يعيش الشارع الفلسطيني اليوم بكل فئاته الاجتماعية وأطيافه السياسية، لحظة استحقاقات انتخابية بمستوياتها الثلاث، التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، والتي لازالت رهينة التجاذبات حول مواعيدها الرسمية التي حددتها المراسيم الرئاسية، ولعل الفلسطيني اليوم في أمس الحاجة إلى الانتخابات بكل مستوياتها، حرة نزيهة، يتنافس فيها المرشحون وفق ضوابط وطنية تحددها ثوابت الشعب والقضية، هنا تقرير مفصل للكاتب الفلسطيني والذي يرصد هذه المحطة السياسية من كل جوانبها، رغم عدم إيمانه بجدواها في ظل الاحتلال، لكنه يربطها بالنزاهةٍ وإجرائها على قاعدةٍ وطنيةٍ.

الانتخاباتُ الفلسطينية

مصطفى يوسف اللداوي

 

المطلوبُ دولياً بصراحةٍ ووضوحٍ من الانتخابات الفلسطينية

لا يكذب علينا أحدٌ ولا يخدعنا، ولا يحاول أن يبيعنا الوهم ويسوق بيننا السراب، ويعدنا بالتغيير ويمنينا بالإصلاح، ويزين لنا الأهداف ويجمل لنا النوايا، فلسنا بالخبء ولا الخبء يخدعنا، ولسنا سذجاً ولا سفهاء، ولسنا بسطاء ولا بلهاء، فالشعب الفلسطيني فطنٌ ذكيٌ، واعٍ مدرك، ويقرأ ويفهم، ويعرف ما الذي يدور في خلف الكواليس ويدبر في الخفاء، وماذا يخطط له في الليل والنهار وفي السر والعلن، ولهذا فقد يصعب خداعه ولا يسهل قياده، وإن أبدى حيناً ليناً فهذا لا يعني أنه صَدَّقَ الوعود وسَلَّمَ بالأماني، ولكنه شعبٌ يتوق إلى التغيير ويتطلع إلى المستقبل، ويأمل في الإصلاح ويتمنى المحاسبة ومحاربة الفساد، ويريد تقديم الأكفأ وإقصاء الأسوأ، في إطار خدمته وتسهيل سبل معيشته، تمهيداً لاستعادة حقوقه وتحرير أرضه وبناء وطنه.

الانتخابات الفلسطينية المزمع إجراؤها في الأشهر القليلة القادمة ليست استحقاقاً وطنياً، ولا هي استجابة للرغبة الشعبية، ولا التزاماً بالديمقراطية وإيماناً بها، ولا هي حرصاً على التجديد والتبادل السلمي للسلطة، والمشاركة والواسعة وضخ المزيد من الدماء الشابة والمتفتحة في هياكل السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فهذه المطالب الشعبية المحقة والمشروعة مطالبٌ قديمةٌ، وحاجاتٌ أصيلة ومشروعة، وقد نادى بها الشعب، وناضلت من أجلها قواه وفصائله، ولكن أحداً لم يستجب لها أو يصغي إليها.

لا شيء من هذا أبداً في ذهن القائمين على الانتخابات الفلسطينية والساعين لها، الذين طاب لهم المقام في السلطة أكثر من خمسة عشر سنةً، فلا يدور في خلدهم أبداً أن يتخلوا عنها أو يتنازلوا لغيرهم، لولا أنه أُحيطَ بهم وضُغطَ عليهم، وطُلِبَ منهم أو أُمروا به، فهم مجبرين على الانتخابات ومساقين إليها سوقاً، ومكرهين عليها وغير راغبين فيها، ولولا الضغوط الدولية والأهداف المطلوبة منها، ما استجابوا لها ولا قبلوا بها، فهي تضر بهم وتهدد مستقبلهم جميعاً، إذ سيغيب بعضهم وسيحاسب آخرون، وسيخسر الكثير منهم صلاحياتهم وامتيازاتهم، وسيفقدون حصاناتهم ومراكز قوتهم، فلماذا يغامرون بمستقبلهم ويقامرون بمكتسباتهم، لولا أن السيد الذي يحركهم أمرهم، والدول التي تمولهم أجبرتهم، والنظام الذي يقبل بهم هددهم.

لم يعد خافياً أن السلطة الفلسطينية قد تعرضت لضغوطٍ دوليةٍ وتهديداتٍ أوروبيةٍ لإجبارها على إجراء انتخاباتٍ تشريعيةٍ ورئاسيةٍ فلسطينية، وثالثة للمجلس الوطني الفلسطيني، لتجديد الشرعية الفلسطينية على قاعدة أوسلو، التي تقوم على الاعتراف بالكيان الصهيوني، وتشكيل حكومةٍ فلسطينيةٍ تعترف بمبادئ السلام، وتلتزم بشروط التسوية، وتقبل بشروط الرباعية الدولية، وتقوم بتمثيل الشعب الفلسطيني في مفاوضات الحل النهائي للقضية الفلسطينية، على قاعدة حل الدولتين مع إمكانية إجراء تعديلات طفيفة وتغييرات شكلية ضمن ما يعرف بتبادل الأراضي وإزاحة الحدود، وفقاً للكثافة السكانية والاحتياجات الأمنية، مع مراعاة الشرط الفلسطينية بأن يكون التبادل بالقيمة والمثل والقدر.

تلك هي الغاية الحقيقية من الانتخابات الفلسطينية، وهي غاية سياسية محضة، وتتعلق باستمرار المفاوضات وإتمامها، وعلى أساس هذه الغاية والأهداف المرجوة منها، سيتواصل الدعم المادي الدولي والأوروبي للسلطة الفلسطينية ومؤسساتها، وإلا فإنها ستحرم وستعاقب، وبموجبها ستلتزم الحكومة الإسرائيلية بالحد الأدنى من ضمان إجراء الانتخابات، على ألا يكون تدخلها بالاعتقالات المستمرة مخلاً بإجرائها أو معطلاً لها، علماً أنها تتفهم الدوافع وتؤمن بها وتسعى إليها، ولهذا فإنه من غير المتوقع أن تعرقلها أو تعطلها.

ووفقاً لهذا الفهم الصريح والواضح فقد قامت السلطة الفلسطينية ممثلةً بحسين الشيخ برفع رسالةٍ تفصيليةٍ إلى هادي عمرو المكلف بملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وقد كان معه واضحاً وصريحاً، وأكد له في المكالمة الهاتفية والرسالة الرسمية، أن الانتخابات الفلسطينية ستجري وفق التزامات منظمة التحرير الفلسطينية واتفاقياتها الدولية مع إسرائيل، التي تعني الاعتراف بها والتفاوض معها، وأشار إلى أن الكل الفلسطيني ملتزمٌ بالمحددات السياسية الدولية التي أقرت بها منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى أساسها ستشارك القوى والفصائل الفلسطينية المختلفة في الانتخابات القادمة.

الإدارة الأمريكية الجديدة غير بعيدةٍ أبداً عن المواقف الأوروبية، فهي تتابع وتراقب وترسم سياستها المستقبلية، وتعد بألا تسمح بفرض أي حلولٍ أحادية الجانب، ودول الاتحاد الأوروبي التي تمول السلطة وتدعمها، لا تقوى على القيام بأي خطوةٍ تتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية بدون التنسيق الكامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي أعلنت رفضها لسياسة الاستيطان ومصادرة الأراضي، وأبدت استعدادها تقديم حزمة مساعدات سياسية ومالية في حال أفضت الانتخابات الفلسطينية إلى تشكيل حكومة فلسطينية، تأخذ على عاتقها استكمال اتفاقية أوسلو، تمهيداً للوصول إلى حلٍ نهائي للقضية الفلسطينية، بما لا يتعارض مع الشروط الإسرائيلية، ولا يتصادم مع المعطيات والوقائع الجديدة سواء تلك التي خلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أو تلك التي تتعلق بالمستوطنات الإسرائيلية الكبرى.

 ينبغي على القوى الفلسطينية كلها ألا تدفن رأسها كالنعامة في الرمال، وأن تدرك حقيقة الغايات المرجوة من الانتخابات، وأن تحدد موقفها الوطني منها بناءً على ذلك، ولا يجوز لها أن تدعي عدم فهمها أو إدراكها لما يخطط للقضية الفلسطينية، فالشروط واضحة جداً، والمطلوب منهم صريحٌ ووقحٌ للغاية، بل صفيقٌ وقليلُ أدبٍ، ولعلهم اليوم في موقفٍ لا يحسدون عليه أبداً، فإما أن يكونوا مع أمناء مع شعبهم ومخلصين في خدمة قضيتهم، ويعلموا أن الحياة وقفة عز وساعة كرامة، وإما أن يكونوا أدواتٍ رخيصةٍ في خدمة مخططاتٍ تضر بهم ولا تخدم قضيتهم، ويقبلوا العيش بذلةٍ والحياةَ بمهانةٍ، مقابل سلطةٍ واهيةٍ ورغيف خبزٍ مشروطٍ، يذل ويهين، ولا يسمن من جوعٍ ولا يغني عن كرامةٍ.

 

الانتخاباتُ الفلسطينيةُ إشرافٌ دوليٌ وغاياتٌ خبيثةٌ

"صوتُك أمانةٌ وضميرُك حَكَمٌ"

المشرفون على عملية الانتخابات الفلسطينية أكثر من الحاجة، وأكبر بكثيرٍ من المهمة، بالمقارنة مع غيرها من الانتخابات التشريعية التي تجري في الدول الأخرى، حيث لا يلقي لها المجتمع الدولي بالاً، ولا ينشغل بها قادة العالم بهذا القدر أبداً،  لكن كونها فلسطينية وتجري في الأرض المحتلة، وتتعلق بالمسألة الفلسطينية التي هي لب الصراع، وأساس عدم الاستقرار في المنطقة كلها، ولما كان لنتائجها دورٌ معقودٌ وأملٌ منظورٌ في عملية التسوية مع الكيان الصهيوني، إذ أن الجهات التي ستفوز فيها سيكون لها دور في مستقبل القضية الفلسطينية، وسيكون عليها التفاوض والتوقيع وفرض الأمر الواقع، لهذا فقد لزم الأمر أن يكون المشرفون عليها أكثر من جهة عدداً ونوعاً، لضمان النتائج المرجوة، والاطمئنان إلى تعبيد الطريق أمام المهام القادمة.

المشرفون على الانتخابات الفلسطينية بمراحلها المختلفة قادةٌ ومسؤولون كبارٌ، فهم ملوكٌ ورؤساء، وقادة أجهزة أمنية ومؤسسات دولية، تقف الولايات المتحدة الأمريكية في مقدمتهم، رغم أنها انتخاباتٌ بسيطة، يصوت فيها أكثر من مليوني فلسطيني بقليلٍ، وهم لا يشكلون بذاتهم وعددهم أهمية لدى قادة دول العالم، لكن الدور المنوط بهم كبير، والغاية المرجوة منهم مهمة، ولا أستبعد أن تكون نتائج الانتخابات الفلسطينية مؤشراً على مستقبل أنظمة عربية قريبة وبعيدة، فمن يحسن الأداء منهم يبقى ويستمر، ومن يفشل ويعجز يرحل ويذهب، إذ لا يوجد في السياسة حسناتٌ وصدقاتٌ وأفعال خير، وإنما هي خدماتٌ ومهامٌ وأدوار، فمن يؤدي مهمته ويلتزم بها يستحق الحماية والبقاء، ومن يقصر ولا يقوى فلا ينتظر جزاءً غير العقاب والحرمان، وكثيرةٌ هي الأنظمة التي توصف بأنها خدمية وظيفية.

يتطلع المشرفون على الانتخابات الفلسطينية، الأسياد والعبيد، والأصلاء والأجراء، وهم كما ذكرت آنفاً، ملوكٌ ورؤساء وقادة أجهزة أمنية، لإتمام المهمة وفق التصورات الموضوعة والدراسات المعدة، وهم لا يتورعون عن التنسيق العلني، وتبادل المعلومات المكشوفة، وإجراء زياراتٍ متبادلة، وممارسة ضغوطٍ وعرض إغراءاتٍ، والتلويح بعصا الحصار وطاحونة الحرب، والترغيب برفاهية الحياة وازدهار الاقتصاد، فهم يريدون تنظيم انتخاباتٍ فلسطينية مبرمجة، تفضي إلى انتخاب قيادة فلسطينية تتوافق معهم، وتنسجم مع سياستهم، وتقبل بشروطهم وتنزل عند آرائهم، ولا تعارض توجهاتهم، وتؤمن بالتسوية والحل السلمي سبيلاً لحل القضية الفلسطينية، وتنبذ العمل المسلح والمقاومة العسكرية، وتلتزم التهدئة وتقبل بشروط التسوية.

سلطات الاحتلال الإسرائيلي لا تقف بعيدة عن العملية الانتخابية، ولا تنأى بنفسها عنها، بل هي اللاعب الأساس والعقل المدبر والضابط الناظم، وعليها يقع الدور الأكبر في رسم المسارات وتحديد المآلات، ومعرفة هوية الفائزين العقائدية وانتماءاتهم السياسية، وإجراء فرزٍ دقيقٍ تضمن فيه النتائج، من خلال تغييب بعضهم اعتقالاً أو اغتيالاً، وتمكين منافسيهم من الحضور الفاعل والمشاركة اللافتة، وقد يكون لها دورٌ قبل الانتخابات فتغيب الأقوياء الفاعلين، أو تتدارك الموقف بعد ظهور النتائج فتغيب الفائزين، وتفقد تيارهم الأغلبية البرلمانية، وتحرمهم من أدوات الفعل والتغيير، فتعطل مجلسهم وتفشل برامجهم.

علماً أنه لا شرعية في ظل الاحتلال إلا للمقاومة، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وقد أثبتت تجارب الشعوب السابقة والأمم المقاومة، التي عانت من الاحتلال وقاست من سياسات الاستعمار، أنه لا شرعية تتقدم على البندقية، ولا انتخاباتٍ –إن جرت- على غير برامج المقاومة ومواصلة النضال، ولا برامج للتسوية مع الاحتلال، ولا أحزاب تتسابق لنيل رضاه وكسب وده وتجنب غضبه.

إنما هي إرادة شعبٍ يصر على مواصلة المقاومة حتى يحرر وطنه ويستعيد حقوقه، ثم يبني سلطته الوطنية على أرضه المحررة، عندما يكون سيداً حراً، قادراً على ممارسة حقه في اختيار ممثليه ممن يرى أنهم أهلٌ للمسؤولية، وأقدر على القيام بمهمة بناء الوطن، حجراً وبشراً، لكن بعيداً عن هيمنة الدول الكبرى الموجهة، ومراكز القوى المؤثرة، وإلا فإن الانتخابات في ظل الاحتلال تشوبها شوائب كثيرة، وينتابها شكٌ أكبر، وتكون محل طعنٍ ورفضٍ، فكيف سيكون الحال إذا كان مع الاحتلال معاونون كبار ومساعدون دوليون أقوياء، يخططون معها ويساعدونها في تحقيق أهدافها.

رغم أن أهداف رعاة الانتخابات شيءٌ آخر، وغايتهم ما ذكرت أعلاه، وهي بالتأكيد ليست في صالح الشعب الفلسطيني وصالح قضيته، بل هي غاياتٌ خبيثةٌ وأهدافٌ سيئة، إذ يتطلعون إلى إقصاء قوى المقاومة ورموزها الوطنية، لصالح غيرهم ممن لا يتورعون عن تقديم التنازلات والتفريط في الثوابت والمقدسات، إكراماً للعدو واتفاقاً معه، واعترافاً به وخضوعاً له.

رغم ذلك تعالوا بنا أيها الشعب العظيم لنثبت للجميع أننا لن نختار سوى المقاومة، ولن نصوت إلا لمن يضمن لنا حقوقنا، ويواصل نضالنا، ويصر على استعادة أرضنا وتحرير كامل وطننا، ولنقول بصوتٍ عالٍ حرٍ صريحٍ "لا" قوية مدويةً لمن يفرط في ثوابتنا، ويتنازل عن حقوقنا، وينقلب على إرثنا، ويخون دماء شهدائنا، وينسى معاناة أهلنا وتضحيات شعبنا، ولنقول "نعم" لمن يحمل الراية ويواصل المسيرة، ويكون أميناً على الثوابت متمسكاً بالحقوق، صادقاً مع الشعب محباً له، وعاملاً معه ومخلصاً له.

 

الانتخاباتُ الفلسطينيةُ بين الشكِ واليقينِ

ما زال الشارع الفلسطيني بكل فئاته الاجتماعية وأطيافه السياسية، ومناطقه السكنية وانتماءاته الحزبية، غير واثقٍ من أن الانتخابات الفلسطينية بمستوياتها الثلاثة، التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، ستعقد في مواعيدها الرسمية التي حددتها المراسيم الرئاسية التي أصدرها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، رغم الأجواء الانتخابية التي بدأت، والإجراءات الرسمية التي اتخذت، وتشكيل لجنة الانتخابات العليا، وتسمية محكمة الانتخابات وتحديد صلاحياتها، والمباشرة في تحديث البيانات الشخصية والقوائم الانتخابية، والاستعدادات الجادة التي ستنطلق في القاهرة تزامناً مع اجتماع ممثلي الفصائل الفلسطينية الأربعة عشر.

ينتاب الفلسطينيين جميعاً رغم الضجيج الذي وقع، والاستعدادات التي بدأت، شكٌ كبيرٌ من أن الانتخابات لن تعقد، وأن المواعيد التي أعلنت غير مقدسة، وأنه يمكن التراجع عنها وتغييرها، وإلغاؤها كلياً أو إجراؤها جزئياً، والسوابق على ذلك كثيرة، والشواهد عليها في إلغاء الانتخابات البلدية الأخيرة ليست بعيدة، إذ ليس هناك ما يجبر المشرفين عليها والمنظمين لها، على عقدها سوى مصالحهم المبتغاة وأهدافهم المرجوة منها، فإذا تبين لهم أنها لن تتحقق كما يريدون، أو أنها قد تنقلب عليهم وتأتي بنتائج عكسية ضدهم، فإنهم سيجدون أنفسهم غير مضطرين لعقدها، بل مرغمين على إلغائها، وهذا أسلم لهم وأفضل من المغامرة والرهان.

هذه السيناريوهات الواردة والاحتمالات الممكنة يدركها الشارع الفلسطيني ويفهمها جيداً، ولكنه يعلم أنها في حال عقدت وتمت حتى خواتيمها، فلا بد أن تكون نتائجها معروفة مسبقاً، أو متوقعة حكماً، دون شكٍ أو مغامرة، أو رهانٍ على الغيب وترقبٍ لمفاجأة، فالهدف والغاية من الانتخابات لا يحتملان المغامرة أبداً، وفوز تيار المقاومة وخسارة فريق برنامج التسوية غير واردٍ أبداً، وتكرار تجربة عام 2006 مرفوضٌ بالمطلق.

لهذا فإن الاعتماد على الهندسة الانتخابية الدقيقة سيكون كبيراً، وسيخضع الشارع الفلسطيني كله لبرمجة انتخابية مسبقة، وخدماتٍ سريعةٍ ووعودٍ كثيرة، وتدخلاتٍ خارجية عربية وأجنبية مستورة ومكشوفة، إلى جانب تهديداتٍ حقيقية وأخرى وهمية، وتحذيراتٍ رسمية داخلية وخارجية، ليضمن المراهنون على الانتخابات دقة النتائج المرجوة، وضمان الشخصيات الفائزة، وإلا فلا انتخاباتٍ تفوز فيها قوى المقاومة، ولا شرعية جديدة لها تبني عليها استراتيجيتها القادمة، وتكسب منها دعماً مادياً وتستفيد تأييداً سياسياً.

لا يوجد قوى ضامنة لإجراء الانتخابات، فلا مجتمع دولي يكفلها، ولا دول عربية أو أجنبية تضمن عقدها، اللهم إلا الرئيس محمود عباس الذي إذا اقتنع بها مضى، وإذا خاف منها وخشي من نتائجها تراجع وانكفأ، على الرغم مما يشاع أنه مجبرٌ عليها ومكرهٌ، وأن دول الاتحاد الأوروبي تضغط عليه لتجديد الشرعية لضمان تدفق الدعم والمساعدات، وأن الإدارة الأمريكية الجديدة تريد منه إجراء انتخاباتٍ تمهيداً للعودة إلى طاولة المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي على أساس حل الدولتين، إلا أنه ما زال قادراً على أن يقرر ما يريد، وعنيداً بما يكفي ليصر على موقفه، فإن شاء مضى في الانتخابات والتزم، وإن شاء عارضها وامتنع عنها، وله في رفضه القديم وإصراره المشهود ما يمكنه من رفض الانتخابات، ولو كانت ضغطاً دولياً أو مطلباً فصائلياً وحاجةً شعبيةً.

لا يوجد ما يطمئن الشارع الفلسطيني إلى أن الانتخابات فعلاً ماضية، جزئياً أو كلياً، ورغم ذلك فقد أبدت شرائح المجتمع الفلسطيني على اختلافها استعدادها للمشاركة فيها، والتصويت لمن ترى أنه الأنسب ويمثلها، والأقدر على خدمتها والأصدق في تعامله معها، والأصدق في شعاراته وأفعاله، ولعل الفلسطينيين اليوم في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وهي المناطق الثلاثة التي ستجري فيها الانتخابات، أقدر على تحديد من يمثلهم، وقد أصبح لديهم خبرة طويلة متراكمة على مدى أكثر من خمسة عشر سنةً مضت، هي عمر آخر انتخاباتٍ رئاسية وتشريعية، ولعل هذه الاستعدادات الشعبية، التي يبدو أنها ستؤثر في نتائج الانتخابات، ستلعب دوراً كبيراً في تحديد القرار الأخير، ما إذا كانت ستعقد أم لا.

 

يأمل الفلسطينيون أن تعقد الانتخابات في موعدها، كونها استحقاقاً لابد منه، وقد تأخرت كثيراً عن موعدها، ويلزم القيام بها أياً كانت الظروف والأوضاع، وبغض النظر عن وجود الاحتلال وسيطرته، ودوره المؤثر فيها، لجهة تغييب البعض اعتقالاً، وتمكين آخرين حركةً وانتقالاً.

إلا أنهم يأملون الالتزام بمواعيدها، إذ يرغبون في محاسبة السابقين، ومعاقبة الفاسدين، وإقصاء من يرون أنهم لا يخدمون قضاياهم ولا يعبرون عنهم، ويهتمون بمصالحهم الشخصية ومنافعهم الذاتية، وبالمقابل يرغبون في انتخاب من يعتقدون أنهم منهم ويشعرون بهم، ويسعون لتحقيق مصالح شعبهم وتغليبها على مصالحهم الشخصية.

إلا أنهم لا يملكون القدرة على فرض القرار وتثبيت المواعيد وتنفيذ المهام، إذ لا يصغي إليهم أحد، ولا تستشيرهم سلطة ولا معارضة، ولكنهم بلا شد يملكون القدرة على المحاسبة والعقاب، والثأر والانتقام، كما يملكون القدرة على الاختيار والانتقاء، والمفاضلة والمقارنة، فقرارهم حرٌ لا يرتهن، وإرادتهم قوية لا تكسر، وكرامتهم عزيزة لا تشترى، ورؤيتهم ثاقبة لا تخطئ، ووعيهم عميقٌ لا يخيب، وقدرتهم على التأثير كبيرة لا تثلم، وإن صناديق الانتخابات لناظرها قريبة.

 الانتخاباتُ الفلسطينيةُ صمتُ البنادقِ وبحةُ الحناجرِ
ليس أفضل من موسم الانتخابات الفلسطينية يتمناه الإسرائيليون دائماً ويفرحون به، فهو بالنسبة لهم موسم الراحة والاستجمام، والهدوء والاستقرار، والطمأنينة وراحة البال، فيه يضعون أسلحتهم، وينظفون بنادقهم، ويتفقدون آلياتهم، ويجرون صيانةً لها، ويخرجون ذخائرها، ويبقونها في حالة الأمان، ويمنحون فيه الإجازات الرسمية، ويعطون العسكريين موافقات الخروج وأذونات الزيارة، ويعود الكثير من جنودهم إلى بيوتهم وأسرهم، وتخف حالة الطوارئ في الجيش، وتتراجع درجة الجاهزية والاستعداد في الكيان.

في موسم الانتخابات يتخفف الإسرائيليون من حذرهم، وينشغلون بمشاريعهم، ويلتفتون إلى برامجهم، وينفذون خططهم، وينشطون على المستويات الداخلية والخارجية، فيزورون بلاداً ويستقبلون قادةً أجانب ومسؤولين دوليين، ويشاركون في فعالياتٍ وينظمون إلى برامج ومعارض، ويستغلون انشغال الفلسطينيين عنهم، فيصادرون المزيد من أراضيهم، ويبنون مستوطناتٍ جديدةً فوقها، ويوسعون القديم منها، ويلتفتون إلى عمليات الاعتقال والمداهمة، وجمع المعلومات والمراقبة، ورصد الأنشطة الدعائية ومتابعة البرامج الانتخابية.

وخلالها يقومون بمناوراتٍ عسكريةٍ مختلفةٍ، وتدريباتٍ قتاليةٍ عاليةٍ، وينقلون قطاعاتٍ من جيشهم ووحداتٍ منه، غير خائفين من مفاجئاتٍ تصدمهم، أو عملياتٍ توجعهم، أو مقاومةٍ تلتف عليهم وتضربهم خلف خطوط النار، أو تباغتهم من حيث لا يتوقعون، وهو حال الحذر واليقظة الذي يكونون عليه دائماً في الظروف العادية التي لا تشبه الانتخابات، وهو حالٍ مريحٌ لهم لم يكن مثله أو ما يشبهه في ظل وباء كورونا، حيث بقوا خلاله، رغم انتشار الوباء واستفحال المرض حذرين وجلين، منتبهين يقظين، قرارهم حاضرٌ وجيشهم مستعدٌ، وبرامجهم ماضية، وخططهم فاعلة، وأيديهم على الزناد جاهزة.

في موسم الانتخابات الفلسطينية تخفت أصوات البنادق، وتتراجع عمليات المقاومة، وتتوقف أعمال التعبئة والتحريض والإعداد والتدريب، وينشغل الفلسطينيون عنها بانتخاباتهم الوطنية، ويلتفتون عن مشاكسة العدو ومقاومته، إلى مشاكسة بعضهم البعض واشتباكهم الانتخابي، ويتبادلون خلال حملاتهم الانتخابية الاتهامات والأباطيل، كلٌ يريد أن يبرز نفسه ويطمس غيره، ويظهر محاسنه ويكشف عيوب منافسيه، ويطهر صفه ويشوه صوره غيره، وهو الأمر الذي يروق للإسرائيليين ويسعدهم، ويخدمهم وينفعهم، فلا أبلغ من أن يجرح الفلسطينيون أنفسهم، ويذموا بعضهم، ويشتبكوا فيما بينهم.

موسم الانتخابات فرصة كبيرة للعدو الإسرائيلي لجمع المعلومات ومعرفة الشخصيات، واكتشاف الأسرار وتحليل البيانات، والاطلاع على خبايا التنظيمات وخفايا الأحزاب، وتحديد الأوزان وتحديث البيانات، ومعرفة الولاءات والتأكد من الانتماءات، وهي فرصته السانحة للتدخل والتوجيه، والتخريب والتشويه، والاختراق والتجسس، وربما المساهمة في تشكيل القوائم وتسمية البرامج، فالقوى الفلسطينية تتنافس على كسب الأصوات وضمان المؤيدين، وليس أسهل على العدو الإسرائيلي من التدخل في هذه المرحلة الحرجة، عبر مختلف أدواته وآلياته، الفلسطينية والعربية، مستفيداً من نفوذه وعملائه، ومستغلاً قدراته وأمواله، إذ أن له من الانتخابات غاية وهدف، كما للفلسطينيين منها غايةٌ وهدفٌ.

فترة الانتخابات الفلسطينية طويلة وغير قصيرة، فهي تمتد من منتصف شهر يناير/كانون ثاني الماضي، الذي أصدر فيه الرئيس الفلسطيني محمود عباس مراسيمه الثلاثة، المنظمة للانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، ولن تنتهي يوم الحادي والثلاثين من شهر أغسطس/آب القادم، بل ستمتد المرحلة إلى أشهر طويلة أخرى قادمة، ينشغل فيها الفلسطينيون في تشكيل حكومتهم، وتفعيل مؤسساتهم التشريعية والبرلمانية في المجلس الوطني، بما يتيح للإسرائيليين فرصةً أكبر لتمرير مشاريعهم وتنفيذ مخططاتهم، في ظل اطمئنانهم إلى أن المقاومة الفلسطينية جامدة، والعمليات العسكرية معطلة، ولعلهم يستفيدون كثيراً من تخوف القوى الفلسطينية المختلفة، من القيام بأي عملياتٍ عسكريةٍ من شأنها تعطيل الانتخابات، أو التسبب في تأجيلها أو إلغائها، وهو السبب أو العذر الذي يبقى البنادق صامتة والأسلحة في ثكناتها رابضة.

هذه الحقيقة المُرة التي نراها، والواقع البائس الذي نعيشه بسبب الانتخابات الفلسطينية، التي تعرقل المقاومة فعلاً وتعطلها، وتفسدها وتضر بها، وتؤخرها ولا تجعلها أولوية، تؤكد على وجاهة الرافضين للانتخابات في ظل الاحتلال، وصواب رأي الداعين إلى أولوية المقاومة على الانتخابات، إذ لا يوجد في سير الشعوب وتاريخ الأمم، شعبٌ أجرى انتخاباتٍ بينما بلاده محتلة، وحقوقه مغتصبة، وسيادته منتهكة، وأبناؤه في السجون والمعتقلات، في الوقت الذي يتعرض فيه لحصار العدو والصديق، وعقوبات الكبار وضغوط الرعاة، وتخلي الإخوان وابتعاد الأشقاء، الذين والوا العدو وعادوهم، واعترفوا به وتنكروا لهم، وطبعوا معه وقاطعوهم.

كان بإمكان قوى المقاومة الفلسطينية كلها، في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، أن تحافظ على جهوزيتها، وأن تبقى على يقظتها، فلا تجمد برامجها، ولا تعطل خططها، ولا تتوقف عن التدريب والتأهيل، والتجهيز والإعداد، والغارة والمناورة، ولا تريح عدوها، ولا تطمئن باله، ولا تخفف الأعباء عن جيشه ومؤسساته، بل تواصل عملها المقاوم على الأرض وفي الميدان، وداخل الأنفاق وعلى الجبهات، وفي المؤسسات والهيئات الدولية، وعلى جبهات النت وساحات السايبر، فلا يستفيد العدو من هذه المرحلة، ولا ينتفع جيشه منها، بل يتشتت ذهنه ويتبدد جهده، ويتعب جيشه ويقلق جنده، وتتوقف برامجه وتتعطل خططه.

لست ضد الانتخابات الفلسطينية وإن كنت أؤمن بعدم جدواها في ظل الاحتلال، بل مع عقدها بنزاهةٍ وإجرائها على قاعدةٍ وطنيةٍ، ولكنني أخشى أن ننشغل بها عن الواجب، وأن نتلهى بسرابها عن الواقع، وأن نفرح بالبدلة وربطة العنق وننسى بزة الحرب وزي القتال، ونتوقف عن قرقعة السلاح ونكتفي بعالي الصراخ، فيفسد سلاحنا وتبح أصواتنا، ونخسر أرضنا ونفقد مستقبلنا، ويومئذٍ يفرح العدو ونحزن، ويبتهج ونخزى. 

الانتخاباتُ الفلسطينيةُ مطلبٌ وطنيٌ ومظهرٌ حضاريٌ
الانتخاباتُ واحدةٌ من أَجَلِّ الصور وأكثرها تعبيراً عن التطور والمدنية والحداثة، والقبول بالتعددية والعيش المشترك في ظل الديمقراطية، وهي ميزة تمنح للأمم التي تؤمن بها وتخوضها، وتقبل نتائجها وتلتزم بمخرجاتها، ولا تثور عليها ولا تنقلب على من يفوز بها، وهي مظهر حضاري سامٍ لا تتصف بها كل الشعوب، ولا تتحلى بها كل الأمم، ذلك أنه يلزمها النزاهة والمصداقية، والوضوح والشفافية، وتكافؤ الفرص والتنافس الحر الشريف، بعيداً عن الغش والتزوير وشراء الأصوات واستغلال الحاجات.

الفلسطينيون وإن كانوا يعيشون في ظل الاحتلال، ويخوضون معركة التحرير والمقاومة، إلا أنهم يؤمنون بالديمقراطية، ويخوضون التجارب الانتخابية ويمارسونها دورياً وبانتظامٍ، ضمن المهل القانونية ووفق القوانين المحلية، في الجامعات والنقابات والهيئات والاتحادات، كما في الأحزاب والمنظمات، ولهذا فإنهم يستحقون خوض انتخاباتٍ تشريعية، لاختيار من يمثلهم في المجلسين التشريعي والوطني اختياراً حراً نزيهاً، لا يخضعون فيها للضغط والإكراه، ولا للاستمالة والشراء.

كما أن من حقهم الطبيعي أن يختاروا رئيسهم للمرحلة القادمة، على أن يلتزم القانون الأساسي، ويحترم المهل الدستورية، فلا يمدد لنفسه، ولا ينتهك الدستور ويعطل المؤسسات الشرعية ويصادر صلاحياتها، ويحل مكانها بالقرارات والمراسيم التي تفتقر إلى الشرعية الدستورية وقوة القانون.

لعل الفلسطينيين اليوم في أمس الحاجة إلى الانتخابات بكل مستوياتها، المحلية البلدية، والتشريعية البرلمانية بغرفتيها، والرئاسية على مستوى الوطن كله، على أن تكون حرة نزيهة، يتنافس فيها المرشحون وفق ضوابط وطنية تحددها ثوابت الشعب والقضية، فلا يجوز أن يترشح فيها متعاونون مع الاحتلال، ولا منسقون معه ومرتبطون به، فالاحتلال الإسرائيلي له برامجه ولديه أدواته وآلياته، وعنده من يعمل له ويمثله، ويحمل أفكاره ويدافع عن سياسته، وقد يشكل قوائمه بطريقته الخاصة، وله في صناعتها تجربة وخبرة، فلا ينبغي أن يكون لهؤلاء قوائم انتخابية، ولا فرصاً لترشيح أنفسهم، إذ أنهم يمثلون الاحتلال ولا يمثلون الشعب الفلسطيني، ويعبرون عن سياسة الاحتلال وينطقون باسمه، وهم للأسف كثيرون بيننا، نعرف بعضهم ويخفى كثيرٌ منهم علينا.

ولعله من نافلة القول وبداهة العقل أن نقول أن العدو الإسرائيلي لا يرجو لنا خيراً، ولا يتمنى بيننا سلاماً، ولا يحرص على انتهاء الانقسام المقيت وصراع الأخوة المشين، ولا يتمنى دفن الخلافات وتوقف التراشقات المخزية والسياسات الكيدية، ولا يأمل أن نتوصل إلى اتفاق مصالحةٍ وطنيةٍ، يجتمع تحت ظلها شمل شعبنا وتتحد كلمته، وتتفق سياسته، وتنتهي همومه وتحل مشاكله، ويصبح قادراً على مواجهته، ومستعداً لمقاومته صفاً واحداً وإرادةً قويةً مشتركةً، حيث يكون حينها جاهزاً لاستعادة مكانته العربية والإسلامية التي فقدها بالانقسام وشوهها بالاقتتال، ويكون قادراً على إعادة رسم صورته البراقة الجميلة التي كانت له، والتي تغنى بها العرب والمسلمون وافتخروا بها، صورة الشعب المقاوم العربي الأبي الصامد العنيد، الجبار المقاتل المبدع الذي لا يواجه الصعب ويتحدى المستحيل.

لا ينبغي أن نعطي أحداً الفرصة لإلغاء الانتخابات، أو تأجيلها وعرقلتها، فهذا الاستحقاق الوطني يجب أن يتم حتى نهايته، ضمن المحددات الوطنية التي سيتم الاتفاق عليها، وتثبيتها فيما بين قوى الشعب كميثاق شرف ولائحة وطن، فلا يجوز للرئيس أن يتراجع في كلمته فيلغي الانتخابات أو يؤجلها، ولا أن يهدد المتنافسين ويبتزهم، ليجبرهم على تقديم التنازلات والقبول بما يعرضه، كما لا يحق له أن يبتدع قوانين يرهن بها نتائجها لمحكمةٍ يشكلها، أو لجنةٍ يشرف عليها، فهو وإياهم على الحياد التام منها، فلا ينبغي له التدخل فيها ولا التأثير عليها، بل يجب عليه أن يكلف الحكومة بتنظيمها والإشراف عليها، دون أن تكون له الوصاية عليها أبداً.

كما لا ينبغي أن نسمح للاحتلال بتقويضها وتعطيلها، والتأثير عليها وضبطها وفق معاييره، فلا استثناء للقدس ولا حرمان لمواطنيها من ممارسة حقهم في الانتخاب الحر المباشر في مدينتهم، فلا صناديق بريدية، ولا برامج تواصل اجتماعية، ولا تفويض لغيرهم، ولا انتقال إلى مناطق أخرى تخصص فيها صناديق لهم، ولا ينبغي السماح له بتغييب المرشحين أو اعتقال الفائزين، للتأثير على سير العملية الانتخابية أو تعطيل نتائجها، وعلى قيادة السلطة الفلسطينية أن تحصل على ضماناتٍ دوليةٍ وتعهداتٍ إقليمية بضبط الاحتلال ومنعه من التأثير على العملية الانتخابية سواء بالمنع أو الاعتقال.

نحنٌ الفلسطينيين شعبٌ حرٌ وسيدٌ وإن كنا نعيش تحت الاحتلال ونعاني منه، وكما نرفض أن يمارس علينا سلطاته ويفرض علينا سياسته، فإننا في الوقت نفسه نرفض أي تدخلاتٍ عربيةٍ تحت أي حجةٍ أو مبررٍ، فلا ينبغي للدول العربية القريبة والبعيدة، المباشرة للشأن الفلسطيني أو المراقبة له، أن تتدخل في العملية الانتخابية، فتفرض مرشحين وتستبعد آخرين، وتفترض نتائج وترسم مساراتٍ، بل يجب عليها أن تترك الشعب الفلسطينية يمارس حقه الانتخابي بكل حريةٍ واستقلاليةٍ، يحدد من خلالها باستقلاليةٍ تامةٍ خياراته وتطلعاته، وهو على ذلك قادرٌ ويستطيع، ويرفض أن يمارس عليه أحد الولاية أو الوصاية أو الحجر والتوجيه.

يجب على الفلسطينيين أن يفوتوا الفرصة على كل القوى لإحباط انتخاباتهم، ومصادرتهم حقهم، وسلبهم أداتهم الوطنية، إذ أنهم بمشاركتهم الفاعلة في الانتخابات يحققون كسباً لأنفسهم وانتصاراً على عدوهم، وتأكيداً لعمقهم العربي والإسلامي أنهم على قدر المسؤولية والأمانة، وأنهم يستحقون الدعم والمساندة، ولعل هذا لا يكون بغير الإقبال على المشاركة بكثافةٍ وإحساسٍ بالمسؤولية والأمانة، وتقديرٍ للمصلحة الوطنية والحاجة الشعبية، فلا يستخفوا بأصواتهم، ولا يستهينوا بمشاركتهم، ولا يتكاسلوا عن واجبهم، ولا يترددوا في اختيار من يناسبهم، ولا يعطلوا عقولهم ويركنوا إلى رأي غيرهم، فالتصويت حقٌ فردي وتعبيرٌ شخصي، يُقدر فاعله ويُدان تاركه.

الرهانُ على أمريكا سفهٌ والثقةُ فيها هبلٌ
كأنه مكتوبٌ على الفلسطينيين أن يقضوا عمرهم كله ينتظرون مواقف الإدارة الأمريكية، ويلتمسون عطفها ويبحثون عن رضاها، ويتوقعون مساعدتها ويطلبون العدل منها، ويرجون تأييدها ويتجنبون غضبها، ويطيعون أمرها ويخافون من سخطها، وينسقون معها ويعملون لها، ظناً من قيادتهم المتنفذة أنها هي التي تملك مفاتيح القضية الفلسطينية، وأن أي حلٍ يتعلق بمستقبلهم ينبغي أن يكون من خلالها، بموافقتها وبرعايتها، وبمباركتها وضمانتها، وبشروطها ووفق رؤيتها.

فهي الضامنة لأي اتفاق، والراعية لأي مفاوضات، والمؤثرة على النتائج والمآلات، وهي التي تستطيع تمرير الحلول أو تجميدها، وفرض الاتفاقيات أو نقضها، إذ هي القوة العظمى وصاحبة حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن، التي لا يمر قرارٌ بدون موافقتها، وهي التي تستطيع أن تضغط على الحكومات الإسرائيلية وتلوي عنقها، وتلجم سياستها وتحد من عدوانها، بنفس القدر الذي تغدق فيه عليها وتدعمها، وتساندها وتؤيدها، وترعاها وتحميها.

يهزأ الفلسطينيون من قيادتهم، ويتندرون عليها، ويتهمونها بالخبل والهبل، والعبط والسفه، وقلة العقل وغياب الحكمة، إذ يربطون مصير قضيتهم بالولايات المتحدة الأمريكية، ويصدقون وعودها ويعيشون على أمل الوفاء بها، ويرهنون مصيرهم بها، ويعطلون حياتهم في انتظار قرارها، ولا ييأسون من حنثها في قسمها، ونكثها في وعودها، وعدم الوفاء بالتزاماتها، بل يبررون لها أحياناً، ويمنحونها المزيد من الوقت، ويعطونها فرصاً أخرى ثقةً فيها، واطمئناناً إلى صدقها معهم ووفائها بالتزاماتها تجاههم، ويبدون استعدادهم لتقديم المزيد من التنازلات من أجلها، لتسهيل مهمتها، وتمكينها من فرض رؤيتها على الجانب الإسرائيلي.

يمضي الزمن وتتوالى السنون، وتتعقد الظروف وتتغير الوقائع، وتتعاور الحكومات الإسرائيلية، وتتبدل الإدارات الأمريكية، بينما القيادة الفلسطينية على ثباتها وموقفها لا تغير ولا تبدل، تنتظر قرار الإدارة الأمريكية الجديدة، أو تصبر حتى رحيل الإدارة الأمريكية الحالية، وهي بين الصبر والانتظار تقضي أربع أو ثماني سنواتٍ قابلة للمضاعفة والزيادة، إلا أن شيئاً لا يتغير أبداً في السياسة الأمريكية، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية.

وكأن الإدارات الأمريكية كلها قد تعاهدت على موقفٍ واحدٍ، والتزمت بسياسة ثابتة تجاه القضية الفلسطينية، بما ينسجم ويتوافق مع المصالح الإسرائيلية، ولكن القيادة الفلسطينية لا تريد أن تفهم هذه الحقيقة، إن لم نقل أنها لا تفهمها ولا تعقلها، ولهذا فهي تصر على الانتظار، وتمارس الصبر السلبي الذي أضر بقضيتنا كثيراً، وأفقدنا الكثير من عوامل القوة والصمود، وأورثنا يأساً وهواناً نعاني منه دائماً.

قد لا نتحدث كثيراً عن الإدارات الأمريكية الجمهورية، التي تعتمد تجاهها القيادة الفلسطينية سياسة الصبر، ليأسها منها وعدم أملها فيها أو اطمئنانها إليها، إذ تعرف مواقفها، وتعلم سياستها، وتدرك ولاءها المطلق للكيان الصهيوني، ورعايتها التامة له، فلا خير يرتجى منها، ولا أمل يتوقع فيها، ولهذا فهي تصبر عليها حتى ترحل، أو تنتظر المستحيل منها أن يتحقق، فيضيع الزمن ونخسر الفرص، ونحن ننتظر انتهاء ولاية الجمهوريين التي تتجدد غالباً، ولا يطول غيابها حتى تعود، لترجع بنا إلى نقطة الصفر من جديد، وتتراجع عما قدمه الديمقراطيون، وتهدم ما بنوه أو تعهدوا به، رغم أنهم لا يقدمون إلا وهماً، ولا يعرضون إلا سراباً، اللهم إلا إذا كان يخدم الإسرائيليين وينفعهم.

لكن المصيبة الكبرى هي في الإدارات الديمقراطية الأمريكية، التي تأمل فيها القيادة الفلسطينية وتصدقها، وتسلم لها وتطمئن إليها، بينما هي أسوأ من الجمهوريين وأكثر سوءً منهم، إذ تبدو ناعمة لطيفة، معتدلة متزنة، منصفة عادلة، موضوعية شفافة، حريصة على قيم العدالة وحقوق الإنسان، بينما في حقيقتها توالي الكيان الصهيوني وتلتزم معه، وتقدم له بصمتٍ وهدوءٍ أكثر مما يقدمه الجمهوريون، وتقوم بتسوية الطريق لها، وتمهد السبل أمامها، وتزيل العقبات التي تعترضها، في الوقت الذي تساندها فيه بالسلاح والأموال والتقنيات الحديثة والتكنولوجيا المتطورة، وتدعمها في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة ومختلف منظماتها الدولية، ورغم ذلك فإن القيادة الفلسطينية تصدقها وتثق فيها، وتسلم لها وتطمئن إليها.

علماً أن الإدارات الديمقراطية الأمريكية السابقة، بدءاً من عهد جيمي كارتر الذي سبق أوسلو بسنواتٍ، وأسس مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات لحكمٍ ذاتيٍ موسعٍ، يخسر فيه الفلسطينيون السيادة على أرضهم، ويفقدون حق إقامة دولةٍ في وطنهم، قد مهد الطريق لحلٍ سيأتي بعده، يقضي فيه على الحلم الفلسطيني في استعادة أرضهم وبناء دولتهم.

مروراً بالرئيس بيل كلينتون الذي حكم ثماني سنواتٍ أخرى، لم يقدم فيهما شيئاً للفلسطينيين، غير أنه ساومهم على مدينة القدس، وفاوضهم على حقوقهم، وجردهم من ثوابتهم، وأجبرهم على التنازل عن ميثاقهم، وماطلهم في وعوده، وكذب عليهم في لقاءاته، رغم أنه كان قادراً لو كان صادقاً أن يضغط على الإسرائيليين ويرغمهم، ويجبرهم على القبول بحلٍ يرضي الفلسطينيين ويسكتهم، لكنه ما كان صادقاً، بل كان كاذباً ناعماً مخادعاً، ميالاً إلى الإسرائيليين وحريصاً عليهم.

أما أوباما الذي حكم ثماني سنواتٍ أخرى، فلا أظنه قدم شيئاً ذا بالٍ، إذ في عهده تجمدت المفاوضات، ووصلت إلى طريقٍ مسدودةٍ، وعجز عن مواجهة نتنياهو والتصدي له، وانشغل بملفاتٍ أخرى كثيرة غير القضية الفلسطينية التي تركها نهباً للحكومات الإسرائيلية، تقضم أرضها وتصادر حقوق أهلها، وتوسع الاستيطان، وتمارس القمع والقتل والاعتقال ضد السكان، وكان معه نائبه بايدن المتفق معه في السياسة، الذي أصبح رئيساً جديداً للولايات المتحدة الأمريكية.

أعلن الأخيرُ عن نيته العودة إلى السياسة الأمريكية التقليدية، السياسة التي لا تسمن ولا تغني من جوعٍ، وكأنه بها يدفع الفلسطينيين إلى النوم في العسل من جديد، والدخول في مسلسل الأحلام الوردية والأماني العسلية، راجياً أن يصدقوه ويطمئنوا إليه، ويلقوا بقربتهم المقاومة على الأرض انتظاراً لغيثٍ منه لن يكون، ويسكبوا جرة عسل شهدائهم ومقاوميهم، وجنى نضالهم وحصاد مقاومتهم، أملاً في وهمٍ لن يتحقق وأملٍ لن يكون، وينسى الفلسطينيون أن "من يُجَرِبُ المُجَربَ عقلُهُ مُخَرَبٌ".

بايدن يهددُ نتنياهو ويعجلُ في نهايته
يعيش رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هذه الأيام كوابيس مزعجة كثيرة، ويعاني من أحلام كئيبة مخيفة، ويخشى مما تحمله الأيام القادمة، لكنه يتمنى ألا يطول ليله البهيم، وألا تتأكد أحلامه وأماني منافسيه، ويرجو أن يصحو بسرعةٍ من نومه المخيف، ليحافظ على مكانته تحت شمس كيانه، ويكمل مشروعه الذي بدأه، ويتم حلمه الذي عمل من أجله طويلاً وقدم في سبيله كثيراً، ليكون ملك إسرائيل وطالوتها المنتظر، ويستعيد الهيكل الثالث ويبني دولة اليهود الجديدة، التي لا وجود فيها لغيرهم، ولا ينازعهم على الأرض المقدسة سواهم.

استشعر نتنياهو الخطر، وأدرك أن منيته هذه المرة باتت قريبة وربما أكيدة، فلبس قلنسوته "الكيباه"، وزار حائط المبكى خاشعاً يتبتل، يدعو ربه ويتوسل إليه، ويسأله تجاوز المحنة والخروج بسلامٍ من الأزمةِ، إلا أنه بات متأكداً من أن الأيام القادمة لا تحمل له الخير، ولا تبشره بما يحب، بل إنها تنذره بالأخطر، وتحذره من الأسوأ، وقد بدت ملامحها وظهرت نذرها، وفرح الخصوم بها واستبشروا، وحزن المريدون بسببها واغتموا، فما كان ينقصهم هذا التحدي الجديد، ولا كانوا يأملون هذه الأزمة الكبيرة، إذ كان يكفيهم ما يلاقي زعيمهم من أهوال المحكمة وشبح الاتهامات، التي كانت تنذر بسقوطه وتهدد بخسارة عرشه، ولكنه كان يخطط بذكاءٍ وحنكةٍ للنجاة منها، فهو سيد المسرح السياسي وثعلب الأحزاب التي لا تقوى على الخلاص منه.

لكنه اليوم بات في مواجهة الإدارة الأمريكية الديمقراطية الجديدة، وأصبح ملزماً بالتعامل المباشر مع الرئيس الذي أهانه عندما كان نائباً للرئيس، وأساء إليه وإلى رئيسه أوباما وتحداهما في عقر دارهما، وحرض عليهما وأوشى بهما، وتسبب لهما في أزماتٍ متكررة مع مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين، وعرضهما لغضب اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وتصرف في بلادهما كما أنه الابن المدلل وصاحب الكلمة الأولى التي لا ترد، فدخل بلادهما دون إذنٍ منهما، وجال فيها على فعالياتها ومؤسساتها دون أن يلتقي بهما أو أن يستأذن منهما، ولم يكترث بالحرج الذي تسبب به للإدارة الأمريكية التي لوى ذراعها واستخف بها.

يدرك نتنياهو عظم ما اقترفت يداه، وسوء ما قام به في الدورة الثانية لباراك أوباما ونائبه جوزيف بايدن، وقد أصبح وجهه مسوداً وهو كظيم، أيعتذر لهما وهو مهينٌ، أم يصر على سلوكه المشين في حقهما وهو لعينٌ، إذ ما كان يتوقع أن نائبه سيفوز، وسيسكن البيت الأبيض، وسيصبح سيد واشنطن ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وربما يبقى رئيساً لدورتين متتاليتين كرئيسه السابق، وهو الذي ظن أنهما سيرحلان دون أن يبدي أحدٌ على رحيلهما أسفٌ أو ندمٌ، ولكنه اليوم بات لزاماً عليه أن يواجه بايدن وجهاً لوجه، وهو يعلم مدى حنقه وحجم غضبه عليه، وليس أدل على ذلك من امتناعه عن الاتصال به أسوةً بغيره من قادة ورؤساء دول العالم وحلفائه الكبار، الذين سارع بالاتصال بهم والتنسيق معهم.

نتنياهو اليوم في وضعٍ لا يُحسدُ عليه، فهو في مأزقٍ حقيقي، وعليه أن يواجه الحقيقة بنفسه، فبعد أيامٍ قليلة سيخوض معركة الانتخابات البرلمانية الجديدة للمرة الرابعة على التوالي، وقد وطن نفسه على الفوز فيها بعد أن صرع خصمه وشريكه في الحكومة بيني غانتس، وعراه أمام جمهوره وجرده من مؤيديه، وجعل فوزه في الانتخابات متعذراً وعصياً، وكذا حال بقيه خصومه القدامى والجدد، فهو مطمئنٌ إلى هزيمتهم والانتصار عليهم، وسيحصل وحزبه وائتلافه اليميني على ما يمكنه من الفوز وتشكيل الحكومة.

لكن بايدن وإدارته الجديدة أداروا له ظهورهم، وانقلبوا على بعض ما وعدهم به الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث صرح وزير خارجيته الجديد أنتوني بلينكن عن تمسك الإدارة الأمريكية بحل الدولتين، وعزمها على إعادة دعم وتمويل السلطة الفلسطينية، وفتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، والدعوة إلى عقد مؤتمرٍ جديدٍ للسلام يؤسس لحل الدولتين ويؤكد عليه، بالإضافة إلى تأكيده على أن مسألة القدس متروكة للحل النهائي، ولا يحق لطرفٍ أن يقرر في مصيرها منفرداً.

يحاول نتنياهو صد الهجمة الأمريكية عليه، والدفاع عن نفسه، والرد على الإدارة الجديدة من نفس البوابة التي دخل فيها البيت الأمريكي متجاهلاً إدارته، فلجأ إلى نفس السلاح الذي استخدمه قديماً آملاً أن ينجح فيه مرةً أخرى، فأمر رئيس أركان جيشه برفع الصوت والتهديد، والتلويح بإمكانية استخدام القوة من طرفٍ واحدٍ، وطلب من بعض الكتاب والإعلاميين الذين يؤيدونه ويؤمنون به، التركيز على مخاطر سياسة إدارة بايدن فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، وأنها سياسة تضر بهم وتهدد مستقبلهم، وتهدد السلم والأمن الدوليين، وتعرض مصالح الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية للخطر، وأن على إدارة بايدن أن تصغي إلى المخاوف الإسرائيلية وأن تتفهم دوافعها الموضوعية.

يدرك الإسرائيليون أن مرحلة الانتقام من نتنياهو قد أزفت، وأن الإدارة الأمريكية الجديدة لا تريده، ولا ترغب في أن يكون هو رئيس الحكومة الإسرائيلية القادم، مع التأكيد على أنها لا تتخلى عن الكيان الصهيوني، ولا تتحلل من التزاماتها تجاهه، ولا تتراجع عن ضماناتها التقليدية التاريخية له، بل ستستمر في دعمها وتأييدها وحمايتها لهم والدفاع عنهم، ولكنها لا تريد أن يستمر تعاونها مع كيانهم من خلال شخص نتنياهو، الذي يفضل مصالحه الخاصة على مصالح شعبه و"بلاده"، وكأنهم بهذا يدعون الناخب الإسرائيلي إلى استبداله والتصويت لغيره، وعدم التجديد له أو الثقة فيه، فهو يضر بالعلاقات التاريخية العميقة التي تربط بين الولايات المتحدة الأمريكية و"دولة إسرائيل"، فهل يسقط بايدن نتنياهو انتقاماً ويستبدله ثأراً، ويعلمه وغيره درساً.

حوارات القاهرة أسرارٌ قوميةٌ أم قضايا شعبيةٌ
انتهت حوارات القاهرة بسرعةٍ وعلى عجلٍ، ولم تستغرق وقتاً طويلاً على عكس كل التوقعات والمخاوف، ولم تمدد أيامها وتفتح جلساتها، ولم تعلق الحوارات لمزيدٍ من الدراسة والاستشارة، كما كان يظن المراقبون والمتابعون، وعامةُ الشعب الفلسطيني وممثلو القوى والفصائل، أن حوارات القاهرة ستكون صعبة ومضنية، وقاسية وشديدة، ولن تنتهي بسهولة، ولن يتم الاتفاق فيها بسرعة، فالقضايا التي نشرت وجداول الأعمال التي سُربَت، ومواقف القوى والفصائل التي عُمِّمت، كانت تشير إلى أن الحوارات ماراثونية، وأن الاتفاق فيها ليس سهلاً ولا قريب المنال، خاصةً في ظل أجواء عدم الثقة، والتجارب الفاشلة التي سبقت، ومجموعة القرارات التي حَصَّن بها الرئيس مراسيمه.

لكن الصورة العامة التي جمعت ممثلي الفصائل، والبسمة العريضة التي علت محياهم، ونسخة البيان الختامي المرفوعة كعلمٍ ورايةٍ، وسط مخايل الانتصار والسعادة، وإشارات الابتهاج والفرحة، تشير كلها إلى أن القوم قد نجحوا في تجاوز كل العقبات، وحل أغلب المشاكل التي كانت مثارة، ولم يعد هنالك قلق أو شك في أن الانتخابات التشريعية ستجري في موعدها، وأن كافة آلياتها وأدواتها وقوانينها ونظمها ومحكمتها الخاصة قد تم الاتفاق عليها، وبالتالي لا مكان لمشاعر الخوف والريبة، ولا لتحليلات المشككين وتصريحات الغاضبين المستثنيين من المشاركة في الحوار، فالمفوضون بالحوارات وممثلو القوى والفصائل قد أعلنوا باسم مرجعياتهم أن الحوارات ناجحة، والنوايا سليمة، والأجواء إيجابية، والدروب نحو الانتخابات سالكة وميسرة.

إلا أن الشعب الفلسطيني فطنٌ ذكيٌ، حذرٌ منتبه، مقروصٌ ملذوغٌ، خائفٌ وَجِلٌ، يرفض أن يصدق رواية المجتمعين في القاهرة بسهولة، ولا يقبل بالكلام دون الأفعال، ولا يسلم بالصورة التي نشرت ولا بالبيان الذي أذيع، ويريد أن يطلع على عمق الحوارات وحقيقة القرارات، وما إذا كان المفاوضون قد تجاوزوا حقاً الصعوبات والعقبات، أو أنهم قد رحلوها فقط إلى الاجتماعات القادمة، وحق للشعب الفلسطيني أن يشك ويقلق، وألا يصدق ويطمئن، فالصورة تخدع، والبيانات تكذب، والوقائع تنفي، والتجارب السابقة تؤكد مخاوفهم وتعزز شكهم، وتؤيد حاجتهم إلى مزيدٍ من الخطوات العملية التي تؤكد جدية الاتفاق، وسلامة النوايا.

يحق للشعب الفلسطيني صاحب القضية الأصيلة، ومحل المسألة ذات النقاش والحوار، أن يشك في صدقية التصريحات، وأن يطالب بالمزيد من التوضيحات، وأن يرفض أن تكون جلسات الحوار مغلقة دونه، ومداولاتها أسراراً عليه، في الوقت الذي اطلع عليها وعرف بها من لا يستحق، وتابعها وسجل مجرياتها من لا تعنيه المسألة الفلسطينية بمفهومها الوطني والإنساني، وربما ساهم فيها اقتراحاً واعتراضاً، وقدم أفكاراً ووضع لها شروطاً، أعداءُ الشعب وخصومُه، بينما هو محرومٌ من معرفة ما جرى، والإحاطة بمواقف القوى وممثلي الفصائل، في حين أنه المعني الأول بالمعرفة والاطلاع، كونه المُحَاصَر والمُعَنَّى، والمُضطَهد والمُعَذب، وهو الذي ستنعكس عليه نتائج الحوارات سلباً أو إيجاباً، وحصاراً أو فرجاً.

المتحاورون في القاهرة لا يمثلون فصائلهم فقط، ولا يعبرون عن أحزابهم وحسب، وإنما يمثلون الشعب الفلسطيني كله، وينوبون عن أبنائه في الوطن والشتات، وعليهم كما يقدمون تقاريرهم إلى قيادتهم ومسؤوليهم، أن يقدموا تقريرهم الشفاف إلى شعبهم الذي فوضهم وقَبِلَ بهم، فهم المرجعية الأساسية، وأصحاب القضية الأصلية، وأهل الشرعية الحقيقية، وبدونهم لا قيمة للمتحاورين، ولا شرعية للمفاوضين، إذ يمكن للشعب أن يسحب ثقته منهم، وأن يعلن عدم شرعيتهم، وأنهم غير ذي صفةٍ فلا يمثلونهم ولا ينطقون باسمهم، اللهم إلا إذا صارحوهم وكاشفوهم، ولم يكذبوا عليهم ولم يخدعوهم، فهذا الشعب الذي قدم وضحى، والذي صبر واحتسب، يستحق من قيادته كل الوفاء والتقدير، وصدق الولاء وشفافية التقرير.

مطالب الشعب الفلسطيني من المتحاورين في القاهرة كانت واضحة جداً، وشفافة للغاية، وصريحة بما فيه الكفاية، فقد طالبوا قبل عقد الانتخابات بكل مستوياتها بحل كل المشاكل العالقة، وعدم ترحيلِ أيٍ منها إلى المراحل التالية، فالجدية بعد الانتخابات تذهب والمسؤولية تزول، والوعود تتبخر والمواعيد لا تقدس ولا تحترم، إذ لا ضغوط بعدها ولا حاجة تستدعي الاستعجال أو الالتزام.

لهذا فقد كان مطلبهم الأول والأساس هو الحفاظ على الحقوق الوطنية للشعب في أرضنه ووطنه ومقدساته، ورفع الحصار ووقف العدوان، وتحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام البغيض، وجمع كلمة الشعب وتوحيد صفه، وإصلاح النظام السياسي، وتوحيد أجهزة السلطة وضبط معاييرها، وتوطين عقيدتها وتصويب سلوكها، وتشكيل حكومة وحدةٍ وطنيةٍ من مختلف الأطياف الحزبية، وتمكينها من العمل في شطري الوطن، وتثبيت المشاركة الوطنية الشاملة واحترام نتائج العملية الديمقراطية، والعمل على تحسين شروط حياة الشعب ورفع المعاناة عن أبنائه، وتمكينهم من العيش الكريم في ظل سياسات الاحتلال القاسية بحقهم، والإصغاء إلى مطالبهم وحاجات فئاتهم المختلفة، وتمكينهم من استعادة حقوقهم في الراتب والوظيفة، وفي العرض والفرصة، فهم جميعاً سواء في هذا الوطن يستحقون المساواة والعدالة.

هل نجح المتحاورون في القاهرة في تحقيق مطالب الشعب واستجابوا إلى شروطه، أم أنهم فقط أنجزوا ما يضمنون به صوته ويكفلون به مشاركته، وبعد ذلك يعودون إلى ما كانوا عليه من الإهمال والتقصير، وعدم المسؤولية العامة وغياب الأمانة الوطنية، أم أنهم استجابوا للضغوط التي مورست عليهم، وخضعوا لشروط الاستضافة وإملاءات الوصاية فأعلنوا القبول والموافقة على البيان الذي أعد، والقضايا التي طرحت، دون أن يكون لهم الحق في الحوارات الجدية والمناقشات المسؤولة، ونسوا أن الفجر سيكشف الحقيقة، ونور الصباح سيفضح الرواية، وحبر البيان يثبته الصدق وتحفظ مصداقيته الشفافيةُ والأمانةُ، والصراحةُ والوضوحُ.

قطعانُ المستوطنين تتفلتُ وتتمددُ وجرائمهم تكثرُ وتتعددُ
كأن جيش الاحتلال الإسرائيلي قد أوكل مهامه العدوانية وأنشطته اليومية إلى قطعان المستوطنين، وكلفهم بالمهام القذرة والممارسات المستفزة التي كان وما زال يقوم بها ويحرص عليها، والتزم تجاههم بالحماية والرعاية، والمراقبة والرصد، يشاهدهم وهم يعتدون، ويتابعهم وهم يتسللون، ويبقي قريباً منهم وعلى اتصالٍ بهم، ليتمكن من التدخل السريع لحمايتهم والدفاع عنهم في حال تعرضهم للخطر، أو طلبهم للعون والمساعدة، وأحياناً يشجعهم على أفعالهم الخبيثة، ويقوم بعمليات الاستطلاع لهم، فيرشدهم ويوجههم أو يحذرهم ويمنعهم.

لكنه ينأى بنفسه بعيداً، ويحافظ على صمته في حال اعتدى المستوطنون على الفلسطينيين، وهاجموهم في بيوتهم، أو رجموهم بالحجارة وكتل اللهب المشتعلة، أو اعترضوا سياراتهم وألقوا عليها الحجارة الكبيرة تحطمها وتهشم زجاجها، وتعرض حياة ركابها للخطر، وفيهم الأطفال والشيوخ والنساء والحوامل، ويمتنع قادته عن الإصغاء للفلسطينيين المعتدى عليهم، ويرفض أن يتلقى منهم شكاوى ضد المستوطنين، بل يرفض روايتهم ويكذبهم، وقد يعتقلهم ويتهمهم، ويأتي بجنودٍ يبرؤوا المستوطنين ويشهدون ضدهم، والشواهد على هذه السياسة كثيرة، يعرفها الفلسطينيون ولا ينكرها الإسرائيليون. 

يشعر المستوطنون أن القانون معهم يحميهم ويرعاهم، ويبارك أعمالهم ويشجعهم عليها، إذ لا يمنعهم الجيش، ولا تلاحقهم الشرطة ولا تسألهم أو تحقق معهم، ولا توجه إليهم اتهامات ولا تحيلهم إلى القضاء، وفي حال إحالتهم إلى القضاء للمحاكمة، يبرئ القضاة ساحتهم، وينفون التهمة عنهم، أو يسقطون نية الجرم وقصد العدوان عنهم، وفي أحيان نادرة يصدرون في حق المجرمين منهم أحكاماً مخففة، سرعان ما تسقط بالعفو الرئاسي أو بقضاء ثلثي المدة، أو بدعوى حسن السيرة والسلوك وسلامة النية وحسن الطوية.

ولأنهم أَمنوا العقوبة، واطمأنوا إلى أن القانون يقف معهم وإلى جانبهم، والحكومة تساندهم والأحزاب تدعمهم، ورجال الدين يشجعونهم، والقضاة ينحازون إليهم، وأن أحداً منهم مهما ارتكب فلن يتهم أو يدان، فقد أخذ المستوطنون الإسرائيليون الذين ناهز عددهم المليون مستوطن في القدس والضفة الغربية، يتفننون في جرائمهم، ويبتكرون أشكالاً عديدة لعدوانهم، ويبتدعون وسائل غريبة من العدوان والعربدة والتشبيح والبلطجة، ولا يترددون في ارتكاب أسوأها وأكثرها فحشاً وفظاعةً، إذ لا حرمة عندهم لدماء الفلسطينيين وأرواحهم، ولا حصانة لأموالهم وبيوتهم وممتلكاتهم.

لا يتوقف المستوطنون كل يومٍ عن الاعتداء على السكان الفلسطينيين وممتلكاتهم ومقدساتهم، فهم يدهسونهم بسياراتهم، ويلقون الحجارة على بيوتهم، ويشعلون النار فيها، ويرجمون سياراتهم ويهشمون زجاجها، ويلقون عليها الصخور الكبيرة والحجارة الضخمة، ويطلقون النار عليهم، ويدمرون أعمدة الكهرباء والهاتف، ويكسرون أبواب المحال والمتاجر، ويحطمون الواجهات والمداخل، ويعتدون على الحقول والمزارع، ويحرقون الأشجار ويخلعون بالجرافات أشجار الزيتون وغيرها، ويفتحون على البساتين والأراضي المزروعة المياه العادمة ومياه الفضلات القذرة، ويعترضون المواطنين في الشوارع، ويقطعون عليهم الطريق، ويجبرونهم على أفعال مشينة غير لائقة، ويطلقون عليهم كلابهم الضارية، ويصعقونهم بمسدسات الكهرباء، ويفتحون في وجوههم اسطوانات غازٍ خانقٍ، ويرشقونهم بالبنزين ويلقون عليهم المواد الحارقة، كما فعلوا من قبل مع محمد أبو خضير الذي جرعوه البنزين قبل أن يشعلوا فيه ناراً.

ولا يترددون في اقتحام بيوت الفلسطينيين واحتلالها بالقوة، وإخراج أصحابها منها وإلقاء أمتعتهم وآثاثهم خارجها، أو هدمها وإشعال النار فيها، خاصةً في الأحياء الشرقية من مدينة القدس المحتلة، التي يتعرض سكانها العرب للضرب والتعنيف، والتضييق والمماحكة، ولا يتورع بعضهم عن الادعاء بأنه تعرض لمحاولة اعتداء من فلسطيني، حتى تأتي الشرطة وجنود الجيش يشبعون الفلسطيني ضرباً إن لم يطلقوا النار عليه، ويقتادونه إن لم يكن مصاباً إلى مراكز الاعتقال، أو يتركونه على الأرض ينزف إن كان مصاباً، ولا يقومون بإسعافه وتقديم المساعدة له، ولا يسمحون لإخوانه الفلسطينيين بنجدته ومحاولة إسعافه وإنقاذه.

أما إن تاه مستوطنون معتدون، ولم يتمكنوا من الوصول إلى أهدافهم، ووقعوا في شر أعمالهم، وعلا صراخهم وسُمعَ نحيبهم، فإن جيش العدو يتدخل بسرعة، ويُفَعِّلُ قادة أجهزته الأمنية قناة التنسيق الأمني مع المخابرات الفلسطينية، لتؤمن خروجاً آمناً للمستوطنين المعتدين، ولتضمن سلامتهم وتحول دون الاعتداء عليهم، وهم الذين دخلوا البلدات الفلسطينية حاملين معهم معاول الهدم ومشاعل الحرق وبنادق القتل، ولولا قدرٌ من الله عز وجل أربكهم وأفقدهم بوصلتهم وأفشل مهمتهم، لكانوا ارتكبوا جرائم كبيرة وهربوا، وكثيرٌ من الذين ضلوا وتاهوا، وفشلوا ورجعوا أو أُعيدوا وسُلِموا، عادوا من جديدٍ أكثر من مرةٍ لمحاولة الاعتداء والتخريب.

يحزن الفلسطينيون كثيراً عندما يروا أن سلطتهم الوطنية لا تستطيع حمايتهم، ولا تحاول كف العدوان عنهم، ولا تقوى على معاقبة المعتدين عليهم أو توقيفهم واعتقالهم، ويؤلمهم كثيراً منظر عناصر أمنهم الوطني وهم يحيطون بالمستوطنين الإسرائيليين يحمونهم، ويمتنعون عن توبيخهم ويترددون في توجيه اللوم إليهم، بينما يقومون باعتقال مواطنيهم وتعذيبهم في حال اتهامهم بالتخطيط لعمليات مقاومة ضد العدو ومستوطنيه، ولعلهم بأفعالهم هذه التي تفتقر إلى النخوة والشهامة، وينقصها النبل والشجاعة، يشجعون المستوطنين على المزيد من العدوان، الذين كانوا سيرتدعون خوفاً وسيمتنعون جبناً، وسيتراجعون ذلاً وصغاراً، لو أنهم رأوا من السلطة الفلسطينية حُدُقاً محمرةً، وأيادي على الزناد قابضةً، وهمماً للكرامة متوثبةً، وغضبةً للحق ثائرةً، وغيرةً على الشعب وكرامته حاضرةً.

الليكود يستجدي أصواتَ الفلسطينيين ونتنياهو يعدُهم ويمنيهم
أيامٌ قليلة بقيت على انتخابات الكنيست الإسرائيلية الرابعة والعشرين، التي ستجري يوم الثالث والعشرين من شهر مارس/آذار، وما زالت الساحة الحزبية الإسرائيلية تتشكل وتتكون، وترتسم صورتها وتتلون، وتبرز فسيفساء لوحتها الانتخابية التي لا يتحكم فيها الكبار، ولا تستأثر فيها بالشارع الإسرائيلي قدامى الأحزاب وأقوى التكتلات، حيث تتوالد أحزابٌ جديدةٌ، وتقع انشقاقات مفاجئة، وتتشكل تحالفاتٌ مؤقتةٌ، بعضها قوية وقادرة على التأثير والمنافسة، في حين أن بعضها الآخر تصارع من أجل أن تتجاوز نسبة الحسم، ليتمكن ممثلوها من دخول الكنيست، وإلا فإنهم سيحرمون منها، وستتوزع أصواتهم على مرأى ومسمعٍ منهم على الكتل الكبرى، التي تتربص بالأحزاب الخاسرة لترث أصواتها، وتستفيد من تركتها، لتزيد بها حصتها من عدد المقاعد النيابية التي قد تحصل عليها.

أمام هذا الصورة المتحركة والتوقعات المقلقة، والاستبيانات المتعددة، وبعد انشقاق جدعون ساعر عن حزب الليكود وتشكيله لحزب "أمل جديد"، ومحاولة اليمين الإسرائيلي إعادة تنظيم صفوفه بعيداً عن سيطرة حزب الليكود وهيمنة نتنياهو عليه وعليهم، بدأ حزب الليكود يشعر بالقلق من إمكانية عدم حصوله على الأصوات الكافية، التي تخول زعيمه تشكيل الحكومة الجديدة، خاصةً أنه فقد إمكانية التأثير على أحزاب اليمين، ولم يعد لديه مناصرون يمكنه الاعتماد عليهم، والاستفادة من أصواتهم أو التحالف معهم، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من حظوظ نفتالي بينت وجدعون ساعر ويائير لبيد للفوز بتشكيل الحكومة.

لم يجد نتنياهو سبيلاً للخروج من هذه الأزمة، والنجاة بنفسه وحزبه من نتائج الانتخابات القادمة، سوى أن يبحث عن إمكانية التحالف مع الأحزاب العربية الفلسطينية، التي كان يناوئها العداء في الدورات الانتخابية الثلاثة السابقة، ويصفها بالعربية الدونية، ويطلق عليها أسوأ النعوت، ولا يخفي كرهه لها ومعاملته العنصرية معها، وقد كان يحرض عليهم ويخوف شعبه منهم، ويتهمهم بالتآمر على الكيان وعدم الولاء له، ويعيب على الأحزاب اليسارية ويمين الوسط تحالفها معهم واعتمادها على أصواتهم، ويرى أن ذلك سبةً في جبينهم وعاراً في تاريخهم، وخيانةً للشعب اليهودية وتفريطاً في حقوقه.

لا يحتاج أي فلسطيني إلى عظيم جهدٍ ليدرك أن نتنياهو كاذبٌ مخادعٌ، وأنه وحزبه يريد أن يتحالف مع "الشيطان" ليفوز في الانتخابات القادمة، التي بات مؤشراتها في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة مقلقة، فحظوظه تتراجع، وخصومه يتقدمون، وشبح المحاكمة يطارده، وكابوس السجن ينتظره، لهذا نراه يرسل موفديه سراً وعلناً، إلى قادة الأحزاب العربية ليفاوضوهم ويساوموهم، ويعرضوا عليهم خدماتهم ويطمئنوهم، ليضمنوا أصواتهم، ويستفيدوا من كثافة تصويتهم، فهم يمثلون أكثر من 15% من الأصوات الانتخابية، مقابل وعودٍ كاذبة وأماني واهيةٍ، ومناصب مخزيةٍ، ووظائف قذرةٍ، وصورٍ مهينة تجمعهم به، تلحق بهم عاراً إلى الأبد، وتلطخ سمعتهم وتلوث شرفهم مدى الحياة.

ليست المشكلة في أن يحاول نتنياهو استمالة الفلسطينيين وكسب أصواتهم، فهو انتهازي نفعي، وضيعٌ كذابٌ، مخادعٌ محتالٌ، وهو مأزومٌ محتاجٌ، يتطلع إلى مصالحه، ويسعى لتحقيق أهدافه وخدمة حزبه، ولا ضير عنده أن يستفيد من الأصوات العربية، خاصةً أنه يؤمن أن معتقداته تسمح له بأن يستغل "الغويم"، وأن يركبهم كالحمير، وأن يستخدمهم كالدواب في الوصول إلى غاياته وتحقيق أهدافه، وهي التعاليم التي نشأ وتربى عليها، وآمن بهها وعمل بموجبها، مما لا يجعله يشعر بالحرج أو التناقض إن استفاد من الأحزاب العربية كرافعة لصعوده، أو مطية لعبوره ووصوله، وحتى إذا ما انتهى منهم وحقق مآربه معهم، فإنه ينقلب عليهم ويلقي بهم إلى قارعة الطريق، غير ملتزمٍ بوعدٍ قطعه أو التزامٍ تعهد به.

لكن المشكلة الكبرى هي عند الأحزاب العربية التي قد تصدقه وتؤمن به، وتأمن له وتعمل معه، وتمنحه أصواتها وتعطي الثقة لحكومته، وهي التي تعلم أنه أكثر من أضر بهم وبقضيتهم، وأنه يسيئ إليهم ويتآمر عليهم، وأنه يسعى لخلعهم ويعمل على طردهم، وأنه الذي يرعى الإرهاب في أوساطهم ويحرض على القتل والجريمة بينهم، وأنه يمارس العنصرية ضدهم ويحرمهم من حقوقهم، ويساعد المستوطنين على التغول عليهم والنيل منهم، فضلاً عن جرائمه الكثيرة ضد شعبهم الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، واعتداءاته المستمرة عليهم وعلى مسجدهم الأقصى ومقدساتهم الإسلامية والمسيحية.

أما الأدهى والأَمَرُ فهو قبول بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية بالوساطة بين حزب الليكود وقيادة الأحزاب العربية، ومحاولة إقناعهم بالقبول بعروض الليكود وتصديق نتنياهو، بحجة أنه وحزبه الأقدر على إحداث تغييرٍ حقيقي في الأوساط العربية، إذ لا يقوى على القيام بإجراءاتٍ جذرية في البلدات العربية غير حزبٍ قويٍ وزعيمٍ إسرائيلي كبير، يستطيع أن يتخذ قراره ويتحمل كامل المسؤولية عنه.

نسي الوسطاء أنه لا زعيم في الكيان الصهيوني اقترف موبقاتٍ وارتكب جرائم ضد الشعب الفلسطيني منذ العام 1996 وحتى الآن مثل نتنياهو، الذي يصر على مواصلة سياسته، والمضي في برامجه، وتنفيذ مخططاته، التي يتطلع بموجبها إلى دولةٍ يهوديةٍ نقيةٍ على كامل الأراضي الفلسطينية، وفي القلب منها الضفة الغربية، التي يطلق عليها اسم "يهودا والسامرة"، ويرى أنها قلب وروح الدولة اليهودية.

لا نعتقد أن أهلنا الصامدين المرابطين في الأرض المحتلة عام 1948، الذين تحدوا الاحتلال وتصدوا له، وتشبتوا بأرضهم، وثبتوا فوق تراب بلادهم، وحافظوا على دينهم، وتمسكوا بتراثهم، وصمدوا في مواجهة السياسات العنصرية والنزعات الاستيطانية، وبقوا في قلب فلسطين يجرون في عروقها دماءً، ويصبغون ترابها انتماءً، وينزرعون في أرضها ثباتاً، ويصدحون في سمائها عروبةً، ويدافعون عن مقدساتها إيماناً، لا نظنهم يخدعون بالأماني أو يصدقون الأعادي، فهم أسمى من أن يقبلوا مع القاتل حلفاً، أو أن يعطوا المحتل عهداً، أو أن يصدقوا منه وعداً، إنهم عمقنا الأصيل وشعبنا العظيم، وأهلنا الصِيدُ الأباة، وأبناؤنا الصادقين الكُماةِ.