عنوان فيلم صوفيا كوبولا "Lost in Translation" نصٌ قائمٌ بذاته، هنا يأتي عمل المترجم القدير سمير جريس، نقيضًا لعنوان الفيلم، فهو يُنَقِّب بذهن المحقق المتشكك، ونزاهة المثقف العائش بين عالمين، عما هو ضائع فعلًا في الترجمة، مؤكدًا على الدقة كقيمة خلقية والتزام، مفندًا الأثر الممكن للترجمة الرديئة على قضايانا: القضية الفلسطينية مثالًا، وكيف تناولها فريدريش دورنمات الذي طالما تُرجِم للعربية منذ الستينيات، وكيف أساء فهم الصراع؟ وهل جاء ما نقله يوسف إدريس عن لقائه به، متأثرًا بعيوب الترجمة؟ وعلى أي ترجمة يوقع المفاوضون؟ مقدمة المترجم والمقطع من نص «أبو حنيفة وأنان بن داود» يثيران أسئلة مسكوتًا عنها.

أبو حنيفة وأنان بن داود

فريدريش دورنمات

ترجمة وتقديم: سمير جريس

 

أولًا: مقدمة المترجم

«عطل» دورنمات وأعطال التواصل بينه وبين يوسف إدريس وأبي حنيفة
بزغت شهرة الكاتب السويسري فريدريش دورنمات (1921 – 1990) في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بعد أن كتب مسرحياته الكبيرة، مثل "رومولوس العظيم" و"زيارة السيدة العجوز" و"علماء الطبيعة". آنذاك لمع اسمه واحدًا من أشهر كتّاب الدراما في المنطقة الألمانية، وقُدمت مسرحياته في كافة أنحاء العالم. وسرعان ما أصابت "حمى" دورنمات العالم العربي، فتُرجم عدد كبير من مسرحياته إلى العربية (بتوقيع مصطفى ماهر وأنيس منصور وآخرين)، وقُدمت أعماله أو اقتُبست على خشبات المسارح العربية بنجاح متفاوت.

أما أعمال دورنمات القصصية والروائية فلم تحظ بالشهرة ذاتها، رغم أنها لا تقل قيمة وجمالًا عن أعماله الدرامية. بدأ دورنمات حياته كاتبا للمسلسلات الإذاعية البوليسية، وتعلمَ آنذاك أن يستخدم الإثارة لجذب المستمع. لكنه برع أيضًا في مناقشة قضايا كبرى تتعدى "الحدوتة" البوليسية المشوقة. وأعتقد أن تأثير هذه الفترة عليه ظل طاغيًا، وهو ما نلمسه في عديد من رواياته، مثل روايته المشهورة "الوعد"، وكذلك في القصص الثلاث التي تضمها هذه المجموعة، لا سيما قصة "العُطل" التي يتطرق فيها إلى قضية من قضاياه الأثيرة: مسؤولية الفرد عن الأفعال التي لا تطالها يد القانون، وعجز القانون عن تحقيق العدل. هاجس "العُطل" لم يفارق دورنمات حتى بعد أن كتب القصة عام 1956، فحولها بعد سنتين إلى تمثيلية إذاعية، ثم بعدها بسنوات إلى عمل درامي مُثل على خشبة المسرح عام 1979. وكان مارسيل رايش رانتسيكي، شيخ النقاد الألمان، قد أشاد بثلاثة أعمال لدورنمات واعتبرها الأبرز بين إبداعاته الباقية، وهي مسرحية "زيارة السيدة العجوز" ومسرحية "علماء الطبيعة"، وقصة "العطل" التي اعتبرها دورنمات نفسه أفضل أعماله النثرية (غير المسرحية).

ولعل قصتي "النفق" (1952) و"العطل" (1956) تلقيان ضوءًا كاشفًا على جانب آخر مهم في أدب دورنمات، ألا وهو إيمانه بالصدفة التي ترتقي عنده إلى مصاف القانون؛ كما قال دورنمات نفسه في حوار طويل أدلى به إلى القاص والكاتب المسرحي الكبير يوسف إدريس (1927 – 1991)، وذلك في بيت دورنمات على ضفاف بحيرة نوشاتل في منتصف الثمانينيات. لم يكن غريبًا أن يسعى يوسف إدريس -الذي حاول ترسيخ "مسرح عربي"، وكتب مسرحيات مهمة مثل "الفرافير" و"المهزلة الأرضية" و"الجنس الثالث" -إلى لقاء عميد الدراما في المنطقة الألمانية. وثقّ إدريس طرفًا من "حواره الحافل" مع دورنمات في كتاب “عزف منفرد” (دار الشروق المصرية 1987)، وفيه يقول دورنمات عن الصدفة: إن العالم الذي نحيا فيه ليس له قدر محتوم يسير إليه وينتهي بنهايته، بل هو يسير بطريق الصدفة العشوائية، لذلك لا يمكن التنبؤ على وجه الدقة بما سيحدث غدًا. ويرى دورنمات أن الحتمية -حتى التاريخية منها -قد استُبدلت بالاحتمالية.

أما القصة الأخيرة في هذه المجموعة، قصة "أبو حنيفة وأنان بن داود"، فلها قصة غير بعيدة الصلة عن الحوار الذي دار بين إدريس ودورنمات.

كتب دورنمات هذه القصة عام 1974 قبل زيارته لإسرائيل، هذه الزيارة التي كانت، على حد وصفه، حدثًا مهمًا في حياته. هناك ألقى عدة محاضرات بمناسبة حصوله على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة بن جوريون، وفيها عبّر عن رؤيته لقضية الشرق الأوسط، تلك الرؤية التي ربما كانت سائدة آنذاك بين مثقفي الغرب. إنه يقارن بين هتلر وعرفات، وينزع عن الفلسطينيين صفة "شعب"، ويقول بالحرف الواحد:

"بدون إسرائيل كان الفلسطينيون سيبقون أردنيين أو مصريين. إنهم فلسطينيون بفضل إسرائيل فحسب. ولأن عرفات يخوض في السلم حربًا، فهو يجبر إسرائيل في السلم على الحرب، ويمنح اليهود المشروعية لشن الهجمات الانتقامية على المخيمات الفلسطينية."1

جمع دورنمات محاضراته عن إسرائيل في كتاب صدرت طبعته الأولى عام 1978 بعنوان "علاقات – تأملات -مقالة عن إسرائيل"، واختتم “مقالته” الطويلة (240 صفحة!) بقصة "أبو حنيفة وأنان بن داود". هذه القصة يُمكن اعتبارها تعبيرًا عن رؤية دورنمات للصراع العربي الإسرائيلي. وهنا المشكلة. القصة رائعة كقصة رمزية، كأمثولة عن التعايش بين الأديان، لكنها تتسم بالسطحية والجهل إذا أُريدَ لها أن تكون إسقاطًا على القضية الفلسطينية التي لم تكن عند نشأتها وعبر العقود صراعًا على "أرض الميعاد" أو صراعًا بين اليهودية والإسلام.

في حواره مع يوسف إدريس تطرق دورنمات إلى زيارته لإسرائيل، وقال له: (والعهدة على إدريس، أو على مترجمه)

"أنت لم تقرأ كتابي عن إسرائيل، ولو كنت قرأته لعرفت أن أملي خاب تمامًا في إسرائيل بعد زيارتها. لقد تغيرت إسرائيل كثيرًا، كنت أظن في بادئ الأمر، حين قامت إسرائيل، أنها ستصبح دولة أذكياء، حملوا معهم الحضارة الأوربية، وسيتولون نشرها في الشرق، ولم أكن أتصور أن يتحول هؤلاء القوم الذين عانوا من الاضطهاد إلى دولة كالمؤسسة العسكرية أو ما يمكن أن نسميه (إيران اليهودية)، دولة عسكرية تقتل وتبيد." ويضيف دورنمات: "إنني أعتقد أن هناك مكانًا للدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، وكان يمكن للدولتين أن تقيما معًا تجربة جديدة في بابها، دولة علمانية واحدة فيها العرب وفيها اليهود." (ص 48، 49 من كتاب "عزف منفرد")

هذه اللغة الواضحة والإدانة القاطعة لسياسة إسرائيل التي "تقتل وتبيد" لن يجدها القارئ إلا في كتاب يوسف إدريس. هل هو خطأ في الترجمة؟ أم أن الكاتب السويسري غيّر من قناعاته، أو ادعى ذلك، مجاملةً لضيفه المصري، أو ربما اقتناعًا، بعد مرور نحو عشر سنوات على زيارته لإسرائيل حدثت فيها أشياء كثيرة، منها غزو لبنان؟ وإذا كان قد غيّر رأيه، أليس غريبًا أنه لم يكتب مقالة واحدة يعبر فيها عن خيبة أمله من تلك الدولة التي "تقتل وتبيد"، على حد التعبير المنسوب إليه في كتاب إدريس؟ وهل من الجائز أن يكون ما ورد في حواره مع يوسف إدريس هو رأي دورنمات الحقيقي، لكنه لم يجرؤ على إعلانه إلا أمام الكاتب المصري، ثم عاد بعدها والتحف بالصمت؟

أسئلة كثيرة تثيرها المقارنة بين كتاب دورنمات عن إسرائيل، وما ورد في كتاب يوسف إدريس "عزف منفرد". ولأن الكاتبين رحلا عن عالمنا منذ قرابة ثلاثة عقود، ولأن أحدًا من الدارسين أو الباحثين لم يتطرق إلى هذه النقطة، كما أننا لا نعرف بأي لغة تواصل الأديبان، فلن نستطيع الإجابة عن تلك الأسئلة بشكل قاطع وحاسم.

الأكيد أن كتاب دورنمات عن إسرائيل يخلو تمامًا من "خيبة الأمل" في تلك الدولة التي يذكرها إدريس. مَن يقرأ كتاب دورنمات، يلاحظ أنه متعاطف إلى أقصى حد مع إسرائيل، وأن عقدة الذنب وتأنيب الضمير تجاه اليهود لما تعرضوا له من إبادة جماعية في أوروبا كانت الدافع للزيارة والكتابة. ويلاحظ القارئ أيضًا أن الكاتب لم يستقر على رأي بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي، وأنه ظل متأرجحًا ما بين عقدة الذنب، وبين إدانة الظلم السافر الذي يتعرض إليه الفلسطينيون. لذا ظل يحذف ويعيد الصياغة ويضيف إلى أن تضخمت المحاضرات التي ألقاها هناك، وصدرت في كتاب مستقل متوسط الحجم. ونلاحظ أيضًا أن دورنمات عبّر مرارًا عن قناعته بحتمية التعايش السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وأنهى إحدى كلماته بالقول: "إن على الدولة اليهودية ألا تنسى ما نساه الجميع؛ الشقيق الفلسطيني."2

التناقض بين آراء دورنمات الواردة في كتاب يوسف إدريس بخصوص إسرائيل، وآرائه في كتابه سالف الذكر، يثير تساؤلات أخرى: كيف تصلنا أقوال كتّاب العالم عبر الترجمة (الوسيطة ربما؟)، وما مدى صحة تصوراتنا عن اللقاءات التي تتم بين الكتاب العرب وأدباء العالم؟ هل لنا أن نثق فيما يكتبه هذا الكاتب أو ذاك من انطباعات عن لقائه بذلك الشاعر أو بتلك الكاتبة؟ أم أن سوء الفهم (حتى وإن كان حسن النية) هو مصير تلك اللقاءات، طالما أنها تحدث بترجمة مشكوك في صحتها؟

إنني أتذكر جيدًا رحلة فريدريش دورنمات إلى مصر في مطلع الثمانينيات، وأتذكر الندوة التي عُقدت معه في معهد جوته بالقاهرة، وكيف تحدث بلهجة سويسرية ثقيلة لا علاقة لها بالألمانية الفصيحة التي درسناها، نحن طلاب قسم اللغة الألمانية في كلية الألسن، حتى أن كثيرين خرجوا من القاعة بعد بداية اللقاء بقليل. وأتذكر كذلك مقابلة أذاعها التليفزيون المصري بين الكاتب السويسري الكبير والإعلامية سميحة غالب، حيث دار الحوار بينهما عبر ترجمة قام بها مترجم من هيئة الاستعلامات المصرية كان يجلس معهما في الأستوديو. كانت الترجمة بالغة السوء، مشوهة، ناقصة، ومليئة بالأخطاء التي اكتشفناها نحن الذين كنا ما زلنا في بداية عهدنا بلغة جوته. آنذاك تعجبت من أن دورنمات لم ينهض ويغادر الاستديو، غضبًا واحتجاجًا على سوء الترجمة واستحالة التواصل. كانت فضيحة بكل المقاييس، ظلت مثار تهكمنا وسخريتنا في الكلية طوال شهور. وعندما قرأت كتاب يوسف إدريس، تمنيت ألا يكون المترجم ذاته هو الذي رافق الكاتب المصري الكبير في رحلته إلى سويسرا.

ثانيًا: أبو حنيفة وأنان بن داود*
"ليس حظ الفقهاء دائمًا أفضل من غيرهم، إذ أن تعاليمهم تحتوي أيضًا على متفجرات. في هذه النقطة أيضًا ثمة شبه بين اليهودية والإسلام، يبدو أنها تكمن في الجوهر الإلهي للدينين، فكلاهما يستند إلى كتاب "مُنزل"، وكلاهما لا يكتفي بالتنزيل؛ فكما يكمل اليهود التوراة بالتلمود، ويضيفون الشروح والتعليقات إلى أسفار موسى الخمسة، هكذا يكمل المسلمون القرآن بالموروث الشفاهي من أقوال النبي وأفعاله، أي بالحديث والسنة.

عندما أمر الخليفة العباسي المنصور في عام 760 باعتقال الإمام أبي حنيفة، بعد أن خاض الخليفة نزاعًا فقهيًا مُتعِبًا مع الإمام المتبحر في علوم القرآن الكريم. وقبل أن يترك الخليفة تصريف شؤون الدولة ويلبي نداء الواجب ويعود إلى حريم قصره كارهًا أكثر منه راغبًا، أصدر المنصور أوامره أيضًا -حانقًا على أئمة الدين وفقهائه -بإلقاء القبض على حَبْر يهودي يدعى أنان بن داود. لم يجرؤ أحد على سؤال المنصور عن السبب، وربما لم يكن هو نفسه يعرفه. لعل دافعه كان شعورًا مبهمًا بنوع من العدالة الشريرة التي اتسم بها الخليفة، سيد المؤمنين والكفار. ولكن من الممكن أيضًا أن يكون قد تذكرَ على نحو غائم أن طلبًا قُدم له ذات يوم، دون أن يعرف المنصور بالطبع مَن كتب هذا الطلب. أحد الدواوين الحكومية المختصة بشؤون اليهود؟ أم قدَمَه عدة أشخاص؟ نعم، فجأة يبدو له أنه حلم بالطلب فحسب، حلم برسالة مكتوبة بخط يصعب قراءته، يطلب كاتبها اعتقال أنان لأن أتباعه خرجوا على القانون، ونصَّبوا الحَبْر -الذي تسلل إلى البلاد آتيًا من قلب مملكة فارس التي تكتظ بالشيع والفرق -رأسًا لجماعة اليهود في بابل.

أمر المنصور بإلقاء أنان بن داود في غياهب المغارة القذرة التي قبع فيها أبو حنيفة. فتح السجّان العملاق الذي كان يمسك بأنان بن داود بابًا حديديًا صغيرًا لم يكد يصل إلى خصره، أُحكم إغلاقه بدعامتين من خشب البلوط، ثم أجبر الحَبْر على أن يُحني قامته، وبركلة هائلة دفعَ به إلى الزنزانة. رقد الحبر وقتًا طويلًا فاقد الوعي على الأرضية الحجرية، وعندما استعاد وعيه بدأ يتعرف تدريجيًا إلى ملامح الزنزانة التي أُلقي به فيها: مربعة الشكل، ضيقة، عالية السقف، بها طاقة صغيرة ذات قضبان حديدية كانت هي مصدر الضوء الوحيد، طاقة عالية في مكان ما من السور الخشن، لا تطولها يد. في أحد الأركان قبع كائنٌ ما، زحف أنان بن داود تجاهه، ثم تعرف إلى الإمام أبو حنيفة، فزحف عائدًا، وقعد في ركن يواجه رأسيًا ركن المسلم. لاذ الفقيهان بالصمت، كلٌ يعتقد أن الآخر مخطئ، ليس في حق الخليفة المنصور -الذي عامل كليهما أبشع معاملة -بل فيما يتعلق بالحقيقة السرمدية.

كان السجّان الهرِم قد ادعى أنه من الصابئة حتى يتركه الفقيهان في هدوء، لكنه في الحقيقة كان يتعبد إلى صنم أعور علاه الصدأ، وكان يحتقر المسلمين واليهود والنصارى جميعًا، ويعتبرهم بهائم كافرة. دون أن ينطق بكلمة كان السجّان يضع أمامهما يوميًا صحنًا كبيرًا من الطعام وجرة مليئة بالخمر. كان الطعام لذيذًا، تلبيةً لأوامر المنصور الذي لم تتسم وحشيته يومًا بالدناءة، بل كانت دومًا مُنتقاة: اختار المنصور أن يهين كليهما بإجبارهما على تناول الطعام من الصحن نفسه، أما الخمر فإنها تهين أبا حنيفة فحسب. طوال أسبوع لم يطعم الفقيهان شيئا. بالجَلَد الذي يفوق طاقة البشر أراد كل منهما البرهنة على أنه أكثر تقوى من الآخر، وإدخال الخزي إلى قلب الخصم بالتسليم المطلق بمشيئة الخالق. الخمر وحده كانا يتذوقانه معًا، بين الحين والآخر يبللان به الشفاه؛ المسلم حتى لا يموت عطشًا -ما يُعتبر ذنبًا أمام الله -وأنان بن داود، المسموح له بشرب الخمر، حتى لا يظهر أمام أبي حنيفة بمظهر الإنسان الوحشي الذي يزيد من عطش الآخر إذا راح يعب من الخمر عبًا. كانت الجرذان تتقافز حول الصحن، وتملأ المكان كله. في البداية كانت بحذر تجرؤ على الاقتراب، غير أنها ازدادت بمرور الأيام وقاحة.

بعد أسبوع شعر الإمام أبو حنيفة بالغضب تجاه تواضع اليهودي، من المستحيل أن يكون تواضعه حقيقيًا مثل تواضعه، هو المسلم؛ لا بد أن اليهودي يتصرف بدافع من العناد والزندقة، أو بدافع من مكر شيطاني يهدف عبر التواضع الزائف إلى إذلال خادم النبي المخلص، الإمام المُتفقِّه في علوم القرآن والحديث والسنة. انكب أبو حنيفة على الصحن والتهم كل ما فيه، بسرعة البرق وقبل أن تهجم عليه الجرذان المتوحشة فائقة السرعة وكما تعودت أن تفعل. لم يترك الفقيه شيئًا في الصحن سوى بقايا قليلة لعقَها أنان بن داود في تواضع وبأعين منكسرة، وإنْ بشيء من النهم. الجوع يفترس أحشاءه، كما أنه يفكر في التلمود الذي يحتقر الاستشهاد. الجرذان المحبطة تزاحمه الآن، بل تنهش لحمه. وبغتة يشرق الإلهام في نفس أبي حنيفة، ويدرك أن تواضع اليهودي حقيقي لا غش فيه، فيشعر بالخجل والخزي والانسحاق، ولا يعلم أين يختبئ من وجه الله، لذا لا يمد يده في اليوم التالي إلى الطعام. غير أن أنان بن داود -الذي لم يكن من ناحيته يريد إذلال أبي حنيفة لأنه أكل في اليوم السابق، ولأنه مقتنع بتقوى الآخر، ثم لشعوره بالانسحاق أمام تواضع المسلم وأمام الرب يهوه -ينكب على الطعام ويلتهمه بسرعة شديدة، ويفترس كل ما في الصحن من أطايب الطعام بنهم يفوق نهم أبي حنيفة في اليوم السابق؛ فالجرذان تزداد شراهة ووقاحة ووحشية. لكنه يترك أيضًا فضلات يسيرة، كما سبق للمسلم أن فعل.

وهكذا أخذ أبو حنيفة يلعق ما تبقى في الصحن، شاعرًا بالغبطة لإظهار تواضعه أخيرًا أمام اليهودي، وعلى النحو نفسه. أثناء ذلك هاجمته الجرذان، وتسلقته وتقافزت عليه حتى غطته، ولم يعد من الممكن التفرقة بين أبي حنيفة والجرذان، إلى أن خاب سعي الوحوش، فانسحبت مُحبطة مُستاءة. من الآن فصاعدًا كان كل من المسلم واليهودي يقعد قبالة الآخر راضيًا وقانعًا، متحليًا بالقدر نفسه من الورع والانسحاق والتواضع، وشاعرًا بالقدر ذاته من الإجهاد بسبب هذا النزال حول التقوى والورع.

لقد أقنعَ كلٌ منهما الآخر، ليس بعقيدته، فالعقيدة لا تتزعزع، وهي متباينة، ولكن عبر المساواة في الورع، عبر القوة القاهرة نفسها التي يؤمن بها كل منهما بعقيدته المختلفة. وهكذا بدأ حديث حول الذات الإلهية، ساعد على الاسترسال فيه ضوء القمر الذي كانت أشعته البهية المائلة تنفذ من خلال الطاقة ذات القضبان الحديدية".

 

هوامش

1-Dürrenmatt: Zusammenhaenge. Nachgedanken. Essay über Israel. Band 35 der Werkausgabe. Zuerich 1998, S. 112 f.

2-المرجع السابق ص 114

* صدرت المجموعة القصصية "العطل" للكاتب السويسري فريدريش دورنمات، ترجمها إلى العربية سمير جريس (دار الكتب خان القاهرية 2020). وتضم المجموعة قصتين طويلتين بعنوان "العطل" و"أبو حنيفة وأنان بن داود"، وقصة قصيرة بعنوان "النفق". والمنشور هنا هو مقطع من القصة الطويلة "أبو حنيفة وأنان بن داود"."