يرى الناقد المصري أن ثيمات الحضور التجريبي للصوت والفضاء والعلامات الاستعارية التفسيرية واضحة في ديوان جرجس شكري، إذ يحيلنا الصوت الشعري إلى حالات من الفعل أو الأداء أو المراقبة للجسد والكينونة والآخر، تنطوي على الصمت، أو عبور طرائق التفكير والإدراك المنطقية باتجاه التناقض الإبداعي في بنية الصور وإحالاتها.

حالات الأداء الإبداعي في علامات النص الشعري

قراءة لتعددية الفضاءات في ديوان جرجس شكري «أشياء ليس لها كلمات»

محمد سمير عبدالسلام

 

تؤكد كتابة الشاعر المصري المبدع جرجس شكري التجريب في بنى الصوت، والفضاء، وعلامات الذات، والأشياء التي قد تبدو مؤجلة، أو تقع بين الحلم والواقع؛ فقد يحيلنا الصوت المتكلم إلى موقع المراقب لحالات الأداء غير الواعي الذي يحتفي بالحياة المجازية، أو حالة من التفكك البهيج الذي يعيدنا إلى تداخل الغرائز وفق التصور الفرويدي، كما يحيلنا المتكلم إلى فعل الأداء التمثيلي، ويستعير النسق السيميائي للمسرح؛ فنعاين شخصيات متخيلة، أو وظائف لشخصيات فنية داخل الذات، تذكرنا بمدلول الشخصية الروحي الواسع في تجربة المسرح الطقسي طبقا لجروتوفسكي، وقد تتحول أنظمة العلامة المستعارة من المسرح أيضا إلى وظائف شخصية أخرى مستدعاة من تجارب يومية، وتاريخية لا يمكن التوفيق بينها في بنية زمكانية واحدة؛ ومن ثم يصير مدلول الذات ملتبسا بشخصيات الفن، وإيماءات الغرائز المتحولة حلميا، والوظائف العديدة التي تؤكد تعارضات أصوات المجموع في الكينونة الشعرية الواحدة، وحضورها ما بعد الحداثي المتجاوز لمركزيتها الأولى في تداعيات النص.

وقد تقع بنية الفضاء في حالة من المراوحة، أو التنازع بين الحلم، والواقع؛ ففضاء الذات قد يستحيل مسرحا تجريبيا، ويصير المقهى فضاء سيميائيا تأويليا للوجود، والوجود الحلمي الذي يذكرنا بمسرح العبث، ولا معقولية دخول الشخصيات، أو خروجها من المشهد، أو يصير فضاء النهر الواقعي حلميا، تذوب فيه لحظة الحضور المؤقتة في الزمن - طبقا لتصور هيدجر - بصورته الدائرية في اللاوعي الجمعي؛ ومن ثم يتصل الفضاء – عند جرجس شكري – بمدلول الوجود، وإعادة تشكيله في حالتيّ المراقبة للأطياف التي تنبثق في الوعي واللاوعي، والانخراط في الأداء التمثيلي أو الحلمي الذي يشير إلى الهوية بينما يستنزف مركزيتها في حضورها التصويري الآخر، أو تاريخها الاحتمالي، أو عبر اللعب الحلمي للجسد في مسافة تؤكد ضمير المتكلم، وتتجاوزه في التناقض ما بعد الحداثي بين الفراغ، والبهجة.

أما علامات الجسد؛ مثل الساقين، واليد، والرأس، والعينين، سنجد أنها تحيا حياة جمالية خاصة تشير إلى المتكلم، ولكنها تتصل أيضا بعرض مسرحي مؤقت، أو بحلم، أو حكاية، أو أسطورة؛ كما تتصل الأبواب، والنوافذ، والبيوت – في خطاب جرجس شكري الشعري – بالانفتاح على شخصيات فنية، وتاريخية، ويومية أخرى، أو بالانفتاح على فضاءات إنسانية طيفية وواقعية أوسع من لحظة حضور الصوت المتكلم؛ فالباب قد يصير معبرا حلميا لطفل مؤجل، أو يستعير حياة نسبية لشخص آخر من تاريخ الفن، أو الواقع، أو يصير أيقونة تفسيرية تحيلنا إلى نفسها، لا إلى موضوع فعلي؛ ليعيد المتكلم – من خلالها – قراءة الأصوات، والأطياف التي تشتبك معه في الزمان، والمكان، أو التي تحيا – بصورة طيفية – في ذاكرته، ولا وعيه الجمعي.

وتبدو ثيمات الحضور التجريبي للصوت، والفضاء، والعلامات الاستعارية التفسيرية واضحة في ديوان جرجس شكري المعنون ب "أشياء ليس لها كلمات"؛ وقد صدر عن دار آفاق بالقاهرة سنة 2017؛ إذ يحيلنا الصوت الشعري إلى حالات من الفعل أو الأداء، أو المراقبة للجسد، والكينونة، والآخر، تنطوي على الصمت، أو التخييل، أو عبور طرائق التفكير والإدراك المنطقية باتجاه التناقض الإبداعي في بنية الصور، وإحالات العلامة، ومؤولاتها إلى موضوعات فنية احتمالية؛ ومن ثم تشير عتبة العنوان إلى الأشياء التي قد تخضع لمنطق الصور، والإحالات، والاستبدالات التي تتصل بحالات تتجاوز مركزية الإدراك في النص.

ونلاحظ تواتر الكلمات الدالة على المماثلة، والحلم؛ مثل حلمت، وكأن، أو سلب القدرة على إدراك موقف المقهى، أو معرفة الجمهور المتخيل الملتبس بالفراغ؛ ومن ثم يؤكد الخطاب الشعري احتمالية اللغة، وسخريتها من مركزية الأنظمة العلاماتية المستقرة في قراءة الواقع، وما وراء الواقع باتجاه تعددية في الأصوات، والفضاءات المتداخلة، أو المتنازعة التي تكتسب حضورها الاستعاري الآخر من بنى الصور المقطعة الحلمية، أو الفضاء التشكيلي المحتمل، أو سيمياء المسرح؛ لتحيلنا إلى حضور آخر مختلف يقع بين الواقع، وأثره الجمالي، وتحولاته في عمليات استبدال العلامة.

ويمكننا قراءة الحضور الإبداعي للعلامة – في نصوص جرجس شكري – من خلال تصور تشارلز بيرس للمثلث السيميائي الذي يقوم على العلاقة الديناميكية بين العلامة، والموضوع، والمؤول من جهة، وإمكانية تطور العلامات التفسيرية نفسها، وتحولها – ضمن علاقات مشابهة – إلى نسق دلالي مختلف من جهة أخرى.

وسنلاحظ وفرة الصور/ الأيقونات القائمة على علاقات المشابهة بين العلامة، والموضوع في خطاب جرجس شكري الشعري؛ فالحضور الذاتي بما يتضمنه من الوعي، والجسد، يماثل الفعل التمثيلي المتخيل على المسرح، بينما يصير الفضاء اليومي جماليا في مماثلته للمسرح المجازي، وإحالته إلى واقع ملتبس بالحلم، ويستنزف بنيته الخاصة في قصيدة مشاهد من حياة رجل بار مثلا.

يرى تشارلز بيرس – حول علاقة الأيقونة بالموضوع، والعلامة – أن الأيقونة تتجسد مثل علامة تشير إلى موضوع يستمد قيمتة من ميزاته الخاصة؛ وتختلف الأيقونة عن العلامة في كونها قد تبدو كصورة من أي شيء عبر علاقة المشابهة المجازية؛ ثم يعاد استخدامها كعلامة لذلك الشيء (1).

يرتكز تصور بيرس للأيقونة – إذا – على مشابهتها للموضوع، وحلولها في موقعه كعلامة تؤكد مدلوله بصورة مجازية؛ وهو ما نجده – في نص جرجس شكري - في العلاقة بين علامة الجسد، وموضوع حضور المتكلم كشاعر، وإمكانية قراءة أنظمة العلامة التعددية في الفعل التأويلي؛ فالمتكلم يستخدم سيمياء المسرح عبر التباس الموقف اليومي بفضاء الخشبة التجريبي، كما تبدو صورة الجسد الأخرى كأيقونة بديلة مشابهة لفضاء المسرح المجازي.

يقول جرجس شكري في قصيدة مشاهد من حياة رجل بار:

"وأنا أقرأ أشعاري يخاف جسدي / كأنه يؤدي مشهدا في مسرحية / يلعب فيها كل الأدوار / روحي تطل من عيوني خائفة / ولساني يلهث كأنه يعبر شارعا معتما ..."(2).

يشير المتكلم - إذا – إلى تجلي المسرحية كأيقونة مماثلة للفضاء اليومي الذي تحقق فيه الذات كينونتها الشعرية، بينما يبدو الجسد مثل فضاء مسرحي آخر للفعل التمثيلي التعددي الذي يذكرنا بتداخل الشخصيات في العالم الداخلي للممثل طبقا لجروتوفسكي؛ ومن ثم يقوم النص على فضاء الواقع اليومي عبر إشارات اللغة، وفضاء الجسد الذي يكشف عن الشخصية الفنية في حالة الأداء، وتجلي المسرحية المجازية كأيقونة لفضاء فني آخر، أو كعلامة تصويرية بديلة عن موضوع الذات في حالة الفعل المؤكد للكينونة.

وتتحول علامات الحضور الذاتي المحولة في أيقونة المسرح إلى التخلي عن تأكيد ذلك الحضور باتجاه مستوى الأداء اللاواعي في انسحاب الوعي إلى الداخل، ومرح اليدين، أو انفلاتهما خارج هيمنة الوعي، وانخراط القدمين في حالة الأداء، ثم صمت الفم، وغربته عن الجمهور الافتراضي، والذي يذكرنا بوقفات مسرح بيكيت، وحالات انفصال الذات عن الآخر؛ ومن ثم يظل الجسد هنا مماثلا لصورة للمسرح، ولكن باتجاه موضوع الأداء اللاواعي عبر سيمياء الجسد نفسها في عبورها لليومي، والجمالي من داخلهما معا؛ فأيقونة المسرح موجودة، ولكنها تشير إلى إغلاق، أو تأجيل لبنيته.

يقول:

"سأغلق مسرحي هذا المساء / وأطرد الممثلين خارجا / يدي اليمنى سأتركها تفرح / مع قهوتي السوداء وسيجارة وحيدة / أما يدي اليسرى / أعرف أنها تفضل البقاء عند النافذة ... ستغلق عيوني الستار على نفسها، وتفرح بالنوم بعيدا عن الإضاءة ... / سيأخذ فمي إجازة مفتوحة من الكلام / فهذا الجمهور لا أعرفه" (3).

وينطوي المستوى الثالث من العلاقة الديناميكية بين العلامة، والموضوع، والتأويل – في نص جرجس شكري – على وفرة الوظائف التمثيلية للذات؛ والتي قد تبدو هنا مشابهة للمسرح كموضوع آخر في التحولات السيميائية للقصيدة؛ فالموضوع يبدو مثل حضور جمالي للذات على المسرح، ثم يتجلى في الوظائف التصويرية الوفيرة المستمدة من التاريخ، والذاكرة الجمعية، والحكايات القديمة خارج بنية العرض المتخيل.

يقول:

"فيما مضى / كنت ملكا وقديسا / عازف مزمار / وصاحب فلسفة وأبقار كثيرة / وذات مساء / هربت الحقيقة من بيتي / فلم أعد كما كنت أبدا" (4).

هكذا تتشكل تلك الوظائف الجمالية الجديدة للمتكلم من حضور جمالي أدائي، يتحول إلى تلك الوظائف الطيفية المولدة عن كل من الموضوعين السابقين؛ الذات الشاعرة، والذات اللاواعية؛ إذ يبدو الموضوع هنا مثل ذات أدائية على فضاء مسرحي ، تقبل التحول – عبر الأخيلة والحكايات – إلى وفرة من الذوات التصويرية الطيفية التي تمارس فعل التخلي إزاء حضورها الأول في القصيدة.

ويواصل المتكلم حالة الأداء الجمالي، وتحولاته السيميائية فيشكل الشخصية من أكثر من حكاية، وعبر التداخل بين الأصوات، والحكايات، والأزمنة في تكوين إبداعي متناقض للصوت، ولكنه هذه المرة لا يتصل بالمسرح، وإنما بلحظة الحضور التي تشبه أكثر من فضاء واقعي، وأكثر من مسرحية في موقف تمثيلي واحد، يعكس التعددية والتداخل؛ ومن ثم فالموضوع هنا صوت منفتح على الآخر / الآخرين، يتجلى عبر تكوينات مكملة واحتمالية للشخصية، وتشبهها في بنيتها الداخلية التعددية الدينامية.

يقول:

"ومن أجل حياة أفضل / يلقي ببعض الشخصيات / في سلة الماضي السحيق / ويقص من حياته / أياما وذكريات كثيرة / بغير ندم ..." (5).

هكذا يستبدل الفراغ الإبداعي بنية الذات، ويؤكد فعل الإنتاجية الجمالية المتجاوزة للمركز، والتي تبدأ وتنتهي في دائرية التداخل، وتعددية الحكايات، والأنساق العلاماتية التصويرية، والتي تنطوي أيضا على بياض آخر، أو فراغ آخر يؤكد احتمالية العلامات التمثيلية، وحضورها المجازي.

وقد تقع علامة المرأة – في نص هناك – في مجموعة من العلاقات التي تؤكد حضورها المتصل بالدليل، أو الأثر، أو حضورها الرمزي طبقا لنموذج بيرس في التحليل السيميائي؛ فحالة المرأة المدخنة كموضوع، تتصل بدليل الزمن / رماد السجائر؛ إنه دليل الحضور الممتد، والغياب في آن، كما تتصل بالحضور الظاهراتي الذي يذكرنا بشخصيات فرجينيا وولف؛ وبخاصة السيدة براون التي نسجت وولف عنها حكاية احتمالية انطلاقا من تجليها كظاهرة؛ وتنبعث مثل هذه الشخصيات بصورة دائرية رمزية من خبرات المجموع، وتاريخ الأدب في نص جرجس شكري؛ وكأنها تؤول حضور المتكلم نفسه، وتدفعه إلى تأويل مغاير لذاته المدركة للآخر، والمؤجلة لاكتمال مثل هذا الإدراك عبر تكرار السؤال في الخطاب الشعري، والارتكاز على الدليل، أو الأثر، أو العلاقة الرمزية.

يقول في قصيدة هناك:

"هناك / سيدة بدينة تدخن كقطار / سألنا: فيم تفكر؟ / من أين جاءت؟ / وماذا تفعل؟ / هذه التي تركت رمادها فوق الطاولة / ووزعت دخان أيامها فوق المقاعد / ثم رحلت كجندي خسر المعركة" (6).

يحيلنا النص – إذا – إلى علامة الدخان كدليل على طيفية التكوين، ومرور الزمن المؤول لكينونة المرأة، فضلا عن اتصال صورة المرأة برمزية احتجاب المدلول المركزي للشخصية في وعي الآخر، وإمكانية تفسيرها من داخل وفرة الأسئلة، ووفرة الاحتمالات التفسيرية الممكنة.

وقد يمتزج الواقع بأخيلة اللاوعي، وتنقل الذات نفسها في بديل / الأيام التي تصير مماثلة للذات في انخراطها في فعل حلمي غير واع.

يقول جرجس شكري:

"وهناك / في الصباح / سأذهب عند النهر / حيث الحقيقة عارية / والأيام تجري بلا أقدام / وفي المقهى سأبتسم لجارتي ..." (7).

ينتقل المتكلم – إذا – من الإحالة إلى كينونته إلى الإحالة إلى الأيام التي تجري عند نهر حلمي بلا أقدام، ثم يعبر فجوة نصية مختلفة إلى المقهى الذي يبدو حلميا أيضا ويتصل برموز الإيروس.

ويحيلنا الصوت الشعري إلى تعددية الأنساق السيميائية المشكلة للفضاء؛ إذ تتداخل في بنيته جماليات التشكيل، والحلم، واستبدالات العلامة في صيرورة السرد الشعري؛ فضلا عن تأكيد الخطاب لرمزية علامة الرأس في التراث الثقافي؛ فهي تذكرنا بسالومي، ولكن في سياق شعري آخر يعزز من تداخل التشكيلي، والحلمي.

يقول في نص خبز الموتى:

"حلمت برأسي يبتسم على على طبق / وظلي يعدو ولا ألحق به / حلمت بالأيام وقد عادت إلى بيتي / بعد أن فقدت الطريق / حلمت بيدي تحمل روحي وعيني تصرخان" (8).

يستبدل المتكلم كينونته – في النص – بعلامة الظل التي تبدو كدليل أو أيقونة فاعلة بصورة استعارية حلمية، وتبدو الدلائل الجسدية الأخرى؛ مثل اليد، والرأس، والعينين في حالة اتصال بعوالم اللاوعي، وتمثيلات اللاوعي الجمعي الرمزية في فضاء تجريبي يجمع بين التشكيل والسرد.

وقد يعزز النص من التداخل بين فضاءات الحلم والواقع والتشكيل، ولكن بصورة واقعية مؤجلة، تستنزف المقطع الحلمي السابق، وتؤكد صيرورة النص، وتجاوزه لبنيته الخاصة؛ وهو ملمح ما بعد حداثي، يؤكد التباين بين التجسد الواقعي للذات، والسخرية ما بعد الحداثية الكامنة في الضحكات المتساقطة على الأرض بوصفها دليلا طيفيا آخر يقع في موقع علامة الظل الحلمية الأولى.

يقول:

"الحلم جرى بطريقة واقعية / حيث شاهدت رأسي بكامل هيئته / واستمعت إلى ضحكات تسقط على الأرض / وحين استيقظت كانت ساقاي تتألمان / من الجري وراء ظلي / وثمة شعور بالأسى في فمي" (9).

ويحتفي الصوت أيضا بالتناقض الإبداعي ما بعد الحداثي في نقضه للإشارات التي يؤكدها الخطاب في جمله الأولى، ثم يستبدل فراغ النافذة بفراغ حلمي آخر منتج للعلامات الوفيرة، ويضع علامة الرأس في موقع النافذة الحلمية، أو في موقع الباب بوصفه فضاء واقعيا حلميا تشكيليا، تتسع فيه التكوينات الطيفية بوصفها قراءة تفسيرية للوجود.

يقول:

"سأحرس هذا النجم / حتى يأتي من يحملون هداياهم / لابني الوحيد / صرت لا أنام / أحرس الباب / وأنتظر ضيوفا لا يجيئون أبدا / رغم أني لم أتزوج / وليس عندي بيت أو نافذة / لكن في رأسي يولد كل يوم بشر ويموتون" (10).

يشير المتكلم هنا إلى احتفالية منتظرة، ومجموعة من الهدايا التي تستحيل إلى احتفالية مجازية أخرى بالفراغ الإبداعي المنتج للعلامات والأصوات المحتملة.

وقد تنبثق علامة الذات في مقهى حلمي، يصير فضاء للتحولات الأسطورية التي تذكرنا بنقوش الكهوف القديمة في فنون ما قبل التاريخ، ولكن في سياق الصور المقطعة اللاواعية، والإعلاء من جماليات اللامعقول في بنية تشبه الواقع، وتعيد تشكيله أو تأويله في تعددية القوى المتجاورة المنفصلة والمترابطة؛ والتي تذكرنا بحديث ليوتار عن صورة الأرخبيل طبقا لخطابه ما بعد الحداثي.

يقول جرجس شكري في نص قصيدة :

"يطل الخوف من النافذة / يمد يده ويصافح اللص / كانت يد الخوف طويلة / حيث تجاوزت المقاعد والطاولات / فقفز الكلب من المشهد / وبكى اللص / ثم ضحك المتشرد / ونحن الذين توقفنا عن الثرثرة فجأة لا نعرف الضرورة الحياتية التي جئنا من أجلها / ولا نملك مبررا دراميا للضحك أو البكاء" (11).

تستنزف علامة اليد هنا سياقها الزمنى في لحظة الحضور، وتشير إلى التحولات الأسطورية القديمة في بنية الحلم الجمالية، ويصير فضاء المقهى قراءة تأويلية لتعددية الواقع، وبنى اللامعقول، وازدواجية حالتي الاتصال، والانفصال في بنيته المعقدة، والمتداخلة.

وينسج المتكلم احتفالية حلمية أخرى بالفراغ، ولكن بصورة تعكس دائرية العبث، وبهجة الحضور الحلمي الآخر الذي يقع ضمن نيتشوية علامات الحداد نفسها، والتي تؤكد حالة التناقض الإبداعي الذي يعزز من دلالة تداخل كل من بهجة علامة أبولو، وغياب علامة ديونسيوس طبقا لتصور نيتشه في مولد التراجيديا؛ ومن ثم يقوم المتكلم بسرد احتفالية متخيلة للبهجة والفراغ معا.

يقول في قصيدة أشياء ليس لها كلمات:

"رتبوا كل شيء كما يجب / الندابة جاءت بعيون تملؤها / الدموع / ومعها من الحزن / ما يكفي أياما كثيرة / في حين أبلغوا الراقصة / أن تخلع ملابسها / بما يحفظ هيبتها / إلى جوار الموسيقى / ثم طردوا أثاث البيت / الكرسي والطاولة وإبريق الشاي / وقالوا: ليكن فراغا ..."(12).

تبدو علامة الفراغ هنا في سياق بدايات أخرى، أو دورة طيفية، تتوافق مع إيقاع علامتي الموسيقى، والراقصة، فضلا عن فعل الحكي في خطاب المتكلم؛ ومن ثم يعيدنا الفراغ الإبداعي لمدلول الولادة.

 

هوامش الدراسة /

(1) Read, Philosophical Writings of Pierce, Selected by Justus Buchler, Dover Publications, New York, p. 102.

(2) جرجس شكري، أشياء ليس لها كلمات، دار آفاق بالقاهرة، ط1، 2017، ص 38.  

(3) جرجس شكري، السابق، ص-ص 39، 40.

(4) السابق، ص 44.

(5) السابق، ص 48.

(6) السابق، ص 55.

(7) السابق، ص 57.

(8) السابق، ص 70.

(9) السابق، ص 71.

(10) السابق، ص-ص 73، 73.

(11) السابق، ص-ص 13، 14.

                                                       msameerster@gmail.com