي الذي ينتمي إليه المبدع(27).

لقد أصبحت الكتابة أكثر من أي وقت مضى هي العنصر المجهول الذي يتطلب الكشف والتحليل، في نظر عبد الكبير الخطيبي، لذلك فالمطلوب التركيز على العمل الأدبي واستخلاص البنية التي ترسم هيكل الكتابة الأدبية(28). ينبغي ـ في نظره ـ أن ننطلق من الفكرة التي ترى أن الكتابة وطرائقها تشكل بذاتها مجموعة مواقف. وانطلاقا من هذا المفهوم يصبح ممكنا ـ في نظره ـ البحث عن الترابط بين العمل الفني والمجتمع.

مرة أخرى نجد أنفسنا أمام مفاهيم البنيوية التكوينية دون اصطلاحاتها التقنية: فـ "التركيز على العمل الأدبي واستخلاص البنية" ـ كما أشار إلى ذلك الخطيبي ـ يذكرنا بمفهوم "البنية الدالة"، واعتبار الكتابة الأدبية "مجموعة مواقف" يحيل على "الرؤية للعالم"، وفكرة الترابط بين العمل الفني والمجتمع قريبة من مفهوم "التماثل"... إلخ.

نتساءل الآن: إلى أي حد يستجيب هذا العمل للتحليل البنيوي التكويني في خطواته الإجرائية المتكاملة؟

يصعب القول بأن الجهاز المفاهيمي النظري لهذا المنهج كان حاضرا بأكمله في هذه الدراسة، خاصة أن الخطيبي نفسه يبدو في بعض مراحل بحثه متحفظا من بعض آراء "لوسيان غولدمان". يقول:

"وإذا كان لوسيان غولدمان يثبت تشابها قويا بين البنية الداخلية للأعمال الأدبية. وبين تطور الرأسمالية الغربية، إذ يفترض أن الأمر يتعلق بنقل بنية اقتصادية إلى مجال المتخيل بكيفية ملتحمة في لا واعية الكاتب (كذا)، فإن مشكلة الرواية المغربية لا يمكن تفسيرها على هذا النحو لأنه لا بد أن تطرح، في نظرنا، من خلال مصطلحات سياسية ونفسانية اجتماعية. ذلك أن الأديب المغربي الذي اعترضته دوامة الأزمات منذ سنة 1945 لم يكن بوسعه الإفلات من الوسواس السياسي الذي يستمد منه معظم الأحيان موضوعاته"(29).

يشير الناقد هنا إلى "عدم ملاءمة" بعض آراء غولدمان مع خصوصية الإنتاجيات الروائية المغربية التي هيمن عليها "الوسواس السياسي" ـ على حد تعبيره ـ منذ 1945. لا نريد مناقشة هذا الرأي من خلال الأصول المرجعية للبنيوية التكوينية(30)، لكن الذي يهمنا هنا هو الإشارة إلى التناقض الذي يطبع بعض آرائه ذات الصلة بالبنيوية التكوينية: فقبل هذا التحفظ رأينا كيف أن الناقد يدرج قراءته للرواية المغاربية ضمن التحليل الاجتماعي، لكنه في نفس الوقت "يتبرأ" من القراءات الاجتماعية "التبسيطية" ـ كما سماها ـ القائمة على نظرية الانعكاس أو الشهادة، على اعتبار أن العمل الأدبي "يحتفظ بعلائق جد معقدة مع المجتمع"، وأن عنصر الإيهام في الكتابة "لا يساعد على تحديد مدى صدق الشهادة"، ليخلص فيما بعد إلى ضرورة "التركيز على العمل الأدبي واستخلاص البنية التي ترسم هيكل الكتابة الأدبية"، ثم "البحث عن الترابط بين العمل الفني وبين المجتمع" مع الأخذ بعين الاعتبار أن مضمون العمل الفني "يكون متخفيا ومستترا، ولا بد من استخلاص التحامه على مستوى المتخيل"، وأن الكتابة الأدبية "تشكل بذاتها مجموعة مواقف"... إلخ. إذن هناك استبعاد لنصوص البنيوية التكوينية على مستوى ظاهر الخطاب، واستحضار روحها ومفاهيمها على مستوى الممارسة النقدية. ويبقى من المؤكد أن الناقد لا يباشر التحليل بوضوح نظري كاف، هناك حديث عام عن الإمكانيات التي أصبحت تتيحها المناهج الحديثة، في مثل قوله:

"لقد أصبح النقد الحديث متوفرا على عناصر دقيقة نسبيا تمكن إلى حدما، من تحديد قيمة العمل الأدبي. وسواء اعتمدنا على المنهج الفينومولوجي، أو على التقنيات البنيوية، أو على النظرية الماركسية، فإنه لم يعد ممكنا الاكتفاء بدراسة المضمون"(31). أو قوله: "بالإضافة إلى تحليل المضمون بالطريقة الاتباعية، فإن النقد يتوفر الآن على عدة طرائق جد دقيقة (درجات المواقف، المنهج اللغوي البنيوي، نظرية اللعب، نظرية الاستخبار، السبرنطيقا" (32).

وإذا استثنينا هذه الإشارات العامة، من النادر جدا أن نجد الباحث يحيل على مصدر منهجي محدد. ويبدو أن غياب الوضوح النظري كان يريح الناقد، إذ يجعله يتواصل مع خيارات منهجية مختلفة، لكن مع مركزية التحليل الاجتماعي.

وقد أشار إلى هذا التنوع المنهجي مترجم الكتاب، محمد برادة، فذكر أن الخطيبي قد استعان ـ على الأقل ـ بمنهجين نقديين. يقول: "على أن المؤلف لم يلتزم بمنهج واحد في مجموع فصول الكتاب، لأن طريقة التناول تختلف من فصل لآخر، وتتراوح بين الانطلاق من العمل الروائي، والانطلاق من الظروف المجتمعة (كذا)، وهذا ما يجعلني أقول بأن الخطيبي استعان،على الأقل، بمنهجين اثنين من مناهج النقد الحديث: المنهج الموضوعي (thématique) كما طبقه "رولان بارت" في مرحلته الأولى، والمنهج البنيوي التكويني: (Structuralisme génétique) كما حدده لوسيان غولدمان"(33).

نخلص من خلال ما سبق إلى تأكيد الخلاصة التي انتهينا إليها هنا، وهي أن عبد الكبير الخطيبي كان على وعي بالمفاهيم النظرية والإجرائية للبنيوية التكوينية، وكان ينفتح على بعضها على مستوى الممارسة النقدية، لكن دون الحرص على الضبط المفاهيمي والاصطلاحي لهذه المبادئ، من داخل السياق التنظيري العام للبنيوية التكوينية.

باحث وجامعي من المغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الكتاب في الأصل عبارة عن رسالة جامعية تقدم بها الخطيبي لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون عام 1969، وقد ترجمها محمد برادة إلى اللغة العربية، ونشرت سنة 1971. أنظر: الرواية المغربية، ترجمة محمد برادة، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط،1971.
(2) ـ المرجع نفسه، ص: 75
(*) ـ لا نستعمل هذا المصطلح هنا في مدلوله الذي يحيل على البنيوية التكوينية، بل نستعمله في معناه العام.
(3) ـ سعيد بن سعيد، فكرة المغرب العربي والوعي النظري عند الحركة الوطنية المغربية، جريدة الاتحاد الاشتراكي، الأحد 4 أكتوبر 1987، ص: 4
(4) ـ للمزيد من التفاصيل حول انشقاق "حزب الاستقلال"، وأبعاده السياسية والاجتماعية، يمكن الرجوع إلى: عبد الرحيم الورديغي، الخفايا السرية في المغرب المستقل(1956 ـ 1961)، المطبعة الجديدة، الرباط، ط1: 1980، ص: 182.
(5) ـ نذكر منها:
ـ التنويع في أنماط التعليم بين التقليدي والعصري، وبين التكوين الصناعي في المدن والتكوين الفلاحي في البوادي.
ـ تطبيق مقتضيات الظهير البربري، من خلال تشجيع التعليم البربري.
ـ الإبقاء على النخبة الأرستقراطية عن طريق تخصيص تعليم لأبناء الأعيان.
للمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى: يمكن الرجوع في هذا الإطار إلى: د. محمد عابد الجابري، أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، دار النشر المغربية، البيضاء (ب، ت)
(6) ـ أنظر لائحة المدارس الحرة المعترف بها إلى السنة الأولى من الاستقلال، في كتاب إبراهيم السلامي، الشعر الوطني المغربي في عصر الحماية (1912 ـ 1956)، دار الثقافة (دون سنة النشر) ص: 43 ـ 46
(7) ـ البرامج والمناهج، من الهدف إلى النسق (مؤلف جماعي)، مطبعة فضالة، ط: 1، 1990 ص: 31
(8) ـ محمد بن العباس القباج، ليس هذا بعشك فازدجري، مجلة المغرب، عدد: 18 ـ أكتوبر 1934
(9) ـ بول شاوول، علامات من الثقافة المغربية الحديثة، بيروت . ط1: 1979، ص: 6
(10) ـ أنظر كتابه: الإيديولوجية العربية المعاصرة، تر: محمد عيتاني، دار الحقيقة للطباعة والنشر، بيروت 1970. والجدير بالذكر أن هذا الكتاب كان قد صدر باللغة الفرنسية عن "ماسبرو" سنة 1967
(11) ـ الطيب تيزيني، من التراث إلى الثورة، حول نظرية مقترحة في التراث العربي، ج: 1، دار بن خلدون، بيروت، ص: 17
(12) ـ المرجع نفسه، ص: 18
(13) ـ حسين مروة ، النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية،ج: 1، دار الفارابي، بيروت، ص: 31
(14) ـ إبراهيم الخطيب، عناصر لفهم أزمتنا النقدية، مجلة الثقافة الجديدة، س: 78، ع: 10 ـ 11، ص: 146
(15) ـ عبد المجيد بن جلون، في حوار مع محمد مصطفى القباج، مجلة آفاق، س 3، ع1 و 2. 1966
(16) ـ مبارك ربيع، ظلال الرومانسية في قصة زينب، مجلة آفاق ، ع2. 1967 ص: 86
(17) ـ محمد برادة، الأدب المغربي واللحظة التاريخية. مجلة آفاق ، ع . 1969 . ص: 5
(18) ـ عبد الكريم غلاب، دور المثقف في معركة التغيير، مجلة آفاق. ربيع 1972. ص: 29 ـ 30
(19) ـ عباس الجراري، الثورة والثقافة الوطنية، مجلة آفاق، ربيع 1972. ص: 48
(20) ـ محمد برادة، أبعاد واقعية جديدة في رواية "اليتيم"، مجلة فصول، مج: 5 ، عدد: 2 ـ يناير ـ فبراير ـ مارس 1985، ص: 177
(21) ـ فاطمة الزهراء أزرويل، مفاهيم نقد الرواية باملغرب، مصادرها العربية والأجنبية، نشر الفنيك، 1989، ص: 62.
(22) ـ تتمثل في أربعة نماذج: جولة حول حنات البحر الأبيض المتوسط لعلي الداعوجي، برق الليل للبشير خريف، اللهاث الجريح لمحمد الصباغ ومولد النسيان لمحمود المسعدي.
(23) ـ عبد الكبير الخطيبي، الرواية المغربية، ص: 9
(24) ـ المرجع نفسه، ص: 34
(25) ـ المرجع نفسه، ص:16
(26) ـ المرجع نفسه، ص: 34
(27) ـ Lucien Goldmannm pour une sociologie du Roman, Gallimard 1964, P: 41 - 42
(28) ـ عبد الكبير الخطيبي، الرواية المغربية، ص: 17
(29) ـ المرجع نفسه، ص: 17
(30) ـ ليس هناك ـ في نظري ـ ما يحول دون استيعاب هذه "الخصوصية السياسية" ضمن مقولات البنيوية التكوينية إذا تم احترام المبادئ الاجرائية للمنهج. هذا مع التنبيه على أن الخطيبي لا يحيل هنا على أي كتاب من كتابات غولدمان.
(31) ـ عبد الكبير الخطيبي، الرواية المغربية، ص: 16
(32) ـ المرجع نفسه، ص: 17
(33) ـ ليس هناك ـ في نظري ـ ما يحول دون استيعاب هذه "الخصوصية السياسية" ضمن مقولات البنيوية التكوينية إذا تم احترام المبادئ الاجرائية للمنهج. هذا مع التنبيه على أن الخطيبي لا يحيل هنا على أي كتاب من كتابات غولدمان، ص: