رسالة السودان: التقرير الاستراتيجي لمركز الدراسات السودانية

و.. ذكرى الشاعر صلاح احمد ابراهيم!

عصام أبوالقاسم

لعل أهم ما شهدته الساحة الثقافية السودانية خلال شهر مايو صدور العدد العاشر من التقرير الاستراتيجي " حالة وطن" 2008 ـ 2009 عن مركز الدراسات السودانيّة وهو مركز ثقافي أهلي اسسه الاكاديمي د. حيدر ابراهيم واستهل عمله في 2001. هذا التقرير الذي دشن المركز طبعته الجديدة في مؤتمر صحفي يوم الاحد 10 مايو، يكتسب اهميّة خاصة لعدة اسباب: اولها إن ادارة المركز استطاعت ان تصمد في اصداره الي ان وصل عدده العاشر، ثانياً ان هذا التقرير الذي يقع في 397 صفحة من القطع الكبير يرصد حالة الوطن في محاور عدة، تغطي النشاط السياسي والاجتماعي والثقافي، وذلك بالعناوين التالية (السياسة الداخلية، السياسة الخارجية، السياسات الإقتصادية، حركة المجتمع المدني) بالتالي يطلعنا علي حال التخطيط والعمل في السودان علي اصعدة هي بمثابة الاعمدة الاساسية لحركة المجتمع. كذلك يمثل اصدار هذا التقرير مؤشراً علي فعاليّة مؤسسات المجتمع المدني، بالرغم من بؤس ظروفها المادية والشروط القاسية التي تعمل ضمنها!

افتتاحية متشائمة
تبدو افتتاحية التقرير التي كتبها د. حيدر ابراهيم متشائمة لحد بعيد، فهي تري ان العام 2009 يمثل منعطفاً مصيرياً قد يحدد وجود السودان من عدمه، فالاستحقاقات التي حان موعدها عديدة، بالإضافة لعدد من التحديات على المستويين المحلي والعالمي، سيكون السودان جزءاً من تداعياتها، تري الافتتاحية انه بالرغم من كثرة المطلوبات ولزومية الاستجابة والتهيؤ للتعامل معها، إلا أن المعطيات الواقعية لا تبشر باستعداد السودانيين ـ حكومة ومعارضة، ومجتمعاً مدنياً وقوى حية ـ للمواجهة وإيجاد الحلول والبدائل. وتقول الافتتاحية إن الفجوة بين الممكن والواقع واسعة.. الامكانيات الكامنة غير قادرة علي مقابلة الواقع، وان النخب ـ في كل مواقعها ـ اظهرت فشلها الفكري والعملي، فهي ـ كما تقول الافتتاحية ـ لا تحلل ولا تفهم مشكلاتها بعقل موضوعي منهجي وقومي ايضا، مما أدي الي تبني وسائل وآليات خاطئة في الغالب، لا صلة لها بأصل المشكلة، وان في ذلك جوهر اللاعقلانية وفوضي الفكر والعمل!

وتركز الافتتاحية من بعد علي موضوع المحكمة الجنائية مشيرة الي ان هذه هي المشكلة الاكثر تعقيدا، فالسودان لا يعترف بالمحكمة الجنائية، لانه غير موقع علي اتفاقية روما، ولكن الاحالة للمحكمة جاءت من مجلس الامن وللمفارقة ـ يقول حيدر ابراهيم ـ لم تستخدم "الصديقة" الصين، حق الفيتو لمنع القرار! وتخلص الافتتاحية الي ان السودان يقف في مواجهة المجتمع الدولي ويعطي النظام السوداني الفرصة للمزيد من التدخل الاجنبي وهذه المرة قد يكون بالقوة، وتشير الي تأثيرات الازمة الاقتصادية مع التأكيد علي انها أطلت برأسها علي السودان قبل الازمة العالمية التي فاقمت من شدة الاضرار، فالميزانية العامة لهذا العام جاءت مليئة بالنواقص والعيوب، وظهر عجزها من الشهر الاول، ولجأ الوزير الي الغيبيات ليصرح علنا ان السودان محسود، وتقول الافتتاحية ساخرة، في هذه الحالة نحتاج الي فكي/ شيخ أو كاهن أو "كجور" وليس لمتخصصين في الاقتصاد!

وتدعو الافتتاحية الي التقشف ومحاربة الفساد بجدية، والي ارساء دعائم السلام والاستقرار والعدالة في كل انحاء السودان والتعجيل بانفاذ مقررات الاتفاقات الموقعة انتقالا الي مرحلة بناء دولة حديثة وديمقراطية موحدة بدلا من تقسيم الثروة والسلطة كغنيمة. وتقر الافتتاحية بقتامة الصورة لكنها تضيف: هي صورة واقعية بشدة، وانها قد تتفاقم باضرارها في حال ظل النظام الحاكم علي حاله، واستمرت المعارضة في اللامبالاة، وركن المواطن للغيبوبة، فالسودان وطن علي حافة الانهيار والاندثار، ليلحق بكيانات بادت ودفنتها رمال الفشل التاريخي!

محاور التقرير
اشرنا الي ان التقرير يتمحور في العناوين: (السياسة الداخلية) يتضمن مقالات لمحمد علي جادين "تطورات السياسة الداخلية"، وعبد العزيز محمود "اوضاع الصراع في دار فور"، وماهر ابو الجوخ "اتجاهات الانتخابات القادمة"، ومحمد كشان "الحريات الصحفية". والعنوان التالي هو (السياسة الخارجية) واسهم به السفير جعفر كبيدة، اما العنوان الثالث فهو (السياسات الاقتصادية) واسهم به محمد عبد الواحد "موازنة" العام المالي 2009 "، وسليمان محمد أحمد، وصديق عبد الهادي "اضواء علي مشروع الجزيرة"، وخالد التجاني "تقرير عن النفط المنتج في جنوب السودان"، ومحمد عبد الواحد" مشروع سد مروى". والعنوان الرابع في التقرير هو (حركة المجتمع المدني)، واسهم به يوسف بدوى بـ "المجتمع المدني والتحول الديمقراطي" ومأمون التلب بـ "التقرير الثقافي"

ملاحظات أولي
ما يلفت في التقرير بصورة عامة ان بعض مواده جاءت رصداً خالياً من الرأى أو التحليل، وفي هذا الاطار بدت كرصد لابرز ما حصل ـ في تقدير من أعد التقريرـ وليس كل ما حصل، وفي جانب اخر اهتم التقرير خاصة في محور السياسة الداخلية، بالتحليل أكثر من الرصد، حتي ان بعض المساهمات في هذا الجانب أكتفت في كتابتها لتورايخ بعض الوقائع بالاشارة هكذا "بداية العام المنصرم أو منتصف العام المنصرم" ما يعبر عن اهتمام بالواقعة لا ميعادها، ويمكن القول ان هذا يؤشر علي "الانتقائية" في تقرير الحال، فالوقائع الواردة مجلوبة، لانها تتسق مع الفكرة الاساسية التي قصد الكاتب ـ أو من أعد التقرير ـ ان يبيّنها لا بحكم ورودها في زمن ما أو مكان ما!

التقرير الثقافي
عموما ما يهمنا في هذا السياق هو التقرير الثقافي الواقع بين صفحة 299 ـ 344 وقد أعده مأمون التلب الشاعر والمحرر الثقافي بصحيفة الاحداث المحلية، وهو عبارة عن رصد لما شهدته الساحة الثقافية من انشطة منذ يناير ولغاية اكتوبر 2008 اضافة لمحلق تضمن المذكرة التي رفعتها بعض الكيانات الثقافية لوزارة الثقافة تطالب فيها بتعديل لائحة تسجيل الجماعات الثقافية. هذا التقرير كان يمكن ان يضاعف اهميته لو قرأ رصده للاحداث الثقافية، بدلا من عرضها كما هي، أو بدلا من انتقاء بعضها وحشدها في الورق دون الاشارة الي الفلسفة التي اقتضت ذلك، وبدون أي جهد تحليلي، بل دون ترتيب طبقاً لتعدد مجالات الانشطة الثقافية!

هكذا تجد ان الفقرات في التقرير تتوالي، دون فرز ما بين ما هو أدبي وفني، أو ما هو تشكيل أو شعر أو رواية وتعرض بصفة اخبارية كالتالي:

(في 2 مارس شارك الفنان التشكيلي محمد بشارة في معرض تشكيلي جماعي بمتحف اكسفورد) أو (نظم القسم الثقافي بصحيفة السوداني بالتعاون مع مؤسسة طيبة برس السبت 1 مارس احتفالية دشن فيها كتاب "والماء اذا تنفس" للشاعرالمهاجر سيد احمد بلال..)!

قراءة التقرير ـ بهذه الحال ـ تبين ان الساحة التشكيلية كانت الاكثر نشاطاً محليا ودولياً وتوزعت انشطتها ما بين المعارض الفردية والجماعية، وتعقبها الساحة الشعرية التي شهدت هي الاخري حراكا في النشر والمشاركات الخارجية ثم الرواية والقصة القصيرة ومن بعد المسرح والسينما والاخيرة أقل نشاطاً، وغاب النقد خاصة في المشاركات الخارجية باستثناء مشاركة واحدة لاحمد عبد المكرم في ملتقي الرواية بالقاهرة!

واغلب هذه الانشطة ارتبطت بالعاصمة الخرطوم، وفي احوال نادرة ظهرت مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، وغلبت الندوات علي الاصعدة المختلفة وقلّت المؤتمرات وورش العمل!

وأكثر ما يلفت في التقرير غياب المؤسسة الرسمية، اذ لا يوجد أي منشط قدمته وزارة الثقافة الاتحادية أو مؤسساتها الفرعية ـ أو هذا ما يقوله التقرير، فيما ترد اسماء العديد من المراكز الثقافية الاهلية والجماعات الابداعية مثل "مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي" و "مركز الدراسات السودانية" ومؤسسة "رد الجميل" اضافة للمركز الثقافي الفرنسي في الخرطوم! ويلفت ايضا في مجال الدوريات ان السودان شهد خلال العام 2008 صدور دوريتين فقط "كتابات سودانية" في 4 اعداد وهي تابعة لمركز الدراسات السودانية، و "محاور" في عدد واحد وهي تابعة لمركز محمد عمر بشير، وغابت المجلات الثقافية الشهرية والاسبوعية. يلفت ايضا ان بعض الملاحق الثقافية بالصحف السياسية اتجهت الي اقامة الندوات، خاصة الملحق الثقافي لصحيفة (السوداني) والذي يشرف عليه الشاعر الصادق الرضي، وفي هذا اضافة علي دورها في التعريف بالاسماء الادبية، وتكريس قراءة الاعمال الابداعية التي لطالما نقصها التوفر علي المنابر، كما ان ثمة تطور حصل بحركة النشر، خاصة علي مستوى المراكز الثقافية الاهلية، ويبين التقرير ايضا ان الساحة الثقافية انشغلت في اوقات عديدة بقضيّة دارفور، فقد صدرت بيانات من جماعات ابداعية، كما اقيمت في شأنها ندوات ومعارض فنية عدة!

المهم والأهم
بلا شك هناك اهميّة خاصة لاهتمام التقرير الاستراتيجي الصادر عن مركز الدراسات السودانية بالساحة الثقافية، بالرغم من ان ذلك حصل مؤخرا ـ اذ ان ثمة اعداد سابقة منه لم تهتم بالساحة الثقافية ـ ومع الأخذ في الاعتبار ضعف إمكانيات المركز المادية، إلا اننا نعتقد ان الأهمّ في الأمر التجويد الفني، أو قل التحلي بقيم المهنية والمنهجية التي تحرم التحيز، وتستلزم اجتهاداً ودقة، وهذا ما نرى انه نقص التقرير، خاصة في جانبه الثقافي. ونقول ذلك لاننا ركزنا قراءتناعليه أكثر من غيره، اول ما نتوقف عنده في هذا الصدد ان التقرير الثقافي لم يبين في مقدمته أو نهايته اية خلاصة، واكتفي بحالته الغفل "كمرصد للوقائع الثقافية". ولئن بدا ذلك غير مهم فان هذا الدور نفسه ـ أي الاشتغال بالرصد ـ لم يُقدم بالصورة المنتظرة ونشرح ذلك بالاشارة الي حقيقة ان كاتب التقرير لم يقل لنا المعيار الذي اعتمده في رصده للاحداث الثقافية، فهل حصل ذلك علي ضوء اهمية الحدث (جدته، مغايرته، غرابته، حجمه) وقياساً علي ماذا؟ ام علي ضوء علاقته بتيار أدبي أو فني معين أولموقعه الايديولوجي؟ ويبدو ملحوظاً ايضاً تجاهل التقرير لمجالي الموسيقي والغناء خاصة المناسبات ذات الطبيعة العامة والمشاركات الدولية باوراق عمل وورش عمل!

اذن التقرير غفل أو "تغافل" عن ذكر العديد من الانشطة الثقافية وحصر بعض الانشطة التي ربما بدت ضعيفة القيمة إذا قيست بإنشطة أخرى غابت أوغُيبت! سوف نعرض ذلك بالتمثيل علي الانشطة المسرحيّة التي عكسها التقرير لكي نبين غفله أو تغافله. ونختار المسرح لأننا أكثر معرفة به، وان كان ذلك لا يمنعنا من القول ان مما يستوجب وقفة خاصة ألا يتضمن التقرير أشارة الي أي منشط ثقافي قدمته وزارة الثقافة، وإن كان ذلك صحيحاً، افتراضاً، فمن الغريب الا تتضمن افتتاحية التقرير اشارة اليه!

ثلاث تقارير عن المسرح
للمصادفة اننا نتوفر علي تقريرين كُتبا عن المسرح السوداني في 2008 الاول انجزه الناقد د. شمس الدين يونس ونشر بكتاب "المسرح في العالم" الصادر ضمن منشورات الهيئة الدولية للمسرح، والثاني اعده الناقد السر السيد لغرض بحثي. ومع الأخذ في الاعتبار ان هذين التقريرين صدرا باختصاص في المسرح، الا ان ثمة امكانية فيما نرى لقراءتهما معا في البداية لتبيان الفروق التي تحدثها المواقع علي العين الراصدة والمقررة من جهة، ومن الجهة الثانية لتبيان الاشكاليات الفنية التي يتسبب فيها واقع غياب المصادر، أو ضعفها في لملمة وحصر المعلومات. إضافة الي حال عدم الاقرار بذلك أو الاعلام به، وهو ما نظن انه أثر في مساهمة مأمون التلب، التي لم يرد فيه أي ذكر للمسرح الا في اربع مواضع فقط منذ يناير الي اكتوبر 2008. وهي بالترتيب في فبراير تقديم جماعة الجمام لعرض مسرحي عنوانه "لعبة الكروان" علي هامش زيارة الشاعر السوداني المقيم باستراليا عفيف اسماعيل، وفي مارس ذُكر مهرجان ايام البقعة المسرحية، ثم عرض التقرير لزيارة المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد للخرطوم، في اطار ذات المهرجان، في يوليو يورد التقرير مشاركة المسرحي عفيف اسماعيل في ورشة عمل علي نفقة الحكومة الاسترالية في مدينة كانبيرا. وفي سبتمبر يورد التقرير تكوين كيان "مسرحيون من اجل التغيير" وندوة وحيدة قدمها بعنوان "المسرح السوداني واسئلة التحول الديمقراطي". عدا ذلك يخبر التقرير بسفر جماعة الورشة المستمرة لتطوير فنون العرض "المستقلة" للمشاركة في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي (ولا يذكر الفرقة المسرحية الرسمية التي شاركت في المسابقة الرسمية للمهرجان ذاته، في ذات التوقيت بمسرحية محاكمة مصطفي سعيد تأليف حسبو محمد عبد الله)!

تقرير الهيئة الدوليّة للمسرح
تقرير الهيئة الدولية للمسرح هو واحد من مجموعة تقارير تضمنها كتاب الهيئة الدولية للمسرح الذي صدر في طبعة عربية، هي الاولي من نوعها، من ترجمة د. خالد المبارك ونجلاء التوم ومجدى النعيم، وبرعاية من امارة الفجيرة ـ دولة الامارات، في اكتوبر 2008. وكاتب التقرير الخاص بالمسرح السوداني د.شمس الدين يونس هو أمين مكتب الهيئة في الخرطوم، ولقد حشد في 1103 كلمة ما يبين فعالية الاداء في مكتبه وفروعه للفترة 2005 الي 2008" وبصفة انتقائية، ولم يول اي اهتمام لمناشط عديدة قُدمت من جهات أخري واعتمد صيغة انشائية أكثر من الاحصاء، ويكفى ان نشير الي ان هذا التقرير عرض لانتاج المسرح القومي/ المؤسسة المسرحية خلال العام ،2008 مكتفياً باشارة عامة كالتالي: (تقف الفرقة القومية للتمثيل بوصفها مؤسسة حكومية وإحدى إدارات المسرح القومي السوداني، وهي تتمتع بالدعم الرسمي من الدولة، لتسيير نشاطها المسرحي المتمثل في المواسم المسرحية المفترضة، حيث تقدم حوالي إحدى عشر مسرحية في العام، وكلها مسرحيات سودانية وتقع ضمن تقاليد المسرح العالمية). و تجاهل المناشط الاخري التي تمثلت في ندوات "منبر تجارب" وسمنار الفرقة القومية للتمثيل، الذي انعقد في ابريل واصدارة "المنضرة" و"مسرح العرائس".. الخ!

اما في ما يتصل بمناشط مكتبه، "مكتب الهيئة الدولية للمسرح في السودان"، فقد احصى كل كبيرة وصغيرة، وبتورايخها واماكنها، وقد اراد ان يُظهر ان مناشط "مكتب الهيئة الدولية للمسرح" في الخرطوم أكثر تأثيرا وحضوراً مما تقدمه أي مؤسسة اخرى، رسمية كانت أو اهلية، ولهذا الحس الاقصائي جذوره في تجربة هذا المكتب، والشاهد علي ذلك انه، وبحسب التقرير ذاته، اقام عدة ورش عمل بمشاركة مسرحيين عالميين، كما شارك في فعاليات مسرحية في دول عدة مثل بولندا وتركيا والقاهرة والكويت، وكل هذا غير معروف إلا لإدارة المكتب ذاتها، وعناصرها في الغالب اذ لطالما تمّ العمل هنا بصورة سرية، بالرغم من ان الأصل في عمل هيئة المسرح الدولية الوصول لقطاع واسع من مسرحيّ الهامش، والفرق التي لا تجد عونا من المؤسسة الرسمية، ونورد ان الساحة المسرحية السودانية تنظر بالكثير من السخط لتجربة مكتب الهيئة في الخرطوم. وبحسب العديد من التحقيقات الصحفية والتقارير والمقابلات، منذ العام 2004 ولغاية الان، فان الامور داخل مكتب هذه الهيئة في الخرطوم، تدار بطريقة تقصي الفاعلين من المسرحيين السودانيين، وتنغلق علي مجموعة صغيرة علي رأسها الممثل علي مهدي، والذي صار نائباً لرئيس الهيئة مؤخرا، ود. شمس الدين يونس الذي صار هو الاخر مديرا للمسرح القومي ـ للمفارقة ـ وثلة من الممثلين تعمل في الفرقة الخاصة بعلي مهدي!

اما التقرير الثالث والذي أعده الناقد السر السيد فهو يعتمد علي صيغة احصائية ويرتب الاحداث بمواقيتها، ونسبة النشاط المسرحي المرصود أكبر، خاصة في جانب الندوات وورش العمل، لكن أكثر ما يلفت فيه، مع الأخذ في الاعتبار طبيعته الخاصة، انه غفل عن ذكر أمرين، في غاية الاهمية، الأول: ما أثير حول تكوين مكتب الهيئة "العربية" للمسرح في الخرطوم، من ان طريقة تأسيسه لم تكن شفافة ـ وهو ما عرضنا له في رسالة سابقة عبر الكلمة ـ وهو أمر تمت اثارته في الصحف بصفة شبه ثابتة، منذ اغسطس ولغاية سبتمبر 2008م، وبدا لافتاً حال المماثلة في ظروف تأسيس مكتب هذه الهيئة العربية للمسرح بالخرطوم، وظروف تأسيس مكتب الهيئة الدولية للمسرح!

لكن ربما كان السبب وراء عدم وجود اشارة بتقرير السر السيد الي ما أثير في هذا الجانب.. ان السر السيد ذاته هو جزء من المكتب الذي تم انتخابه، بصفة سرية، وللمفارقة انه تم انتخابه بالرغم من عدم حضوره الجمعية العمومية "الافتراضية" التي أُنتخب بعدها المكتب التنفيذي! أما الامر الثاني الذي يبدو غريبا فهو الا ترد في تقرير السر السيد اشارة الي "استقالة" المسرحي مكي سنادة، خاصة وانها "استقالة عن المسرح" كفعل إبداعي لا عن أدارة مكتب ما! أمر بكل هذه الغرابة، من الغريب الا يبدو لافتاً لمن يكتب عن المسرح السوداني في ،2008 ومكي سنادة من الاسماء المسرحية السودانية الرائدة، وقد قدم استقالته نتيجة لسوء الاحوال في المجال المسرحي، وقد قدم مشروعا لاقامة مهرجان مسرحي بدعم من وزارة الثقافة، الا انه لم يجد الاستجابة التي توقعها ـ بحكم خدمته الطويلة للمؤسسة الرسمية ـ ما حمله الي إشهار استقالته عبر الصحف!

هكذا يتبين لنا ان مادة التقرير تختلف تبعاً لموقع الكاتب أو نظرته، وفي كل حال لا يتم الاهتمام بما حصل فعلياً من احداث، لكن بما يري كاتب التقرير انه حصل، ولا يترافق ذلك مع اشارة الي انه قد تكون ثمة احداث غائبة، لسبب أو لآخر، مثل ضعف المصادر، أو العجلة في كتابة التقرير، مما يؤدي، في النهاية، أو عند القراءة الفاحصة، الي ضعف قيمة التقرير بل عدم أمانته وزيفه!

ذكرى الشاعر صلاح أحمد ابراهيم
وجدت الذكرى السادسة عشر لرحيل الشاعر صلاح احمد ابراهيم (1933 ـ 1993) اهتماماً لافتاً من قبل رابطة الكتّاب السودانيين، فقد اقامت امسية قُدمت فيها بعض اشعاره وقراءات نقدية حول تجربته بمشاركة نادي الشعر السوداني، واسهم فيها مجذوب عيدروس واحمد الصادق وايمان ادم اضافة للشاعر عبد الله شابو وذلك بمقر اللجنة الوطنية لليونسكو في 17 مايو.

صلاح احمد ابراهيم ولد بمدينة أمدرمان في 27 ديسمبر 1933، درس بكلية الاداب جامعة الخرطوم ومعهد الدراسات الافريقية في غانا، واشتغل مدرسا ومفتشا للضرائب، كما عمل بوزارة الخارجية السودانية بالامم المتحدة، كما عمل سفيرا للسودان بالعاصمة الجزائرية علي عهد الرئيس الاسبق الجنرال جعفر محمد نميري (1969 ـ 1985) ولكنه استقال بعد تبدل سياسات النظام، بخطاب قوي قدمه للوزارة نورد منه: «لقد قررت الاستقالة من عملي سفيرا لكي أضع ما ليّ من بعض موهبة متواضعة تحت قدمي شعبي المعفرتين بالكدح» وقد عرف عن الشاعر الراحل صلاح أحمد ابراهيم تمسكه الشديد بالاشتراكية، وشُغل منجزه الشعرى خاصة في بداياته بمقاربة قضايا التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية. كذلك عُرف بمساهماته في حقول ابداعية عديدة وان كان الغالب علي انتاجه الابداعي: الشعر، الذي كتبه بالعامية والفصحي، وقد اسهم في الترجمة وكتب القصة القصيرة، وصدرت له في 1958 مجموعة قصصية بالاشتراك مع صديقه الكاتب الراحل علي المك هي"البرجوزاية الصغيرة" وترجم "النقد الادبي الامريكي" في العام 1960 اضافة لكتاب باتريك فان "الارض الآثمة"، وصدرت أولي مجامعيه الشعرية في العام 1959 بعنوان "غابة الابنوس" اعقبها بـ "غضبة الهباباى" 1965 واصدر بالعامية "محاكمة الشاعر للسلطان الجائر" في العام 1986، وبعد انتقاله الي فرنسا ترجم وكتب لعدة صحف هناك ثم عمل مستشارا لدى سفارة قطر بباريس الي ان رحل في 17 مايو 1993. في العام 2000 وبمبادرة من اصدقاء للشاعر صدر للراحل من ابو ظبي ديوان "نحن والردى" بتقديم من الشاعر واللغوي السوداني الراحل عبد الله الطيب، ويلفت في الديوان انه تضمن مقالات للراحل مثل "لكي لا ننسى" التي انتقد فيها علاقة النميري بالاخوان المسلمين، وبعض المراثى النثرية. وعن دار ابنوس صدرت له في العام 2007 مجموعة شعرية بعنوان "وطني" باشراف د.يوسف عيدابي، وبمقدمة كتبها الشاعر الرائد تاج السر الحسن.

إن من يقرأ للراحل صلاح أحمد ابراهيم يكتشف جرأته في التعامل مع اللغة العربية، والتي طالما مزجها بالعامية، كذلك يكتشف ان ديوانه الشعري انفتح علي سير المناضلين في العالم، بداية من السودان وافريقيا مرورا بآسيا الي اوربا.. سيرهم في مغالبة الطغاة، وقد استحضرها الشاعر الذي رحل منفياً بحسه النضالي الشفيف وفاءا وتحية.. كتب عن جوزيف قرنق، الشفيع احمد الشيخ، ثوار الجزائر، وعن جمال عبد الناصر، سلفادور اييندي، ودولوريس ايباروري رئيسة الحزب الشيوعي الاسباني وغيرهم!

صلاح أحمد ابراهيم بمقدار ما يبدو شرساً في نصوصه"بمختلف اجناسها" ضد الانظمة السياسية القامعة، حيث يتحول الحرف في قلمه الي سلاح بذات القدر تقطر شعرية الراحل بفيوض العذوبة والطلاوة حينما يقارب موضوعات الحب والجمال، وهو ما نرى انه يتجلي في قصيدته "مريه" وهي هنا لقراء مجلة الكلمة. 

مريّه
يامريّه:
ليت لي ازْميل (فدياس) وروحاً عبقرية
وأمامى تل ُ مرمر
لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك
تمثالاً مُكبر
وجعلت الشعر كالشلال:
بعضُُ يلزم الكتف
وبعض يتبعثر
وعلى الأهداب ليلاً لا يُفسر
وعلى الخدين نوراً يتكسر
وعلى الأسنان سُكر
وفماً كالأسد الجوعان زمجر
يرسل الهمس به لحنا معطر
وينادى شفة عطشى وأخرى تتحسر
وعلى الصدر نوافير جحيم تتفجر
وحزاماً في مضيقٍ، كلما قلتُ قصيرُُ هو،
كان الخصر أصغر
يا مريه
ليت لي إزميل (فدياس) وروحاً عبقرية
كنت أبدعتك يا ربة حسنى بيديَّ
يا مريه
ليتني في قمَّةِ (الأولمب) جالس
وحواليَّ العرائس
وأنا في ذُروة الإلهام بين المُلهماتْ
أحتسي خمرةَ (باخُوس) النقيَّة
فإذا ما سرتْ النّشْوةُ فيَّ
أتداعى ، وأُنادى: يا بنات!
نقٍّّروا القيثار في رفقٍ وهاتوا الأغنياتْ
لمريه.
يا مريه
ما لعشرينين باتت في سعير تتقلب
ترتدى ثوب عزوف وهي في الخفية ترغب
وبصدرينا (بروميثيوس) في الصخرة مشدوداً يعذب
فبجسم الف نار وبجسم الف عقرب
أنتِ يا هيلينُ
يا من عبرت تلقاءها بحر عروقي ألفُ مركبْ
يا عيوناً كالينابيعِ صفاءْ... ونداوة
وشفاهاً كالعناقيدِ امتلاءْ... وحلاوة
وخُدوداً مثل أحلامي ضِياءْ... وجمالا
وقواماً يتثنّى كبرياءْ... واخْتيِالا
ودَماً ضجَّتْ به كلُّ الشرايينِ اشتهاءْ.. يا صبيَّة
تَصْطلي منهُ صباحاً ومساءْ... غجريَّة
يا مريّه
أنا من إفريقيا صحرائها الكبرى وخطِّ الإستواءْ
شحنتْني بالحراراتِ الشُموسْ
وشوتني كالقرابينِ على نارِ المجُوسْ
لفحتني فأنا منها كعودِ الأبنوسْ
وأنا منْجمُ كبْريت سريعِ الإشتعالْ
يتلظَّى كلًّما اشتمّ على بُعدٍ: تعال
يا مريه:
أنا من إفريقيا جوْعانُ كالطِّفلِ الصَّغيرْ
وأنا أهْفو إلى تُفاحة حمراء من يقربها يصبح مذنب
فهلُمي ودعي الآلهةَ الحمقاءَ تغضبْ
وانْبئيها أنها لم تحترم رغبة نفسٍ بشرية
أيُّ فردوسٍ بغيرِ الحبِّ كالصَّحراءِ مُجدبْ
يا مريه
وغداً تنفخُ في أشرِعتي أنفاسُ فُرْقة
وأنا أزدادُ نأياً مثْل (يوليس) وفي الأعماق حرقة
رُبما لا نلتقي ثانيةً
يا مريه
فتعالى وقّعي أسمك بالنار هُنا في شفتي
ووداعاً يا مريه.