الارتباط الوثيق ما بين الحياة والموت في الثقافات الشرقية، يتجلى هنا في هذه القصة الأذربيجانية، حيث يأخذ الموت شكل الانتماء لثقافة محددة، تحتفى بدورة الحياة كاملة، فنحن نولد مثل النباتات، ونشرب ذات الماء، نسير على ذات التربة التي سوف نعود إليها، لذلك تدمع الأم حين تلامس تراب القرية.

الأم التي لا تستطيع الموت

آزاد قـارادرالي

ترجمها عن اللغة الآذرية: أحمد سامي العايدي

 

على الرغم من صعوبة الأمر، فشيخ القرية اتخذ القرار النهائي: لكي يقاتل الفتيان بحرية، يجب إخراج النساء والبنات، وكذلك الأطفال وكبار السن من القرية، والذهاب بهم بعيداً أي إلى المدينة المجاورة! وكان لا يمكن تفادي هذا القرار على شدة صعوبته، لأن قانون القتال كان يتطلب هذا.

وبينما كانوا ينتقلون إلى تلك المدينة برفقة الفتيان المسلحين عبر منحدرات الجبال، وقعوا في كمين نصبه جنود العدو. وإلى أن دمر الفتيان كمين العدو، أُصيب بعض الأشخاص العزل بالسهام. فجرح من جرح، ومات من مات.

أصيبت الأم "آغجا" بسهم في صدرها. وعلى الرغم من أنها نزفت دماءً كثيرة، تمكن الفتيان الأبطال من نقلها إلى المدينة سالمة. لم يكن هناك طبيب، ولم يجدوا علاجاً للأم. لقد أصاب السهم قلبها. لكنها كانت لا تزال تنتظر زوجها شيخ القرية الذي لم يعد بعد من القتال، وكذلك ابنيها. فهي لازالت على قيد الحياة.        

كانت حالة الأم المريضة في منزل ابنتها التي انتقلت إلى المدينة قبل بضع سنوات تزداد سوءًا. يحوم ملك الموت حولها. وتسلط الأم عينيها من النافذة المفتوحة نحو مكان مجهول، وتطيل النظر إليه. إن ما كان يُؤلم قلب ابنتها التي ترطب شفتي الأم الجافتين بقطن مبلل هو أن أمها فقدت النطق. هذه الأم التي كانت تُسحر الناس بأحاديثها العذبة، الآن لا تستطيع حتى التأوه. كانت الأم أحيانًا تحوم بعينيها وتنظر إلى أقاربها الجالسين في الغرفة، ثم تسلط نظراتها ثانية إلى النافذة. أما عند النافذة فتوجد مرآة زفاف ابنتها، وزهور نبات " إبرة الراعي" مزروعة في أصيص كبير، ولا يُعرف إن كانت الأم تنظر إلى المرآة، أم إلى نبات "إبرة الراعي"، أم إلى النافذة مصدر الضوء؟

كانت الفتاة المسكينة أحيانًا تُصوب نظرها نحو النافذة مثل أمها المريضة لتقرأ ما يجول في خاطرها، لكنها لا تستطيع فهم أي شيء. "هل تنظر إلى المرآة؟ ألم تضعها بنفسها في جهازي وترقص بها في يدها أثناء زفافي؟ إلى أي شيء يجب أن تسلط نظرها؟ ربما تنظر إلى نبات "إبرة الراعي"؟ ماذا فيه حتى تنظر إليه؟ ألديها طاقة للنظر لهذا النبات؟ فيما زوجها وابنيها في ساحة القتال، وقد تعرضت قريتها لهجوم العدو، وأصيب قلبها بسهم العدو؟ ألم تزرع هي بنفسها هذه الزهور وتعطيها لي في جهازي؟ ألم تقل لي "فلتكن دائما رائحة هذه الزهور لا تنقطع عن بيتك".. أم ربما أمي تريد شيئًا ما خارج المنزل، هل تريد الضوء؟ ربما تنظر إلى قريتنا من خلال ذلك الضوء؟"

نهضت ابنتها بعد معاناتها من الأسئلة التي لا إجابة لها. وأخذت مرآة الزفاف من عند النافذة عن عمد ونقلتها إلى الغرفة الأخرى لترى هل سيحدث تغيير لدى أمها؟ ثم أدارت عينها بحذر ونظرت لأمها خلسة، لا، ظلت أمها تسلطت عينيها نحو النافذة كما سبق. وكأنها كانت تخشي أن تسلب النافذة منها، وكأنها كانت تحرسها بعينيها...

جاء الدور على أصيص نبات "إبرة الراعي". "الآن سوف آخذ هذه الزهور. ولكن الأصيص ثقيل للغاية، لا طاقة لي على حمله بمفردي. فلأنادي ابنتي الصغيرة..."

تعاونت الأم وابنتها في حمل أصيص النباتات من النافذة. وما أن ابتعدا عن هذا المكان، إلا وسُمعت صرخة وصوت يشبه صوت رجل يحترق بالنار:

  • إهييييييييييي!

وبسبب الفزع الرهيب الذي أحدثه الصوت، كاد الأصيص أن ينزلق من أيديهم ويسقط على الأرض، لكن ابنتها الصغيرة تحركت بسرعة ووضعت ركبتها تحت الأصيص، ممسكة به بصعوبة. أما ابنة المريضة فكأنها أمسكت قضيبًا من نار بدلاً من الأصيص. كانت لا تعرف ماذا تفعل، أتساعد في حمل الأصيص الذي أصاب ركبة ابنتها الصغرى، أم تهرول نحو الصوت الرهيب الذي أرعبها آنفاً... عندما التفتت ونظرت إلى أمها، كأن الدم قد تجمد في عروقها: مدت الأم يديها نحو الأصيص! وكأنها تريد أن تقول لها بنظراتها المتوسلة، لا تلمسيه، أعيدي الأصيص إلى مكانه.

بدا أن الأم وابنتها الممسكتين بالأصيص الثقيل قد أدركتا مدى الخطأ الذي ارتكبتاه. فأعادا أصيص أزهار "إبرة الراعي" ووضعتاه في مكانه السابق.

ظلت يد الأم ممدودة نحو أصيص الأزهار. ما الذي تريده الأم المريضة؟ لا أحد من الموجودين بالغرفة يفهم أي شيء. كان كل من يقع في مأزق يهرول إليها. كانت ملاذاً لتقديم النصيحة للأسر الشابة. تعالج أصحاب الأمراض المستعصية بوصفات أعدتها من آلاف الأعشاب والنباتات. كانت تجبر من انكسر ذراعه أو ساقه بجبيرة مخلوطة بصفار البيض فتعيده صحيحاً معافاً... ذات مرة أحضروا لها فتاة مريضة لم يستطع الأطباء معالجة مرضها، لقد كانت تذبل يوما بعد يوم، كانت من أسرة ثرية. بعد ثلاثة أيام من العلاج، قالت لوالد الفتاة: "مرض ابنتك هو الحب. طبقا لعادات القرية، لا تستطيع الفتيات أن يبحن بمحبتهن، فيجب أن يتقدم لها الغلام. وهذا الغلام لا علم له بهذا الحب. اعهدْ لي بهذا الأمر". بعد ذلك ذهبت إلى القرية التي بها الغلام، وفعلت ما فعلت، فجاء الغلام وسكن بجوار المنزل الذي تقيم به الفتاة المريضة. وبهذا وُضع أساس أسرة شابة...ولكن لا تستطيع أن تداوي نفسها، أصبحت عاجزة في يد المرض...

أدركت ابنتها أن مرض أمها ليس من الأمراض العادية. وكانت ابنتها على أتم الاستعداد لتضحي بروحها من أجل أن تعرف ما هذا المرض، لذلك لازمت فراش أمها وتابعت كل حركاتها. كانت تخشى أن قلب أمها لن يتحمل أكثر من ذلك، وأنها قد ترحل عن الدنيا دون أن تحقق رغبتها الأخيرة. فالفتاة تعرف جيدا أنه لو حدث ذلك، فسوف ينفطر قلبها هي بعد ذلك...

انحنت وضمت ذراع أمها بجوارها والذي كان ممدودا نحو أصيص الزهور. وفي نفس اللحظة حدث أمر غريب. انحنت الأم والتوت كالقوس، وانتصبت ثم جحظت عيناها. تحولت الآلام والأوجاع التي تنهشها من الداخل إلى صوت وتفوهت:

  • الورد-التربة!

في البداية ظنت الابنة أن أمها تلفظ نفسها الأخير. لذلك لم تستطع أن تسمع جيداً الكلمة التي قالتها أمها. لم تتبين هل قالت "الرماد-التربة" أم "الورد-التربة"؟ انحنت وقبَّلت أمها من شفتيها المليئة بالكلمات المحبوسة والتي يصعب نطقها، ورفعت رأسها ونظرت تلقائياً إلى أصيص الزهور الموجود عند النافذة، ودققت النظر في شفتي أمها التي تقول "الورد-التربة"، وصاحت:

  • الرماد على رأسي! التربة الموجودة في الأصيص هي تربة قريتنا!

سارت وأدخلت يديها في الأصيص، وأخرجت حفنة من التربة، ثم اتجهت نحو أمها. وضعت التربة على صدر أمها، ومسحت بها على عينيها. وكأن ملك الموت كان ينتظر هذا من قبل، فجاء من الركن الذي كان منزوياً فيه وجلس عند ركبتها. سقطت الدمعات الأخيرة التي كانت متعلقة في عيني أمها، وسالت على وجهها. انحنت البنت فوق أمها من أجل إغماض عينيها المحدقتين. في ذلك الحين، صدر صوت للأغصان والأوراق الرقيقة لنبات "إبرة الراعي" الموجود عند النافذة، واهتز. وكأن شخصا ما يواسي بتلات النبات بيده.

*****

آزاد قارادرالي
ولد الكاتب الأذربيجاني "آزاد قارادرالي" عام 1954م بقرية "درالي" التابعة لمحافظة "زنجلان" بأذربيجان.  بدأ مشواره الإبداعي في فترة الدراسة الجامعية، وأذيعت قصصه القصيرة في الإذاعة الأذربيجانية، ونشرت في العديد من المجلات الأدبية مثل "أذربيجان" و"أولدوز".

صدرت مجموعته القصصية الأولى بعنوان "الماء شديد العذوبة" عام 1987م. وله العديد من المجموعات القصصية الأخرى مثل "العواء"، و"بياض الثلج"، و"هل يوجد هنا رجل؟"، و"أطفال الحرب"، و"رثاء الديمقراطية"، و"منطقة الممنوع"، و"وطني حبيبي". وكذلك روايات مثل "الأرض لا تدور هنا"، و"المدينة الصغيرة"، و"أكبر شخص".

ترجمت أعماله الأدبية إلى اللغات الروسية والتركية والبولندية، والإنجليزية، ونشرت في العديد من المواقع الالكترونية والمجلات في تركيا وروسيا وإيران وبولندا.

عمل لفترة طويلة بالإذاعة. وهو مؤسس ورئيس تحرير مجلة "الكتابة" الأدبية.

ونعرض له لأول مرة باللغة العربية قصة "الأم التي لا تستطيع الموت".