لا شك أن الأحداث الأخيرة في فرنسا منذ جزّ عنق المدرس الفرنسي الذي ناقش حرية نشر الصور الساخرة من النبي مع تلاميذه، ورد الفعل السياسي عليها من أكثر الأمور إشكالية في فرنسا الآن. وهو الأمر الذي يتناوله الكاتب الجزائري هنا مثيرا المزيد من الأسئلة حول هذا الموضوع الشائك.

عن أحداث فرنسا الأخيرة

إبراهيـم مشـارة

 

بادئ ذي بدء نتضامن مع الشاب الفرنسي مدرس التاريخ الأستاذ صامويل باتي وعائلته المحزونة، الذي غبن في أيامه، ورحل في شرخ شبابه. ونستنكر الجريمة التي أودت بحياته فالقتل فعل منبوذ في كل الشرائع، وعند كل الشعوب، ينبو عنه الخلق والفطرة الإنسانية. ناهيك عن التمثيل أو قطع الأعضاء. ولقد توالت الأحداث الجسام تترى في السنوات الأخيرة في فرنسا من اعتداء على مقر جريدة "شارلي إيبدو" إلى الهجوم على" الباتكلان" ثم هذا الحادث الذي أودى بحياة المدرس الفرنسي.

كثير من أفعال العنف على التراب الفرنسي والتي ندينها ونتمنى ألا تكرر يردد ساسة فرنسا وإعلامها المفتقد إلى الموضوعية والصراحة أنها من جراء عدوانية الإسلام، ورجعيته، وعداوته للمرأة والحياة بصفة عامة. وأن الأصوليين نتيجة للتربية الإسلامية الظلامية القروسطية يفعلون ما يفعلون ولكنهم لا يذهبون بعيدا في التحليل والمكاشفة والصراحة. إن بعض هذه الأفعال وبعض المشاعر الغاضبة هي أحيانا ردات أفعال سياسية، وسياسة العنصرية في التعامل مع المهاجرين وتصنيفهم ضمنيا مواطنين من درجات دنيا، ووصمهم بكافة أشكال التخلف والتردي والعنف والتأخر المدرسي واللصوصية والإدمان.

إن الأستاذ الفرنسي هو ضحية لخطاب الكراهية والاستفزاز، قبل أن يكون ضحية لسكين ذلك المتطرف الذي ذبحه وقطع رأسه. فهو يعرف فقط حرية النقد والسخرية، ولا يعرف أن مس مشاعر الآخرين فعل فظ أيضا، فما فائدة السخرية من نبي لمجرد الإضحاك والتسلية، في حين أن ذلك النبي يقدسه مليار مسلم. أليست هذه أيضا جريمة؟ إن الشاب القاتل والشاب المقتول كلاهما ضحيتان لخطاب التطرف والتجهيل الممنهج. ولو أن الشاب صامويل تعلم في مدارس"الأنوار" مبدأ الاحترام والنقد البناء، لأمسك نفسه عن مجرد الإضحاك والتسلية؛ ولكن هذه المدارس تحتاج إلى إصلاح كبير، بدل أن تتدخل في مدارس الآخرين وتعلمها المناهج وفلسفة التربية. ولو أن ساسة فرنسا عقدوا ندوة وطنية، واستشاروا خبراء بعد حادثة "شارلي إيبدو"، لتداركوا الأمر قبل استفحاله. ولما وصلت الحال إلى جريمة قتل المدرس؛ ولكنهم ظلوا يطنطنون بالظلامية والإرهاب الإسلامي، حتى وقعت هذه الحادثة، والتي هي مؤشر على تصاعد الأعمال مستقبلا، في حالة ما لم يتم حل المشكل من جذوره، بتجريم الاعتداء على الديانات لمجرد السخرية، وبث خطابات الكراهية والحقد والاستعلاء العنصري.

كما أن ذلك القاتل الذي حمل سكينه وأجهز على الضحية ارتكب خطأ في حق المسلمين والإسلام، فليس موكلا بالرد ولا إنصاف النبي محمد عليه السلام، فدفاعه بهذا الشكل سيعقد من وضعية المسلمين في فرنسا، ويفتح مزيدا من ردات الفعل العنيفة من الطرف الآخر، ومزيدا من مشاعر الاستخفاف والكراهية. ولن تخدم فعلته هذه لا النبي محمد ولا الإسلام في شيء. فالمسألة موكلة برجالات الفكر والإسلام والساسة في فرنسا، والمنظمات الإسلامية والسياسية في العالم العربي والإسلامي، عبر الحوار والاحترام المتبادل وسن التشريعات التي تمنع تكرر الإساءة لمجرد الإساءة، وبث خطابات الكراهية والحقد والاستعلاء العنصري.

إن العقاب مثلا - ولو أنه موقوت وغير دائم ولا يمكن له أن يستمر في مقاطعة البضائع الفرنسية- سلوك حضاري من قبل الشعوب العربية والمسلمة وهو يقول بلغة اقتصادية لا نريد بضائعكم فلسنا مجرد أفواه وبطون مستهلكة، ولكننا أصحاب شرف وتاريخ وعرض، نأبى أن تدنسوه بهذيانكم، فهل كان هذا الأمر بالمفاجئ لهم وهم الذين يملكون مراكز البحث والدراسات الإستراتيجية، ولم يأخذوا العبرة من قضية الرسوم المسيئة في الدانمرك، وما حدث من مقاطعة حتى اضطرت الدنمرك إلى الاعتذار، فلم تكرر فرنسا نفس الخطأ؟

يبدو أنه من كثرة هذه الأحداث الدموية في فرنسا في الفترة الأخيرة أن هذا البلد لديه مشكلة مع الإسلام، وأنه لا يحسن التعاطي مع المغتربين ولا مع الإسلام كحقيقة موجودة على التراب الفرنسي، ولا الإسلام كديانة عالمية أغنت التجارب الروحية الإنسانية ناهيك عن العطاء الإسلامي في حقول المعرفة والتحضر والتشريع.

كثير من الدول الأوروبية لديها مسلمون، ولم تحدث فيها هذه المشاكل. ألمانيا مثلا أو إسبانيا أو السويد، فالتعاطي الألماني مع الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية جدير بالاحتذاء في أروبا برمتها. فهناك فرق بين الحكمة والوقار والرزانة والعلم عند السيدة ميركل وطاقمها، والرعونة عند السيد ماكرون وطاقمه. وإلا فما الداعي إلى هذه التصريحات العدوانية والأقوال الاستفزازية من قبل الرئيس الفرنسي في حق الإسلام؟ هل يريد صب الزيت على النار؟ يخيل إلينا أن الرئيس الفرنسي ينطبق عليه المثل القائل:" أراد أن يغيظ زوجته فخصى نفسه". إنه بهذه التصرفات والتصريحات ينقص من شعبيته، ويؤجج مشاعر الكراهية والحقد داخل الجمهورية الفرنسية التي قد تتحول في المستقبل إلى ساحة حرب بين المدن والضواحي، لا كما كانت في السابق يتهم بها شباب من الجيل الثالث، أدمنوا تعاطي الحشيش أو أخفقوا في دراساتهم كما يصمهم ساسة اليمين الفرنسي. ولكن من قبل جيل من المثقفين والمحترفين الذين يؤذي مشاعرهم سب ديانتهم، والتطاول على نبيهم لا بالعلم والنقد، ولكن بالحقد والضغينة والأحكام العنصرية التي مللنا من تكرارها.

فرنسا التي بها آلاف الأطباء من المسلمين والمئات من الباحثين في المعاهد العلمية الفرنسية والمركز الوطني للبحث العلمي، وفي كافة الجامعات والمراكز العلمية المرموقة مسلمون يساهمون في صناعة مجد فرنسا العلمي والثقافي والفني والصناعي. ولا داعي لذكر الأرقام فهذه مسألة لا يشك فيها أحد حتى من اليمين المتطرف نفسه، فهل يريد السيد ماكرون أن يتوقف كل شيء؟ إن هؤلاء الذين يطعن ساسة فرنسا في دينهم بالسخرية بحجة النقد والفكر الحر المستلهم من ديدرو ومونتيسكو وفولتير وفلاسفة الأنوار، هم الذين يصنعون مجد هذا البلد ولو أنهم وجدوا الحريات والبنى التحية للمعرفة والصناعة والحرية والديمقراطية في بلدانهم ما لجأوا إلى فرنسا. وهم لا يعيشون مجرد عالة على الفرنسيين، حتى أباؤهم من الجيل الأول هم الذين اشتغلوا في أحلك الظروف، وساهموا في رخاء فرنسا الاقتصادي باعتراف الفرنسيين أنفسهم.

ولاشك أن كثيرا من المتطرفين من اليمين الفرنسي الذين يشتغلون أبواقا دعائية لخطاب السطحية والرداءة والكراهية والجهل المؤسس والمقدس كذلك ينطبق عليهم المثل السابق. وكثير جدا من المعتدلين يخجلون بلا شك من مثل هذه التصرفات العدوانية، التي تزيد صب الزيت على النار ولا تحل المشكل في صميمها بالحوار والاعتراف بالآخر خاصة والإسلام هو الدين الرسمي الثاني في فرنسا.

قد يقول قائل إنها حرية الفكر وحرية السخرية من الدين، وفرنسا بلد الحريات. ولكن نذكر الجميع بأن فرنسا نفسها التي تتغنى بالحرية يقول فيلسوفها فولتير "حرية أصابعك تنتهي عند عيون الآخرين." فهناك فرق بين نقد الفكر ونقد الدين، من حيث هو نقد يراد به البحث عن الحقيقة، وبين الحقد وبث الكراهية والسخرية كما فعلت شارلي إيبدو وهذا المدرس. لقد كان المستشرقون الفرنسيون ينتقدون الإسلام في مؤلفاتهم ومحاضراتهم وندواتهم الجامعية والتلفزيونية، فما تعرض لهم أحد بشيء. بل كانوا يأتون إلى العالم الإسلامي مرحبا بهم، وبعضهم يكتب بشيء قليل أو كثير من الموضوعية، والآخر بشيء من الاستعلاء العنصري أو التبعية لوزارة الخارجية الفرنسية، ومع ذلك فإن كتبهم مترجمة إلى العربية. هل نذكر ساسة فرنسا بسلفستر دي ساسي ولويس ماسينيون وبلاشير وجاك بيرك ومكسيم رودنسون وغيرهم؟

هناك فرق بين أن تكتب غير مقتنع مثلا بالإسلام، وغير مقتنع بتشريعاته، مقارنا إياه بديانات وتشريعات وضعية أخرى، كما فعل هؤلاء المستشرقون، وأن تكتب أو ترسم لتحقد وتسخر وتستهزئ. إن في ذلك عدوانية على بشر آخرين يحترمون هذه العقيدة ويدينون بها، ومستعدون للتضحية من أجلها. فأنت إذا تشعل نار الحرب الأهلية بغير وعي منك.

كما أن اتخاذ الهجوم على الإسلام كحصان طروادة للفوز بالانتخابات مرة ثانية من قبل الرئيس ماكرون والتغطية على مشاكل فرنسا الاقتصادية والاجتماعية، باتخاذ الإسلام كبش فداء، مسالة غير أخلاقية وغير ناجعة. لان السحر سينقلب على الساحر.

إن فرنسا التي تعلم الناس معنى العقد الاجتماعي في فلسفة روسو، وفضيلة الدين في الحياة الاجتماعية عند دوركايم، وأهمية التجربة الروحية بغض النظر عن صلتها بالواقع العلمي والخبرة الحياتية كما عند لوسيان غولدمان، ومدرسة الحوليات، مجبرة على سن تشريعات توقف خطابات السخرية والكراهية والاستعلاء. ضمانا لديمومة السلم الاجتماعي. وإلا فهي مقبلة على حرب أهلية تدفع ثمنها غاليا فلم يعد يعيش على أراضيها بضعة آلاف من المهاجرين بل الملايين وهؤلاء لا يرضون بالسخرية من معتقداتهم.

يعلمون الناس المقيمين والذين يزورن فرنسا فضيلة عدم الإزعاج، واحترام خصوصية الناس، ويغرمون من يزعج جاره بصوت مرتفع مثلا في شقة مجاورة له، ويدعون أن هذا من فضائل التحضر والتمدن، ولكن في نفس الوقت يبيحون لأنفسهم إزعاج ملايين الناس بهراء يسمونه حرية فكر، ولو كان نقدا وعلما وفنا بريئا من كل تعصب وكراهية وحقد ما اعترض أحد.

ولنتابع الأمر في قضية الحرية الفكرية وحرية التعبير. لم منعت فرنسا روجيه جارودي من حقه في التعبير؟ ومنعت كتابه "الأساطير المؤسسة للدولة اليهودية" وحاكمته في محكمة وغرمته؟ فأين هي حرية التعبير؟ إن جارودي فرنسي وفيلسوف ورجل مسالم ومجادل بالحسنى، ولم يكتب ليسخر وليحقد بل جمع الدلائل العلمية والتاريخية ليفند أرقاما، فما ذنبه الذي اقترفه لينتهي الأمر به في المحكمة؟ ثم لمَ لم تحمه الجمهورية حين هُدد بالقتل بعد الكتاب؟ واضطر إلى شراء مسدس لحماية نفسه؟

أليس عارا على ساسة فرنسا أن سمحوا في واحد منهم على درجة من العلم والإنسانية وصار في عرفهم مثل متشرد مهاجر، لا يهم إن قتل أو سجن أو غرم؟ هل السخرية من الإسلام حلال والتشكيك في أرقام المحرقة اليهودية حرام؟ وهي نفس الحادثة وقعت للمفكر دافيد إيرفنج في لندن، فقد اعتدي عليه لما كتب كتابه، لكن بريطانيا وعت الدرس أفضل من فرنسا، فتجاوزت قضية الحقد والكراهية. فهي تعرف قيمة المسلمين على أراضيها وأنهم بريطانيون يبدعون ويساهمون ولا مجال للتطاول أو التفاخر أو الاستعلاء.

وعلى ساسة فرنسا أن لا يلتفتوا لبعض الأبواق الناعقة من حملة الأقلام المأجورة من بعض الكتاب والمثقفين العرب، خاصة الذين سارعوا إلى الكتابة عن الظلامية والإرهاب والأصولية الإسلامية، وهم من قبل حملة ضغائن وأحقاد ومركبات نقص حين يقارنون بين باريس الأنوار باريس طه حسين وتوفيق الحكيم وباريس الأصوليين والدمويين، ولم يكتبوا سطرا واحدا عن الاستبداد السياسي في بلدانهم، ونهب المال العام والفساد، ورثوا لباريس الأنوار ولم يرثوا لبلدانهم الغارقة في الاستبداد والفساد والطبقية.

هل نذكر أحدهم الذي كتب في"أندبنت عربية" مثل هذا الهراء وهو يستشهد بتوفيق الحكيم الذي لم يقرأ له، ولو قرأ له ما كتب هراءه. لقد كتب توفيق الحكيم مدينا فولتير الذي ألف مسرحية محمد هازئا ثم أهداها إلى البابا بنديكت الرابع عشر مقبلا قدميه القدسيتين، هكذا كتب فولتير! ثم عاد في آخر العمر معترفا أنه لم يقصد النبي محمدا بل رجال الدين المسيحيين ولكن خوفا من القمع رمز لهم بشخصية محمد وهو عذر أقبح من ذنب. فكيف يجيز كاتب الأنوار والعقلانية لنفسه التزييف والاعتداء على الآخرين مستخدما شخصية النبي محمد كحصان طروادة للولوج إلى القلعة المسيحية لنقدها!

وعلى ساسة فرنسا النظر في عمق المشكل لم كان في فرنسا ظلاميون وأصوليون تعطيهم فرنسا كل شيء ويعطونها العنف والقتل؟ علي فرنسا أن تعيد حساباتها وسياستها الخارجية، وأول ما تراجعه هو عدوانيتها وجشعها واستغلالها الذي أجج مشاعر الكراهية في تلك النفوس التي مازالت ترتبط بأوطانها الأم- ولو من ناحية الدين- كما أن فشلها في ساسة الإدماج الذي حسبته مجرد رعاية صحية ومنحة بطالة، وأنكرت الجانب الروحي والإنساني في المواطن الفرنسي من أصول غير فرنسية، بإتاحة عقيدته للسخرية من قبل فرنسيين آخرين، بدعوى الحرية الفكرية وخطابات التسخيف والاستهزاء من قبل اليمين الفرنسي مثلا ستزيد من متاعب هذا البلد مستقبلا.

وأخيرا إن تصرفات ساسة فرنسا ورعونتهم وسطحيتهم في التعاطي مع المسلمين في العالم وفي بلدهم لن ترضي ديكارت ولا روسو ولا فولتير ولا سارتر ولا فوكو ولا لاكان ولا كلود ليفي ستروس الذي كتب أن الحضارات بنيات مغلقة مكتملة بذاتها، لا يجوز تفضيل حضارة على أخرى، ولا السخرية من حضارة. فالمفاخرة والمزايدة مثلا لا تكون إلا في العلم والأداء السياسي، بينما الثقافة والدين والعادات والفنون بنيات مغلقة مكتملة تثري التجارب الإنسانية والرصيد الكوني للإنسانية وغني عن البيان أن الدين في صميم الحضارة.

إن الدين مسألة شخصية داخل المجتمع الفرنسي وهو غير قابل للنقاش إن لكل شخص الحق في ممارسة اعتقاده وطقوسه في إطار فضاء المواطنة وعلى كل شخص أن يحترم غيره وأن لا يسخر من عقيدته وطقوسه ورموزه الدينية وإلا عدنا إلى القروسطية ونحن ندعي الحداثة والمدنية والتقدم كما يدعي ساسة فرنسا دائما فهناك انتهاك لحقوق الإنسان باسم الحرية الفكرية المزعومة. ولا يخفى على الحصيف الفرق بين النقد البرئ الباحث عن الحقيقة والسخرية والكراهية والعنصرية.