ناقشت الباحثة خديجة حسيني، الشهر الماضي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس بالرباط، أطروحتها حول "السرديات العربية وامتداداتها الثقافية تجربة سعيد يقطين مثالا"، نالت على إثرها شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا. وقد أشرف على هذا البحث، الناقد الدكتور محمد الداهي، أحد الأسماء اللافتة اليوم في المشهد النقدي. وقد خلصت الباحثة ضمن مكونات بحثها، إلى كيفية تشييد الناقد سعيد يقطين معمارَ فكره النقدي من خلال تبنيه ديناميةَ الأنساق والبحثِ في نواة السرديات الثقافية والمعرفيات. ونورد هنا تقريرها الافتتاحي.

السرديات العربية وامتداداتها الثقافية

خـديـجة حسـيني

 

يسعدني في البداية أن أشكر أعضاء اللجنة الموقرة الذين شرفوني بحضورهم العلمي الرصين، وطلعتهم الْمَهِيبة. أشكر أستاذي محمد الداهي الذي أشرف على هذا البحث المتواضع ورعاه بوقته الثمين وملاحظاته الشافية إلى أن استوى في حلة قشيبة. أشكر أيضا الأستاذةَ الدكتورةَ الجليلةَ زهور كرام، زهرةَ الأدب والنقد في العالم العربي، والمنارة التي نهتدي بها لتحدي المصاعب ونيل العلا. والشكر موصول إلى الأستاذ الفاضل مربي الأجيال قاسم الحسيني الذي مهد لي الطريق لمواصلة البحث بفضل غزيرِ علمهِ وجليلِ تواضعه. وأشكر أيضا الأستاذَ الفاضلَ محمد الوهابي الذي وهبه الله الصفاتِ الفاضلةَ التي كان لها الأثرُ الإيجابيُّ في تهذيب ذوقنا الأدبي، وإرشادنا إلى البحث العلمي الرصين. وأشكر في الأخير الأستاذَ الفاضلَ إدريس الخضراوي الذي تحمل مشاق السفر من مدينة مراكش لِيُضْفِيَ على هذه الجلسة البهاء لاجتهاداته في مجال السرديات الثقافية.

يندرج البحث في سياق "السرديات العربية" التي ازدهرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ما فتئت تتطور وتتسع؛ مُقَارِبَةً النصَّ الحكائيَّ في مستوياته المختلفة وتجلياته المتباينة، مُزَوِّدَةً النقدَ الأدبيَّ بالأدوات الإجرائية، ومتفاعلةً إيجاباً مع روافدها الثقافية واتجاهاتها.

تأتي هذه الدراسة وفق المبدإ الفلسفي الذي يقر "أن الطبيعة تأبى الفراغ"، ويجدر بي طرحُ السؤالين المنهجيين الآتيين: لماذا السرد؟ وما هي الحاجة التي تدفعنا إلى أن نفكر سرديا؟

فالسردُ- بصبغته الكونية والعَبْرزمنية- ينفذُ إلى عُمِقِ الوجود والمعرفة والتاريخ، محققا- بذلك- التلاقح والتفاعل الثقافيين، ومُرْهِصًا بمجتمع لا طبقي يسترجع الحلم الملحمي الطفولي، ونافضا الغبار عما راكمته الذخيرة السردية.

كانت تحكمني رغبة ذاتية وموضوعية للاشتغال على مصادرِ سعيد يقطين في مجال "السرديات العربية" وامتداداتها، وقد نمت الرغبة في طَوِيتي وترسخت في نفسي؛ فشكلت الغايةَ العلميةَ التي يتوق إليها كل طالب علم طموح، ينشد السبيل إلى سبر أغوار المعرفة والفكر العلميين.

خضت هذه التجربةَ بهدف بلوغ الغاية المنشودة بالوصول إلى تمثل آليات المساءلة النقدية للسرديات العربية، في سياق تعالقها مع المرجعيات الغربية وملامسةِ توجهاتها، بحثا عن منطلقات "السرديات العربية"، المتمثلة أساسا في تجربة سعيد يقطين خلال ما يربو على أربعة عقود من الزمن.

تتجلى رغبتي الذاتيةُ في العزم على مواصلة البحث العلمي في المجال السردي نظريا وإجرائيا؛ لم ألج مجال البحث في موضوع "السرديات العربية" في تجربة سعيد يقطين من فراغ، بل كانت تحكمني قناعة أدبية وعلمية، ساهمت في إغناء فضولي المعرفي، والمواءمة بين إكراهات العمل الإداري وحوافز البحث العلمي.

أما الرغبة الموضوعية، فتعود إلى اطلاعي- سابقا- على بعض مؤلفات سعيد يقطين، حين كان يدرسني "مادة التوثيق" بمسلك "تاريخ بنيات الشعر المغربي الحديث" تحت إشراف الدكتور محمد بنيس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة الرباط برسم الموسم الجامعي 2008/2010. أسعفتني هذه التجربةُ على الاحتكاك - عن كثب- مع سعيد يقطين بصفته أستاذا جامعيا وباحثا وناقدا ومثقفا عموميا؛

بفضل هذه الحوافز، وبفضل جهد أستاذي الدكتور محمد الداهي المفضال، استقر موضوع بحثي على السرديات العربية وامتداداتِها الثقافية (تجربةُ سعيد يقطين مثالا) لإبراز ثوابتِها ومنطلقاتها ومراميها، وتحديدِ الخلفيات المتحكمة فيها، ورصد مساعيها في إقامة سرديات موسعة ومنفتحة على مجالات معرفية متعددة.

في ضوء ما سبق ذكرُه، تشكلتْ لدي قناعةٌ بدراسة المنجز النقدي لسعيد يقطين الذي راكم تجربة، أضحت- بمرور الوقت- مصدرا أساسيا في الدراسات السردية العربية. لذا، آثرتُ أن أتخذها موضوعا للدراسة والنقد (نقد النقد) في ضوء الإشكالات الآتية:

  1. ما منزلةُ "السرديات العربية" في مشروع سعيد يقطين؟
  2. ما النسقُ العام الذي يؤطر تجربتَه النقديةَ ويحْكُمُها؟
  3. ما هي الامتداداتُ المعرفية التي تَحَكَّمَتْ في تصوره النقدي؟ وما الخلفياتُ النقدية التي استند إليها؟
  4. كيف استثمر اللغة النقدية الواصفة لمقاربته للمتون السردية أ ورقية، كانت أم رقمية؟
  5. فيم تتجلى إضافاته النوعيةُ في مجال "السرديات العربية"؟
  6. ما هي بصمته الثقافية في مجال "السرديات" خصوصا، والدراساتِ الأدبية عموما؟

تلك أسئلة، حاولتُ الإجابةَ عنها- تِبَاعًا- لتكوين صورة عن المنجز النقدي لسعيد يقطين.

تتكون الأطروحة من الأقسام الآتية:

أ- تناولتُ في القسم الأول "سعيد يقطين عالما للسرد العربي"، جملةً من القضايا التي أُجملها فيما يلي:

- تصورُهُ لآليات الخطاب السردي واشتغالِه.

- تدرجُه من المظهر اللفظي (البنيوية) إلى المظهر الدلالي (ما بعد البنيوية).

- تجنيسُه الكلامَ والخبرَ العربييْن.

- معالجتُه البنياتِ السرديةَ (الرواية، والسيرة الشعبية)، وتوسيعُه مجال "السرديات" لمقاربة النصِّ السردي في شموليتِه (السردياتُ الخِطابية، وسردياتُ القصة، وسردياتُ النص).

ب- بَيَّنْتُ- في القسم الثاني "سعيد يقطين منظرا للرقميات العربية"- المنزلةَ التي أضحى يَشْغَلُهَا النص المترابط في الدراسات النقدية الحديثة، لقيمته الإجرائية في إبراز خصوصية النص الرقمي بتشعبه اللامتناهي، وتفاعلِه مع الوسائط المتفاعلة، وإشاعتِه قيما جديدة للقراءة والتلقي والنقد. وضمن السياق نفسِه، عالجتُ تصورَ سعيد يقطين لإرساء دعامات جماليات الإبداع التفاعلي، وتطوير الرقمية العربية حتى تواكبَ روح العصر، وتصححَ اختلالات الفجوة الرقمية، وتنخرطَ في العولمة الثقافية وإكراهاتِها.

ج- عالجتُ- في القسم الثالث "سعيد يقطين مثقفا عموميا"- القضايا الثقافيةَ التي استأثرتْ وتستأثر باهتمام سعيد يقطين؛ ومن ضمنها: الفكرُ الأدبيُّ العربي، والمؤسسةُ الأدبية، وتجديدُ الرؤيةِ للتراث، والتعليم، والحداثةُ الثقافية، والديمقراطيةُ المؤجلة.

ارتأيتُ- وفق الطبيعة التي يقتضيها موضوع الأطروحة- أن أستأنس بمنهج "نقد النقد" لاستيعاب الممارسة النقدية لدى سعيد يقطين، وإبرازِ لغتِها الواصفة، والخلفياتِ المتحكمةِ فيها، وإبرازِ سمات الخطاب النقدي في تجربته والخلفياتِ التي تتحكم فيه. لقد أرشدني أستاذي المحترم الدكتور محمد الداهي إلى اتباع طريقة تزفيتان تودوروف في مؤلفه "نقد النقد" الذي يقوم- بالاستفادة من الإرث الباختيني- على النقد الحواري الذي يُعَدُّ سيرة ذاتية فكرية، أو تناصا داخليا، تتفاعل- داخلَه- كلُّ الأفكارِ والتصوراتِ التي استفادها من غيره، وأضحت تشكل جزءا من كيانه وشخصيته وموقفه من الوجود؛ فداخل تزفيتان تودوروف، يعيش كُتَّابٌ ونُقَّادٌ بخلفياتِهِم الفكرية، ومرجعياتِهِم الثقافية، وتصوراتِهِم النقدية؛ لينتقل من "البنيوية" إلى "ما بعد البنيوية"، ومن ناقد أدبي إلى ناقد الأفكار. وهي التجربة- نفسُها- التي حاولتُ أن أقتديَ بها ضمن هذا البحث، واسترشدتُ- أساسا- بمعالم النقد الحواري (الإنسان داخل الإنسان) الذي لا يهتم بالمنجزين النقدي والثقافي لسعيد يقطين، بل بتأثيره على تجربتي النقدية والثقافية المتواضعة؛ إذ يُعَدُّ الباحثُ والناقدُ الدكتورُ سعيد يقطين وغيرُه من النقاد جزءا من كياني لما تركوه في طَوِيَّتِي من آثارٍ إيجابيةٍ (الإنسانُ داخل الإنسان). إنه حوار وجداني، جعلني أتبادلُه مع مؤلفات سعيد يقطين؛ مما حذا بي إلى أن أتخذه موضوعا للدراسة في أفق الحوار النقدي البناء لتأثيره- أولا- على جيلي من الباحثين الشباب، وثانيا لاستجلاء مقوماته النقدية والثقافية والمعرفية.

خلصتُ- ضمن مكونات بحثي- إلى كيفية تشييد سعيد يقطين معمارَ فكره النقدي من خلال تبنيه ديناميةَ الأنساق والبحثِ في نواة السرديات الثقافية والمعرفيات. وفي هذا الصدد، يصاغ السؤالان الآتيان: ما هي معالم سيمياء الثقافة في التصور النقدي لسعيد يقطين بمعالجة المعرفة السردية؟ أ ليست الأنساق الثقافية الدينامية أداةً منهجيةً لتنشيط الفكر النقدي؟

ذلك ما حاولت الإجابة عنه ضمن مراحل هذا البحث.

إضافة إلى التقديم والتركيب.

صادفتني مصاعبُ كثيرةٌ بحكم صعوبة الموضوع وتشعبه من جهة وسعة المتن المدروس من جهة ثانية. لكنني- بفضل جُهد الأستاذ المحترم محمد الداهي وصرامته- انفتحت أمامي الأبواب الموصدة إلى أن أدركت المبتغى والهدف المنشودين.

لا يسعني- أخيرا وليس آخِرًا- إلا أن أعترف بالفضل لأهله؛ فالواجب، يقتضي- مني وعلي- أن أتوجه بأرق معاني الشكر وعبارات الامتنان والتقدير إلى الأستاذ المحترم الفاضل السيد محمد الداهي، بصفته إنسانًا ومُشْرِفًا عالما وأديبا ومفكرا وناقدا جادا، قَبِلَ الإشرافَ على هذه الأطروحة بكل ترحيب وتشجيع وعزم، ما فتئ يتعهدني بالتوجيه والنصح السديد والإرشاد النبيه والتصحيح والتصويب والتدقيق والتقويم، ويردني عن الزيغ بنقده، فهو الذي أمدني بالمصادر والمراجع المطلوبة في كل مرحلة من مراحل هذا البحث وبالمنهجية الملائمة وعمل على إغنائه بملاحظاته الدقيقة والقيمة، بدا ذلك- جليا- من خلال المساندة والمواكبة المستمرة والتكوين والتأطير لي ليجعل من هذا البحث بحثا علميا متكاملا مستوفيا الشروط اللازمة، ولا أُخْفي سعة صدره رغم أنني كنت أزعجه كثيرا وحتى في أوقات، كان يستطيب فيها الجلوس مع عائلته، أو يختلي فيها للراحة.

والشكر موصول إلى كل أعضاء اللجنة العلمية الموقرة التي قبلتْ تقويمَ هذا العمل ومناقشتَهُ من أجل استوائه، وإلى كل الأساتذة الأجلاء الذين أمدوني- خلال كل مراحل دراستي الجامعية العليا- بالرصيد على المستوى المنهجي والمعرفي والفكري والثقافي.

والشكر موصول- أيضا- إلى إدارةِ كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بأكدال بمدينة الرباط، وقد احتضنتني بصفتي طالبةً باحثة؛ ذلك الصرحِ العظيمِ الذي طالما ترددت عليه وأحسست بنشوة العلم، تغمرني كلما حَلَلْتُ بفضائه.

والشكر موصول- أيضا- إلى الدكتورين الفاضلين السيدين محمد السيدي مديرِ مركزِ الدكتوراه الإنسان والمجال في العالم المتوسطي وقاسم الحسيني، وإلى الأستاذ المحترم سعيد الزياني.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.