يقدم الباحث والقاص الجزائري هنا تناولا سوسيولوجيا لرواية «كراف الخطايا» والتي يمكن دعوتها برواية انسداد الأفق بالفقر والتهميش في القرية الجزائرية. وهو فقر مادي وروحي ومعنوي يحول دون تلك الشخصيات وفتح أي كوّة نور في هذا الأفق المظلم المثقل بالقهر والجهل.

دراسة سوسيولوجية لشخصية المهمش بالجزائر

في رواية «كراف الخطايا» لعبد الله عيسى لحيلح

الشريف حبيلة

 

لقد انشغل الإنسان في ظل العنف المتصاعد كما صورته الراوية الجزائرية بهموم العيش اليومي، يصل النص في وصفه حد السخرية، يقدم شخصيات تسعى وسط الرصاص والموت خلف لقمة العيش، غير آبهة. وهكذا اُختزل البطل، وهمّش في النص؛ لأنه فقد الرؤية للقضايا الكبرى بسبب قهر الحاضر المعيش. وربما كان ذلك من الرواية بغية التأكيد على أولوية الرؤية في حدود اليومي والمعيش، تتحول فيها الشخصية إلى كادح محروم من أدوات ووسائل الإنتاج، مكبل بقيود القهر الطبقي، لا يعدو أن يكون غير ذلك «المواطن المحروم من فرص العمل، المتخبط على قارعة الشارع الاجتماعي على غير هدى»1، ويكون – الكادح – دالا على مدى الظلم الاجتماعي المضاف إلى قهر العنف، وبذلك تعاني الشخصية إلى جانب الإشكالية الأمنية والسياسية، إشكالية اجتماعية واقتصادية، وما هي إلا الصورة اللغوية لشخصية المواطن الجزائري القابع تحت أشكال العنف المتعددة.

ويكون التركيز في (كراف الخطايا) على الفقر، الصفة المشتركة بين غالبية سكان القرية، يخصه النص بمساحات واسعة، يلجأ أحيانا إلى تكرار حالات الحرمان والجوع والعري، التي يعانيها المهمش الكادح لأجل العيش في قرية أكثر منه تهميشا، تجسد الحرمان من خلال ساكنيها، حتى تصير الحرمان ذاته، تمثله شخصيات ثانوية، تجعل منها اللغة دلالات للفقر والقهر، وهذه نماذج لشخصيات كادحة مهمشة:

«-  السلام عليكم عمي سعيد...كيف أصبحت؟.

أجابه عمي سعيد وهو يبحث عن صاحب الصوت بين الحمير.

هذا أنت أيها المجنون .. الخير إلى الرقبة، والهم إلى الكبوس .. لا .. إنما جرت علي خصومات لا طاقة لي بها، كما أن المرعى قد عز والعلف قد قلّ، فاتفقت مع أخي أن يأخذها معه إلى المشتى»2.

«رد عليه البوخالفي وهو يوقف عربته التي هي عبارة عن صندوق، ذي عجلات ومقبض للدفع، وسطح عليه كتب ودوريات قديمة»3.

«وإن خطر على باله أن يسجل نبيب التيوس، فذلك سهل يسير، فما عليه إلا أن يتذكر اسم عليوة الزوالي، فأهل القرية يعرفونه جميعا، لا لعمله أو غناه أو فقره، إنما لبؤسه وشقاه، فله من الأطفال ثمانية إذا رأيتهم حسبتهم مشردين، وله زوجة ممعودة ومصابة بالصرع والحساسية»4. زيادة إلى بؤسه، كوخه مهدد بالهدم، وأسرته مهددة بالترحيل، بدعوى أن البناء فوضوي، رغم وجوده في المكان منذ زمن بعيد، أما قصة ذلك فالناس جميعا يعرفونها، وهي طمع صاحب الفيلا في قطعة الأرض، يريد توسيع حديقته بتواطؤ رئيس البلدية.

«في مدخل المطعم وجد "ابن الهجالة" – أي بلال – يأكل لمجة، والصندوق الصغير مشدود إلى عنقه، ومن حين لأخر يمسح أنفه بكم معطفه البالي، وكان بطرّته المتهدلة على عينيه يشبه أولئك اليتامى والأطفال الفقراء، الذين برع في رسمهم فنانو عصر النهضة الأوروبية، خاصة عندما ينساب على جانبي وفضته خطان رقيقان أبيضان من المخاط البارد، ويكادان أن يشكلا في منتصف الشفة العليا نقطة مائية كاللؤلؤة الصغيرة لولا أنه يدركها بكم معطفه البالي ويمسحها كما رأيت.»5

هناك أربع شخصيات ثانوية يمعن النص في وصفها مركزا على العلامات التي توحي بفقرها.
- عمي السعيد: تلخص فقره عبارته الساخرة لمنصور (الخير إلى الرقبة والهم إلى الكبوس) وهي اللغة الشعبية في توصيفها للواقع الاجتماعي حينما يكون في أسوأ حالاته (الهم إلى الكبوس)؛ وإذا شكلت كلمتي (الخير/ الهم) ثنائية ضدية تعمق من فقر عمي السعيد بسخرية عنيفة، تتوجه ضد الوضع الإنساني الخاص به، فإن كلمتي (الرقبة) تدلان على الدرجة، فالرقبة أدنى من موضع الكبوس الذي هو الرأس، وبذلك يطغى الهم على الخير، هم يطال حتى الحيوان، حيث يرسل عمي سعيد أتانه إلى أخيه لقلة العلف وجفاف الأرض، مع عجزه عن شراء الكلأ لها.

ويتطابق في الحوار فقر الإنسان مع جفاف المكان، تطابقا يشكل لوحة المعاناة التي يعيشها عمي سعيد وغيره من فقراء القرية، وبذلك يكون وضعه متناقضا مع اسمه، يحقق التناقض ثنائية المثل الشعبي الساخر (سعيد/ فقير)، اسمه سعيد وحاله فقير.

- البوخالفي: تدل على فقره عربته، التي قصد الراوي وصفها بدقة (عبارة عن صندوق ذي عجلات ومقبض للدفع، وسطح عليه كتب ودوريات قديمة)، يتناول الوصف العربة، وليس الشخصية، يركز على وسيلة العمل، التي بوضعيتها تحيل على صاحبها، ومصدر رزقه، وهذا أكيد يكون لشخص محروم فقير مهمش، خاصة وأن الوضع يبدو عبثيا؛ لأن البوخالفي يبيع كتبا لا يشتريها أحد، فقرية يعجز سكانها عن شراء الخبز، ليس بإمكانهم الاهتمام بالكتاب واقتنائه. واختيار اسم البوخالفي يتطابق مع وظيفة الشخصية ليدلا معا على فقره وحاله الاجتماعية القاهرة.

- عليوة الزوالي: إن كنية الشخصية (الزوالي) ذات الدلالة الاجتماعية والشعبية، أكبر دليل على فقره، باعتبار الكلمة في الثقافة الشعبية الجزائرية مرادفة لكلمة الفقر، وهي تختزل الوصف الدقيق الذي خص به الراوي عليوة؛ الرجل البائس الشقي، أب لثماني أطفال كالمشردين، وزوج امرأة مريضة، يزيد من عنف فقره في النص شهرته بين الناس بفقره، يقع ضحية لقهر الحاجة و قهر الغني المسند بالسلطة، تصل به اللغة إلى درجة الرمز، نموذج الفقر، لا تعرف القرية أفقر منه، ويمكن القول أن الراوي بوصفه صيّره الفقر ذاته.6

- ابن الهجالة بلال: وقد أشرنا سابقا إلى الهجالة، فقد مات زوجها، وترك لها بلال، والهجالة اسم شعبي يطلق على المرأة الأرملة، وبما أنها فقيرة، فحتما ابنها فقير مثلها؛ ويتجه الوصف هنا إلى الشخصية، يسلط الضوء على الهيئة الخارجية، تشير اللغة إلى ما لا يقال في النص «وما لا يقال يعني الذي ليس ظاهرا في السطح على صعيد التعبير: على أن ما لا يقال هذا هو ما ينبغي أن يفعل على مستوى تفعيل المضمون، وهكذا يكتسب نص ما، بطريقة أظهر من أية رسالة أخرى، حركة تعاضدية فاعلة، وواعية من جانب القارئ»7، ومن ذلك تكرار الراوي لذكر بلال مرات عدة بصندوقه الصغير المشدود إلى عنقه، يبيع فيه التبغ، ثم تشبيهه باليتامى والفقراء، محاولا إيهام القارئ بأنه كراوٍ عليم، يروي من الخلف/ من فوق، يجهل أن من يحكي عنه يتيم فعلا، فقد سبق وأعلم القارئ بذلك متوجها إليه مباشرة «وما أريد أن أواصل السرد دون أن أعرفك بـ "ابن الهجالة" فهو فتى كما عرفت، قُتل أبوه في ما يسمى بـ"احداث أكتوبر 1988" بالعاصمة حيث كان يشتغل خبازا»8، لذا فإن توظيف التشبيه كان للتأكيد على اليتم والفقر اللذين يقهران بلال، ثم صندوقه المعلق في رقبته، مصدر رزقه.

يقدم النص صورة مفصلة منتهجا الدقة في الوصف، ومفضلا الأسماء الشعبية الوضيعة اجتماعيا (الزوالي، البوخالفي، ابن الهجالة)، يحملها مضمونا مأساويا، تعكسه حياة الشخصيات الحاملة للأسماء، خلق توزيعها في النص بلغة محكمة إحساسا بأن البؤس حال مزمنة، يعيشه أهل القرية، وبذلك يحقق الشرط الذي يحتم على الروائيين الانغماس «بشكل واع في المجتمع الذي يحضنهم، ويحاولون في المقابل، احتضانه فكريا وإبداعيا، ولا محيد للمبدع عن فهم أولويات اشتغال السياسة والاقتصاد، بالإضافة إلى ثقافته الاجتماعية وتملكه لناصية لغة الإبداع (وليس اللغة فقط)»9، فيمكنه تشكيل رؤية واعية للوضعية المأساوية التي يعيشها الفقير والمهمش الكادح دوما من أجل الخبز.

ظلم استأثر منتجوه بخيرات الوطن تاركين الرعية تعاني الحرمان، وقهر الفقر المسلط عليها، إضافة إلى انهيار القيم بين الناس، ومن هنا تحضر الرواية كفنا لتؤكد «أن اختلال ميزان العدل الاجتماعي لم يعد راجعا للنظام وحده، بقدر رجوعه إلى انهيار البناء القيمي لدى قطاعات كبيرة من أبناء الوطن»10، وقد عبر منصور بطل (كراف الخطايا) عن رؤية واعية لقضية الفقر «إيه .. ما أعظمنا لو كان لأغنيائنا بعض قناعة فقرائنا، ولفقرائنا بعض مال أغنيائنا.»11

إن الشخصيات التي قدمتها الرواية، تنتمي إلى الدرجة السفلى من المجتمع، مثلت رمزا للإنسان المهمش الفقير المحروم، جاءت بلا ملامح في واقع اجتماعي قاس، شكلت نماذج سلبية اجتماعيا؛ لأنها لا تملك وسائل تمكنها من الفعل على الأقل في حدودها الخاصة، تفتقر للإمكانات والقوة التي يمتلكها العامل المعارض والمشل لحركتها، والذي مثله الفقر من جهة، والمتسببون فيه من جهة ثانية في مجتمع مسلوب الإرادة «لأن العلاقات الموجودة فيه تظهر بشكل غير إنساني، بحيث أنها لا تقدم للإنسان أي إمكانية للشعور بأن الوجود في العالم له قيمة أو معنى ما، زيادة على ما فيه من موت، وما يواجه الإنسان فيه أيضا من صعوبات في إدراك حقيقة الوجود ذاته.»12

وتبدو اللغة مناسبة للأبعاد الرمزية التي مثلتها الشخصيات والأوضاع الاجتماعية في واقع معاند مليء بالمآسي، تلجأ إلى تصوير العنف الاجتماعي المدمر لكيان الشخصية بقسوة؛ وهو واقع عجزت كل محولات تغييره كي تقضي على الفقر. هكذا يكون النص الروائي قد أكد استحالة التغيير الاجتماعي، مقدما شخصيات تفتقر لرؤية واقعية للعالم المحيط بها؛ لم يتمخض من واقعها وعي اجتماعي، يساهم أولا في درامية المشهد الروائي، فكانت سلبية رغم المحاولات المبذولة استنادا إلى مواقعها ومصائرها؛ تخور عزائمها، وتشل إرادتها تجاه الأزمات، والمآسي الاجتماعية؛ تعبر عن سلبية الوعي الاجتماعي للشخصية الفقيرة المهمشة الكادحة.

 

قسم اللغة العربية و آدابها/ جامعة الإخوة منتوري قسنطينة1

 

الهوامش:

(1) – نجيب العوفي: مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية من التأسيس على التجنيس، المركز الثقافي العربي، بيروت لبنان، الدار البيضاء المغرب، ط1/1987 ص219

(2) – عبد الله عيسى لحيلح: كراف الخطايا ص107

(3)- المصدر نفسه ص 120

(4) - المصدر نفسه ص 120

(5) – المصدر نفسه ص 144

(6) – المصدر نفسه ص 150-151

(7) – أمبرتو إيكو: القارئ في الحكاية، التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية، ترجمة أنطوان أبوزيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب ط1/1996 ص62

(8) – عبد الله عيسى لحيلح: المصدر السابق ص 58

(9) – عبد الرحيم العلام: سؤال الحداثة في الرواية المغربية، أفريقيا الشرق، المغرب  1999 ص 98

(10) – حمدي حسين: الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر 1965-1975 مكتبة الآداب، القاهرة ط1/1994 ص 229

(11) – عبد الله عيسى لحيلح: المصدر السابق ص 151

(12) – حميد لحميداني: الرواية المغربية و رؤية الواقع الاجتماعي، دراسة بنيوية تكوينية، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب ط1/1985 ص 384