يقارب الكاتب الفلسطيني أخلاقيات حرية الرأي، وضروراتها العملية في الحياة اليومية للفرد وللمجموعة، يعود بها إلى أرض الثقافة العربية، مجادلاً في سلوكية الإنسان، ووعيه لثقافة الحوار، كي يصل بسجاله مع القارئ إلى موقف فكري ينتصر لمفهوم النسبية ومقولة العقلانية وإرادة الفعل البشري

جوهر حرية الرأي

ومشاكل أخرى في طريق الثقافة العربية!!

نبيل عودة

هل هناك حدود لحرية الفكر والرأي؟ ما هو الفكر؟ ما هو الرأي؟
أسئلة بديهية، ولكنها تبدو أشبه بالمسائل الفلسفية الكبرى في الثقافة العربية. هل تطورت في مجتمعاتنا العربية ثقافة الحوار أم تسيطر ثقافة اللاحوار؟ هل نحن مجتمع مدني، أم أن المدنية أضحت من البدع التي يجب قمعها؟ هل هناك من فكرة مقدسة لا يمكن نقدها او التطرق البحثي لمضامينها؟ ما هو الفرق بين الحرية في التفكير وبين التحرر من التفكير؟ وهل يمكن القول أن رفض الحوار هو حالة من حالات الحرية أيضا؟ وما الفرق بين الرأي والقدح والذم؟ هل تحتاج الحرية إلى فكر ونظام، أم هي فوضى عارمة ـ تحررية؟

إذن لماذا نكتب؟ ولمن نكتب.. إذا كان كل موقف يعبر عنه أصحاب الرأي ولا يكون متوقعاً من القارئ يجر على كاتبه الويلات والشتائم السوقية والتهديد بالذبح أحياناً؟

كثيراً ما يدور الهجوم حول مواضيع لم يُضمنها الكاتب قي مقاله، وتطرح بشكل لا يتفق مع فكر الكاتب.. ومع ذلك تُلصق به عنوة. ترى هل المشكلة في فهم المقروء، أم هي وجهة نظر مسبقة معادية، بغض النظر عما جاء في النص، خاصة وأن أبرز العدائيين حدة يختبئون وراء صفات ثقافية وأكاديمية؟

كيف نتجاوز مشكلة فهم المقروء.. التي يبدو أنها الآفة المستعصية التي تقف حائلاً بين أصحاب الرأي وامتداد تأثيرهم على مجتمعاتهم.

أليس تضائل دور المثقفين في المجتمعات العربية، هو من ضمن تهافت شرعية الحوار وفهم المقروء.. وتعوق ظهور المجتمعات المدنية العربية؟

ما هو تأثير الجمود اللغوي للغتنا العربية والنظرة الدينية الشمولية على مستوى ثقافة الحوار؟ وما تأثير مستوى التطور الاقتصادي ومستوى تطور أنظمة الحكم والمساحة الديمقراطية وحالة الحريات العامة وتطور التعليم والعلوم والأبحاث العلمية على الثقافة عامة، وعلى أخلاقيات الحوار خاصة؟

أسئلة كثيرة ومشروعة يواجهها المثقفون والمبدعون العرب، في مجتمعاتهم شبه المنغلقة عن حركة الفكر الإنساني، وعن التنوير والرقي الحضاري، الذي صار مقياساً ليس لمستوى العقل فقط، إنما لمستوى حياة الانسان الاجتماعية بكل التفاصيل المتعارف عليها في المجتمعات البشرية.

بالطبع المواضيع المطروحة أكثر اتساعاً من أن يشملها مقال واحد، وسأتناول بعض الجوانب التي أراها أساسية في أزمة ثقافة الحوار في مجتمعاتنا، وهي أشبه بحالة فلسفية تعبر عنها هذه الحكاية. (مراقب في قارب حربي شاهد في إحدى الليالي ضوءاً قوياً أمامه مباشرة. أخبر القبطان الذي قال: أشر له بأننا ننصحه أن ينحرف عن مسار قاربنا فوراً بعشرين درجة. نفذ المراقب الأمر، ولكن جاء الجواب بإشارة تقول أنصحكم أنتم أن تنحرفوا بعشرين درجة. غضب القبطان، وقال للمراقب أرسل له إشارة بأني قبطان قارب حربي وأنا في مسار تصادم معك، وليغير اتجاهه فوراً بعشرين درجة. ووصل الجواب: أنا بحري بسيط وأنا أناشدك أن تغير مسارك بعشرين درجة فوراً. غلى الدم في عروق القبطان: أرسل لهذا الصعلوك إني قارب حربي وسوف أصدمه وأقضي علية أو لينحرف فوراً بعشرين درجة. وجاء الجواب: أنا يا سيدي المنارة.. إذا واصلت ستتحطم أنت وقاربك على صخور الشاطئ أمامي).

لو تأنى الغاضبين والزاعقين بدون تفكير لعرفوا نسبية الحقيقة.. ولفهموا الواقع وقرأوا المضمون بشكل صحيح!! 

المجتمع لخدمة الإنسان أم الإنسان لخدمة المجتمع؟
الفيلسوف كارل بوبر (Karl Popper) عرف المجتمع المنفتح (كتابه "المجتمع المنفتح وأعداؤه") بمدى وضع الفرد في مركز النشاط الاجتماعي. وقال: "إن المجتمعات المنفتحة ترعى الفرد وتضمن له الشروط الملائمة لتطوره، أما المجتمعات المنغلقة، فهي تضع المجتمع في المقدمة على حساب تكوّن هوية الفرد المستقلة وتطورها". وقال: "هذه المجتمعات المنغلقة تميل إلى الانعزال الحضاري، وحتى الموسيقى التي تخلقها هي انعكاس لهذا الانعزال". ومن المؤسف أن كل مجتمعاتنا منغلقة بقسوة (مثل قبطان القارب الحربي لا يرون إلا ما لصق بدماغهم)، ولا يحظى المواطن العربي بالشروط الملائمة لتطوره أسوة بما يجري في المجتمعات الغربية.

نجد مثلاً، أن المجتمع الأوروبي منذ عصر النهضة، رفع من مكانة الإنسان على حساب الفكرة المطلقة المقدسة، خاصة في مجالات الآداب والفنون وفيما بعد الموسيقى، مما أحدث تحولاً ثورياً حطم كل المسلمات القديمة التي باتت تتناقض مع النهضة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية ورقي الإنسان، وجعل من العقلانية مقياساً أعلى للفكر، بينما المجتمعات المنغلقة لم تعتبر الإنسان أكثر من كونه أداة لخدمة الفكرة المطلقة الغيبية. وهذه الفكرة تتجلى بأشكال متعددة في المجتمعات البشرية، والتاريخ سجل العديد من هذه الأشكال، بدءاً من عبادة الفرد في الأنظمة الديكتاتوية والفاشية، وصولاً إلى الطاعة العمياء في الأنظمة الدينية. وكانت ثورة العلوم وتطور الفلسفة قد أرسيا جذوراً هامة للفكر العلمي والبحثي. وكما يقول أبو حيان التوحيدي: "من الاضطرار يكون الاختيار، وليس من الاختيار يكون الاضطرار، لأن الاضطرار من سنخ العالم وسوسه". ويقول هيغل: "إن الحرية هي وعي الضرورة"، أما الماركسية فرؤيتها أن: "وعي الضرورة هو شرط هام للوصول إلى الحرية". أنا شخصياً لا أرى تناقضاً جذرياً بين هيغل وماركس في هذا الطرح. إذ أن الطرح هنا يشبه السؤال الفلسفي البسيط من كان في البداية الدجاجة أم البيضة؟ وبالتالي، التواصل يصبح فعالاً ومؤثراً ومترابطاً بكلا الاتجاهين. وهذا هو الأساسي..!!

ما علاقة ذلك بالحوار؟ وهل يحتاج الإنسان الفقير المحروم من الحرية والخدمات الاجتماعية والتعليم والرقي الحضاري إلى حوار؟

الحرية هي نشاط ينبع من وعي الانسان وإيمانه بهدف. النشاط يثمر، والخمول والاستكانة تجفف الإرادة، وتضيق الرؤية عندما يتوهم الانسان أنه يعرف الأجوبة الكاملة وغير القابلة للنقاش، عن القضايا الصميمية للنشوء والارتقاء يفقد القدرة والإرادة عن إحداث تغيير في مجتمعه، وتصبح كل معلوماته تدور في حلقة مغلقة من الطروحات التي لا تحتاج إلى تفكير، ونقد وأسئلة شك، وكل ما تبقى له اتخاذها مساراً لحياته. وهذه الظاهرة تكاد تكون السائدة في المجتمعات الفقيرة وغير المتطورة. وللأسف نجد أن الدين يستغل من عناصر منتفعة للإبقاء على خضوع واسع لجماهير المؤمنين، ولا أعني ديناً معيناً، إنما هي ظاهرة عامة تشمل كل الديانات. هناك مجتمعات فصلت بين السياسة والدين، وبين العلم والدين، فانطلقت. وهناك مجتمعات لم تزل تبحث عن الاعجازات العلمية التي تجاوزها العلم إلى مرحلة ما بعد العلم.

السؤال: هل يعي المتحاور نسبية الوعي (وعيه أيضاً)؟ وهل يعي الانسان أنه لا يملك لوحده كل المعرفة؟ وأن الوصول لمزيد من المعرفة يحتاج إلى منهج علمي وقدرة على التحليل والمقارنة والاستنباط؟ وأن الآخرين ليسوا أقل شأناً منه؟ وأن ادعاء المعرفة الكاملة هي حالة مرضية أو تعبير عن البدائية وليست ذكاء؟؟

تقول حكمة لا أذكر قائلها: "لو أن الناس لم يتحدثوا إلا فيما يفهمونه، لبلغ السكوت حداً لا يطاق". لذلك يجب الفرز بانتباه بين ما يستحق الاهتمام وما لا يستحق حتى إلقاء نظرة. 

الأفكار المقدسة؟
يقول الغزالي: "المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق، قد لا تنكشف له الحقائق لكونه محجوباً بالتعصب والجمود على العقيدة". إذن الجمود على العقيدة هي حالة من الشلل الدماغي حتى بإقرار الغزالي، ليت المتمسكين بتعاليمه يستوعبون ذلك. وكما قال علي بن أبي طالب: "من جهل شيئاً عاداه".

التناقض الأساسي هنا هو مع نسبية الحقيقة. والفكر الفلسفي الهيجلي يؤكد أن "اللقاء بين علمين، يولد علماً جديداً". وبالتالي ازدياد المعرفة، أو "كثرة الأعمال"، كما يقول الرازي: "سبب لحصول الملكات"، أي لا شيئ ينشأ من العدم، لا شيء ينشأ من الخمول والاستكانة. لا شيء ينشأ من التصورات الموروثة والأفكار النهائية. والجهل إذا التقى بالجهل لا يولد إلا التعصب والانغلاق.

اقرأوا هذه الحكاية، للدلالة على أن لا شيء ينشأ من العدم، أو من العجز، أو من الوهم، (دخل رجل في التسعين من عمره عيادة الطبيب سعيداً فرحاً وتهالك على الكرسي الأول لاهثاً متهدجاً: أيها الطبيب، زوجتي ابنة العشرين تنتظر مولوداً. قال الطبيب بعد أن تأمل العجوز ولهاثه: اسمع هذه القصة، خرج صياد إلى الصيد، أخذ بالخطأ شمسيته بدل بندقيته. وفي الغابة هاجمه فجأة دب ضخم، صوّب الشمسية نحو الدب وأطلق النار عليه وقتله. قال العجوز: هذا مستحيل، لا بد أن شخصاً آخر أطلق النار وقتل الدب؟ رد الطبيب: بالضبط شخص آخر فعلها، هذا ما أحاول أن أشرحه لك).

لو كانت الحقيقة مطلقة لقبل الطبيب رواية العجوز أنه الذي "أطلق النار" فحملت زوجته العشرينية. لماذا فهم العجوز بسهولة أن شخصاً آخر أطلق النار على الدب وقتله، ويستعصي عليه الفهم أن شخصاً آخر "أطلق النار" على زوجته العشرينية؟ هل نستطيع أن نقول أنه توجد حقيقة مطلقة خارج وعي الإنسان؟ أو يوجد موقف فكري مطلق صحيح في كل الظروف؟ وأنه يوجد إنسان مطلق الفهم والرأي من طينة خاصة، كما وصف ستالين الشيوعيين في زمنه، وظلت هذه الفكرة الستالينية الغبية والمدمرة سائدة حتى أيامنا الراهنة، في أوساط غير شيوعية أيضاً، وأضحت عقيدة للكثير من الحركات القومية والدينية خاصة، بحيث لا يمكن حوارهم. لأنهم يعيشون في وهم أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، وأنهم من طينة خاصة ولدت كاملة ديناً وفكراً ومعرفة وكل ما يقومون به هو تجهيز أنفسهم لما بعد "الحياة الفانية"؟ وإذا وجدت حقيقة مطلقة فهي مقدسة إذن، ولا أعني حقائق الدين فقط، حتى المجانين يؤمنون أن حقائقهم مقدسة ولا تناقش. (كان مصاباً بلطف الله يدور في شوارع مدينتي الناصرة، ويدعو الله أن يميت كل الأطباء ويهدم كل المستشفيات حتى لا يظل ولا مريض). بالنسبه له هذه هي الحقيقة. فهل كان يستطيع أحدأ أن يقنعه عكس ذلك بأن المستشفيات والأطباء هم ضرورة لعلاج المرضى وليس لجعل الناس مرضى؟! 

العقلانية... هل من ضرورة لها؟
التقى ثلاثة أصدقاء: متفائل ومتشائم وعقلاني في مقهى، وطلبوا أن يشربوا الماء أولاً. فقدمت لهم ثلاثة كؤوس نصف ممتلئة. نظر المتفائل لكأسه وقال: الكأس نصف ممتلئة. حرك المتشائم رأسه شمالاً ويميناً برفض وقال: الكأس نصف فارغة. ابتسم العقلاني لزميلية وقال: صديقي العزيزين، الكأس أكبر مرتين من الحجم الذي يجب أن تكون فيه.

أين تقع الحقيقة إذن؟!! هل توجد حقيقة بلا منهج علمي؟

"إن الأمم التي لا تعنى بالعلم، ولا تنجز فيه شيئاً، حالها كحال البهائم تأكل وتشرب وتنكح لا غير" كما يقول القفطي (هوالوزير جمال الدين بن يوسف القفطي المتوفى سنة 624 هـ). والذي أعنية أن المتفائل يظن دائماً أن هذا أفضل ما هو ممكن، بينما المتشائم يخاف أن يكون ذلك صحيحاً. فقط العقلاني يرى الأمور بوضعها، وبحقيقتها.

إذن ما هي الحقيقة؟ هل العقلانية تقربنا من الحقيقة؟

لنأخذ العلوم نموذجاً للعقلانية، لأن قوانين العلوم شرحها أسهل. قانون الجاذبية مثلاً هو حقيقة علمية مطلقة لا يمكن للإنسان أن يتجاوزها إلا بمعرفة عقلانية علمية لطريقة عمل القانون في الطبيعة، وإيجاد الأداة المبنية بناء على صيغة علمية، قادرة على خلق قوة دفع "تجعل التفاحة تسقط إلى أعلى" وليس على رأس نيوتن. بينما النظريات العلمية يمكن أن تتغير وفيها جوانب ما تزال خاضعة للبحث والفحص والتطوير، وهي ليست قانوناً نهائياً. هي حقائق نسبية وليست مطلقة، وهناك فرضيات، وهي ما دون النظرية العلمية، وهي مجرد طرح فكري يعتمد على الظواهر، وتحتاج إلى براهين علمية قبل أن ترقى لمستوى النظرية العلمية، وقد لا يثبت منها شيء بعد إخضاعها للحقائق العلمية. حتى فلاسفة المسلمين أكدوا أن: "الإنسان بقوته العاقلة يشارك الله في إدراك الحقائق".

في الأوساط التي تعيش بطمأنينية غريبة تملك الأجوبة الكاملة والواضحة، ولا تحتاج حتى للتفكير بما يقع خارج قناعاتهم الموروثة، والتي لا تحتمل مجرد تساؤل يثير احتمالات تأويل جديد، نجد هدوءاً عقلياً وخموداً فكرياً، ينعكس سلباً على الواقع الاجتماعي برمته. هل يمكن تغيير الحقيقة؟؟!

ربما تعبر الحكاية التالية عن كيفية "التحايل" على الحقائق العلمية، ولكن الحقيقة العلمية لا تتغير. (قال الطبيب للسيدة أنها لن تعيش أكثر من نصف سنة، فالسرطان انتشر، ولم يعد العلاج يفيد. هذه حقيقة علمية. سألت السيدة: هل يوجد ما أستطيع ان أفعله لأطيل عمري؟ شيء خارق مثلاً؟ بعد تفكير قال الطبيب: تزوجي من متثاقف، شاعر فاشل مثلاً، كثير الثرثرة وقليل الطحن.

سألت: وكيف سيساعدني ذلك على التغلب على مرضي؟ أجاب الطبيب: آه.. بالنسبة لمرضك لن يساعد، ولكن ستة أشهر مع شاعر مدعي معرفة وثقافة ستشعرك أن نصف السنة أطول من قرن كامل!!). 

العقائد والحقيقة المطلقة
جميع العقائد الموروثة تؤمن بحقائق مختلفة مطلقة، والإيمان لا ينبع من معرفة علمية، أو من تحصيل دراسي، إنما من ثوابت اجتماعية وعقلية متوارثة. وكل محاولة لإثبات الحقيقة المطلقة لعقيدة ما تبقى تأويلات تدور في إطار القناعة الشخصية والجماعية غير المبررة علمياً مثل النظريات العلمية.

ومن هنا نرى أن قيمة الفلسفة أنها أعطت للإنسان آليات فكرية وبحثية تساعده في الخوض في أعقد المسائل المطروحة بدون طرح إجابات قاطعة أمام الإنسان، حتى في المسائل الميتافيزيائية (الغيبية، ما وراء الطبيعة) نجد أن النشاط الفكري هو السائد، رغم عبثيته أحياناً، وظاهرة الحوار البيزنطي حول المواضيع. يبدو لأوساط واسعة جدا من البشرية أن ما يسميه بعض المثقفين عقلانية ومنطق، هو مجرد هرطقة، وهذا ينبع من ذوي النظرة المغلقة على فكرة واحدة ثابته نهائية. هذا لا يعني أنها فكرة خاطئة، ولكن الخطأ أن نكتفي بحقيقة واحدة ونهمل بقية الحقائق.

من الصحيح إذن، ومن على خطأ؟ هل الفكر الشعبي المتوارث، أم الفكر العلمي والفلسفي؟ تخيلوا لو أن قرار محكمة التفتيش، نجحت كمعيار للفكر الشعبي المتوارث، عندما بحثت في نظام الفلكي كوبرنيكوس، الذي صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها، في بداية القرن السابع عشر. وأيضا لو نجحت في قمع جاليليه، الذي نشر نظرية كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية، وطور علم الفلك والميكانيكيات. تصوروا لو أنها أنهت البحث العلمي وأوقفته عند حدود القرن السابع عشر، وأضحى فكرها قانوناً سائداً في أوروبا لمئة سنة أخرى أو لعدة قرون؟! في أي عالم بدائي كنا نعيش اليوم؟!!

ما أريد الإشارة إليه هو أن المتحاور الذي يؤمن أن الحقيقة كلها إلى جانبه، حواره سيكون ليس حواراً مع أطرش، إنما حوار مع جسم بشري معاصر بينما يستمد عقله التفكير من زمن يبعد عنه عشرة قرون على الأقل. وهذه حالنا التي تجعل الإعلام الدولي يحولنا إلى كوميديا. إذ نبرز بعبثيتنا وتناقضنا مع عصرنا، في لغة الخطابة، في التفسيرات، في الحقوق المدنية والمساواة بين أفراد المجتمع، وفي الغرق بنقاشات تجاوزها الفكر البشري منذ القرون الوسطى. 

هل الرأي الآخر مشروع؟
(سمير يتصل بزوجته: أنا على الطريق السريع، والسائقين جنوا هنا، وورائي قافلة سيارات شرطة تطلق زماميرها، لأوسع لهم الطريق، ولكني لا أجد مكاناً فارغاً على الرصيف لأعطيهم حق المرور.

زوجته: احذر إذن يا سمير، قبل قليل قالوا في الأخبار أن سائقاً مجنوناً يسير على الشارع السريع عكس خط السير.

سمير: مجنون واحد، ليحمني الله، مئات المجانين هنا يسيرون عكس خط السير!!

مئات المجانين؟ أم مجنون واحد؟!! إذن هل رأي صاحبنا سمير صحيح؟ وكيف يثبت مشروعية حالته على الشارع؟).

لا يوجد منهج اجتماعي أو فكري يحدد شرعية الآراء، وبالتالي ضرورة التصادم بينها بالمفهوم الايجابي للتصادم، وليس بما هو سائد في ثقافتنا اليوم، حيث العداء والرفض التلقائي، وتحويل النقاش من الموضوع إلى الشخص. المفترض بالمحاور الجاد الانتباه للرأي الآخر، باحترام نسبي على الأقل، وليس الرد التلقائي بدون تفكير تمسكاً بـ "العبقرية الذاتية"، التي تغذي أوهام تملك الحقائق المطلقة، وبالتالي هي ظاهرة للإنسداد العقلي والتحجر الفكري، وعدم القدرة على الاندماج بحركة الثقافة واندفاعها الذي لا ينتظر المقعدين المقتنعين أنهم وصلوا قمة المعرفة، بجهل عظيم لواقعهم، ومهما اتسعت واتسع إدراكنا لحقائقها الجديدة، نجد أن أوساطاً واسعة جداً ما تزال تعيش على أوهام امتلاكها للحقيقة.

لا يوجد في الفكر والعلوم بمختلف مجالاتها، مقدسات لا يمكن نقدها أو إخضاعها للبحث.

الفرق بين الحرية في التفكير والحرية بنفي التفكير، هو الفرق بين الوعي والجهل. الواعي يعرف المساحة التي يستطيع أن يتعامل معها باحترام لوعي الآخرين ووجهات نظرهم وعقائدهم، بينما الحرية في رفض التفكير هي الفوضى العارمة، وغياب الرأي الواضح أو الطرح العقلاني، أو الاحترام للاختلاف الطبيعي والضروري للمعرفة والتطور.

قرأت طروحات في الفترة الأخيرة حول حرية الرأي والحوار، أثرتني جداً.. رغم أن بعضها ترديد أجوف لمقولات آلية، وتتعلق أيضاً بحق الرأي وحق الاختلاف ومساحة حرية الرأي، وحالة الفكر العربي بشكل خاص. ويبدو لي أن الكثير من المثقفين العرب هم شبه أميين لا يقرأون إلا أنفسهم، ولا يطورون معارفهم، ولا يوسعون آفاقهم. في الأشهر الأخيرة، وبعد اطلاعي على حوارات واسعة في المنتديات، انكشف لي واقعاً مستهجناً ومؤلماً على المستوى العربي العام. القراءة لم تعد صفة للمثقفين، إلا لقلة منهم. معارفهم توقفت حول زمن معرف لا يتحركون إلا داخله. هذا لا يحتاج إلى عباقرة لكشفه، جهلهم يصرخ من جملتهم الأولى، وبغض النظر إن كانت جملة شعرية أو قصصية أو موقف أو فكر.

كما قلت، كل شيء في عالمنا نسبي، وما يحكم الحرية والأخلاق في حقبة تاريخية معينة، ليس نفسه في حقبة تاريخية أخرى. ما يحكم المواقف والتعبير عنها في ظروف سياسية، قومية، دينية أو اجتماعية، ليس نفسه إذا اختلفت الظروف. فالمثقف هو إنسان مسؤول أولاً، وليس مجرد صاحب رأي أو مجتر لآراء القيمين عليه. قد يكون رأيه صحيحاً ولكن أسلوب طرحه خاطئ، أو توقيته خاطئ، أو بعيد عن مشاكل مجتمعه، خاصة في حالة الاجترار والتقليد بلا وعي وبلا معرفة. والذي لا يعرف متى يجاهر برأيه في الوقت الصحيح لديه إشكالية في قدرته على فهم الحدث باطاره التاريخي،.والانتباه لتوقيت الطرح، ولا أقول محدوديته، لأن القانون لا يقيد الفكر، الفكر هو الذي يصنع حدوده ومساحة طرحه وأسلوبه وشرعيته. ونحن ندرس التاريخ ليس لنعرف متى ولد نابليون ومتى مات، أو سيرة غيره من الزعماء وتاريخ صعود وسقوط الدول، إنما لنعرف تجارب هذه الدول، الأفكار التي حركتها، واحتمالات الصواب والخطأ، لنثري معارفنا ونرقى بها، ولنجعل من التاريخ تجربة فكرية نتعامل بها بناء على تطور معرفتنا من سياق التاريخ، لنطبقها على حالات تتماثل في حراجتها وأهميتها ومصيريتها مع ما نواجهه في واقعنا.

موضوع حرية الرأي لا يمكن تلخيصه بجملة أو قانون، بل بحركة الحياة والرقي الفكري والتعليمي والثقافي والعلمي والبحثي للمجتمع، ولأفراد المجتمع ولأصحاب الرأي بالتحديد، الذين يشكلون العنصر الفعال في تكوين الرأي العام الاجتماعي. وبالطبع لا يمكن تجاهل مساحة الحرية الاجتماعية والسياسية داخل دولنا.

إذن هي مسؤولية ليست سهلة، وألد أعداء هذه المسؤولية هو الوهم أن ما أطرحه "أنا" هو الصواب نفسه.

الانفتاح على الرأي الأخر هو الحل، وهو النهج الذي يضمن الاحترام المتبادل، وعدم التشهير بين أصحاب الرأي. وأظن أن التلخيص الأنسب لكل هذا النقاش يمكن تحجيمة بمقولة واحدة: عاش العقل!! 

كاتب وناقد وإعلامي فلسطيني
nabiloudeh@gmail.com