يتقصى الباحث المصري هنا آفاق الكتابة عبر النوعية متتبعا مسيرتها منذ تنامي الدعوات التي استسهلتها دون الوعي بما تنطوي عليه من تراكبات أسلوبية وفنية، وصولا إلى صيغها الناجحة في أدبنا العربي حينما انصهرت فيها ثقافة المبدع في الأجناس الأدبية المختلفة، وتمكنه إبداعيا من توظيفها نصيا وفنيا ورؤيويا.

آفاق الكتابة عبر النوعية

إشكالات التجنيس والنوع والرؤى

مصطفى عطية جمعة

 

يعبر مفهوم "الكتابة عبر النوعية Interdisciplinary Writing" عن فكرة تداخل الأجناس والأشكال الأدبية، أو دمج أكثر من شكل/ نوع كتابي داخل النص الواحد، بما يعني تضفير الكتابة من خلال توظيف أجناس أدبية عديدة، بأن نجد النص – مثلا - حاويا للقصة والقصيدة، أو القصة والمسرح أو المسرح والشعر، أو الشعر والدراما .. إلخ. وهو أمر يشير في جوهره إلى حاجة الأديب إلى تخطي جنس أدبي ما، بتقاليده المعروفة والمستقرة، في سبيل الكتابة من خلال أجناس أدبية أخرى، بدمجها معا، والاستفادة من المعطيات الجمالية والشكلية والرؤيوية التي تتوافر في الأشكال الأدبية الأخرى، وكذلك في الفنون المرئية والمسموعة.

فمن الخطأ حصر المسألة في قضية الشكل وحده، لأن الرؤية جزء لا يتجزأ من الشكل، فالإلهام يأتي إلى المبدع عبر دربين: درب الرؤية التي تحمل فكرا وطرحا، ودرب الشكل الذي سيحتوي هذه الرؤية، فالمبدع يفكر من خلال الوعاء الذي يمكن أن يصوغ فيه رؤاه ومشاعره وطروحاته، مثلما أن الرؤية تحتاج لشكل يشملها. وينطلق هذا المفهوم من القناعة المستقرة لدى النقاد على مرّ العصور إلى أن الأنواع الأدبية ليست راسخة الأركان، ولا ثابتة الوجود؛ بل هي كيانات متحركة ومتحولة، بما يجعل من إمكانية انقراض نوع أدبي ما، وتوالد أنواع أخرى جديدة أو تحولها؛ أمرا طبيعيا، فالفن بطبيعته هو التجاوز الدائم بصفته ابداعا متجددا.

وهي تختلف باختلاف الأدباء أنفسهم، فهناك من هو بارع في  جنس أدبي معين، إذا كتب في غيره تأتي كتابته باهتة، وهناك من يجيد الكتابة في أكثر من جنس، ويبرع في كل جنس على حدة، وهناك من يكون المزج ديدنه، فهو أشبه بالنحلة، التي لا تكف عن امتصاص رحيق الأنواع والأجناس الأدبية، بل سائر الفنون والفلسفات والأفكار، ومن ثم يعيد إنتاجها في نصوص فريدة، تخلب لب القارئ بتفردها الأسلوبي والبنائي، ناهيك عن الطرح الفكري بها، وذلك هو مجال الكتابة عبر النوعية بكل الجدل المثار حولها، والذي إن خبا فترة، فإنه يعود للاشتعال من جديد، عندما يظهر نص يستدعي النقاش. فيمكن القول إنها إشكالية متجددة، ترتبط بالإبداع النصي في انفتاحه على النصوص والفنون الأخرى، وكل هذا يتوقف على مقدرة المبدع ذاته، وما يروم طرحه في نصه عبر النوعية.

الجنس الأدبي والعلاقة مع النوع:
من أجل تعميق النقاش لهذه القضية، لابد من العودة إلى مفهوم الجنس أو النوع  الأدبي Genre، الذي هو: صنف أو فئة من الإنتاج الفني شكل معين وتكنيك ومضمون، والكلمة عامة مرنة الحدود، فالشعر – مثلا – دال على نوع عام، ويندرج تحته الشعر الغنائي والرعوي والمرثية([1]). ويقرأ " تودوروف" الجنس الأدبي من منظور بنيوي، فهو له مجموعة من الخصائص تتصل بالكيان البنيوي الخاص به، والتي تنحدر من ممارسات ملحوظة في تاريخ الأدب، تتيح لها أن تصبح ظواهر تاريخية([2])، فأي جنس أدبي له خصائص بنيوية وأسلوبية ومضمونية، تتكون عبر تجارب إبداعية نصية، تتراكم على مر الأزمنة، ومن ثم تكوّن قوانينها الفنية وشكله الثابت.

فمن أهم خصائص الأدب أنه يمتلك أجناسا بالمعنى الدقيق للكلمة، من بين كل الفنون، وتنتظم سمات معينة لكل جنس، تجعل له وحدة عضوية مميزة، في حين أن التصنيفات الجنسية في الفنون الأخرى تظل تجريبية ووصفية بشكل واسع([3]). ومن المهم في هذا الصدد التفريق بين الجنس الأدبي العام، والأنواع التي تندرج تحته، فالجنس كلفظ يمكن أن يطلق على الفن الأدبي العام، وهو لفظ مأخوذ من علم الأنسنة (الجنوسة)، على أن يكون النوع مفهوما أدنى يتفرع عنه.

فهناك أجناس أدبية كبرى، مثل الشعر والنثر والدراما، وهناك في الوقت نفسه أجناس أخرى متفرعة مثل: القصة والرواية والمسرحية والملحمة والقصيدة الغنائية وغير ذلك، وهي تبدأ نبتا ضعيفا، ثم تستوي تدريجيا، حتى تستقيم على عودها، وتصبح ذات شكل وبنية وجماليات مستقرة، ومن ثم يتم التمرد عليها من قبل مبدعين آخرين، أو توظيف شكلها مع أشكال أخرى في النص الواحد.

وهو ما ناقشه "جيرار جينيت" في إشكالية تداخل بين النص وغيره من النصوص أو الخطابات الأدبية الأخرى، وصولا إلى مصطلح صاغه أطلق عليه: جامع النص أو جامع النسج، والذي عرّفه بأنه تداخل بين الأجناس من أجل استيلاد جنس أدبي جديد، يكون هجينا ناتجا عن هذا التداخل([4]). فقضية التداخل النصي، الذي يجمع في نسيج النص أكثر من جنس أدبي، لابد أن يكون مرتبطا بإحساس داخل المبدع نفسه، بأن الشكل الأدبي ببنائه الحالي غير كاف لاحتواء تجربته التي يروم تقديمها، ومن ثم يرنو ببصره إلى الاستفادة من أجناس أدبية أخرى. وكم كان " جينيت " موفقا وهو يشير إلى مزج خطابات وتداخلها من أشكال أدبية أخرى. فاستخدامه لمصطلح " خطاب " كان دقيقا، لأن الخطاب شامل للبنية والأسلوب والطرح والفكر والأحاسيس أيضا، ولأن " العمل الأدبي - ككل –فعل خطابي، وحقيقة دلالية معقدة، ومتعددة الأبعاد.. والعمل الأدبي ليس فق نصا، أي سلسلة لغوية ودلالية، ولكنه أيضا، وقبل كل شيء، فعل تواصلي بين البشر، ورسالة موجهة من شخص معين يتلقاها آخرون "([5])

فالخطاب الأدبي أشبه بالعباءة الجامعة لكل ما في الجنس الأدبي الواحد ويميزه. فخطاب الشعر قوامه: التصوير والوجدانية العالية، والرموز المعبرة، والتراكيب الدالة، مع الرؤية والفكر. أما خطاب القصة فقوامه حكاية حدث بما فيه من شخصيات وأحداث وحوار. ويكون النص جامعا – حسب مفهوم جينيت – عندما نأخذ جماليات الخطاب الشعري، ونمزجه في جماليات السرد، فيكون هناك مزيج من القصة الشاعرة، أي الحاوية للأحداث والشخصيات والحبكة والبنية الزمنية والمكان، مع أسلوب شاعري راق ومعبر وحافل بالصور والرموز والصدق. وسنلاحظ هنا أن النص هو قصة في الأساس واستفاد ضمنا من الشعر. ويمكن أن يكون الأمر بالعكس، بأن تكون قصيدة تستفيد من جماليات القصة: سردا وأحداثا وشخصيات في متنها، وساعتها ستكون قصيدة قصصية أو القصة القصيدة.

بل يمكن الجزم، بأن أي شكل أدبي لن يتطور إلا بالتعاطي الإيجابي مع الأشكال الأخرى، فالدراما الحديثة تطورت من خلال المزج بين الكوميديا والتراجيديا في التراث المسرحي الإغريقي، فخرجت لنا الكوميديا السوداء، أو المأساة الهازئة، مع الأخذ في الحسبان التطور الفلسفي الذي سبق الدراما الحديثة، والتي افترقت عن المسرح التقليدي، وعبّرت عن هموم الشعب ومشكلاته وأحاسيسه ومشاعره وتطلعاته، وتغير ذائقته، الأمر الذي عجزت عنه الأوبرا الغنائية والمسرح القديم، فكان لابد من تطور الدراما لتكون إبداعا أدبيا مقروءا وعملا فنيا مؤدىً([6])

بل إن مفهوم الكتابة عبر النوعية Interdisciplinary Writing ينفتح في الغرب ليشمل مختلف العلوم، ويضاد في ذلك التخصص الضيق في علم ما، ويوجب على الباحث أن يكون ذا أفق واسع يستفيد من مختلف العلوم والفنون. فالدراسات المستقبلية في القرن الحادي والعشرين تتميز بالانفتاح على مختلف المكونات الإنسانية في العلوم والفنون، وكل ما من شأنه أن يساعد على فهم الإنسان القاطن على كوكب الأرض، مع مراعاة خصوصية المجتمعات والأفراد، فيما يسمى الدراسات عبر النوعية Interdisciplinary Studies، وهذا من شأنه إذابة الحدود بين العلوم والفنون والتكنولوجيا، ليكون للباحث المجال واسعا للبحث([7])، ونفس الأمر ينطبق على الفنون والآداب، فالفنان/ الأديب يمكن أن يوظف ما يشاء من أنواع ما دامت تخدم نصه، وتنير رؤاه وطروحاته، فالهدف الأسمى أمامه هو البحث عن الجوهر، والحقيقة، وهذا يستلزم الغوص فيما وراء الكلمة، والرمز، والإشارة، والعمل الفني، والقول المنطوق، والفكرة المصاغة، وتفكيك التراكيب اللغوية، وهذا يستلزم منهجية تتحرر من التخصص الضيق.

أزمة الكتابة عبر النوعية:
بغض النظر عن التسمية، فإن الكتابة عبر النوعية تحتاج إلى مقدرة أدبية عالية من المبدع، ورغبته الجادة في تجاوز الشكل الراهن، والاستفادة من أشكال أخرى. ويقابل ذلك وجود قراء واعين متذوقين لهذه الكتابة عبر النوعية، بما يحفز المبدع إلى مواصلة كتابته، مسلحا بآراء القراء، وكيفية استقبالهم لما أبدع. وهو ما يقودنا إلى أهمية النظر في منطق التلقي، الذي يتطلب وجود قاعدة واسعة من القراء تتذوق العمل الأدبي الجديد، وتتمسك به، وترى فيه ما يشبع ذائقتها، وكما يشار في نظرية الأثر الأدبي بأن تلقي النص مرهون بتوقعات المتلقين ونوعياتهم وخصائصهم، وفي هذه الحالة يصبح المطلوب بالتأكيد هو تقدير الوجه الأدبي في النص، وبكلام علماء الأسلوب: تقدير أدبية النص، وهذا يفتح المجال لطرح سؤال حول معطى الأدبية ذاتها، هل هو دائم أم متغير، ويتداخل في ذلك التاريخي والاجتماعي، والاحتمالي والنسبي ([8]).

فأي شكل/ جنس أدبي جديد ينتشر وفق قيمته الأدبية الجمالية، واستقبال القراء له، وتفاعلهم معه، وهذا يستلزم دراسة تاريخية بأبعاد اجتماعية، ضمن علم اجتماع الأدب، والذي ينظر في أسباب الذيوع أو الخفوت لجنس أدبي ما. فالمبدأ العام في تطور الأنواع الأدبية هو أن لكل مرحلة من مراحل تطور المجتمع تجسيد لعلاقتها الجمالية بالعالم في أنواع أدبية بعينها، تلائم ذائقة البشر في سياقهم التاريخي، وفي عالمهم الطبيعي في هذه المرحلة، كما تلائم نظامهم الاجتماعي، وهذا يتوقف على حاجات المجتمع الروحية والخبرات الفنية التي يمتاز بها، وأيضا المثل العليا الجمالية والفكرية بجانب العلاقات الاجتماعية السائدة([9]).

مما يحفزنا إلى الانتباه إلى أن الأمر ليس مجرد حلية شكلانية كما يتبدى لبعض شباب الأدباء الذين تبنوا فكرة الكتابة عبر النوعية في نصوصهم، ناظرين إلى القضية على أنها زينة زخرفية، دون النظر إلى تلقي القراء لهم، وكأن لسان حالهم يقول: نحن نبحث عن شيء جديد نتميز به، وليكن مثلا اختراع شكل جديد، بمزج أكثر من نوع أدبي في نص واحد. ويتناسون في ذلك أن القضية ليست صرعة أدبية جديدة، من أجل الشهرة، وإنما النظر في حاجات المجتمع الجمالية، وسبر ما يريده جمهور القراء، ومن ثم الاستجابة إلى حاجتهم الجمالية، والفكرية، والروحية، والسعي إلى تطوير ذائقتهم في التلقي. وكم من أشكال أدبية انتشرت عندما وجدت استجابة واسعة من الجمهور، وإقبالا عليها، وكم من أشكال وصرعات وموضات أدبية ظهرت وخبت، ولم يسمع بها أحد، بل وانتهى أمر من روّج لها، وتبناها في كتاباته، ثم تلاشت وتلاشى هو معها، ولم يسع إلى اختبار أشكال أو بنيات جديدة، فالأمر برمته بالنسبة إليه هو شهرة لا أكثر.

ولا زلنا نتذكر محاولات شباب الأدباء منذ عقدين أو أكثر، وقد تلبّسهم الولع بالتجديد والتميز، فراحوا يصوغون نصوصا خليطا من الشعر والسرد والخواطر، وبعضهم كتب سردا في سطور متتابعة متوهما أنه يكتب القصة القصيدة، وهو لا يمتلك بعد المهارات الفنية اللازمة للجنسين الأدبيين: الشعر والقصة، فجاء النص جنينا مشوها، غامضا غير مفهوم، بعبارات متعثرة، وألفاظ مكرورة، ومع ذلك يجادل كاتبه بأنه أتى بشيء جديد يخالف المعهود من الأشكال الأدبية، وبعضهم يكرر مقولات الكتابة عبر النوعية التي روّج لها "إدوار الخراط" واستقاها من قراءاته النقدية لعدد من الروايات والقصص التي تضفرت بالشعرية العالية، مثل أعمال بدر الديب واعتدال عثمان ويحيي الطاهر عبد الله وآخرين([10]). مع التسليم بأن هؤلاء المذكورين كانوا أدباء حقيقيين، وقدموا إضافات إبداعية مهمة ومتميزة، وقاموا بالكتابة عبر النوعية من خلال تمكنهم اللغوي والأسلوبي والشكلي.

وتطور الأمر أكثر، عندما وجدنا بعض شباب الأدباء، يكتبون كتبا وينشرونها ورقيا أو إلكترونيا، ويأتي زملاء لهم يجاملونهم، فيدبجون مقالات المديح والثناء على الشكل الجديد الذي يقدمه هذا الأديب الشاب النابه، وعندما ننظر إلى نص الكتاب يروعنا ما فيه من غموض شديد، ولغة فلسفية، وعبارات وعرة. ولكاتب هذه السطور عدة تجارب مع مثل هؤلاء، وأذكر أنني حضرت ندوة في إحدى مدن الدلتا في العام 2007م، لمناقشة كتاب لأحد الأدباء الشبان، وقد فوجئت بأن الكتاب كتابة ملغزة غامضة، مليئة بالصور والرسومات المأخوذة من الحضارة الفرعونية والبابلية، مع عشرات المقولات الفلسفية التي ليس بينها رابط فكري.

وعبثا حاولت أن أشجع الكاتب، وأبصره بأهمية امتلاك مهارة الكتابة في شكل أدبي يبدع من خلاله، مع امتلاك اللغة، مؤكدا له وللحاضرين في الندوة أن وضوح الفكرة ليست جريمة، وأن الغموض والإلغاز يصرف القارئ، وهو ما وافقني عليه من حضر الندوة، وهو قارئ للكتاب مرات ومرات ولم يظفر منه بشيء، بل ازورّت نفسه عنه. والغريب أن الكاتب الشاب عقّب بعدها بالمقولة المعتادة: هذه كتابة عبر نوعية، فناقشته – بعد الندوة - بأنني لم أجد كتابة واضحة وفق بنية نصية متكاملة، أو شكل أدبي متضافر مع أشكال أخرى، ولكنه أبى وتمسك، ولا يزال – حتى يومنا – يجاهد في إثبات عبقريته في الكتابة.

وكانت المفارقة - بعد الندوة أيضا – في وجود عدد من رفاق الأديب الشاب المناصرين له، وقد تصدوا للدفاع عنه، والبرهان على الجدة والابتكار في نصه، وراحوا يشرحون الغامض في الكتاب. فأوضحت لهم أن الأدب الحقيقي الجديد هو الذي يمتلك مسوغات وجوده، من خلال إقناع شريحة كبرى من القراء المتذوقين للأدب، فلا يعقل أن يقوم الأديب أو رفيق له بشرح الكتاب للقراء، فالعمل الأدبي كل متكامل، يراهن على ذائقة المتلقي واستقباله الجمالي والفكري له، ومن العيب التعالي على المتلقي والحط منه، وإنما لابد من التمكن من النوع الأدبي قبل تجاوزه.

ونسوق مثالا آخر لهذا الفهم المغلوط للكتابة عبر النوعية، فقد وقع تحت يدي - خلال تحكيمي لإحدى مسابقات الرواية الدولية – مخطوطا لنص تتجاوز صفحاته مئتي الصفحة، وقد نبه كاتبه في البداية إلى أنها تجربة جديدة لشعرية السرد، ومنذ الصفحة الأولى إلى نهاية الرواية، أجد نفسي أمام متن مصاغ بلغة ظاهرها الكتابة الشعرية بالفعل، ولكنها أبعد ما تكون عن لغة السرد. والرواية ذاتها لا علاقة لها بالفن الروائي، بل إن مشكلتها الأساسية أن غلافها مكتوب عليه أنها رواية، وهي ليست برواية، ولا بأي شيء آخر. فلا نكاد نمسك خيطا سرديا، فقد خرج بطل الرواية من بيته في الصباح، وراح يطوف أحياء وحواري مراكش، مسترجعا ذكرياته القديمة. وعليك أنت أيها القارئ أن تحاول البحث عن شخصية رئيسة أو نامية أو منزوية أو يمكن أن تتعرف معالمها، أو تقف على حدث واحد وتتبين معالمه، فاللغة الشعرية أكلت السرد، والتهمت الشخصيات، وتمددت على الأحداث، وستظل طوال المتن المتضخم تتحمل معاناتك الأليمة، من أجل الوصول إلى أي منطق حكائي أو بناء سردي، يجمع هذا الهدير اللغوي المتدفق، الذي قضى كاتبه شهورا طويلة في صياغته، دون امتلاك مهارة الرواية وفنياتها السردية، أو الشعر نفسه.

إن هذا يعيدنا إلى قضية الظاهرة الأدبية في بعدها الاجتماعي، فتطور الإبداع الفني مرتهن بالتطور الاجتماعي ذاته بما يحمله من ذائقة جمالية، وتوافر حواس روحية مهيأة لهذا التلقي، فالنوع الأدبي ينشأ في مواضعة تاريخية واجتماعية ما([11]). وبالطبع هذا صحيح على الإطلاق، ولكن تتعلق به قضية أخرى، تتصل بالأشكال الأدبية والفنية المستوردة من مجتمعات أخرى، وهنا تقع المسؤولية على الأديب الذي يتولى الترويج لهذا الشكل في مجتمعه، وتتوقف على براعته ومهاراته الفنية واللغوية، وإلا سيفشل فيما يريد. وقديما انتشر كتاب (كليلة ودمنة) المترجم عن لغتين: السنسكريتية أولا، ثم الفارسية ثانيا، حتى الترجمة العربية ثالثا، لأن مترجمه عبد الله بن المقفع كان أديبا عالي الأسلوب والمهارة والحذق، وكانت له رسالة أدبية سامية، واستطاع استقراء ذائقة المجتمع في عصره، التي بدأت في استقبال الأعمال السردية شفاهة وكتابة، وعشقت الحكمة شعرا ونثرا، فلما وقع في أيديها كتاب (كليلة ودمنة)، ببنيته السردية الطريفة القائمة على ألسنة الطير والحيوان، مع حكمة سامية موجهة إلى النخبة والعامة؛ انتشر الكتاب سريعا، وأصبح شكلا أدبيا مستقرا، ليس في الأدب العربي وإنما في الأدب العالمي كله.

بل يمكن التأكيد أن هناك كتبا خالدة في مسيرة الإبداع الإنساني، حفرت مكانتها عبر العصور بتفردها البنيوي والأسلوبي والفكري، ومنها كتاب (كليلة ودمنة)، الذي هو مصدر ومنبع لآلاف الأفكار لقصص على ألسنة الحيوانات والطيور، ولم نعرف قبله ولا بعده كتابا في بنيته السردية المتكاملة ولا فلسفته العميقة. وسنلاحظ أنه نموذج في الكتابة عبر النوعية من خلال صهر الفلسفة والبلاغة والحكمة والنصح غير المباشر في بنية سردية متكاملة في شخوصها الرئيسية، التي تشكل العباءة الكبرى، ويندرج تحتها عشرات القصص الصغيرة المتفرعة منها.

منظور ما بعد الحداثة نحو الكتابة عبر النوعية:
لاريب أن الكتابة عبر النوعية قديمة قدم الأجناس الأدبية في التاريخ الأدبي الإنساني، فهناك عشرات النصوص في الشعر الجاهلي التي بها سرديات مكتملة مصاغة شعرا، وهناك ما لا يحصى من النصوص النثرية المرصعة بجماليات الشعر والتصوير والمجاز، بجانب دمج الدراما شعرا، والشعر في الدراما. ويمكن النظر إلى الكتابة عبر النوعية من منظور طروحات ما بعد البنيوية، التي احتفلت بانفتاح النصوص، ورفضت ما قدمته البنيوية باعتبارها النص مغلقا، واقتصرت ومعها الشكلانيون على الاشتغال اللغوي، وتطبيق رؤى دي سوسير اللغوية، كما هو قائم في المنهج الأسلوبي وغيره.

فلا ريب أن تلتقي ما بعد الحداثة مع ما بعد البنيوية في الانفتاح النصي، وقد تجلى ذلك واضحا في تبنيها استراتيجيات التناص Intersexuality، والذي يعني كثيرا بتداخل النصوص، وأن أي نص إنما هو وليد ثان لنصوص سابقة عليه، من خلال أبحاث جوليا كريستيفا، والتي اقترحت رؤية نقدية جديدة، قوامها انفتاح النص الأدبي على عناصر لغوية وغير لغوية (إشارية ورمزية)، متجاوزة بذلك التصور البنيوي الذي يلح على مفهوم البنية، ساعية إلى النظر إلى النص كملفوظ لغوي واجتماعي في آن. وهو الطرح الذي اشتبك فيه عدد من نقاد ما بعد البنيوية، وأيضا ما بعد الحداثة، والتفكيك مثل ديريدا، ولتش، وفوكو، وهارتمن، وكان الطرح الأهم هو النظر إلى النص من زاوية التلقي، فالمتلقي يقرأ النص في ضوء معرفته وتذوقه لنصوص أخرى سابقة أو لاحقة عليه، كما يدخل في تعالقات مع بنيات تاريخية وثقافية ونفسية وأيضا جمالية أخرى، مما يستلزم طابعا تأويليا يقرأ النص والتناصات المتعددة فيه، كآلية خاصة للقراءة الأدبية ومرتبة من مراتبه([12]).

وثمة فروقا كبيرة بين التناص والكتابة عبر النوعية، فالتناص يعتمد على مختلف الإحالات والاقتباسات والإشارات والأيقونات والاستشهادات والتأثيرات التي توجد في النص، وتكون مأخوذة من نصوص أخرى أو تعيدنا إلى هذه النصوص إما بإشارة متعمدة من المؤلف، أو تكون غير متعمدة من واقع تأثر المؤلف بنصوص وكتابات سابقة. إلا أنهما يلتقيان في التجاوز النصي، فالكتابة عبر النوعية أساسها المزج/ الدمج/ الكتابة من خلال أكثر من شكل أدبي، وهو نهج يتعمده المؤلف، فيمزج في كتابته بين الشعر والقص أو المسرح والسرد مثلا، ويمكن أن يورد المؤلف نصوصا مأخوذة من نصوص أخرى على سبيل الاستشهاد أو التطعيم النصي، وقد يكتفي بالكتابة المغايرة وفق شكل مختلف فقط. أما التناص فيقع بلفظ أو بعبارة أو بفقرة أو برأي.. إلخ، وفي جميع الأحوال، فإن متلقي النص – الناقد أو القارئ أو الباحث – عليه أن يطرح أسئلة التأويل والجماليات والدلالات على النصوص.

أما منظور ما بعد الحداثة للكتابة عبر النوعية، فينبع من إطار فلسفتها الكبرى التي تنظر إلى المجتمع بوصفه كلا وظيفيا/ عضويا، أي أن كل ما في المجتمع يتكامل ويتعاضد ويؤدي وظيفة مهمة. ثم تطور المفهوم لاحقا إلى فكرة الأنساق، والتي تدور حول وجود أنساق فكرية تشمل تكاملية وأدائية ووظيفية في مكونات المجتمع، وكلها تصب في خانة تكوين نسق ما، حتى في حالة الاختلال بين المكونات، فإن هذا يعني التمهيد لتكوين نسق جديد وإن كان مغايرا ([13]).

وكي نطبق هذه الفلسفة الاجتماعية على صعيد الأدب والفنون، فإن ما بعد الحداثة لم تتعامل مع الآداب والفنون على أنها عناصر منفصلة، وإنما هي كل متكامل، فالرواية تتكامل في طروحاتها الفكرية مع الشعر والمسرح، وأشكال الأدب يؤدي أدوارا جمالية تتلاقى مع ما تقدمه الفنون الأخرى، ولا بأس من استفادة الفنون البصرية والسمعية والتشكيلية من الآداب، بتضفير الشعر أو التعبير عن السرد في طياتها ومكوناتها الفنية. ونفس الأمر، يمكن أن يستفيد الأدب من الفنون المرئية والتشكيلية، فيكون الشعر في بنيته الجمالية (الصور والإيقاع والرموز والتراكيب)  مثل أثر الموسيقى في النفس وما تبثه من أحاسيس ومشاعر، ولا بأس من تقديم أكثر من شكل أدبي أو فني بشكل تكاملي، فيكون الشعر مصحوبا بالموسيقى ومشاهد تمثيلية وصور تشكيلية، وتكون معارض الفن التشكيلي مشتملة على مقاطع من الشعر والسرد والنصوص الفلسفية، وغير ذلك.

وبعبارة أخرى: فإن ما بعد الحداثة تنظر إلى الفنون والآداب بنظرة تكاملية وظيفية في آثارها الفكرية والجمالية والشعورية في ذات المتلقي الفرد والذات الجمعية. بل إن ما بعد الحداثة انفتحت كثيرا، لتقبل في منظورها للفنون والآداب مختلف المؤثرات، في النظم التكنولوجية والمعلوماتية والإعلامية، والتي تتخطى الهويات القومية والحدود الجغرافية والقارية، وتدعم وجود الفنون في كافة المواضع: الصناعة والتجارة، كما قبلت المزج والتوظيف لفنون البوب والفولكلور، واحتفت بالمهمش والفرعي والثانوي. والخاصية الجديدة لما بعد الحداثة هي ذوبان الأقسام التقليدية بين الفن والثقافة الجماهيرية وحتى الإعلام، وكذلك بين النقد الفني وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجي([14]). فالمبدع ما بعد الحداثي يصوغ إبداعه مازجا مختلف ما يراه مناسبا من الفلسفة والأدب والفولكلور والصحافة وغير ذلك.

وتجلى ذلك فنيا في أشكال فنية عديدة مثل الفن التجميعي Assemblage والذي هو النظير ثلاثي الأبعاد للكولاج، بأن يوظف الفنان في العمل المعادن مع الأخشاب مع الرسومات وغير ذلك. كما يحتفي بما يسمى الفن الفقير Art Povera، المعتمد على مزج خامات حياتية فقيرة، لتكوين عمل فني بديع. ويعد فن الكولاج خير نموذج معبر، من خلال تثبيت أشكال مختلفة على سطح ثنائي الأبعاد، مثل لصق رموز سياسية أو فكرية على عمل فني مركب الخامات، واستخدام القصاصات الورقية والصور الفوتوغرافية في العمل الفني وهكذا([15]).

وإذا عدنا إلى الأدب، سنجد أن الرواية العربية الجديدة والمعاصرة أبدعت كثيرا في الكتابة عبر النوعية، من خلال استيلاد أشكال جديدة، تستفيد من أنواع أدبية تراثية أو حديثة. فهناك "السرد المهجن"، الذي يدخل في تكوينه بصورة أساسية المفارقات المتعددة وعناصر من أساليب الفنون السردية القديمة، مثل المقامة والسيرة والملحمة والرواية التاريخية التقليدية، كما في روايات إيميل حبيبي العديدة([16]). وهناك أيضا "السرد الغنائي"، الذي يستلهم الفنون الشفاهية الشعبية بكل ما تزخر به من طاقات إبداعية، مما ينعكس على البنية السردية ويجعلها متميزة. ويتجلى من خلال التصميم لا الحبكة السردية، من خلال التجاور والتكرار والتداخل والانحرافات والوصف والاسترسال والتأمل والصور الافتراضية، مستفيدا في كل ذلك من الموروث الشفاهي العربي الغنائي، كما في أعمال سليم بركات السردية([17]).

وهناك شكل "الرواية القصيدة" أو "قصيدة الرواية"، كما في رواية فاضل العزاوي المعنونة بـ "عالم الديناصور"، والتي تتحرك ما بين النثر ولقطات الشعر المكثف، وتوظف أيضا مشاهد من المسرح المعاصر([18]). كمايحفل الشعر العربي المعاصر في اتجاهاته ما بعد الحداثية بأشكال كثيرة من الكتابة عبر النوعية، مثل توظيف أشكال الرسالة والقصة والمسرح والأغنية([19]).

وختاما، يمكن القول إن الكتابة عبر النوعية هي الوعاء الذي يصهر ثقافة المبدع في الأجناس الأدبية الأخرى، والتي تظهر في تمكنه إبداعيا من توظيفها نصيا وفنيا ورؤيويا.

 

[1] ) معجم المصطلحات الأدبية، إعداد: إبراهيم فتحي، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، تونس، 1986م، ص124، 125.

[2] ) القصة، الرواية، المؤلف: دراسات في نظرية الأنواع الأدبية، مجموعة من المؤلفين، ترجمة: د. خيري دومة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة،ط1،  1997م، ص41.

[3] ) ما الجنس الأدبي ؟، جان ماري شيفير، ترجمة: د. غسان السيد، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، د ت، ص14.

[4] ) مدخل لجامع النص، جيرار جينيت، ترجمة: عبد الرحمن أيوب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، د ت، ص91، 92.

[5] ) ما الجنس الأدبي ؟، ص145.

[6] ) انظر تفصيلا: تاريخ تطور الدراما الحديثة، جورج لوكاتش، ترجمة: كمال الدين عيد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016م، ج1، ص93- 108.

[7]( TRANSLATION AND TRANSFER: INTERDISCIPLINARY WRITING AND COMMUNICATION, Denise COMER, SYSTEMICS, CYBERNETICS AND INFORMATICS VOLUME 11 - NUMBER 9 - YEAR 2013,pp106 &107.

[8] ) قضايا أدبية عامة: آفاق جديدة في نظرية الأدب، إيمانويل فريس، برنار موراليس، ترجمة: د. لطيف زيتوني، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2004م، ص74.

[9] ) مداخل إلى علم الجمال الأدبي ومقدمة في نظرية الأدب، د. عبد المنعم تليمة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013م، ص249.

[10] ) انظر: حوار الكاتب التونسي: عمر مقداد الجمني  مع إدوارد الخراط، على موقع http://htoof.net/vb/t124585.html

[11] ) مداخل إلى علم الجمال الأدبي ومقدمة في نظرية الأدب، د. عبد المنعم تليمة، ص360

[12] ) التناص في الخطاب النقدي والبلاغي، د. عبد القادر بقشي، أفريقيا الشرق للطباعة والنشر، الدار البيضاء، المغرب، 2007م، ص18- 20

[13] ) الوضع ما بعد الحداثي، جان –فرانسوا ليتوار، ترجمة: أحمد حسان، دار شرقيات للنشر، القاهرة، ط1، 1994م، ص34، 35.

[14] ) فنون الحداثة في مصر والعالم العربي، د. هويدا السباعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008م، ص78-81.

[15] ) السابق، ص106، 117، 129.

[16] ) أنماط الرواية العربية الجديدة، د. شكري عزيز الماضي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2008م، ص21.

[17] ) السابق، ص41.

[18] ) السابق، ص167.

[19] ) انظر على سبيل المثال: تداخل الأجناس الأدبية في القصيدة العراقية المعاصرة، للباحث أحمد محمد أبو مصطفى، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية بغزة، 2015م.