تتوقف الناقدة اللبنانية هنا عند نص روائي عراقي يعالج الجنس والذكورة والسلطة، وتتوقف عند الدلالات الثاوية خلف هذه المقولات من خلال تتبع المبنى الحكائي والشخصيات.. وصولا الى استخلاص رؤية النص العميقة.

«التشهّي»: نوستالجيا البلاد المؤجلة

سلفانا الخوري

على الغلاف الخلفي لرواية "التشهي" للكاتبة العراقية عالية ممدوح، يشير الناشر (دار الآداب) باقتضاب دقيق الى أننا في صدد رواية تسعى الى "تعميق معنى الجنس من حيث علاقته الأساسية بالسياسة، والذكورة من حيث علاقتها بالسلطة وأزلامها. وتحكي عن الفقدان الأليم للذات وللحبيبة وللوطن". وإذ ينجح هذا التعريف في صوابية قلما نجدها على أغلفة الكتب الخلفية، في القبض على أحد مستويات العمل المتقدمة، لا بد من الإشارة الى إننا لسنا إزاء رواية ايروتيكية، الجنسُ فيها هدفٌ في حد ذاته. ذلك أن البحث لا يطاوله مباشرة بقدر ما يتم من خلاله. فالجنس هنا ليس إلا مدخلاً الى قضايا أخرى. إنه احد التجليات الحسية الأعنف، لتقهقر نفسي وعاطفي لكن وجودي خصوصاً، يتخذ من الجسد الهارب الى الأمام ومن شهواته مسرحاً: من ناحية، ثمة شهوة الجنس المخذولة التي تأخذ شكل عضو جنسي ذكوري ضامر، ومن ناحية ثانية هناك شهوة الأكل المتفاقمة حتى الحدود المرضية. وبين أجساد النساء وطيّات الشحوم واللحوم التي لا تنفكّ تتراكم لديه، يحاول بطل الرواية سرمد برهان الدين أن يدفن خيباته المتتالية والخيانات المتكررة للذات والحب واللغة والمدن والأوطان. يتشبّث بجسده كنقطة الاستدلال الأخيرة الى ذاته وكينونته، قبل أن يخونه الجسد بدوره فيكون الانهيار التام والغياب الأكيد.

تكتب عالية ممدوح بنبرة من لم يعد لديها ما تخسره. تقول وتقول وتقول، كمن تُفرغ من جوفها كميات هائلة من كلام لا يعوِّل على شيء. ينعكس القول على شكل جمل طويلة تتناسل وتتوالد من ذاتها، وكانت لتكون أقوى وقعاً لو نالت المزيد من الاعتناء والتدقيق.

تفتتح الرواية على ما يبدو للوهلة الأولى انه تهشيم كاريكاتوري للصورة الذكورية، قبل أن يتكشف في ما بعد عن أبعاد تراجيدية ذات إحالات سياسية وايديولوجية واجتماعية أكثر تعقيداً. في هذا المشهد من الفصل الأول، نعاين رد فعل الطبيب الباكستاني حكيم الصديقي إزاء اختفاء، أو بالأحرى ضمور العضو الذكري للمريض الذي يتابعه في مسألة سمنته سرمد برهان الدين. على النقيض من الفصول اللاحقة، نجد هنا التراجيديا حتى أقصى مداها الكوميدي. إنها اللحظة القصوى في الرواية حيث تبدو الكاتبة كأنها تطلق النار على بطلها، وكل ما يلي هو محاولة للتنقيب في هذا "الموت" الناجز، إن عبر العودة الى طفولته في مدينة الوزيرية العراقية وتفتّحه على الحياة والحب والجسد والأفكار، أو من خلال حياته الراهنة في بريطانيا.

في هذا الإطار، تقدّم الكاتبة من خلال بطلها شخصية "غائبة" في معنى من المعاني. غياب أشبه بموت بالقوّة، تفضحه منذ بداية الرواية عبارات مثل هذه التي يستخدمها الطبيب الباكستاني في حديثه الى سرمد: "أيّ نهم للأكل يمسك بك فيدع الحجاب الحاجز يتشقق لكنك لا تموت لسبب سرمدي خرافي لا اعرفه ولا اعرف سره. لماذا لم تمت؟ ولا حلّ أمامك إلا الموت، أنت أصلا كنت مخصصاً للموت، قوة الموت، وضرورته". هذا العراقي اليساري السابق الذي لم يكمل الخمسين، هو نموذج البطل المضاد والشخص الهامشي. هو شخص مرصود للغياب، وكل ما فيه ليس إلا إثباتا لـ"عاديته". بدءاً من شكله "العدواني": سمنته الفائضة التي تنعكس ثقلاً في حركاته وكلامه ومشيته، جلده الذي يتقشّر، شاربه الذي توقفت شعيراته عن النمو و "الذي يقع ما بين اللونين الرصاصي والبني من كثرة الصبغات التي لا (يجيد) وضع نِسَبِها كما يجب". مروراً بموقف الآخرين منه، فكما تقول كيتا عشيقته الألمانية لا احد يطيقه، لا الشيوعيون ولا البعثيون ولا الأصوليون ولا المستقلون. وصولاً الى نظرته الى الحياة التي لا مكان فيها لأي مرجعيات إيمانية، اجتماعية أكانت أم عاطفية أم فكرية: "إيماني شحيح وكلما أنتقل من رتبة يبدأ الخواء يتضاعف من حولي. أما النساء فكنّ على الضد مني، كان لديهن إيمان بشيء غير مرئي لا اعرف ما هو". هي نظرة بين بين، تبدو مستقيلة ولا مبالية فيما هي في الواقع عاجزة لا أكثر: "سرمد، مدينتك تُدكّ دكاً وأنت غير قادر أن تدكّني بوردة"، ستقول له عشيقته البيضوية.

لكنه أيضا شخص "مطرود الى لامكان". غادر مدينته الوزيرية حيث كانت الحرب تستخدمهم ضد الحب، لأنه شعر انه يقف عند الحدود القصوى ما بين الجريمة والجنون. لكن الواقع انه لم يعش يوماً خارج تلك المدينة: "فقدتُ بلدي الى الأبد دون أن اكسب بلداً آخر"، يقول. أخيرا، يأتي عمله في الترجمة ليشكل ذروة هذا الغياب. فالمترجم "هو بقايا من ثمار الآخرين وخوفهم". الشخص الهامشي بامتياز ورمز غياب الأصالة لمصلحة النسخ الخائنة.

في اختصار، رغم حجمه الضخم، سرمد برهان الدين لا وجود له. هو لا احد. رجلٌ مدمّر: "يوسف نحن أنقاض يا عزيزي"، يدفن مشاعر الإذلال والانكسار والفشل والفراغ في نهم للامتلاء بأي شيء وبكل شيء، كأنه رغم أعوامه الخمسين لم يتخطَّ المرحلة الشرجية. حتى انهياره في النهاية، لن يأخذ شكل الموت الفعلي المهيب، بل سيكون غياباً عادياً حتى حدود التفاهة. أما "اختفاء" عضوه فليس إلا جزءاً من سلسلة "الأشياء والموجودات والمدن والأماكن" التي تختفي على التوالي من حياته.

في فلك سرمد تتحرك الشخصيات. أو بالأحرى تظهر وتغيب بمقدار ما يسعها الإضاءة على شخصيته: شقيقه مهنّد، العضو في المخابرات العراقية و "الرجل رغماً عنه" الذي كانت الجريمة فرصته الأخيرة. يوسف، الطبيب النفسي بخيباته الجنسية، صديق سرمد اللدود الذي سيرافقه في لحظات وعيه الأخيرة. كيتا، العشيقة الألمانية التي قدمت الى لندن بعد أعوام من سقوط جدار برلين لتعيد النظر في مفهوم النضال متمنية "سقوط جدارات أخرى داخلنا". أبو مكسيم، الشيوعي السابق كما يدّعي، الذي كان يزداد تودداً الى سرمد كلما نكّل أخوه مهند بالشيوعيين في المعتقلات. أيضا: نسيم جلال الشيوعي السابق بـ "خياناته" المتنوعة. ألف، حبيبة سرمد التي صارت زوجة أخيه. هؤلاء وسواهم من يساريين انحرفوا صوب الفساد، وبعثيين يتسللون الى حياة اقرب الناس ويحصون أنفاسهم، وشيوعيين يخفي الواحد منهم تحت إبطه "البازباند" وهو "الدعاء الحامي والهادي والمنقذ في الجولات السياسية والجنسية الفاشلة"، هؤلاء جميعاً نتابعهم في سعيهم المرتبك الى هزيمة خساراتهم بعد سقوط الايديولوجيات المختلفة، جدراناً أكانت أم أنظمة أم أفكارا.

في كل مرة، يكون الجسد هو المرجع والدليل واللغة البديلة التي تحاول التعويض عن غياب المدن والأوطان والأحباء. يصير الجسد كذلك بديلاً من اللغة الفعلية نفسها: البديل من انكليزيةٍ كانت لغة الأحلام والاستيهامات، وصارت لغة الغازي بعدما "دخل الشقر مدينتنا"، ومن عربيةٍ باتت بدورها لغة "مشوَّشة" وقاصرة هي الأخرى عن إيجاد المفردات الملائمة لمشاعر لا هي حزن ولا هي ألم ولا هي سأم أو قنوط أو استسلام، بل مزيج منها كلها يصب في نوستالجيا أبعد ما تكون عن صورتها النمطية. نوستالجيا لا تلتفت صوب الماضي بقدر ما تحيل على غير المتحقّق، لتكون تعبيراً وجودياً وحميماً عن هذا القنوط التام من البلاد المؤجلة والوجود المؤجل