تنشر (الكلمة) في هذا العدد مقالين مختلفين للناقد الفلسطيني الكبير حول رواية إلياس خوري، وتطرح معهما سؤال عن أيهما يمثل حقا رأي الناقد الفلسطيني، خاصة وأن المقال الأطول نُشر في (دراسات فلسطينية) التي يحررها خوري، فهل كان المقال الأصغر هو ما حُذف من الأول؟ في انتظار إيضاحات!؟

الياس خوري واجتهاداته الغريبة

لماذا تهديد المأساة الفلسطينية؟

فيصل درّاج

 

عُرف الأديب اللبناني إلياس خوري بدفاعه المستمر عن القضية الفلسطينية. لازم الفلسطينيين منذ بداية صعوده الثقافي، فعمل في القسم الأدبي في مجلة شؤون فلسطينية، حين أشرف عليها الراحل د. أنيس صايغ. وتوطّد عمله فيها بعد أن أخذ محمود درويش مكان صايغ، والتحق بالشاعر لحظة تأسيس مجلته الشهيرة: الكرمل. أسهم في أعدادها الأولى إلى أن ذهب مدرساً في جامعة أمريكية، معتمداً على موهبته ورسالة دعم من إدوارد سعيد واشرف، لاحقاً، على مجلة الدراسات الفلسطينية، واستمر في عمله الأخير إلى اليوم.

أدرج القضية الفلسطينية، وهو الروائي المتميّز، في كتابته الروائية ونشر، قبل أكثر من عشرين عاماً، روايته الكبيرة: “باب الشمس، التي باركت ترجمتها إلى الفرنسية صحيفة “لوموند دبلوماتيك”، قبل أن تترجم إلى الإنجليزية، حال روايات أخرى. بل أن روايات أخرى حظيت بالترجمة، وبالفرنسية خاصة، بعد نشرها مباشرة بالعربية. من روايته الأولى: “الجبل الصغير” إلى روايته الأخيرة : اسمي آدم ـ أولاد الغيتو ـ ، التي ظهر منها جزئين، في انتظار ثالث،.. ، ربما.

بدأ خوري روائياً موضوعه الأساسي: مأساة الفلسطينيين، فاشترك في أكثر من “ندوة”، كما لو كان مختصاً روائياً بالشأن الفلسطيني وأشرف على ندوات لاحقة موضوعها “الصراع الفلسطيني ـ (الإسرائيلي)” أو ، بشكل أدق: “الحوار اللازم بين النكبة والهولوكوست”، بتشجيع من الراحل إدوارد سعيد، كما هو حال ندوة عقدت في بيروت، في مطلع القرن الواحد والعشرين، أو نهاية القرن الذي سبقه، حضرها :”سعيد” ومريدوه….

انطوى نشاط خوري على استمراريةٍ في “قناعاته السياسية” إذ رفيق الفلسطينيين يدافع عن قضيتهم، وتضمّن ايضاً حسباناً ذاتياً مشروعاً، ذلك أن الحديث عن اضطهاد الفلسطينيين مناسبة لحديث مواز عن “اليهود”، له أفقه “العالمي” و”راهنيّته” المستمرة في السوق الثقافي ـ السياسي الغربي، الذي احتل فيه اليهود مكاناً متميزاً، ولا يزال

ترجم خوري في نشاطه الأدبي المكثّف أطروحتين أساسيتين، تقول الأولى: ترصد أهمية القضية الفلسطينية في “الوعي الكوني”، عن ارتباطها بالحضور اليهودي فيه، فلو كان الشأن عربياً ـ فلسطينياً خالصاً لما التفت إليه أحد. إنه طريق إلى «العالمية»، تتسع عالميّته حين تكون النكبة «هولوكوست أخرى»، وحين تذوبان معاً في “معاناة متطابقة، تثير التعاطف مع الفلسطينيين واليهود ودولة (إسرائيل) معاً. كان الراحل الكريم إميل حبيبي قد سوّغ قبوله «لجائزة الإبداع (الإسرائيلي)» بأنها «منفذ إلى العالمية، وإلى جائزة نوبل ربما، ولما لا، طالما أنه مبارك (إسرائيلياً)». اختزل حبيبي الشهرة المرغوبة في باب ذهبي عنوانه: “الروح اليهودية”. اقتبس إلياس اجتهاد إميل حبيبي، ووسّعه بجملة غامضة لإدوارد سعيد: «ضحية الضحيّة»، حيث يبدو اليهود ضحية «الهولوكوست»، ويظهر الفلسطينيون «ضحية لليهود» الذين سامهم النازيون العذاب والاضطهاد. وعلى الرغم من بلاغة جملة سعيد، وهي موجهة إلى الجمهور الأمريكي أولاً، فإنها في عمقها «فارغة». ذلك أن ما عاشه اليهود في فترة محدودة عاشه الفلسطينيون من عام 1948 حتى اليوم.

ولعل جاذبية «اليهودي المضطهد»، في الثقافة الغربية، هي التي ألزمت إلياس خوري في روايته (باب الشمس) بجملة أقرب إلى الأحجية، حين وضع على لسان بطله: «حين أُطلق النار على اليهودي أطلق النار على نفسي» ولكن لماذا؟ فقد طرد الصهاينة الفلسطينيين من أرض أجدادهم طرداً، وارتكبوا مجازر شهيرة واضطهدوهم اضطهاداً لا اقتصاد فيه، اعترف به الجنرال موشيه ديان، في تصريح أثار غضب غيره عليه، أورده محمد علي طه في روايته الأخيرة (نوّار العِلْت): «لا يمكن أن ينسى أي عربيّ ما فعلناه ضدّه وضدّ أهله وبلده وبيته وأطفاله وزوجته.» ص: 95. والأستاذ علي طه مقيم في فلسطين المحتلة ـ إسرائيل ـ لم يغادر بلده ويعرف السياسة (الإسرائيلية) معرفة كافية. عارض خوري ما قال به الجنرال (الإسرائيلي)، وأنطق الفلسطيني بما يعارض التجربة والحقيقة، جعله يشعر أن إطلاق النار على الذين قتلوا أهله يعادل الانتحار الذاتي، فلماذا؟ ما السبب الذي دعا إلى جملة طافحة بالرحمة واغتيال الذاكرة؟ هل هو توسّل العالمية حتى لو مرّ على أرواح الفلسطينيين وجثثهم؟ وهل على الفلسطينيين أن يتخلْوا عن ذاكرة أجدادهم ما دام هذا التخلي يشبع طموح روائي «عادل» طموح؟

وكما «صحّح» إلياس ما جاء على لسان الجنرال ديّان، الذي لم يكن معروفاً بحبّه للعرب وللفلسطينيين، تبرّع أيضاً لتصحيح ما جاء على لسان الروائي البرتغالي الشهير: سراماغو، حين زار فلسطين وقال: «إن )إسرائيل) ذكّرتني بألمانيا النازية». عارض الروائي اللبناني سراماغو في مقالة له نشرها في مجلة «الكرمل»، في طورها الثاني، دفعتني، آنذاك، إلى رد طويل عليها. والأمر في وجهيه غريب، فليس خوري أكثر موضوعية من ديان في توصيفه لما فعله (الإسرائيليون) بالفلسطينيين، ولا هو أكثر صدقاً وأخلاقية من سراماغو، الذي عاش حياته ملتزماً بقضايا الفقراء والمضطهدين. هل تحتاج العالمية المنشودة ـ وما وراؤها ـ إلى تزييف وقائع لا سبيل إلى تزييفها إلا بكسر اللغة وإتقان لعبة الأقنعة؟ لم يكن إلياس ملزماً بالدفاع عن الفلسطينيين إن كان عليه أن يلتزم في الوقت ذاته، بإغداق “عدم الحقيقة” على )الإسرائيليين(!!!

كان بالإمكان القفز فوق “عثرات” روائي عايش هموم الفلسطينيين في لبنان، كأنه واحد منهم، لولا العنوان الذي اختاره لعمله الروائي الأخير: اسمي آدم ـ أولاد الغيتو. يمحو العنوان الإشارة إلى الفلسطينيين: فإلى “آدم” ينتمي كل من جاء إلى هذه الدنيا، فلسطينياً كان أو يهودياً، أو غيرهما، أما صفة «أولاد الغيتو» فتخصّ اليهود قبل غيرهم، أو تخصّ الفلسطينيين إذا تقدمنا بمعادلة كاذبة تساوي بين العذاب الذي وقع على الطرفين. قدّم الروائي اللبناني وصفاً منصفاً ودقيقاً لمجزرة اللّد التي ارتكبها “جيش الدفاع” بحق الفلسطينيين في صيف 1948، وسوّغ صفة «أولاد الغيتو» ـ أي الفلسطينيين، بالوضع الحزين الذي آلو إليه، حين أجبرهم جيش الدفاع بالتجمّع في حيّز مكاني ضيّق، لا يجوز تجاوزه، أي في «غيتو» يشبه ولو من بعيد «غيتو وارسو»، الذي يعني العزل العنصري المسوّر بالرقابة المشددة والعقاب الجاهز.

لا معنى لصفة «أولا الغيتو» سواء أطلقها جيش الدفاع على ضحاياه، أم أطلقها الضحايا على أنفسهم، وهو أمر مشكوك به .. فقد تلا «غيتو واسو» تحرّر، أتاح لليهود هجرة جماعية إلى فلسطين وتلا «غيتو اللد» شتات يتلوه شتات. عاش اليهود اضطهاداً فرضه عليهم النازيون لا غيرهم، وعرف الفلسطينيون اضطهاداً، متعدد اللغات، لا يزال قائماً إلى اليوم. كانت تجربة اليهودي المأساوية جزءاً زمنياً من القرن العشرين، الذي دعاه المؤرخون اليهود «القرن اليهودي» حيث اليهود الأقلية الأكثر تميّزاً في القرن الجديد، اقتصاداً ومعرفة ونفوذاً أسعفهم في احتلال فلسطين المدعوم إنجليزياً وأمريكياً وأوروبياً، بينما كانت مأساة الفلسطينيين فريدة ومستمرة الفرادة مثلما قال الفيلسوف الفرنسي الشهير: جيل ديلوز : «لحق الظلم بالفلسطينيين حين أخرجوا من وطنهم، ولحقهم أيضاً حين طالبوا بالعودة إليه.»

ولعل الرجوع إلى كتاب دانييل ب. شفارتس، الصادر عام 2019 عن مطبوعات جامعة هارفرد: وعنوانه: «غيتو تاريخ كلمة»، يكشف عن الاختيار الخائب الذي وقع عليه خوري. فوفقاً لمجموعة من المؤرخين اليهود فإن تاريخهم يقسم إلى فترة «الغيتو»، أي ما قبل صعود الصهيونية. وفترة «التحرّر»، التي هزمت اللاسامية وأنشأت (إسرائيل) وبنت نفوذاً يهودياً كونياً، امتد من الاقتصاد والفن إلى العلوم وجوائز نوبل.

نسي خوري أن للمفاهيم تاريخها، ففي الغيتو تاريخ يهودي وفي «النكبة» تاريخ فلسطين، وأن تناسي «النكبة» نسيان للتاريخ الذي جاء بها وإلغاء لذاكرة فلسطينية يمتد فيها الأجداد بالأحفاد. وإذا كان الفلسطينيون، كما العرب قد توافقوا على مصطلح: النكبة، الذي اقترحه المؤرخ اللبناني النبيل قسطنطين زريق، فلماذا هذا «التشاطر» والاستعاضة عنه «بالغيتو»، ولماذا إلغاء تاريخ فلسطين المنكوبة بصفة مجزوءة خاصة بمدينة فلسطينية، لم تكن وحدها التي وقعت عليها مجزرة وتقتيل وتهجير؟ التشاطر بسيط وساذج وينشد مساواة مستحيلة: فمثلما أن لليهود «غيتو»، فإن للفلسطينيين «غيتو آخر»، ما يجعل الطرفين يتقاسمان حملاً باهظاً واحداً ويفرض عليهما، تالياً، الغفران المتبادل، وهو اقتراح مليء بالشذوذ، رفضه الجنرال موشيه ديان منذ زمن طويل؟

من المحقّق أن تغيير الكلمة يغيّر المعنى، يمسح المعنى الفلسطيني ويستبقي عالياً المعنى اليهودي. ذلك أن دور الكلمات، في سياقات محددة، حجب المعنى، كما يعرف دارسو اللغة، ومن المحقق أيضاً أن الاحتفاظ بكلمة «الغيتو» وحدها، إلحاق مشوِّه ومغرض للتاريخ الفلسطيني بالتاريخ اليهودي، ففي الكلمات موازين قوى، وأسباب كثيرة جعلت «الغيتو» أشد وقعاً من كلمة «النكبة»، وذلك في عالم راكم فيه الإعلام الصهيوني، كما مناصروه، نفوذاً شاسعاً.

نقرأ في كتاب شفارتس: «تماهت يهودية ما قبل الحداثة بعصر الغيتو»، بقدر ما تماهت اليهودية الحديثة بالخروج من الغيتو كنتيجة للتحرّر السياسي والتثاقف الاجتماعي (الفاعلية المستمرة، ص: 8)، وإذا كانت اليهودية في طوريها، تماهت مع “الغيتو” والخروج منه، فما الأسباب التي تدعو الفلسطينيين إلى مماهاة تاريخهم كله بمفردة يهودية تصرّف بها اليهود إلى حدود الاحتكار؟ ما هي معالم الغيتو في ثورة 1936 ـ 1939، أو في قتال عبد القادر الحسيني المجيد دفاعاً عن القدس عام 1948؟ وما فضائل كلمة الغيتو على مجزرة «دير ياسين» ومجازر صبرا وشاتيلا وتل الزعتر؟

بيد أن ما هو طريف وبالغ الطرافة، إلى حدود الأسى، أن يأخذ إلياس خوري عنوان “أولاد الغيتو” من الكاتب الصهيوني (إسرائيل زانغويل)، الذي نشر عام 1892 في لندن كتابه: أولاد الغيتو: دراسة في شعب خاص الذي استقبل بحماس شديد، وغدا مرجعاً لنوع جديد من روايات الغيتو. وزانغويل هو، ربما، الكاتب اليهودي الأكثر شهرة الذي عرفه الأدب الإنجليزي، وهو نفسه من أولاد الغيتو انحدروا من مهاجرين من لاتفيا وبولندا، كتاب شفارتس ص: 91”. وهو معروف على أية حال لدارسي الحركة الصهيونية في فلسطين. فإذا كان زانغويل استفاد من سيرته الذاتية وهو يكتب “رواية الغيتو”، فما هي مصادر إلياس خوري التي دعته إلى «اختراع» صفة لا علاقة لها بالفلسطينيين؟ ربما كانت أضاليل البحث عن الشهرة والبحث عن الحظوة في “الأوساط المرموقة”. لهذا يرد اسم إلياس وروايته في فهرس كتاب شفارتس، ص 249.

لم يكن إميل حبيبي تنقصه الموهبة حين أخذ جائزة «بني إسرائيل»، وتوسّل العالمية، ولا ينقص إلياس خوري، أبداً، الموهبة الروائية. لكنه زمن الإعلان وازدهار «الدبلوماسية الروائية»، وزمن تساقط القيم، ربما.

نعم إننا نحن الفلسطينيين أولاد النكبة ولن يكون لنا صفة أخرى حتى نستعيد حقوقنا ولا علاقة لنا بالغيتو، ولا نريد أن يكون لنا به علاقة حتى لو طالب بذلك الساعون إلى الشهرة.

 

عن  الصفصاف