يرى الناقد المصري أن السياسة هي علاقة الفرد بالسلطة، وفي تعامله واحتكاكه بأدواتها. وما يظهر من تأثير قراراتها عليه، وهو ما يظهر في الإبداع في حياة الأفراد وسبل معيشتهم، بصورة غير مباشرة. وما يمكن أن نجده في الأعمال التي تتناول الحياة الاجتماعية، أو النفسية بصفة عامة.

القراءة السياسية للقصة القصيرة

(1)

شوقي عبدالحميد يحيى

 

تمهيد
قد تكون كلمة "سياسة"، فى عمومها، كلمة غير محببة، وربما كلمة مخيفة للكثير من المبدعين، خاصة. يتحاشاها الكثيرون، حتي أن بعض الكتاب أنفسهم، قد يرفع حاجبه ويستنكر، إذا ما ذكرت له أن عمله يمت للسياسة بصلة. وهو لا يعلم أنه، وعمله من صنع السياسة، حتي لو لم يعترف بذلك، حتي كانت المقولة الشهيرة (ما دخلت السياسة شيئا إلا أفسدته). وربما يرجع ذلك إلى ممارسات الكثير من (السياسين) أو ممتهنى السياسة وسعيهم أولا إلي المصالح الشخصية. فضلا عن الممارسات القمعية التي تمارسها كثير من الحكومات في الدول المختلفة، زرعت الكثير من الخوف فى النفوس. وهو ما جعل الكاتب يخشى أن يُنسب عمله للسياسة.

وهنا، يجب علينا أن نفرق بين السياسة كممارسة عامة، وعلم السياسسة.

فالسياسة، كعلم، تختص بشكل وتكوين ومهمام الحكومة، أو من يمارسون السلطة ، بالقوانين التى يشرعونها على الناس. أى أنها تنصرف إلي فن الحكم وطرائقه}[1].

وأتصور أن الممارسات التى ينتهجها المنوط بهم القيام بهذا، هى السروراء الخوف من الكلمة، ويأتى فى مقدمة هذه الممارسات، التمسك بالسلطة، وتسخير كل السب للحفاظ به، وهو ما تشهده دول العالم الثالث-عموما- وبعض البلاد غير الديمقراطية، وما شهد به ابن خلون فى مقدمته الشهيرة {إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملذات النفسانية فيقع فيه التنافس غالبا وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غُلب عليه، وشئ منها لا يقع إلا بالعصبية (القوة)}. فالسياسة لغة هي {الاضطلاع بأمر ونهي الرعية، وتدبير أمورها وتولية شؤونها. تقول العرب: ساس فلان القوم، أى رأسهم وسُوس الرجل أمور الناس إذا مُلّكَ أمرهم. وفي هذا المعني بقول الحطيئة:

لقد سُوستِ أمربنيك حتي تركتهم أدق من الطحين

وقد يكون تعليق تشرشل علي ما كتب علي قبر أحد الساسة البريطانيين (هنا يرقد السياسى اللامع ورجل الأخلاق الحميدة، فعلق (ولماذا دفنوا رجلين في قبر واحد؟). وكأنه اعتراف بالمقولة أن السياسة :فن الخدع، أو فن الكذب.

وقال أحدهم، بما يمكن أن يتفق مع رؤية تشرشل: منذ بدء الخليقة، كل عمل إنساني هو سياسة: الجرأة سياسة، الدهاء والمكر والخديعة سياسة، الحنكة والصبر سياسة، النفاق سياسة، الضعف سياسة، حتى الابتعاد عن السياسة سياسة. وتلك الأخيرة تحديدا، هي ما يجعل صاحب عمل لجأ بشخوص عمله إلي الصحراء، في زمن تسيد فيها أدب المدينة، والثورة علي الأوضاع الداخلية، وهو ما اعتبرناه، نوع من الهروب الاحتجاجى، وقلنا أنه عمل سياسى. فأنكر صاحب العمل بأن السياسة لم تخطر علي باله أثناء الكتابة، وهو ما جعلنا نقول بأن أي عمل إبداعي، هو عمل إنسان أولا، وبالتالي فهو عمل سياسى، سواء كان مباشرا، أو غير مباشر، وقابع في الخلفية. فأن يري الناخب مثلا أن صوته في الانتخابات العامة، غير مؤثر، فيقرر عدم الاشتراك في العملية الانتخابية، وهو ما يُعتبر رفض، أو احتجاج سلبي، ورغم سلبيته، فإنه يعتبر قرار، ورؤية سياسية. وإذا كتب كاتب عن معاناة الناس، او سلوكياتهم فى الشارع مثلا، مثل مشاكل المرور، أو عدم التنظيم فى الخدمات المقدمة للمواطنين، فسيكون من صميم السياسة، لأن كل ذلك يرجع لقوانين السياسة، وجودها من عدمه، تطبيقها من عدمه، وهل يطبق على الجميع أم أن التطبيق إنتقائي، هل يكفى للردع، أم أن سلوكيات التطبيق تؤثر فيه. فسلوك الفرد فى المجتمع، يؤثر فيه بدرجة كبيرة، قواعد الدولة وسياساتها، وقدرتها على إقامة ما يُشعر الناس بالعدل. فإذا ما أردنا أن نضرب أمثلة، فلن تكون المقارنة بين مصر مثلا والدول الأوربية، وإنما الجميع يعرف وضع المرور، وبالتالى الشارع، فى مصر ودولة عربية مثل السعودية، أو دول المغرب العربي. فهنا وهناك، بشر عرب، بل وكانت مصر أسبق من كل الدول العربية، فى مسألة نظام الشارع ونظافته، فما الذى تغير إذن إلا أنها السياسة؟.

وإذا ما تصورنا أن إنسانا ما قد تعثر في تعليمه، واضطرته الحياة لأن يعمل مثلا سائقا لسيارة، تعرض فيها لنوعيات مختلفة من البشر، ثم كتب تجربته مع تلك النوعيات، في عمل أدبي، فإنه بالطبع سيستنكر حين نقول له أن عمله مصبوغ بالسياسة، وأنها كامنة في رؤيته لهذه النماذج.

فإذا ما آمنا بأن الكاتب، أو المبدع، في أي مجال إبداعي، هو إنسان أولا. يعيش في مجتمع، يتأثر به حتي قبل ميلاده، هذا المجتمع له جغرافية محددة، وتاريخ محدد، ونظام محدد، ليس هو فقط من يخضع لكل هذا، إنما أسرته من قبله تعيش ذلك المجتمع. هذا الإنسان له إحتياجاته البشرية، ولكي يتعايش معها، فإنه يسعي للتواؤم مع ظروفها، كي تسير حياته الاقتصادية، فيضع لنفسه، من ضمن ما يضع، حسابات الدخل والمنصرف، وكلاهما يخضع لظروف وقوانين ذلك المجتمع، الخاضع والمسير علي نظام أشمل في ذات الوضعية، الإيراد والمنصرف، إلي جانب عوامل أخري بالطبع. إذن فهناك تشابك بين مواءمة الفرد لسبل المعيشة، ومواءمة الدولة مع ذات الظروف، لتحقيق أفضل إمكانية – في رؤيتها – لتحقيق ذلك التوازن لكل فرد.

فإذا ما نظرنا إلي المثل السابق الإشارة إليه. سنجد أن الشاب المتعثر في تعليمه، قد خضع لنوع من الضغط المجتمعي، الذي لم يمكنه من استكمال تعليمه، في الوقت الذي رأي غيره من رفاقه، أو جيرانه، أو أقاربه قد تمكنوا من ذلك، فلابد أن مقارنة ما دار بداخله، شَعُر معها بتقصير من الأسرة، أو من الدولة، حالت بينه وأن يكون مثل هؤلاء. إذ ربما كانت إمكانيات الأسرة المادية ، أو التعليمية، هي التي حالت بينه وتحقيق أن يكون مثل الآخرين، إما لقصر ذات اليد، وإما لرؤية محتلفة عن التعليم. فلابد أن تتشكل رؤيته للحياة، والمجتمع من حوله بصبغة ما، تلك الصبغة هي ما انعكس علي رؤيته للنماذج التي عبر عنها في عمله، حين ترجم تلك التجارب في عمل إبداعى. وهذا ما نستطيع تطبيقه بصورة واضحة عند من انتسب لتيار اليسار بين المبدعية، حيث سنجد النشأة البسيطة التي نشأ عليها غالبيتهم، وصبغت رؤيتهم بتلك الصبغةـ وانعكس بالتأكيد علي أعمالهم التي جاءت غالبا تتناول حياة البسطاء والمهمشين، والمطحونين في الحياة.

وعلي العكس من ذلك سنجد آخرين تيسرت لهم سبل العيش منذ نشأتهم، فسنجد أن أعمالهم الإبداعية ستتناول من في القصور، أو المرفهين، أو عن ما يمكن تسميتهم بالطبقة الأعلي. ولن نعدم الكثير من الأمثلة علي ذلك في أدبنا العربي، أو المصري خاصة. وسوف نجد في تاريخ الأدب وفى سير هؤلاء وأولئك، المعارك والمداولات التي دارت بينهما، انتصارا لكل منها لرأيه ورؤيته. لنصل في النهاية أن السياسة لا تعني بالضرورة العلاقة المباشرة فى تعامل الفرد والدولة، أو ما يقدمه المبدع من نماذج تتناول مباشرة العلاقة مع الدولة، وإنما يجب النظر إلي ما يسوقه الكاتب من نماذج للحياة علي أنهم ليسوا منقطعي الصلة بالمجتمع الذي يعيشونه، ويتأثرون بكل نظمه، ويخضعون لقوانينه وقرارته. وهو ما يؤكده د. عصام سليمان فى: {فالسياسة تعنى تنظيم المجتمع وتحقيق وحدته وتدعيمها، وخلق المؤسسات التى يقوم عليها، وإعطائه هيكليات وبنيات محددة، وسن القوانين والقواعد الحقوقية التى يرتكز عليها وتطبيقها. كما تعنى تعديل وتطوير كل هذا وفقا للتبدلات الحاصلة فى الزمان والمكان، بغية تحقيق الغاية التى تطمح السياسة إليها. فبالسياسة يمكن للإنسان أن يحول المجتمع، ولكن ضمن حدود معينة تفرضها معطيات الواقع الاجتماعى. وبالسياسة أيضا يتعزز وجود المجتمع ومن خلاله وجود الفرد}[2]. وهو ما يؤكد العلاقة –الحتمية – بين الفرد والمجتمع، الخاضعين لتقديرات الساسة، الذين هم فى النهاية، لهم رؤيتهم، ولهم حساباتهم، التى من ضمنها، الحرص على البقاء، أطول فترة ممكنة، وهو مالا يقتصر على دول العالم الثالث، وإنما فىكل دول العالم، كبيرها وصغيرها.

ومن المسلم به، إختلاف إحتياجات الأفراد، وهو ما يؤدي إلي صعوبة دور السياسة، أو السلطة، التى لن تستطيع إرضاء الكل. فمن تتوافق إحتياجاته (الشخصية) مع النظم السائدة، والقوانين الموضوعة، فبالتأكيد سيكون مؤيدا، ومن لا يستطيع أن يتوافق مع السائد، وليس فقط تتعارض إحتياجاته معه، سيكون في الجانب الآخر، وحيث أن الأفراد لا يستطيعون فرض إرادتهم عليه، فبالتأكيد سيشعرون بعدم الرضا، إن لم يكن بالسخط والغضب، وهو ما قد يعرضهم للمساءلة، فيزداد الإحساس بعدم المساواة، أو عدم التحقق، وهو ما سينعكس علي رؤاه للواقع والحياة، في كلا الحالين.

  • نؤكد علي أن هناك أناس كثيرون لايهتمون مباشرة بالشأن السياسي – بمعناه الأكاديمى- علي الرغم من إنعكاس السياسة سلبا أو إيجابا علي حياتهم. وما الإبداع –عامة- إلا تعبير عن رؤية شخصية لواقع البيئة والمجتمع، بأبعادهما التاريخية والجغرافية.

وإذا ما نظرنا إلي (السياسة) بمعناها النظري والعلمي، فسنجدها بدأت مع أفلاطون، صاحب الجمهورية النموذجية في التاريخ الإنساني، بحكم الإعدام الذي اصدرته الدولة علي أستاذه "سقراط" جراء أفكاره. فكانت جهوريته تلك، التي عارض فيها أستاذه في الكثير من أفكاره، وهو ما يعكس الفرق بين رؤية الفرد للفرد، ورؤية الدولة للفرد. وهو ما يوضحه د. إبراهيم درويش في شرحه لنظرية أفلاطون في السياسة[3]: {بل إننا في بعض المحاورات نجد أنفسنا وكأننا أمام أفكار سقراط مباشرة، وهذا مرجعه إلي الأثر العميق الذي خلفه سقراط علي أفلاطون: فلسفة وحياة ومنهجا، ومذهبا}. وهو ما يُظهر في البداية أن الفرد لا ينشأ منعزلا عن ما يدور حوله، فهو ليس إلا حلقة في سلسلة طويلة ممتدة لأبعد من عمره، ثم يتساءل أفلاطون ذلك السؤال الجوهري، الذي سنجد له صدى في بعد، وما سنتعرض له من قصص، خاصة في المرحلة التأسيسية {هل هذه الطاعة يجب أن تنصرف إلي إرادة الدولة أيا كانت هذه الإرادة، أم أن طاعة الفرد يجب أن تكون لمضمون ومعني وإرادة العدالة؟ وفي حالة التعارض بين إرادة الدولة والعدالة، فلمن تكون طاعة الفرد؟}. ثم يوضح د درويش ذلك{أن جانبا من فلسفة أفلاطون، السياسية منها علي وجه التحديد كانت رد فعل لعاملين: أولهما: السبب الذي حوكم من أجله سقراط والإسلوب الذي تمت به محاكمته وتنفيذ الحكم عليه بالإعدام.

وثانيهما: رد الفعل الذي وجد لديه من النظام السياسي لدولة مدينة أثينا، ومن البيئة الاجتماعية بصورة عامة}. ومن هنا كان سعي أفلاطون – المثالي – الوصول إلي ما يجب أن يكون، لا ما هو كائن.، مؤمنا ببحثه عن الرجل الصالح، والذي رأي أنه لا يوجد إلا فى الدولة الصالحة، والتي يرى أنها {الدولة الفاضلة التي تؤهل المواطن كى يصبح فاضلا، لأن الدولة يقع علي عاتقها تحقيق الفضيلة النهائية}ص70.

ومن الأمور التي يستفيض د درويش في شرحها في النظام الأفلاطوني- وهو ما سنجد له –أيضا- صدي في بعض ما سنتناوله من قصص- هو انقسام الدولة، أيا كان حجمها إلي: دولتان، دولة الأغنياء، ودولة الفقراء {وهما في حالة مستمرة من التطاحن والحرب مع بعضهما البعض}. ثم يعرج إلي تحديد العلاقة بين الدولة والفرد، من خلال دور الدولة، واحتياج الفرد، حيث يرتكز إحتياج الفرد بين إحتياج روحي، والذي يتمثل في تحقيق السعادة. واحتياج جسدى وهو ما يتمثل في الرياضة وتوفير الدواء. أما دور الدولة فيرتكز علي التشريع، والقضاء. حيث التشريع هو ما يحدد للفرد ماذا عليه أن يفعل، وما عليه ألا يفعل. بينما القضاء هو ما يحقق العدالة، ويمنح الأمان. وهو ما يؤكد حتمية العلاقة بين الفرد – كائنا من كان- والدولة – أي دولة وأي حكم.

وننتقل من أفلاطون اليونان إلي أفلاطون الأدب العربي، كما وصفه العقاد، ونعني به أحد أبرز رواد النهضة العربية في بدايايات القرن العشرين، ومعاصر رواد مرحلة التأسيس في القصة القصيرة والرواية، أحمد لطفي السيد، حين حدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، رافضا تلك المقولة، والمُفَضِلة للاستبداد وتهميش الشعب، بمقولة (المستبد العادل) مفضلا عليه الحكومات النيابية {التي أثبتت التجربة أنه أفضل طرائق الحكم}. وفي مقاله المعنون "حقوق الأمة[4] {علي أن منافع الأمة ليست كلها منافع مادية، إنما الأمة أفراد ليست حياتهم في الحقيقة إلا مشاعر، فهم في الحكومة الاستبدادية في شعور بالذل والعبودية يقبض الصدر ويحبس الملكات ، ويُكره المرء في عيشته، يكرهه في عيشة ليست له، فإنه إنما يعيش علي خطر أن يُصلب أو يُنفي أو يُجرد من ماله لما تراه الحكومة من منفعة الأمة في الصَلْب أو النفي أو التجريد من المال، حياة جُربت فكانت نتيجتها اللازمة جمود القرائح وفساد القلوب...... لذلك نرفع للحكومات النصيحة، ونكرر الالتماس بأن الأمة هي وحدها التي تعرف منافعها دون غيرها، وأنها مع ذلك لا تري لنفسها منفعة ألزم لحياتها من الاحتفاظ بالحرية وسلامة حقوق الإنسان}[5]. حيث يؤكد العلاقة بين الفرد، وتأثير قرارات الحكومة عليه، النفسية، والتي تؤثر بالضرورة علي حياته المادية، وهو ما يتفق إلي حد كبير مع ما رآه أفلاطون اليونان.

الحراك السياسى في بدايات القرن العشرين
لم تنشأ حركة التجديد في القصة القصيرة – وبداية ظهور الرواية – بل واتجاهها إلي الواقعية تحديدا، والثورة علي الرومانسية، مع بدايات القرن العشرين، من فراغ، أو بمعزل عن الحالة المجتمعية، الثورية، التي سعت لتحسين أوضاع الإنسان الفرد، حيث كانت لواقعة دنشواي الشهيرة (13 يناير 1906) أثرها المحرك، ضد الاستعمار الإنجليزي، وبداية المطالبة بالاستقلال، ففي العام التالي لها مباشرة (1907)، تم إنشاء ثلاثة أحزاب هي "الحزب الوطني الذي اسسه مصطفي كامل (1875 – 1908) ولم يستمر في رئاسته طويلا، حيث مات بعدها بأشهر قليلة. وقد لخص الأستاذ عماد أبو غازي حركة الأحزاب في ذلك العام، معتمدةً علي الصحافة التي لعبت دورا كبيرا في تواجد هذه الأحزاب وانتشارها في {ففى هذا العام تحولت ثلاثة تيارات سياسية كانت تعبر عن نفسها من خلال الصحافة إلى أحزاب سياسية؛ فأسس مجموعة من كبار ملاك الأراضى الزراعية وكبار رجال العائلات وبعض رجال السياسة والقانون والصحافة حزب الأمة فى 21 سبتمبر سنة 1907، وكان من أبرز قادته ومفكريه أحمد لطفى السيد مُصدر جريدة «الجريدة»، كما شارك فى تأسيسه محمود باشا سليمان وعلى شعراوى باشا وعبد العزيز فهمى بك وحمد الباسل بك وحسن صبرى بك ومحمود عبد الغفار بك وأحمد فتحى زغلول، وكان حسن باشا عبد الرازق هو الذى أعلن تأسيس الحزب فى اجتماع الجمعية العمومية لشركة الجريدة، وقد تبنى الحزب الفكر الليبرالى ورأى أن الارتقاء بالتعليم وبناء ديمقراطية على أساس من النظام الدستورى الطريق الوحيد لتحقيق رقى مصر واستقلالها.

وبعدها بأشهر قليلة أسس الشيخ على يوسف صاحب جريدة «المؤيد» مُصدرها حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية فى 9 ديسمبر من نفس العام، وكان حزبا مواليا للخديو عباس حلمى الثانى ومؤيدا له، وقد انتهى الحزب بوفاة مؤسسه سنة 1913.

أما مصطفى كامل صاحب جريدة «اللواء» فأعلن عن تأسيس الحزب الوطنى فى 27 ديسمبر سنة 1907، الحزب الوطنى الذى كان اسما يطلق على التيار المعادى للاحتلال قبل تأسيس الحزب، هذا وقد اعتبر حزب مصطفى كامل قضية الاستقلال الوطنى همه الأول وإن كان قد تبنى أيضا الدعوة إلى الدستور، وتطورت مواقف الحزب فيما بعد وفاة مصطفى كامل فى 10 فبراير سنة 1908، فاكتسبت أبعادا اجتماعية فى ظل زعامة محمد فريد فبدأ يهتم بالنقابات العمالية والتعاونيات ومدارس الشعب وغيرها من المشروعات، وقد اضطر فريد لمغادرة البلاد إلى منفاه الاختيارى بين تركيا وسويسرا وألمانيا، لكنه ظل زعيما للحزب حتى وفاته فى نوفمبر سنة 1919}[6].

وقد كان لكل من هذه الأحزاب رؤيته في الحياة والسياسة، الأمر الذي خلق حراكا سياسيا، مستخدما الجرائد، خاصة، والثقافة عامة، ما ساعد في تلك الصحوة التي إنعكست على رؤي كتاب القصة وصبغها بالصبغة الثورية الفكرية. فإذا كان الحزب الوطني قد عُنيَ بالعمال، و{شغل نفسه بقضية الجلاء العسكري والسياسى عن مصر وجعل ذلك محور عمله... بينما عُرف ان حزب الأمة إلتزم الصمت إزاء إضرابات العمال في مواجهة الأحداث. والمقصود بالأحداث موجة الاعتصامات- الإضرابات- الواسعة التي عرفتها مصر من جانب عمال الموانئ والترام والسكك الحديدية}[7]. غير ان هذا الحزب (الأمة) هو من نادى بالاستقلال عن السلطنة العثمانية استقلالا تاما، سياسيا، واستقلال القومية المصرية عن مشروع الجامعة الإسلامية. وإزاء ذلك تهادن الحزب مع الاحتلال الإنجليزي، بينما كان الحزب الوطني يناهض الاحتلال الإنجليزي، عن طريق التعاون مع الإدارة العثمانية.

ونظرة علي الوجوه التي انتمت لحزب الأمة في ذلك الآن، سنجد: أحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل ومصطفي عبد الرازق وحمد الباسل وعبد الخالق ثروت. ولا أستبعد أن يكون لوجود هذه الأسماء ودورها الخطير في المرحلة التنويرية، والداعية إلي الاستقلال عن الجامعة الإسلامية، أو الاستقلال عن الإدارة التركية (الإسلامية) دور في تفكير حسن البنا (1906 – 1949) في تكوين الجماعة المسماة بالإخوان المسلمين في العام 1928. والتي انتمت كليا إلي (الولاية) العثمانية، مؤمنة بالخلافة الإسلامية. خاصة أن احد دعاتها "محمد الغزالي" كتب كتابا[8] يرد فيه علي دعوات القومية العربية، واتهمها بأنها دعوة لهدم الدين الإسلامي، والقومية الإسلامية، متهما البلاد العربية بأنها كانت قبل الإسلام، مجموعة من القبائل الهمجية، متغافلا عن تلك الحضارات التي نشأت في الكثير منها، كالحضارة الفرعونية في مصر، وحضارة ما بين النهرين بالعراق، وحضارة مملكة سبأ ومملكة حضرموت في اليمن، وغيرها من الحضارات التي عرفتها البلاد قبل الإسلام. المهم، نتبين من هذه الإطلالة السريعة علي الحراك السياسى في بدايات القرن، ان هناك إرتباط جوهري بين الحركة الثقافية السياسية، والإبداع الأدبي، الذى يعنيناهنا في القصة القصيرة. والذي معه نؤكد إرتباط الأدب بالسياسة، في مفهوميها، المباشر، وغير المباشر.

وقد يقرب الرؤية للعلاقة بين السياسة والفرد، استدعاء مقولة عمر بن الخطاب، الذي قيل عنه (حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر) حين قال: " لو عثرت بغلة في العراق ، لسألني الله – أو قال: لخفت أن يسألني الله عنها : لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر " ؟!. وهو ما يكشف مدي مسؤلية السلطة عن حياة الفرد، الذي يمكن أن يكون هو المبدع ذاته.

من هنا يمكن القول بأن السياسة هي علاقة الفرد بالسلطة، وهو ما يظهر علي العمل الإبداعي بصورة مباشرة، وما نستطيع أن نجده في تعامل وإحتكاك الفرد بأحد أدوات السلطة، كالجيش أو الشرطة أو القضاء. وهي(السياسة): ما يظهر من تأثير قرارات السلطة علي الفرد، وهو ما يظهر في الإبداع في حياة الأفراد وسبل معيشتهم، بصورة غير مباشرة. وما يمكن أن نجده في الأعمال التي تتناول الحياة الاجتماعية، أو النفسية بصفة عامة. وهو المنهج الذي نسير عليه في قراءة الأعمال المُتَناولة.

نماذج من القصة القصيرة.. بعد جيل الستينيات

منتصر القفاش
إذا كا جيل الستينيات، قد اتخذ من مقولة محمد حافظ رجب "نحن جيل بلا أساتذة" مصباحا استضاؤوا به للخروج من عباءة الآباء، فإن الجيل التالي لهم كذلك، حاول جاهدا الخروج من سطوة جيل الستينيات، فسعى لأن يخلق لنفسه مسارا يبتعد به، عما اختطه السابقون. وإذا كانوا ، لم يستطيعوا الخروج، كليا، فبقي الكثير من البقايا، فلم تحدث القطيعة الكاملة، والتي لا يمكن أن تحدث فى الإبداع، فإنهم كذلك لم يستطيعوا الخروج عن تأثير البيئة والمناخ، المتعدد الاتجاهات، والمندرج بكامله تحت سيف السياسة المسلط على كل أنواع الإبداع.

فإذا كان جيل الستينيات، قد وقع فى حيرة الحب والغضب .. حب النموذج اليسارى الذى بشرهم به ضباط 1952، والفرح بما أحدثه من تأميمات، تصوروا معها أنهم استردوا بعضا من حقوقهم التي تصوروها. والغضب من تزايد يد الأمن القابضة على الأقلام والألسنة، ومرارة المعتقلات، فجاء إبداعهم، أشبه بالآنين المكتوم، أو بفوران البركان تحت الرماد. وجاء جيل ما بعد الستينيات، أكثر انكماشا داخل النفس، ومحاولة البعد عن الدخول فى مشاكل السياسة، ومحاذيرها، إلى جانب قناعاتهم بلاجدوى محاولات جيل الستينيات، فى استعادة الحلم من جديد، فاختطوا سبيلا آخر، وأصبح الاتجاه إلى الداخل، وتم تشييئ الإنسان وتوحده مع الموجودات الساكنة، وكأنه تعبير عن سكونية الإنسان ذاته.

وقد يكون أكبر نموذج لتلك المرحلة، مجموعة "نسيج الأسماء" لأحد أبرز أبناء إدوار الخراط- أدبيا- وحساسيته الجديدة " منتصر القفاش". والتى تثير قضية جديرة بالدراسة، عن العلاقة بين الإنتاج الإبداعي والقارئ. فربما كانت حداثة الرؤية، ومحاولاتها الأسلوبية، وتراكيب اللغة، ما يخلق فجوة بين المرسل والمرسل إليه. الأمر الذى يُحتم أهمية تدخل الناقد، أو القارئ المتمرس، لصناعة الكوبرى الذى يصل بينهما، ليحدث التواصل. وكذلك غياب المعنى الكلى –المباشر – وراء التركيبات

اللغوية المكثفة، وما نراه فى عنوان المجموعة "نسيج الأسماء"[9]الذى يستدعى قوله تعالى( وعلم آدم الأسماء كلها)[10]والتى تضع العنوان، وبالتالي رؤية المجموعة، في العموميات، حيث تشمل (الأسماء) المعارف، او التعريف بكل شئ من الإنسان والحيوان والنبات والجماد، بينما (نسيج) توحى بالتضفير، وكأننا أمام تضفير المعارف بالموجودات جميعا، دون تخصيص، او تحديد. كما يستدعى العنوان، راوية البرتغالى "جوزيه ساراماغو" "كل الأسماء" بما تحويه من عمومية ، وغياب الفواصل والعلامات، فلا اسم محدد لأى من شخصيات الرواية. فنحن هنا أيضا أمام الكلى، أو العمومى، او المطلق، وكأن الموجودات قد توحدت جميها فى "نسيج" واحد.

فإذا ما تأملنا – مثلا – قصة "ملء المدى" والتى قد تبدو منذ العنوان، شحيحة الدلالة، بخيلة التأويل، إلى جانب أهمية "تشكيل الحروف" حتى يمكن تتبع القصة – التى ربما خلت من القصة، بمعناها التقليدى-. والتى فيها تحول الإنسان إلى "زجاجة" أو تحولت الزجاجة إلى إنسان، فاقدا الغطاء، وبدلا من أن تُعبأ بالماء، عُبأت بالرسائل { وجدت رغم عودتى بها كاملة، أن زجاجة رغبت فى الرحيل، دون حمل رسائل.. دون أن تُسد فتحتها. تركت للماء ملء جوفها، وللتيار أن يجرفها بعيدا}. وقد اختار الكاتب البحر، لاندفاعات التيار، وما يحدثه من مد وجزر، يلقى خلالها برسائله الزمنية، للآتى، يُخبره عن الماضى {تغطى الأمواج الشاطئ، لتعود تنحسر تاركة أكفا تتشبث بآثار أقدام وتحفر نداء غير منته}. لتصل إلى السؤال الوجودى، آأحرار نحن، ام نحن مسيرون {صحت راغبا فى إسماع ما مضى:- أمِلكٌ لى الرسائل أم مالكة لى؟}. وتمر الدهور، ويتعاظم السؤال حول المجهول، الذى لا سبيل للإجابة عنه {هل كنت طالبا إجابة؟. عودتى لسؤالى القديم-أعرف- يعيد لى رؤية تلك المراكب التى حاصرها البحر وأفضى بها إلى انتظار مستحيل، وامتدت كل الأيدى داخلها تلقى بزجاجات تعكس أشعة شمس كأنها استقرت فى قاعها واهبة للأفق قراءة كل ما حملته من كلمات، شف عنها زجاجها دون ابتغاء الوضوح، ظلت الأمواج تدفعها نحو المراكب حتى اختفت، وظن ملقوها أنها استقرت فى القاع}. ولتتحول القصة كلها إلى سؤال الوجود، ورحلة الإنسان فيه، محمولا على تيار الزمن، وكأنه محمول على مركب شراعى، لابد يوما، سيصل إلى القاع.. ويتوه فى زحمة القادمين. ولتتحول الرؤية السياسية هاهنا فى الكمون، والتقوقع داخل الذات، والتيه فى عالم ليس له شطآن. مقروءً من خلال المحيط الاجتماعى، السياسى.

وإذا كنا قد رأينا أن قصص القفاش، هى بالدرجة الأولى قصص أسئلة، تبحث عن إجابات قد عجز العقل البشرى عن الوصول إليها، فإنها بذلك تقترب كثيرا من التجارب الصوفية، والتى نراها نوعا من الهروب، نتيجة العجز. فراح يجسم المطلق، ويجسد الغيبيات، فى عملية تغييب وهروب من الواقع. ومن المسلمات، أن الإنسان لا يهرب إلا مما يخافه، او يجهله، بمعنى عدم القدرة على معايشته. وبالتالى فإن كتابة مثل هذه الكتابة، هى كتابة سياسية، ترفض الواقع الذى لا تستطيع معايشته، خاصة إذا استخدم الكاتب اللغة الصوفية، المغطاة، والتى لايصل القارئ إليها بسهولة، مثلما نجد فى قصة "وقع الخطى" والتى يوحى عنوانها بالظل، لا بالأصل. فهى تتحدث عن "وقع" الخطى، أو تأثير الخطى، وليست الخطى نفسها. ثم تتناول القصة الخرائط، والطرق، والتى تقودنا إلى التفكير فى "الطرق" الصوفية، وما تعنيه من أن الصوفية ليست طريقا واحدا، وإنما أكثر من طريق، بمعنى أنها أكثر من رؤية، وإن نزعت كلها إلى عملية التجسيد، من تجسيد للذات العليا، أو تجسيد للرسول، وإضفاء الصفات الجمالية (المُتصورة). مثلما نرى فى كلمات شهيدة العشق الإلهى، رابعة العدوية، والتى تجسد فيها الله:

عرفت الهوى مذ عرفت هواك .. وأغلقت قلبي عمن عداك
وقمت أناجيك يا من ترى.. خفايا القلوب ولسنا نرااك
أحبك حبين .. حب الهوى.. وحبا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى.. فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له.. فكشفك لي الحجب حتى أراك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي.. ولكن لك الحمد في ذا وذاك.

فقد هجرت رابعة الحياة التى لا تقبلها، هاربة إلى الملاذ والملجأ، وقد انفتح الاتصال بينهما.

وهو ما نستطيع تبينه فى لجوء منتصر القفاش إلى الذات الإلهية، بحثا عن إجابة أسئلته المُعجِزة، فى قصة "وقع الخطى"، والتى نتلمس فيها الذات الإلهية، الممسكة بكل الخيوط، والمحددة لكل الطرق، تحديدا لا يقبل الحيدة، أو الانحراف { لم يعد يُخرجها من كيسها الجلدى، صار سهلا عليه أن يرسم أى واحدة منها بامتدادات الخطوط وانحرافاتها وتقاطعاتها دون أن يضيف أو ينقص خطا واحدا} {حينما يلمح فى عينى السؤال، ياتى بها ويفرد إحداها أمامى ثم يطوى جزءا من خريطة أخرى ويصل بقيتها بالأولى ويضع ثالثة فى جانب آخر، ثم يطوى رابعة حريصا على إظهار خط واحد يمده بين الخطوط المتداخلة. وينظر إلىَّ ويداه تحاولان أن تبقيا على تكوينه، فأنشغل بتأمل أصابعه وكيف تمسك بكل هذه العوالم} وهو ما يستدعى للذاكرة حديث عن الرسول (صلىم) يقول ما يُقرب المعنى ويوضح الرؤية (إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ما شاء أقامه منها وما شاء أن يزيغه أزاغه). ويؤكد تلك المقولة، ما يذكره السارد، المُسير لما اختاره {حينما أعود إلى البيت من الطريق المعتاد} أى الطريق الأرضى المادى {أشعر دائما بفقدان بهجة السير، خطواطى تجد مبتغاها حينما تسير فى الطرق البعيدة} الطرق المعنوية { كلما ظننت أن الزمن سيقضى على رغبتى هذه أجد عشقى لها رفيقى الوحيد، وأجدها طريقا أمضى فيه دون نهاية} وينفجر السؤال الأبدى، السؤال الوجودى {ما الفاصل بين هذه الطرق كلها وطريق العم؟ هل تتواصل فيما بينها لتبرز خرائط دون أن تتحد، أم تضع الفواصل ليستهدى بها خطوى نحو طريقى الأخير؟}. ويخرج الصوفى من عباءة التدين التقليدى، ويختط له طريقا آخر، ليحيى فكر المعتزلة، القائم على رفض الانقياد الأعمى، وكأنه الرفض، فى رؤيتنا المعاصرة {ما زلت أرى أول الطرق ممتدا أمامىي ذكرنى بوجوده دون أن يحثنى على العودة للسير فيه، يمتد لأبصر العم يحمل خرائطها المخطوطة على ورق حال لونه ويستقر في قلبها أعمدة المعبد المتناثر فيما بينها أحجار كأنها سقطت الآن فقط. لم يهمنى هذا المعبد أبدا، انشغلت عنه بتأمل خرائط العم والسير معه فى طرقه}. ونستطيع هنا أن نرى نظرات الكاتب تُقَلبُ الفضاء الخارجى، بينما قدماه مستقرة على الأرض، فبينما يفكر فى الأمور الوجودية، نجد فى الخلفية الذهنية استحضارا لرواية البريطانى "جورج أورويل" "1984" حيث رمز إلى السلطة (السياسية) ب"الأخ الكبير"، نجد كاتبنا هنا يرمز للسلطة (الدينية) ب"العم". وهو ما قد يعكس رؤية ما تحمله السلطة، اى سلطة على أى مستوى، من تسلط من جانبها، والخوف من جانب الرعية، أو الأتباع، وهو ما قد يبرر خشية البعض إذا ما تحدثنا عن التناول السياسى لأعمالهم.

ونعود للأسئلة الوجودية، وهل الإنسان مُسير أم مُخير { هل آن لى رسم الخرائط أم أن العم أغلق الباب دونها وترك لى الرحيل؟}. وتخرج الرؤية من الوجود الفردى، إلى الوجود الجمعى، حيث جميع الناس، كل له طريق، إلا انها لا تخرج عن أصابع العم، صانع الخرائط {انتظرت أن يتحدث، لكنه أخرج لى أوراقا عديدة قرأت فيها كلمات من مضوا معه، والخطوط التى حدد بها خرائطهم، لم تكن متشابهة، لكن تباينها يبين عن مفترقات الطرق المنتشرة فى كل واحدة منها}. وليخرج القفاش عن إطار دراما القصة التقليدية، ويقدم نوتة موسيقية اعتمدت على تفاوت النغمات، الحاملة فى طياتها البحث عن إجابة للأسئلة المزمنة.

كما أشرنا من قبل، فقد كانت لبدايات الغالبية العظمى من جيل الستينيات، بدايات شاقة، انعكست على كتاباتهم، فاشتملت على التجارب الحياتية، المستخرجة من هموم الشارع، وما لا نجده عند منتصر القفاش، الذى خرجت قصصه من لحظة الكون، أو من داخل الجدران، بداية من "نسيج الأسماء" وحتى "فى مستوى النظر". وهو ما ساهم فى قيام القصص على الكليات، أو الإنسانيات. حتى عندما تناولت القصة، الهم الوطنى المحلى (المصرى)، كما فى قصة "ويوغلن فى الحفر" حيث نجد، أو يجد السارد، ما يمكن أن يكون (خبيئة) تبدو فى البداية على شكل الهرم (رأس مثلث) لكن الكاتب جعلها أشبه بالمغطاة، وأتصور أن أبا الهول قد وقف بجوارها لحراستها، أو عدم السماح لأحد برؤيتها، إلا من استطاع كشف حقيقتها، أو فك لغزها، لنظل نحن نبحث – بين السطور – عن نافذة نتلصص منها على تلك (الخبيئة)، فنجد هناك بعض الإشارات التى تقودنا إلى الوجود المصرى داخل السطور، مثل (بدت قطعة حجرية على شكل رأس مثلث. وباكتمال خروجها، بدت وليس لها شكل محدد. كأنها كُسِرتْ بقسوة وعنف} (كان هناك نقش واضح لفتاة فرعونية.... ومن حولها انتشرت زهور اللوتس) {فى كوب مكسور، وجه مرسوم على حائط الغرفة}. فكلها تشير إلى الوجود المصري –القديم- داخل هذه الخبيئة

تدور القصة حول (صعود) السارد، للساكن القديم فى حجرة السطح، الذى كان كثير الكلام فى البداية، ثم أخذ الصمت يطول بين أحاديثه. يفتح ساكن السطح، لفافة مخبأة داخل كيس من القماش، شيئا محببا إلى ساكن السطح، كان قد وجده أثناء الحفر لبناء بيتهم، لم يهتم بهذا الشئ أحدا غيره، رجاهم أن يحفروا أعمق، عله يجد شيئا مثلها، لكنهم أبوا، فأصبح هو يحفر فى الظلام. وإذا ما تأملنا ظروف وأحوال ساكن السطح ، لأهمية ذلك فى الكشف عن رمزيته.

{لا يعرف السكان أشياء كثيرة عنه. استأجر الغرفة التى فى السطوح منذ سنوات، وكان يخرج مرتديا سترته السوداء القديمة، وقد ظهر حشو ياقتها}. فسكنى السطح، وما يعنيه من أن السارد (صعد) إليه، او سعى إليه، ما يشير إلى مرجعيته. وكذلك قدم المسافة (الزمنية) بين سكن كل من السارد وساكن السطح، ما يفيد بالأقدمية الزمنية، بل مايشير إليه الوصف بعد ذلك، يؤكد ليس القدم، فقط، وإنما التقادم فى الزمن، لنستطيع الاطمئنان إلى رمزية ساكن السطح هذا، وإشارته إلى الزمن، أو (التاريخ). وبالتالى، فالحديث يدور عن استقراء تاريخ مصر، المنقوش على الجدران، والمستخرج من باطن الأرض، فى تلك الأزمنة البعيدة، وما يجعلنا ننظر إلى السارد، او ساكن الشقة الأسفل (زمنيا) على أنه ابن مصر، او المصرى، المحب المتمسك، بما يتصوره شخصية مصر.

ثم تظهر شخصية أخرى، توحى هلاميتها، وعد تحديد مواصفاتها المادية، الأمر الذى يدفعنا دفا لرؤيتها على صورتها الرمزية، ويشير إليها الكاتب فى {عَشِقَتْها مثلى. لم تكن كالآخرين. كانت فى البداية تطيل النظر إليها، ثم انطلقت تحكى عنها. كانت دوما تراها وهى تغنى فوق زهرة اللوتس التى تغطى مياه النهر}. وتطلب من السارد أن (يحفرها) على صدرها، فيتردد فى البداية ثم يُقدم، ويفعل، ليسألها بعد ذلك:{ كيف إلتقيت بها؟ أجابتنى قبل أن تغيب. لم تفعل أنت. بل هى. هى التى أتت. طرقت الباب. كانت تعرف المكان جيدا........ قالت أن أخريات مثلها سيأتين. كلهن يعرفن البيت لكن فى انتظار لحظتهن}. لتتكشف الأمور عن أن الخبيئة، ليست شيئا ماديا، يمكن إمساكه، وإنما هو (المخبأ) فى الصدور، والذى غاب عن مصر تلك الفترة، او تصورها الكاتب كذلك، فراح يبحث عنها فى صدور الأجيال، محاولا إيقاظها فيهم من جديد.

وما يمكن أن يعضد رؤيتنا تلك إذا ما تأملنا تاريخ النشر وظروف المرحلة، وما يكشف أنه مهما تصور الكاتب أنه بيعد عن الرؤية المجتمعية السياسية، فإنه منغرس فيها، معبر عنها، شاء ذلك، أم لم يشأ.

فإذا كان منتصر قد بدأ النشر فى أواخر الثمانينيات، وتحديدا، هذه القصة فى 1987، فإنه يمكن قراءة الظروف الإجتماعية، المنبثقة من الظروف السياسية لتلك الفترة، التى كانت الهجرة الخارجية قد بدأت إلى دول النفط، وبدايات غزو التيارات الوهابية السلفية للبلاد. فنقرأ فى القصة، تلك الإشارة التى يدعو فيها الأب، الذى ننظر إليه أيضا بصورته الرمزية، كوجه للسلطة، ليست الأبوية فقط، وإنما السلطة السياسية.

يدعو الأب ابنه إلى أن يترك تلك (الخبيئة) التى شغلته واستحوذت على اهتمامه، لأنه يريده معه {قال أبى اتركها. أريدك جوارى. حاول كثيرا أن يأخذها منى ليقذفها بعيدا. رفضت. كثرت محاولاته .... فسافرت}. إذ نجد أن هذه الكلمات التليغرافية، شديدة التركيز، تمنح القارئ فرصة تأمل عصر بكامله، كان يُأسس فيه لتغيرات مجتمعية بعيدة المدى، بدأت بالسفريات المتعاظمة إلى الدول النفطية، بحثا عن المادى الخارجى، والعودة بالمعنوى الفكرى المتطرف، قاتل الخارجى، والداخلى معا.

غير ان الأمل لم يغادر الكاتب، فى النهاية، رغم تخوفات الحاضر –حينها-. حيث فى النهاية، يصمت ساكن السطح و{ قال وهو يلتفت إلىَّ فى بطء: انتظر لحظة أن يأتين جميعا. ساطلب منهن أن يحفرنها فوق صدرى ويوغلن فى الحفر. لن أتألم. سأصمت تماما. ربما بعدها أجوب البلاد. وربما أعود إلى البيت}.

تمثل أولى مجموعات القفاش "نسيج الأسماء" مع مجموعة "السرائر" مرحلة فى مسيرته الإبداعية، كانت النظرة العلوية فيها هى الغالبة، او ما يمكن إعتباره المرحلة التجريبية. حيث نزعت المجموعات التالية إلى العودة للقصة القصيرة بتقاليدها المعروفة، كما يمكن القول بأنه قد هبط إلى أرض الواقع، فكانت الرؤية فيها أوضح، تجلى ذلك فى أحدث مجموعاته "فى مستوى النظر"[11] التى دارت بأكملها داخل جدران البيت، كما كان للدور الأرضى منه نصيب كبير، حيث رؤية ومعايشة الشارع. وهو ما جعله يكتب كمقدمة للمجموعة، ما يعكس تلك الرؤية، وذلك التغيير، حتى فى استخدام "يحكي أن" التى لم يكن لها موضع فى السابق {يُحكى أن الدور الأرضى حينما يكنمل بناؤه، يتطلع إلى أعلى متخيلا بقية الأدوار التى ستُبنى .... ويكتفى بقربه من الشارع، وبأنه فى مستوى نظر العابرين، تنطلق تخيلاتهم حينما يثيرهم شئ من خلال الشباك الموارب}. فالدور الأرضى إذن.. هو ما ينفتح معه الفرد على المجموع ، سلبا وإيجابا، أى، فيه، يحدث التفاعل.

وإذا ما تأملنا قصة "الفرجة على الشقة" كأحد قصص المجموعة، فسنجد لغة مختلفة، ورؤية واضحة، متمثلة فى قصة شقة للإيجار بجوار سجن طره. ورغم أن الشقة تطل على النيل، إلا أن إرتباطها بسجن طره، وضع حاجزا نفيسا بينها وبين كل من يفكر فى سكناها {تالت عمارة بعد السجن على طول، كما وصفها لى محسن بنبرة توحى بسهولة العنوان. لكننى شعرت بالضيق حينما تخيلت تكرارى هذا الوصف لكل من يريد زيارتى، واضطرارى مشاركته الضحك حينما يتظاهر بالخوف من السجن}. بل يصبح السجن هو العلامة المميزة للمنطقة، أو التعريف بأجواء الشقة {وبدلا من سماعى كلمات "سوبر ماركت"، السوق، المدرسة، الحضانة، محطة المترو، المعالم الأساسية للمنطقة التى فيها الشقة، صار السجن هو المركز الذى تدور حوله كل هذه المعالم}. وكان إسماعيل هو ساكن الدور الأرضى فى البناية، وحيث أنه يعيش وحيدا، فهو يحاول أن يقنع الآخرين بمميزات الشقة التى (على النيل). غير ان صاحبنا، رفض، حتى، أن يعاين الشقة، وبينما ركب الميكروباص عائدا، كان هناك من يحاول إسماعيل إقناعه بالفرجة على الشقة {حاول إسماعيل أن يجعلنى أنتظر محسنا، وهم بالذهاب لإحضار كرسي ثالث لكننى رفضت، ثم انشغل بمحاولة إقناع الزبون الآخر بالبقاء "على الأقل شوف الشقة"..... وفكرت فى أنه كان يجب سؤاله: كم واحدا ممن استقبلهم رأى الشقة؟}.

تفتح القصة الرؤيا على امتدادها، لرؤية مسببات ذلك الأثر النفسي، الذى جعل الناس يرفضون الشقة قبل معاينتها، ما هى فكرة الناس عن السجن، وما يمكن أن يحدث فيه{وكأنهم خافوا من أن يصيروا نزلاء فيه بمرور الوقت}. وتأتى الجملة الكاشفة، والتى تحمل الإدانة للنظام ، حين يردد أن هناك إشاعة بأن السجن سيتم نقله وبناء مجمع سكنى بدلا منه، فتكون الإجابة {سجن إيه اللى ينقلوه؟ ده المساجين اللى جواه أكثر من السكان اللى حواليه}. وهو ما يمكن معه التفكير فى حجم تلك المآسى التى يوحى بها السجن، وعدد المساجين. لتنعكس رؤية السلطة الحاكمة، الحابسة للحرية، والحارمة من الحدود الإنسانية، التى معها يصبح ،مجرد، مجاورة السجن، مرعب ومخيف. ولتصبح الرؤية السياسية هنا أكثر وضوحا.

سعد القرش (1966)
يعتبر سعد القرش، أحد نماذج التواصل الجيلى، الذى يؤكد أن وصف الأجيال لا يعنى القطيعة بين كل جيل وآخر. فنحن نستطيع أن نرى الكثير من ملامح جيل الستينيات، فى كتابة سعد القرش، رغم أنه عندما وقعت نكسة 67 لم يكن قد تجاوز العام ونصف العام، إلا أن كتاب جيل الستينيات، كانت لهم السيطرة على المشهد الكتابى، ولفترة طويلة، الأمر الذى بالضرورة ساهم فى تكوين ذائقة، ومفاهيم الكثيرين من أبناء الأجيال التالية، ونتصور أن سعد القرش، واحدا منهم. تنعكس شخصية سعد القرش، الهادئة، المبتسمة، على كتابته، التى تسير كتيار الماء فى النيل ساعة العصارى، مشحونة بتلك الأجواء المُتصورِة، على قلتها، فهو ليس غزير الإنتاج، إلا أنه له بصمة فى كل ما كتب (6 روايات ومجموعتان قصصيتان). ورغم طغيان العطاء الروائي على القصصى، إلا أننا نستطيع أن نجد الرواية عنده، مكتوبة بتقنية القصة. الأمر الذى يدعو لدراسة القصة القصيرة، وكأننا ندرس الإبداع ـ عامة ـ عنده، خاصة إذا علمنا أن سعد القرش، كاتب منحاز، بمعنى أن له موقفا من الحياة، عامة، والحياة السياسية خاصة.

فى مجموعته الأولى «مرافئ للرحيل» (الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 1993)، وفى القصة الحاملة لنفس العنوان، تتبدى قصة الستينيات، متغلغلة فى حناياها، تبدأ بعملية تقسيم القصة (القصيرة) إلى مقاطع، بدا المقطع الأول منها، كما لو أنه نظرة عامة على الرؤية التى يسعى الكاتب للوصول إليها. كما تميز هذا المقطع ـ أيضا ـ بأحد معالم القصة الستينية، وهو خلو المقطع بالكامل من علامات الترقيم، فجاء، كدفقة واحدة، وكأننا أمام تيار مندفع، لا أمام دوامات أو موجات متتابعة، وهو ما يتوافق مع طبيعة المقطع، النابع من الأعماق، متدفقا عبر الزمن، مارا أمام السارد كشريط سينمائى يستعرض حياة صداقة كانت بين السارد، وصديق عمره «نور»، حتى نصل إلى اللحظة الحالية، في المقطع الثانى، والذى نعيش فيه داخل «المستشفى العسكرى» والتى هى ـ من المفترض ـ مصدر الأمن والسلامة، والأمل، والتى من أجلها اختار الكاتب «المرفأ» فى عنوان القصة، والمجموعة، غير أن هذا المرفأ يتحول إلى «ميناء» للرحيل، ففيه كانت لحظات وداع الصديق، ووداع الطفولة والبراءة.

وإن كانت القصة، بشكلها الحالى، تضع نفسها فى إطار القصة الإنسانية، المحفوفة بالمشاعر الشفافة، وحالات الفقد، المُخلف للمرارة فى النفوس، وما يتبدى منذ أن تبدأ القصة، فى تلك المقدمة التى تعيد إلى الأذهان بدايات عبد الحكيم قاسم، فى قصصه القصيرة، وهى ترسم الجو النفسي، للقصة ككل. فيعرض سعد القرش، تلك المقدمة الشفيفة الحزينة، الشديدة المرارة «أسابق الزمن، فيسبقنى، أدخل فيه راحلا عنه، فيخرج منى، مُعرضا عنى، كأن الذى كان لم يكن، أتأبط حزنى، متفكرا فى الذى لو كان كيف يكون؟ وما هو كائن لو أنه لم يكن، أغمض العين، يرحل القلب مع الراحلين، مهاجرا إلى مدائن بلا عودة، وبحار بلا مرافئ، وأحبة بلا وطن...». فإلى جانب الجو النفسي الذى تُدخلنا فيه هذه الفقرة، فإنها أيضا تكشف عن رؤية العنوان، وما يحمله من مفارقة، فى جملته «وبحار بلا مرافئ» فأصبحت البحار بلا مراسي، يهجع الآيب إليها، ويشعر براحة ولذة الوصول، والأمان، فبدلا من أن تكون مكانا للوصول، فقد أصبحت منطلقا للرحيل. كما تكشف الجملة الأخيرة «وأحبة بلا وطن» عن رؤية الكاتب للوطن، الذى يعنى وجود الأحبة، ويعنى وجود الحب، الذى كشفت عنه في قصتنا إبنة المدينة، بينما غابت ابنة القرية، الحاملة لبقايا الخجل، الأنوثة. وهو ما يكشف لنا عن الرؤية السياسية المخفية وراء سطور الأحاسيس الإنسانية، إلى جانب الرؤية الأفلاطونية، التى ترى انقسام المجتمع ـ أى مجتمع ـ إلى طبقتين. وهو ما نراه فى الكثير من قصص المجموعة، واضحا، هناك، ومستترا، هنا.

ففى المقطع الأول، نتعرف على تلك العلاقة الممتدة منذ ألعاب الطفولة، بين السارد، وصديق عمره «نور» والذى يدعونا للنظر إليه على أنه ليس مجرد اسم فقط، وإنما هو صفة كذلك، كما يشير الكاتب إلى محبوبة صديقه «بسمة» التى تحمل المعنيين أيضا، الاسم والصفة. فى استعادة فترة الطهر والبراءة التى عاشها الصديقان، يحلمان برفع راية النصر «أو تطوفان الدنيا أو تحلقان فى السماء تراقبان الملوك فى قصورهم وحرس الشرف وراقصة المعبد التى تزور الملوك كل ليلة أو يزورونها والكادحين فى المصانع والمرزارع من طلوع الشمس حتى طلوع القمر الذى يختفى معظم الشهر حياء من نفسه حتى يكف المتعبون عن الأشغال الشاقة ويستريحوا فى دورهم ساعة من الليل..». حيث تكشف الفقرة عن رؤية الكاتب لتلك الازدواجية المجتمعية، بين طبقة تعيش المتعة والبذخ، وطبقة تعانى مرارة العيش، وشُح المتاح. وهو الأمر الذى سبق أن ناقشناه، حيث يخلق ميولا، وإحتياجات، وإلتزامات، متباينة بين الطبقتين، الأمر الذى يؤدى إلى ما يمكن أن يصل للتناحر، ويستلزم تدخل السلطة الحاكمة، أى إلى السياسة. حيث يصبح القلق المجتمعى، وما يمكن أن يصل للصراع، ما يجعل التدخل السلطوى، حتميا، ومستمرا لسير الحياة، وتسييرها، الذى هو مهمة السلطة، وصناعتها للسياسة. وقد يقترب بنا ـ أيضا ـ إلى تلك الرؤية، وبصورة أكثر تعبيرا، تلك الفقرة «يوم العيد تذكرك بأيام الجيش والحرب وأنت واقف بسلاحك تحرسه ويحرسك وتحرسان النائمين والقادة اللاهين ورواد المقاهى الليلية والخمارات وشوارع العشاق فى المدينة البعيدة عن المعسكر». فقد انقسم معسكر المجتمع، إلى معسكرين، غير ملتقيين.

ولم تكن أحلام الطفولة تخلو من حلم الوطن، والدفاع عنه، ضد ذلك العدو «المرابط خلف التباب والدشم متخفيا وراء خيمة من ظلام والمدافع الثقيلة مصوبة إلى عنق من يفكر فى اقتحام المجهول ومن يحب الوطن الذى ترفع رايته تُحَييها فى طابور الصباح كل يوم فى المدرسة». وقد سار ذلك الحلم مع الصديقين، عبر الزمن، إلى أن إلتحقا بالجيش، وأصيب الصديق «نور» ليصبحا معا فى المستشفى العسكرى الذى نواجهه فى المقطع الثانى، والذى ننتقل فيه من التعميم إلى التخصيص. «فى المستشفى العسكرى، خلا لنا الجو، سألته إن كان أحد القادة أتعبه أو عاقبه، قال إنه حقا مريض، والنحس يطارده أينما حل..». ثم يخبرنا الصديق «نور» أن السرير الذى ينام عليه هنا.. مات العسكرى الذى كان يسكنه من حوالى شهر. وهو ما ساعد فى ازيداد ما يحمله الصديق من حزن، أراد السارد أن يسرى عنه، فذكر له، حبه القديم «بسمة»، ليقول الصديق أنه رأى بهذا المستشفى من تشبهها. يخرج السارد بحثا عنها، ليجد اثنتين من الممرضات، واحدة تشبه «بسمة» في عينيها الخضراوتين، تبدأ فى سؤاله عما يريد ويبحث، فاستنكر أن تكون من تحمل عيون «بسمة» بهذه القسوة. فاستدعى الأخرى ليسألها حقيقة صديقه، فحاولت التهرب قائلة «وهكذا، كما ترى، مهنتنا أن يرانا الناس فى المصائب، ويسمعوا منا كل ما هو غير سار» فيثور الفضول، والخوف فى قلب السارد، ويسأل المزيد، لتخبره «يؤسفنى أن تسمع منى هذا الكلام، أرجو أن يكون سرا بيننا، صاحبك، يجب ألا تفارقه، هذه الأيام، صاحبك..» فيثور السارد منفعلا، ويصفع الممرضة. ويكون «نور» قد سمع طرفا من الحديث، وعلم بالنتيجة، ويدخل الخيال، ليصور المشهد، خالطا بين الصورة والحقيقة، كاشفا عن بعض الإشارات الدالة «فتحت صدرى، وفتح جناحيه. احتضنته واحتضننى، بكيت وبكى. حلقنا بعيدا. عند مفارق الطرق، فقد الأجنحة. سقطنا أعلى الجبل...... تدحرجنا على رؤس الصخور، وعظام الأجداد ، وحبال الدم تلفنى من كل مكان. حتى كان القرار..». لتكشف لنا الجملة الأخيرة «حتى كان القرار» حقيقة الرؤية (الإنسانية/ الوجودية) حيث نكتشف أن القرار لم يكن إلا قرار الوجود، قرار النهاية، قرار الفراق، القرار الإلهى بالموت، فانطفأ «النور». خاصة إذا ما تأملنا «فتحت صدرى، وفتح جناحيه» حيث الصدر هو للموجود، والجناحان هما من سيصعد بهما من أِتُخذ القرار بشأنه. وهما فى النهاية «إلى جواره فى سكون». أما إذا عدنا إلى «تدحرجنا على رؤوس الصخور، وعظام الأجداد، وحبال الدم تلفنى من كل مكان». فإنها توحى بناتج الحروب، على مر التاريخ، منذ الأجداد، والعظام ورؤوس الصخور التى ترطمها، والدماء المسالة، هى ما تبقى من الحروب، وغاب «همس العصافير منادية كل طيور الأرض والحمام واليمام وعصافير الجنة» غاب السلام. ويزيد الأمر إنكاشافا، صخرة السارد فى وجهة الممرضة عندما أخبرته بحالة صديقه.. «يا أولاد الكلب.. يا أولاد الجزارين». وقد توحي الأخيرة «الجزارين» بفعلة شنعاء تركتبها إدارة المستشفى، وهو ما كان يمكن أن تغير سير اتجاه الرؤية، إلا ان شيئا عن سلوك أحد بالمستشفى، لم يُشر إلى ذلك. فضلا عن موت العسكرى الذى سكن السرير من قبل، والإشارة إلى الأجداد والصخور، هو ما يرجح كفة الرؤية العسكرية، السياسية. كما كان مناسبا لحد كبير استلهام الكاتب لمعانى القرأن فى وصف صعود الشهداء المضرجين بالدماء، إلى السماء «مصحوبين بتهانى أهل الأرض والسماء الدنيا ذات المصابيح التى تحرق الشياطين وتنير طريق العابرين حتى يبلغوا المنى» فى إشارة للآية «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين».

ثم لو تأملنا اختيار السارد للممرضة الأصغر، ولم يختر تلك التى عشقها «نور» فى فترة الطفولة، او فترة القرية، وحب القرية، لوجدنا أن من أماته (معنويا) بخبر المرض المميت، ابنة المدينة، وليست ابنة القرية. فها هو «نور» يعتذر لصديقه «لكن عذراً، تخليت عن وعدى، عن وعدنا بعدم الزواج إلا من بنات قريتنا». فترك القرية، الهجرة من القرية، الهجرة من الحب، فيه الهلاك. فنحن هناك أمام رؤية، قد تبدو إجتماعية، ترى فى الريف، وفى الطفولة البراءة والطهر، وترى فى المدينة الموت. وهو ما نستطيع به أن نوسع من الدائرة، ونتمثل الوطن فى القرية، إذا دفعتنا الفُرقة، والتفرقة وعدم العدالة، وغياب الحب، إلى الخروج منها، حتى لو كان هروبا إلى الداخل، داخل النفس. أى انها الرؤية المؤدية إلى طريق السياسة، أيضا.

بتأمل قصص المجموعة «مرافئ للرحيل«» نستطيع أن نتبين أن «الرحيل» هو السمة الغالبة على قصص المجموعة، إما رحيل بالموت، أو الرحيل بالذكريات، التى تعود بنا إلى القرية، وعادات القرية وتخاريفها. الأمر الذى يضع القرية فى مواجهة مع المدينة، لترجح كفة المدينة بالطبع، وما يمكن أن نقول عنه «تهميش» القرية وناس القرية. وهو ما نرى معه أن مجرد الحديث عن «المهمشين» هو حديث سياسي، شئنا أم أبينا. فلننظر مثلا إلى قصة «العيد». حيث العيد الكبير، أو عيد «المرق» ليصبح هو اليوم المنتظر طوال العام. وفيها تكلف الأم ابنها (الصغير) بأن يذهب إلى خالته، التى كانت عروسة، حضر هو فرحها و«بعد زواج خالتى بيومين، أخذتنى أمى معها... حطت السبت المغطى بالبشكير، ورائحة ذكر البط المحمر توقظ النيام... خالتى، أعطتنى شيكولاته، وعينى لا ترتفع عن ذكر البط المحمر، لأن أمى لم تترك لنا إلا المرقة!». أمرته الأم أن يذهب إلى الخالة بكيس به تمر وحلوى. فيذهب إلى بيت خالته، ليشم رائحة الصنان، الصادرة من أم (العريس)، الكفيفة، حماة الخالة. ويرى الزوج قد أنهكه المرض، والخالة (العروس) فى خدمة الأثنين.

إن تقديم الكاتب لمأساة هذه النماذج، ما يعنى الاعتراض على وجودها. يعنى فقدان أهل القرية للاحتياجات المعيشية الآدمية. فى إحتياج للمدارس التى تقاوم الخرافات، والمستشفى التي تعالج المرضى، ووو. فلمن يتوجه الكاتب ـ أى كاتب ـ للشكاية و معالجة هذا الخلل؟

وإذا كانت قد تمت الإشارة إلى العلم، كرمز، تربى الأولاد على تحيته كل صباح. وإذا كانت الحرب هى ما أدت إلى الفراق بين الأصدقاء والأحبة، والذكريات، و إلى كل ذلك الوجع، الذى عانى منه السارد فى «مرافئ للرحيل»، فإن صورة عكسية، تتناسي كل تلك الويلات الناتجة عن الحرب، برفض السلام، مع من كان أحد أطراف تلك الحرب فى قصة «فى حديقة الحيوان» التى نستطيع منها أن نشتم بعض ملامح الكتابة الستينية، وهى عملىة تفتيت التتابع الزمنى، أو المكانى، حيث تدور القصة فى ذاكرة ذلك الطفل الذى كانه السارد، فنقرأ فى البداية، بعد نقاط تعنى وجود الحديث من قبل، أو أن الحديث لم يبدأ من البداية «....ثم مررنا على كوبرى طويل، لوحة كبيرة «ممنوع التصوير»، سيارة بوليس تقف فى نهايته، حولها عساكر بمدافعهم» ثم ننتقل إلى القرية «لم تنزل قريتنا إلا مرة واحدة، يومها فر الأهالى إلى غيطانهم» ونعود من جديد إلى أمام حديقة الحيوانات «بانت لنا قبة عالية، قال الأستاذ «هذه قبة الجامعة».»، وعودة إلى القرية «لو كانت أمى معنا الآن... آه لو تعرف ما أنا فيه، ما عارضت أول الأمر». ويجد الأطفال أنفسهم خارج باب الحديقة لتعود الذاكرة الطفلىة إلى القرية، ليرجع بنا الزمن إلى كفاح الجدود «حكى جدى أنه حمل سعد باشا على كتفيه، هنأنى الناظر، وصفقت لى المدرسة كلها بعد أن أديت دور أحمد عرابى، فى تمثيلية بالمدرسة» ثم عودة إلى الرحلة «ثم تابعنا الطواف» ثم عودة للتاريخ «محمد فريد، وهم يلفون ورائى، سحرتنى عيون مصطفى كامل حسبتها صورة أبى ليس بها طربوش، بل طاقية جيش، كثيرا ما سألت أمى عنه، ولماذا لم يعد؟! .... ظلت أمى تقول «سوف يعود» . جدى قال لى «أبوك مات شهيد فى الحرب الأخيرة، مات شهيدا». وكأن الكاتب يرفض أن يكون كل ذلك التاريخ، واستشهاد الأب، تكون نهايته، ذلك المشهد التالى: فقد رأى الأطفال علما مرفوعا فوق بناية عند نهاية الكوبرى، تقف أمامه سيارة الشرطة، تجمع الأطفال ينظرون إلى العلم، بينما يراهم بعض طلبة الجامعة، فأسرعوا بخبرون طلبة الجامعة بأن مظاهرة أمام السفارة الإسرائيلية، ليخرج طلبة الجامعة، فى الوقت الذى رفع الأطفال الأكف بجوار الرؤوس يهتفون تحية العلم فى طابور الصباح «تحيا جمهورية مصر العربية». وبينما يتسلل الأطفال من بين أرجل الكبار، شاهدوا قوات البوليس تدفع الكبار إلى داخل العربة. حيث نستطيع أن نستقرئ أبعاد ذلك التجمع الرافض للتطبيع، أو الرافض للسلام، من الطفولة إلى مرحلة الشباب، وكأنه يعلن أن العداء (فطرى)، ومن كان ذلك تاريخه، لا يجب أن يقبل بالسلام، مع دولة اصبحت الكراهية والعداوة التاريخية هى كل ما بيننا. وهى فى ذات الوقت رؤية الغالبية الكبرى من كتاب جيل الستينيات.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

 

[1] - عبد الحميد محمد على زرؤم - أستاذ البلاغة والنقد، المركز الجامعي، النعامة، الجزائر.– الخطاب السياى عبر الأدب.

[2] - د. عصام سليمان أستاذ علم السياسة بالجامعة اللبنانية – مدخل إلى علم السياسة - دار النضال للطباعة والنشر والتوزيع بيروت – ط2 1989 .

[3] - دإبراهيم درويش – النظرية السياسية فى العصر الذهبي – دار النهضة العربية -1973.

[4] - الجريدة 10 يناير 1914عدد 2076.

[5] - أحمد لطفي السيد – تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع – مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة – 1914.

[6] - عماد أبو غازى – جريدة الشروق – الجمعة 10 مايو 2013.

[7] - هاني الهندي – الحركة القومية العربية- مركز دراسات الوحدة العربية – بناية النهضة لبنان ط2 أكتوبر 2015.

[8] - محمد الغزالي – حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي – نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع – ط3 2005.

[9] - منتصر القفاش – نسيج السماء – كتاب الغد – دار الغد للنشر والدعاية والإعلان - 1989.

[10] - الاية 31 من سورة البقرة.

[11] - منتصر القفاش – فى مستوى النظر – دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع –ط1 2012.