تجربة شعرية كاتلانية، غيما غورغا، في قصائد قصيرة قام بتقديمها وترجمتها الى اللغة العربية الشاعر والمترجم المغربي خالد الريسوني، في سعيه الدائم لتقديم جغرافيات شعرية من الأدب الاسباني والايبيري ومن أمريكا اللاتينية، صاحبة فوضى الأيدي وكتاب الثواني وكتاب الدقائق، تقتنص صدى الزمن الاستعاري وتلك التفاصيل المرئية الصغيرة كي تغلفها بميسم شعري خاص، وهو ما يجعلها أحد الأصوات الشعرية الأكثر تعبيرا عن راهن القصيدة الكتلانية اليوم.

قصائد

غيـما غـورغا

ترجمة خالد الريسوني

 

  1. مثلما يتحطّم صحن

تحلّقنا حول مائدة، أحيانا كنا ثلاثة عشر شخصاً، نقتسم ذلك الضوء الذي كان ينكسر بين أصابعنا نحيلاً مثل الفطير، أحياناً كنّا اثنين فقط، لربما أنت وأنا أو فقط ظلانا اللذان كانا جائعين.

وأحياناً كان يجلس شخص وحيد وبأصابعه كان يتحسّس الخشب، مثل الذي يبحث عن الصحن البارد حيث يرغي الضياء حتى عرفنا يوماً ما وبشكل يكاد يكون صدفة عن الموت كما لو كان الأمر يتعلّق بلعبة، في كل مساء تفضّل كراسيَ أقل معدّة حول المائدة، متعبين وهرمين لكننا كنا نركض لكي نضمن كرسياً لنَسلبَ الحياةَ الكسرةَ الأخيرةَ من الضوء.

تتصدع وفي الأخير تكسرُ الصحنَ الذي يحتويني كاملة، الصحن الذي أكون فيه كل ليلة. الصحن الذي هو أنا ذاتي، الصحن الذي أقَدِّمُ لكم فيه ما يمكن للمرء أن يأكله مني. تتصدّع وفي الأخير تنكسر كلمة صحن التي كانت تحتوي كلمة أنا، والتي كانت تحتوي كلمة أنت (تناثر حروف كما لو أن القاموس ذاته تحطم). أعرف أني مِتُّ قبل أن أتأمل جسدي الممدّد على الأرض بكثير.

فمن ذا الذي تركني أنفلت من بين يديه مِثْلَ طَقْمِ خَزَفٍ صينِيٍّ زَلِقٍ؟ أن تموت هكذا مثلما يتحطم صحن إلى ألفِ قطعةٍ وأن تتأملَ الروح وهي تضطرم مثل حساء في الخزف الأخرس.

 

  1. حتّى يتدفق الفراغ من شدة الامتلاء

حينما كانت صبية يروق لها أن تغطي بيدها
زجاج المصباح اليدوي وتنظر في مواجهة الضوء
المنظر الجانبي الملتبس للأصابع في احمرار مائع،
والحرير الأبيض
للجلد، تلك الرغبة المستديمة في أن يخترق الضوء
لحمها وأن يصل إلى الأعماق الموغلة
من القلب. كما لو كانت هي بكاملها فانوسا صينيا صغيرا
من ورق ناعم. ومع الأعوام فهمت مع ذلك
أن الليل يرخي سدوله دوما في مركز الوردة.
**
نزن الجسد لحظات قبل الموت.

نزن الجسد دقائق بعد الموت،

عملية رياضية بسيطة
للطرح يجب أن تكشف وزن الروح.

أفكر الآن، ما دام لديَّ كتابٌ جديدٌ بين يديَّ،
الكلمات فيه بعد ما تزال لزجة مثل زغب طائرٍ وُلِدَ لِلتَّوِّ،

وأتساءل إن لم يكن بعد أن
تمت قراءته يزن أقل،

مثل جسد حين يفقد روحه.
**
ليلا، تكون الأسئلة مُومِضَةً وتنظرُ إلينا بعيونِها،

عيون قط.

هي مومضة مثل عظام
واراها التراب.

ومثل العظام هي قاسية وغريبة

وتستمر أبعد من أجوبتها.
**
أرفع شمسية النافذة لكي يلج الضوء.
أسحب الستارة لكي يلج الضوء.
وأغلق عيني لكي يلج الضوء.
**
العطالة ملكية غريبة للمادة.

 فحينما ترحل مثلا يحتفظ الهواء بحرارة جسدك خلال
برهة. مثلما يختزن الرمل خلال الليل كله الفتور الحزين للشمس.

حينما ترحل،

لكي نواصل مع المثل ذاته،

تلحُّ يداي على المداعبة رغم عدم وجود جلد للمداعبة،

وحده الهيكل العظمي للذكرى يتعفن في فراغ السلم.

حين ترحل تترك خلفك الأنت

اللامرئي الملتحم بالأشياء الصغرى:

لربما شعرة ما في الوسادة،

نظرة ما قَدِ الْتَوَتْ
على ماسكات الرغبة،

قشرة من لعاب في أطراف الأريكة،

جُزَيْءٌ من حنان في
صحن حَمَّامٍ رشَّاشٍ.

ليس من الصعب أن أعثر عليك:

فالحُبُّ يُسْعِفُني في أن أقومَ
مقامَ عدسةٍ مُكَبِّرَةٍ.
**
بالملاقط المعدنية للذكاء نحاول أن نستأصل لون المادة

مثل الذي يستأصل الغشاء
الهلامي الذي يكسو الأعضاء.
وبعدئذ نحاول أن ننتزع الدفء

من كل ذرة رمل – بصبر المُضِيِّ واحدا واحدا
حتى الحصول على كَوْنٍ أليفٍ.

عزل ضمير الفعل،

حتى تَرْكِ النواة الصلبة
للمصدر وحيدة.

عزل فقاعة الصابون

حتى تَرْكِ جَمَال الكُرَةِ المُبتعدةِ وحيداً،

عزل ألمِ الألم حتى تركِ الآلام وحيدةً

 

  1. بيت يتّسع للجميع

كم كيلومتراً بقي للوصول

إلى النسيان، إلى الأرض الموعودة حيث لن تكون قط

إلى الأبد؟ تتحرك ليلاً وتتقدّم في سرّية 

عبر جذور الأشياء مستفيداً من تستّر 

الظلال. تتقدّم دون أن تثير الشبهات، 

مثل الغابات لمَّا تنام العصافير والمياه

قد كنت في المكان الذي هربت منه هذا الصباح، 

وستكون في المكان الذي سوف أصل إليه هذه الليلة.

*

ما الذي يوجد في الفضاء بالأبيض الذي يفصل حرف الألف والباء؟

ما الذي يوجد بين صورتين ضوئيتين تتعاقبان وتكادان تكونان متماثلتين؟

وبين هذه القطرة والتي تليها والأخرى،

متوحدات حَدَّ القول بأنها تتقدم ملتصقة الواحدة بخِصْرِ الأخرى؟

وبين هذا التفكير القديم الذي يفْنَى والتفكير الجديد الذي يولد؟

أحيانا تصْمتُ

الحياة وتحتوي سكتات طفيفة،

ندوبٌ تكاد تكون غير مسموعة،

شقوق صغيرة حيثُ

يتراكم اللاوجود واللااسم واللاقطرة واللاتفكير

إلى أن يَتدفّقَ الفراغ من شدة

الامتلاء.

*

الفمُ صغيرٌ حسب أيّ عبارةٍ.

وبالمقابل فالصمتُ شاسعٌ

مثل بيت عائليٍّ كبيرٍ وقديمٍ:

يتَّسِعُ للجميع ويضيعُ فيه الجميع.

 

هامش:

  • غيما غورغا (Gemma Gorga) شاعرة كتلانية من مواليد برشلونة عام 1968 والقصائد المنشورة هنا من مجموعتها "كتاب الدقائق". تدرّس الشاعرة الأدب القروسطي وأدب عصر النهضة في جامعة برشلونة، ونشرت مجموعات شعرية عديدة، من بينها: فوضى الأيدي (2003)، أدوات مبصرية (2005)، وكتاب الثواني (2006).
  • خالد الريسوني، شاعر ومترجم مغربي من مواليد الدار البيضاء عام 1965. إلى جانب الكتابة الشعرية، أصدر العديد من الترجمات عن الإسبانية، من بينها: "عن الملائكة" (2005) لـ رفائيل ألبيرتي، و"يوميات متواطئة" (2005) لـ لويس غارثيا مونطيرو، و"تلفظ مجهول" و"ابتداع اللغز" (2007) لـ خورخي أوروتيا، و"لالوثانا الأندلسية" (2009) لـ فرانسيسكو ديليكادو، و"اليوم ضباب" (2009) لـ خوسيه رامون ريبول، و"زوايا اختلاف المنظر يليه: كتاب الطير والسكون المنفلت" (2009) لـ كلارا خانيس، و"الكتاب خلف الكثيب" (2010) لـ أندريس سانشيث روباينا، "الأعمال الشعرية المختارة" (2010) لـ لوركا، و"خلوات وأروقة وقصائد أخرى" (2011) لـ أنطونيو ماشادو، و"مائة قصيدة وشاعر" (2012) لـ خوسيه مانويل كاباييرو بونالد، و"وصف الأكذوبة يليه: يشتعل الخسران" (2013) لـ أنطونيو غامونيدا، و"حقول قشتالة" (2017) لـ أنطونيو ماشادو، و"بإيجاز" (2017) لـ ليوبولدو دي لويس، و"يستحق العناء" (2017) لـ خوان خيلمان (...)، والعديد من الأعمال الشعرية المترجمة عن دور النشر المغربية والعربية والدولية، هذا الى جانب مشاركاته العديدة في مهرجانات شعرية عالمية.