يتتبع الباحث المغربي النص الرقمي، ومسيرة تطور مفهومه ودلالاته الغربية تاريخيا، وصولا إلى ما يثيره وصولها إلى ثقافتنا العربية من قضايا وإشكاليات، ويتناول انطلاق تلك الثقافة في المجتمعات العربية، وانتشارها بفضل الكتب النظرية والنقدية، والنصوص الرقمية الإبداعية التي تعتمد دعامة التكنولوجيا الحديثة وشبكة الإنترنت ومنابر الإعلام والتواصل الرقمية.

النص الرقمي في الثقافة العربية

محمد العنوز

 

مقدمة:

تواجه الثقافة العربية العديد من التحديات والصعوبات، في ظل التطورات والمتغيرات السريعة التي تشهدها مختلف الثقافات، وأمام كل انتقال حضاري وتطور تاريخي وابستمولوجي في العالم المعاصر، يتضاعف حجم الرهانات للانخراط في أسئلة العصر وأدوات تفكيره. إن لكل أمة ثقافتها التي تعبر عن كينونتها وهويتها ولكل ثقافة خصائصها التي تميزها عن الثقافات الأخرى. وهذا لا يعني أن تبقى ثقافة مجتمع ما منغلقة عن ذاتها، تعيش بمعزل عن باقي ثقافات العالم، بل على العكس من ذلك، نجد أن هناك انفتاحا وتأثيرا وتأثرا وتفاعلا فيما بينها.

إننا نعيش اليوم في عصر الغزو الثقافي الذي هو جزء لا يتجزأ من الغزو الاقتصادي، الذي يهدف إلى جعل العالم عبارة عن سوق واحدة، يهيمن فيها القوي على الضعيف ويسعى إلى طمس هويته الثقافية ومحو خصائصه الحضارية. "إن مفهوم الامبريالية الثقافية هي جماع العمليات التي تستخدم لإدخال مجتمع ما إلى النظام العالمي الحديث، ولاستمالة الطبقة المهيمنة فيه والضغط عليها، وإجبارها ورشوتها أحيانا كي تشكل المؤسسات الاجتماعية في أنساق تتسق مع قيم المركز المهيمن في النظام وبناه أو حتى الترويج لها."1 وهذا ما يوضح أهداف النظام العالمي الجديد نحو الأمة والمجتمع العربيين في مجال الثقافة.

شهدت الثقافة الغربية تطورا كبيرا في مختلف المجالات، وحققت عدة إنجازات فكرية وعلمية، مستفيدة بذلك مما تحقق من منجزات ثقافية سابقة، ومن ضمنها الثقافة العربية الإسلامية. الأمر الذي يستوجب على الثقافة العربية مواكبة الثورة الهائلة التي حققتها الثقافة الغربية على مستوى تكنولوجيا المعلومات والتواصل، وما نجم عنها من عتاد وبرمجيات؛ مما يساعد الثقافة العربية على دخول العصر الرقمي، ويضمن لها موقعا وتأثيرا ضمن باقي الثقافات الأخرى. على اعتبار أنه كلما تطور الفكر البشري وتطورت أدوات تفكيره، تغيرت أشكال تعبيره، وعليه تغير إدراك الإنسان للوجود والعالم والأشياء.

1- تحديدات مفاهيمية
1.1- مفهوم النص الرقمي

يعتبر النص الرقمي مفهوما جديدا، تولد نتيجة التفاعل والترابط الذي حصل بين الأدب والتكنولوجيا، ولا يتم تحققه إلا من خلال الوسيط التكنولوجي )أي الحاسوب( إنتاجا وتلقيا، وهذا ما يميزه عن النصوص الأخرى الشفاهية والكتابية والإلكترونية التي تتحقق عبر وسائط أخرى )الكلام والكتابة وشاشة الحاسوب(، في هذا السياق، تعرف البريكي النص الرقمي بكونه "النص الذي يتجلى من خلال جهاز الحاسوب، سواء اتصل بشبكة الإنترنت، أم لم يتصل. وهو أيضا النص المقدم رقميا على شاشة الحاسوب. ومعنى أن يقدم رقميا أي أنه يقدم من خلال جهاز الحاسوب الذي يعتمد الصيغة الرقمية الثنائية )0/1( في التعامل مع النصوص".2

وعليه، فالنص الرقمي عبارة عن مجموعة3 من المعطيات النصية المرقمة والتي تتجلى بواسطة شاشة الحاسوب، ويمكن أن تقرأ بطرق متعددة، حيث تقسم تلك المعطيات إلى عناصر معلوماتية توازي الفقرات. لكن هذه العناصر عوض أن تكون متصلة فيما بينها مثل عربات القطار )خطية(، تتسم بكونها روابط دلالية لا خطية ذات معنى، تسمح بالانتقال من معلومة إلى أخرى عندما يقوم المتلقي/ المستخدم بتنشيطها، ويتم التأشير عليها بعلامات تكون مثلا إما كلمة أو جملة.

يتحقق التفاعل في النص الرقمي إذن، بواسطة تفاعل كل من المتلقي/ المستخدم والمنتج/ المبدع، على اعتبار أن المساحة التي تخصص للمتلقي تعادل أو تضاهي مساحة مبدع النص الأصلي، وهذا ما يسمح للمتلقي بتعديل أو إضافة أشياء للنص الأصلي، وذلك حسب قدراته ومهاراته المعرفية بالتكنولوجيا الحديثة 4.

2.1- مفهوم الثقافة الرقمية
أحدث التطور الذي عرفته تكنولوجيا المعلومات والتواصل، خاصة الحاسوب وشبكة الإنترنت، تغييرا في صورة المجتمعات الغربية المعاصرة عامة والعربية على وجه الخصوص، وأصبحت الوسيلة الأساس لتطورها وازدهارها وتقدمها، وأدى الاستخدام الهائل لها إلى إحداث تغيير في طبيعة هذه المجتمعات وتسمياتها، فأصبح يطلق عليها العديد من التسميات: المجتمعات الافتراضية والمجتمعات الإلكترونية والمجتمعات الرقمية، وصاحب ذلك ظهور مجموعة من المفاهيم والمصطلحات نذكر منها: ثقافة الإنترنت، الثقافة الرقمية ... إلخ.

عرف مفهوم الثقافة الرقمية انتشارا واسعا في المجتمعات العربية، بل أكثر من ذلك، دعت العديد من الأصوات إلى تبني هذا المفهوم، في هذا السياق تقول زهور كرام "إن الاهتمام الملاحظ بالثقافة الرقمية في المشهد الثقافي، والمؤسساتي والعلمي العربي، لا يعني مجرد اهتمام/ قراءة بأدب ينتج رقميا، ومحاولة الوقوف عند مظاهره الفنية والجمالية، ولكن يعني أيضا الانفتاح على تنوعات الثقافة العربية، والاعتراف بأحقية الاختلاف في أساليب التعبير، الشيء الذي يعني الانفتاح على مكان خصب للإبداعية العربية"5.

تعتبر الثقافة الرقمية، ثقافة وافدة على مجتمعاتنا العربية المعاصرة، إذ يعد الحقل الثقافي الغربي سبّاقا إلى استعمال هذا المفهوم الذي يعني "الإشارة إلى معطيات ثقافية جديدة من جراء استخدام التكنولوجيا الإلكترونية الجديدة، وما ينتج عنها من هوة فاصلة بين الدول المتقدمة والدول الفقيرة التي تعرف بــ"الفجوة الثقافية"6. ويقصد بالثقافة الرقمية أيضا، قدرة أفراد المجتمع على التعامل مع التطبيقات الرقمية وعلى التواصل مع الآخرين عبر الوسائط المتعددة الحديثة والتلاؤم مع تكنولوجيا المعلومات والتواصل وما ينجم عنها من أنماط ثقافية وسلوكات جديدة.

2- سيرورة النص:
إن المتأمل لتاريخ النص، يجده مر بعدة مراحل، حيث تتميز كل مرحلة تاريخية بطبيعتها وأدواتها وإمكاناتها الخاصة، التي تعبر عن شكل تفكير الإنسان خلال تلك المرحلة وعن فهمه للأشياء وتصوره للعالم ورؤيته للوجود. كما تختلف هذه المراحل فيما بينها من حيث طبيعة الوسيط الحامل للنص وتتفاعل أيضا، بدءا بالمرحلة الشفاهية ومرورا بالمرحلة الكتابية وانتهاء بالمرحلة الرقمية، مما "يعني أن تناول التقنيات الاتصالية من منظور تاريخي يجب أن يتم، ليس بشكل تتابعي منفصل في الزمان والمكان، بل ضمن أفق ترابطي وتزامني، إذ أن أي تقنية جديدة، وإن أصبحت في لحظة تاريخية معينة مميزة للعصر الذي ظهرت وانتشرت فيه، فإنها لا تلغي أبدا سابقتها وإنما تتفاعل معها، منتجة، في المشهد العام لكل حقبة، تقانيات اتصالية ذات خصائص مختلفة"7.

يبين الرسم الآتي السيرورة التي مر منها النص:

 

 

{رسم يوضح مراحل انتقال النص}

تعبر المرحلة الرقمية للنص عن دخول العصر التكنولوجي، وهذا معناه دخول مرحلة جديدة من العمل الثقافي، عبر خلق أشكال تواصلية جديدة وتحصيل المعلومات وتطويرها لتتلاءم مع العصر، وقد أسهمت مجموعة من العوامل في ظهور النص الرقمي، يمكن إجمالها فيما يلي:

  • السيبرنطيقا (Cybernétique)

تعود الإرهاصات الأولى لظهور النص الرقمي إلى "نظرية التحكم" أو السيبرنطيقا، حيث يعد عالم الرياضيات نوربرت وينر (Norbert Wiener) المؤسس الفعلي للسيبرنطيقا، من خلال كتابه "السيبرنطيقا أو التحكم والتواصل عند الحيوان والآلة" (la cybernétique: Information et regulation dans le vivant et la machine)، ويهدف وينر من وراء السيبرنطيقا، الجمع بين ماهو آلي وتقني وبشري (النظرية الإعلامية للرياضيات)، ويعني بذلك، نظرية التحكم والتواصل المرتبطة بالحيوان والآلة، حيث "تم الاتفاق على تسمية الاختصاص الذي يعنى بالتنظيم الآلي ونقل المعلومات سواء تعلق الأمر بالكائنات الحية أو الاصطناعية (الآلة) بـ "السيبرنطيقا" التي تعني "نظرية التحكم"8.

انطلاقا مما سبق، يتضح أن السيبرنطيقا قد أسهمت في ظهور النص الرقمي، على اعتبار أن هذا النص يجمع بين ما هو بشري وما هو آلي تقني. لذلك شكلت السيبرنطيقا "إبدالا جديدا في التفكير ومدخلا ملائما لكل ما تحقق بعد ظهورها على المستوى العلمي والتكنولوجي، وخاصة على مستوى الإعلاميات وكل ما يتعلق بها من علوم الإعلام والتواصل"9.

ب- تكنولوجيا المعلومات والتواصل

فتحت تكنولوجيا المعلومات والتواصل إمكانات مهمة للأفراد والمجتمعات، لتخزين المعلومات ومعالجتها واسترجاعها ونقلها من مكان إلى آخر أو استقبالها من أي مكان في العالم، باستخدام الوسائل والأجهزة التكنولوجية (حواسب، هواتف ذكية، أقراص مضغوطة،،،)، إضافة إلى شبكة الإنترنت، مما يعني الانتقال إلى ممارسة ثقافية جديدة وخلق وسائط تفاعلية جديدة على مستوى الإبداع والتواصل، وهذا ما ذهب إليه نور الدين مشاط بقوله "فالمقصود إذن، استخدام أدوات تكنولوجية (حواسيب، أقراص مضغوطة، أقراص صلبة، مفاتيح (Usb)، ألياف ضوئية، أقمار اصطناعية إلخ) لتخزين المعلومات واسترجاعها ونقلها من مكان إلى آخر باستخدام شبكة الإنترنت أو الإنترانت"10.

في هذا السياق، ظهر النص الرقمي الذي11 يستند إلى ما تقدمه معطيات التكنولوجيا الحديثة في تقديم جنس أدبي جديد، يجمع بين الأدبية والإلكترونية، ولا يمكن تلقيه إلا عبر الوسيط الرقمي أي الحاسوب.

يستفاد مما سبق، أن الأدب الرقمي أفاد من الثورة التكنولوجية والإعلامية، وذلك من خلال تطعيم نصوصه ومضامينه الجمالية والإبداعية بوسائط متعددة، منها ما يتصل بالنص والصوت والصورة والحركة والمشهد الفيلمي ولغة البرامج المعلوماتية،،، إنتاجا وتلقيا.

ج-البحث العلمي
أسهمت عملية عقد المؤتمرات والندوات والتكوينات الجامعية التي تعنى بالأدب الرقمي، إضافة إلى تأسيس الدوريات والمجلات والمواقع الإلكترونية والصحف،،، في ازدهار حركة التأليف والنقد في مجال الأدب الرقمي، وعليه المساهمة بشكل فعال في ظهور النصوص الرقمية والتعريف بها ونشر الوعي بالثقافة الرقمية وتبادل التجارب والخبرات حولها والتحسيس بدورها الفعال لمواكبة تطورات العصر الرقمي.

د- الاستجابة لحاجات الإنسان الفكرية والتعبيرية:
سعى مجموعة من النقاد والأدباء والمبدعين إلى إيجاد وسيط إبداعي جديد يستجيب لمتطلبات قارئ هذا العصر، الذي يقضي ساعات طوال أمام شاشة الحاسوب دون كلل أو ملل مقارنة مع قراءته لكتاب ورقي، خاصة في ظل أزمة القراءة التي تعاني منها المجتمعات العربية، والبحث له عن بديل يتماشى والعصر الرقمي، فكانت الرغبة في التجريب والتحديث، وكان وراء استخدام الوسيط التكنولوجي (الحاسوب) وشبكة الإنترنت، ظهور نصوص رقمية توظف كل معطيات التكنولوجيا وما يرافقها من عتاد وبرمجيات، لتلبية حاجات إنسان هذا العصر الفكرية والتعبيرية.

 إن "التكنولوجيا الحديثة، بما فيها الكمبيوتر والسكانير والإنترنت هي وسائل تحتاج إلى إحساس وإبداع. فالعلاقة مع الذكاء الاصطناعي والفضاء الافتراضي تعطي إمكانات لا حصر لها للمارس"12.

3- ثقافة النص الرقمي في المجتمعات الغربية
تعد المجتمعات الغربية سباقة إلى استخدام الوسيط التكنولوجي لإنتاج وتلقي نصوص أدبية رقمية، ويمكن اعتبار مقال فانيفار بوش (Vanevar Bush) "كيف نفكر؟" سنة 1945 من المقالات الأولى المؤسسة والممهدة لظهور النص الرقمي، وقد بنى تصوره من خلال إدراك منطق اشتغال النص المترابط، الذي يتطلب انتقاء الرابط بوصفه منتجا للمعنى، إضافة إلى ذلك، نجد أعمال الألماني تيولوتز (Théo Lutz) التي نشرها بمجلة أوجينبليك (Augenblik) سنة 1959، انطلاقا من الكلمات المائة الأولى من رواية "القصر" لكافكا، مستخدما في ذلك عملية التوليد الآلي التي يتيحها الحاسوب الرقمي.

وفي الستينيات من القرن الماضي، ظهرت بعض الألعاب الإلكترونية والنصية ذات البعد الرقمي، نذكر منها الألعاب النصية التي نشرتها جماعة"أليبو" (OULIPO) أواخر السبعينيات. هذه الأعمال وغيرها التي ظهرت خلال الفترة الممتدة ما بين أواخر الأربعين والسبعين من القرن العشرين، يمكن اعتبارها مرحلة تأسيسية للثقافة الرقمية الغربية.

أما الفترة الممتدة ما بين الثمانينيات وأواخر القرن العشرين، تعتبر مرحلة تجريبية، خاصة مع ظهور الحاسوب الشخصي، حيث 13ستظهر تجارب فرنسية مع جماعة "ألامو" (ALAMO) التي تهتم بتنظيم ورشات خاصة بالعلاقة التي تربط الأدب بالحاسوب، علاوة على أعمال جان بيير بالب (Jean Pierre Balpe) النظرية والتطبيقية التي تقوم على أساس المولد الآلي للنصوص،،، وفي سنة 1985 سيظهر أول نص رقمي مع الروائي الأمريكي ميشال جويس (Michael Joyce) بعنوان قصة الظهـيرة (Story Afternoon)14. وقد اعتمد مبدعها في إنجازها على برنامج المسرد، الذي وضعه بتعاون مع دافيد جي ولتر (David J Bolter) في مختبر الذكاء الاصطناعي الخاص بجامعة ييل (Yale) من أجل كتابة النص المترابط باعتباره "نظام لتقديم المعلومات المرتبطة في مسارات غير خطية (Nonlinear)، يجمع كل منهما في إطار دلالي معين، ويسمح للمتلقي بالتجول بين المعلومات واختيار المسارات وبناء المعنى الذي يلبى حاجاته ويتفق مع خصائصه المعرفية"15.

بعد ذلك، توالت التجارب والبرامج في مختلف الدول الغربية (أوربا وأمريكا وآسيا) ونشرت العديد من النصوص الرقمية، نذكر منها رواية "عشرين في المائة حب زيادة" لفرانسوا كولون (F.Coulon) و"الزمن القذر" لفرانك دوفور (F.Dufour) وفي سنة 1996 صدرت رواية "شروق شمس 69" (Sunshine 69) لروبرت ألانو (Robert Arellano) كما تأسست العديد من المجلات مثل مجلة "للقراءة" (ALIRE) التي يشرف عليها فيليب بوتز (Philippe Bootz) سنة 1989، وعقدت مجموعة من الندوات وألفت الكتب التنظيرية والنقدية التي تعنى بالنص الرقمي.

في حين، تجسد الفترة الممتدة مابين بداية القرن الواحد والعشرين حتى اليوم، مرحلة إنتاجية بامتيازلمختلف النصوص الرقمية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر "الرواية-الإميل" لجون بيير بالب سنة 2001،،،

انطلاقا مما سبق، يمكن القول إن المجتمعات الغربية تمتلك نصوصا رقمية كثيرة بما تحمله الكلمة من معنى، وهذا راجع إلى الثقافة الرقمية السائدة فيها والتي أسهمت فيها حركة التأليف والإبداع والنقد الرقمية، إضافة إلى توفر الشروط التقنية والمعلوماتية الضرورية داخل هذه المجتمعات.

4- ثقافة النص الرقمي في المجتمعات العربية:
إذا كان النص الرقمي قد عرف انتشارا واسعا في الثقافة الغربية إنتاجا وتلقيا، بفضل الثورة التكنولوجية والإعلامية، إضافة إلى ازدهار حركة البحث العلمي في مجال الممارسة التكنولوجية في علاقتها بالأدب والتي ساعدت على توفير أرضية خصبة للإنتاج الرقمي، فإن ظهوره في الثقافة العربية عرف تأخرا، ويرجع ذلك إلى طبيعة العلاقة التي تربط المجتمعات العربية بالتكنولوجيا الحديثة أو بالثقافة الرقمية بوصفها ثقافة وافدة عليها، حيث يلاحظ أن هناك فجوة رقمية بيننا وبين المجتمعات الغربية على مستوى الإبداع والإنتاج الرقمي. وهذا ما أكدته زهور كرام بقولها "إذا كانت عملية التأليف الأدبي الرقمي تعرف انتشارا مهما في التجربتين الأمريكية والأوروبية بفضل إيجابية الشروط التقنية والمعلوماتية للمجتمعات الأمريكية والأوروبية، والتي تسمح بالانخراط الموضوعي إنتاجا وإبداعا في الثقافة الرقمية، إضافة إلى نشاط البحث العلمي الذي يعد مناخا خصبا لتطوير العلاقة مع التفكير الإنتاجي الرقمي، فإن التجربة العربية ما تزال تعرف بطءا من حيث إنتاج الإبداع الرقمي، وذلك لأسباب بنيوية ذات علاقة بموقع التكنولوجيا في الحياة العامة والعملية في المجتمعات العربية"16.

نبه مجموعة من النقاد والأدباء والمبدعين العرب منذ بداية الألفية الثالثة، إلى ضرورة العمل على ردم الفجوة الرقمية التي تفصلنا عن المجتمعات الغربية، وذلك من خلال العمل على دخول المجتمعات العربية في العصر الرقمي والانخراط فيه إبداعا وإنتاجا وتأملا. ونتيجة لهذه الحركية، ظهرت مجموعة من المقالات والدراسات والكتب التنظيرية والنقدية للأدب الرقمي، تلتها عدة إنتاجات إبداعية رقمية، تهم مختلف الأشكال التعبيرية: (الرواية والقصة والشعر والمسرح).

تعتبر النصوص الرقمية للأردني محمد سناجلة، هي الأولى في العالم العربي، حيث صدرت له أول رواية " ظلال الواحد" سنة 2001، وقد 17 اعتمد في إبداعها على تقنية (Links) أي الروابط المستعملة في بناء صفحات الويب، ثم توالت بعد ذلك إبداعاتهالرقمية المتنوعة: رواية "شات" سنة 2005، وقصة "صقيع" سنة 2006، ورواية "ظلال العاشق (التاريخ السري لكموش)" سنة 2016، ثم قصة "تحفة النظارة في عجائب الإمارة (رحلة ابن بطوطة إلى دبي المحروسة)" سنة 2016، حيث وظف سناجلة في إنتاج هذه النصوص برامج الفلاش ماكرو ميديا والمونتاج السينمائية وفن الكرافيك وغيرها من التقنيات التكنولوجية.

بالإضافة إلى أعمال محمد سناجلة الرائدة، برزت في الساحة العربية مجموعة من النصوص الرقمية لمبدعين عرب، نذكر منها قصة "احتمالات" للمغربي محمد اشويكة، و قصيدة "تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق" للشاعر العراقي عباس مشتاق معن، ومسرحية "مقهى بغداد" للمسرحي العراقي محمد حسين حبيب، وقصة "المسيخ إلكترونيا" للكويتية حياة الياقوت، وقصيدة "غرف الدردشة" للسعودي عبد الرحمن ذيب.

ويلاحظ أيضا، أن تأسيس اتحاد كتاب الإنترنت العرب، والمواقع، والمدونات، وعقد المؤتمرات والندوات الثقافية والعلمية، وإحداث تكوينات علمية في الجامعات، تعنى بالأدب الرقمي، إضافة إلى تخصيص جوائز للأدب الرقمي،،، يعكس الاهتمام الكبير للمبدعين والنقاد والباحثين بالثقافة الرقمية العربية.

انطلاقا من هذه المعطيات، يتضح أن هناك ثقافة رقمية بدأت تنتشر في المجتمعات العربية، بفضل الكتب النظرية والنقدية، والنصوص الرقمية الإبداعية التي تعتمد دعامة التكنولوجيا الحديثة وشبكة الإنترنت ومنابر الإعلام والتواصل الرقمية، لكونها نصوصا رقمية ذات أبعاد ثقافية عربية، رغم قلتها من الناحيتين الكمية والكيفية.

 

- الهوامش

*- محمد العنوز، جامعة مولاي إسماعيل مكناس-الكلية متعددة التخصصات بالرشيدية-المغرب.

1-هربرت شيلر،الاتصال والهيمنة الثقافية، ترجمة وجيه سمعان عبد المسيح، سلسلة الألف كتاب الثاني رقم 135،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص.21.

2-البريكي فاطمة، الكتابة والتكنولوجيا، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2008، ص. 41.

3- ROGER, Laufer et DOMENICO, Scavetta, « Texte, Hypertexte, Hypermédia », In Que sais-je ?, N°2629, Ed. Presses Universitaires de France, 1992.P.3.

4-العنوز محمد، تفاعل الأدب والتكنولوجيا، نصوص الواقعية الرقمية لمحمد سناجلة نموذجا، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، عمان، 2016، ص.23.

5-كرام زهور، الأدب الرقمي، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، القاهرة، 2009، ص.60.

6-السيد نجم، الثقافة الرقمية ضرورة، تاريخ الزيارة: 26 نونبر 2017، على الرابط:

www.diwanalarab.com

7-مهنا فريال، علوم الاتصال والمجتمعات الرقمية، دار الفكر، الطبعة الأولى، دمشق، 2002، ص.504.

8-يقطين سعيد، النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية، نحو كتابة عربية رقمية، مرجع سابق، ص.91.

9-المرجع نفسه، ص.91.

10-مشاط نور الدين، المدرسة المغربية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2011، ص.35.

11-البريكي فاطمة، مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2006، ص.49.

12-ابراهيم الحسين، الفن والتكنولوجيا، مستقبل الدرس التشكيلي في عصر الميلتي ميديا، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2012، ص.24.

13-يقطين سعيد، النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية، نحو كتابة عربية رقمية، مرجع سابق، ص.187-188.

14-JOCE Michael, Story Afternoon :

www.eastagate.com/catalog/afternoon.html

15-عبد الحميد محمد، الاتصال والإعلام على شبكة الإنترنت، عالم الكتب، الطبعة الأولى، القاهرة، 2007، ص.113.

16-كرام زهور، الأدب الرقمي، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية، مرجع سابق، ص.19.

17-العنوز محمد، تفاعل الأدب والتكنولوجيا، نصوص الواقعية الرقمية لمحمد سناجلة نموذجا، مرجع سابق، ص.48.