يقدم الناقد المصري هنا قراءته المستفيضة لتلك الرواية الجديدة التي تثير أسئلة كثيرة حول هذا الوجود العدمي الذي يتمحور حوله عالمها، وجود كالنار تأكلُ كُلَّ ما سِواها لتبقى موجودةً. ولا أملَ لـبطالها في البقاء إلاّ بإزاحة الآخَرين. فإن بدا الاستمرار في هذا المسلَك مستحيلاً فلتَنتَهِ حياتُهم بالانتحار/ العدَم.

نارٌ مُخيفَةٌ لا تحرق

قراءة في رواية «نادي الانتحار» لكريم الصياد

محمد سالم عبادة

مُلَخَّصٌ سريعٌ للأحدث:
«القوة الخارقة الوحيدة التي نملكها هي إرادة العدم. وهي قوة خارقة نوعيّة؛ فنحن لسنا أنصاف بشر/ أنصاف وطاويط مثلًا. نحن أنصاف بشَر/ أنصاف عَدَم. ولا يمكن أن يكون لنا -من أجل الحفاظ على هذه القوة- أيُّ دافع أخلاقي أو سياسي أو ديني. لا يجوز لنا أن نستجيب سوى للدافع الشخصي: كالكراهية، أو الانتقام، أو مجرد الرغبة في الإثارة.» هذا هو الاقتباس الظاهر على الغلاف الخلفي للرواية الصادرة عام 2020 عن دار (نيوبوك) للنشر والتوزيع، وهي الرواية الثانية لمؤلِّفها، والعمل الأدبي السابع له، في مسيرةٍ ضمّت محطّاتٍ من الشِّعر والقصّة إلى جوار الرواية. تبلُغُ في طُولِها أربعمائةً وثلاثًا وعشرين صفحة. يأتي الاقتباس بلسان (فريد) أحد أبطال الرِّواية في حوارٍ بينه وبين الأبطال الخمسة الآخَرين (هيثم – فكتور- يُمنى- سلمى- منصور) وهم في صالون الاجتماعات ببيت (هيثم)، وهو مقرّ النادي السّرّي الذي أسَّسُوه معًا بصِفَتهم جماعةً من المكتئبين الذين لم يستجيبوا للعلاج التقليدي للاكتئاب، فقرروا الاتجاه إلى العِلاج الجَماعي Group Therapy، وحين فشلوا في هذا أيضًا قرروا الانتحار الجَماعيّ.

ثم حدثَ ذاتَ ليلةٍ أن صَدَمَ (فريدٌ) مُجَنَّدًا في الجيش بسيّارتِه عن طريق الخطأ، وبجواره (سلمى) تحاولُ تقبيلَه في نهَمٍ جنسيٍّ، ليكتشف (فريد) أنّ المُجنَّدَ قد مات، وسَرعانَ ما انضمَّ إليه أصدقاؤه وساعَدُوه على التخلُّص من الجُثّة بدفعِها لتسقُطَ في أعمَقِ خَرابةٍ بطَريقِ الواحات. على إثر هذا الحادث المُثير اكتشف (فريدٌ) –أو هكذا قال في الاجتماع التالي بينما هو غارقٌ مع هيثم وفكتور في الحشيش والدُّخان والكحول- أنّ اكتئابَه قد زال بفِعل القتل. ومِن ثَمَّ يتحول نشاطُ النادي من التخطيط لانتحار أعضائه إلى التخطيط لجرائم قتلٍ مُنظَّمَةٍ تستهدفُ أشخاصًا بعينِهم، والمهمُّ كما يوضِح الاقتباس ألاّ تكون الجرائم مدفوعةً أساسًا بخصومةٍ سياسيةٍ أو دِينيةٍ أو دافعٍ أخلاقِيّ، وإنما يجِبُ أن تكون صادرةً عن دافعٍ شخصيٍّ محضٍ لصاحب كلِّ مشروعٍ لقتل شخصٍ ما.

 (منصور) هو أحدث المُنضَمِّين إلى النادي، وتُفتتح الرواية في الواقع بالجلسة الأولى التي يَحضُرُها لتحديدِ ما إذا كان صالحًا للانضمام أم غير ذلك. حين يحاول (منصور) الاقترابَ من (سلمى) تسخرُ منه في قسوةٍ، وهو ما يَدفَعُه إلى مراجعة حياتِه وكيف تشكَّلَت. شخصيّتُه ضعيفةً مهزوزةً غيرَ قادرةٍ على الإقناع بفِعل تسلُّط أبيه، وفي تلك الليلةِ يَقتُلُ أباه غِيلةً على إثر إهانةٍ جديدةٍ يوجهها له أبوه على العَشاء، لتصبح جريمتُه أولَ عمليةٍ يقوم بها أيٌّ من أعضاء النادي.

يرسم (فريد) الطبيبُ الشرعيُّ الحاصلُ على دبلومة في الأمراض النفسية – وهو أَوفَرُ الأعضاءِ حَظًّا مِن الثقافة وأعمقُهم فِكرًا وأكثرُهم غموضًا – القواعدَ العامَّةَ لعمليات النادي القادمة، ويختارُ فكتور وسلمى ويُمنى أهدافَ عملياتِهم الأولى، فيختارُ فكتور قياديًّا سلَفيًّا كان زميلاً له في التيار اليساريِّ أيّامَ الجامعةِ، ثُمّ غيّر اتجاهَه. وتختار يُمنى طليقَها، وتختار سلمى (مدحت) القاصّ متواضعَ الموهبة الذي لا تجمعُها به أيةُ علاقة سوى زمالةِ مَقهَىً للمُثقَّفِين كانا يجلسان فيه. تُنفَّذ العمليات بنجاح، وتتوالى بعدها عملياتٌ أخرى ناجحةٌ ينفّذُها الأعضاءُ الستة.

وبعد إحدى العملياتِ يعودُ الفريقُ إلى بيت هيثم للاحتفال كالعادة بعد كل عملية ناجحة، ليجدوا في انتظارهم رجُلاً يقدِّم نفسَه إليهم بصِفَته الرائد (أدهم درويش) التابع رسميًّا لإحدى الجهات الأمنيّة المصرية، ويكشف لهم (درويش) أنّ عملياتِهم كُلَّها مكشوفةٌ بالنسبة له منذ الحادث الأول ضدّ مُجنَّد الجيش، لكنّه يطمئنهم أنه لم يأتِ للقبض عليهم أو التحقيق معهم، وإنما يفاجئهم بدعوتِه إياهم للتعاوُن مع جهة استخباراتية أجنبية هي الڤاڤاك (جهاز الاستخبارات الإيراني). ويوضح (درويش) أنّ الڤاڤاك مهتمّ بالتغيرات الجارية في مصر إبّان ثورة 25 يناير، وأنه يسعى لإفشال سعي تيّارات الإسلام السياسي إلى الحُكم، خشية أن تُصبِح إيران مُطوَّقَةً بالأنظمة السُّنّيّة، وأنّ هدفَ الڤاڤاك النِّهائيَّ هو عودةُ النظام القديم في مصر، لكونه أقلَّ خطَرًا على إيران وأكثرَ حِيادًا إزاءها.

يترك (درويش) وقتًا لهم ليفكروا، بعد أن يُعلِنَهم بأمرٍ لم يكن أحدٌ منهم يعلمه باستثناء (فريد)، وهو أنّ والدة (فريد) إيرانية ولِذا اختاره الڤاڤاك بالتحديد للتعاون معهم انطلاقًا من عنصريّةٍ أصيلةٍ تَحكُم تفكيرَ الدَّولةِ الإيرانية وكلِّ مؤسَّساتِها. يقرر الفريقُ الاستجابةَ لدعوةِ (درويش) ويسافرون إلى خارج مصر لتلقّي تدريباتٍ متقدمة، ثم يعودون ويستأنفون عملياتِهم التي يتّسعُ مَداها ليشملَ أهدافًا حدّدها الڤاڤاك.

خلال ذلك تقتربُ سلمى من منصور وتتطورُ علاقتُهما، كما يتقارب فريد ويُمنى لدرجة أنّ الأخيرةَ أصبحَت تعيش في شقّة فريد، وتمارس معه دورًا أُموميًّا بشكلٍ ما، كونَها أكبرَ الأعضاء سِنًّا، لكنّ العلاقة بينهما تتطور ذاتَ مرّةٍ إلى ممارسة العلاقة الحميمة، وهو ما يُلقي (فريدًا) في دوّامةٍ عاطفيّةٍ متسارعةٍ تتساقطُ خلالَها دفاعاتُه الشخصيّة أمام العالَم، ونراه يَبكي لأول مرّة. نَعلَم كذلك أنّ أعراضًا فُصاميّةً بدأَت تهاجِم (فريدًا)، حيث تبدأ ضلالةٌ - مفادُها أنّ العالَم الذي نحياه مزيَّف – تستولي على تفكيرِه، وتُعاوِدُه بشكلٍ عنيفٍ مع كُلّ صباحٍ غائم.

في تطوُّرٍ آخَر يَعرِضُ (منصورٌ) الزواجَ على (سلمى) التي ترفُضُ رغمَ تصريحِها بحُبِّها له، وبينما يُمارسان العلاقةَ الحميمةَ في الشّقّة التي أكملَ بناءَها واختارَها لتكون شقّة زواجِهما يتغيّر حالُ سلمى معه بشكلٍ مباغتٍ، وتُعامِلُه بعَدائيّةٍ شديدة، وينتهي الموقفُ بأن يتذكّرَ منصورٌ رفضَها الأوّل له فيقتلها، ثم يختفي متغيّبًا عن اجتماعات النادي.

ينتهي تعاوُن النادي مع الڤاڤاك مع أحداث 30 يونيو 2013 وسُقوط محمد مُرسي وتيّار الإسلام السياسي. قبل ذلك بقليلٍ يَحدثُ تطوُّرٌ آخَرُ غرائبيّ، حيث يكتشفُ (فريدٌ) أنّ صديقَه على فيسبوك (سمير عيّاد) الذي يَظهرُ افتراضيًّا بصِفَته عضو هيئة تدريسٍ في قسم الفلسفة بكلّيّة الآداب ليس إلاّ الرائدَ (أدهم درويش)، وذلك حِين يزورُه (عيّاد) في بيتِه تلبيةً لدعوتِه! لقد أنهى الڤاڤاك خِدمةَ (درويش) بعد أن ضُبِطَ وهو يُحاوِل الحصول على معلوماتٍ أكثرَ ممّا يسمحُ له موقِعُه من الجهاز، وفي زيارته لفريد يُخبِرُه بأنّ سَيلَ المعلومات الذي تسرَّبَ إلى يدِه يؤكِّد بما لا يَدَع مجالاً للشّكّ أنّ عالَمَنا كُلَّه عالَمٌ مُزَيَّفٌ، وأنّ البَشَرَ بالأحرَى خاضِعون لعالَمٍ أعلى أو سُكّان أرضٍ عُليا، ويبشّر (درويشٌ) فَريدًا بأنه يُمكن أن يترقّى في خدمته لجهاز الڤاڤاك حتى يستطيع الكشف بنفسِه عن سَيل المعلومات، ويَكشِفَ مِن ثَمّ للبشَر عن زَيف عالَمِهم. وهنا ينفّذ (فريد) الأمر الذي وصلَ إليه مباشَرةً من الڤاڤاك دون وساطة (درويش)، وهو الأمر الذي حَدا به أصلاً إلى دعوة (سمير عيّاد) إلى بيته، وهو قَتل هذا الأخير. هكذا يموت أدهم درويش/ سمير عيّاد في بيت (فريد).

بعد انتهاءِ مُهِمَّةِ النادي مع الڤاڤاك يَحزِمُ (فريدٌ) أمتعَتَه ويَترُكُ (يُمنى) ويقررُ الهجرةَ إلى إيران ليَعملَ كخبير تشفيرٍ مع الڤاڤاك، حيث كان رؤساء (درويش) في الڤاڤاك مُعجَبين بالنظام الشفري الذي وضعَه (فريد) للتواصُل بين أعضاء النادي. يقرر (فِكتور) أخيرًا الزواج من حبيبته الأخيرة (مارلين)، وينشغل بحَمل زوجتِه عن الاجتماع بمَن بَقِي من أعضاء النادي (يُمنى وهيثم)، في الوقت الذي يتصاعدُ فيه اكتئابُ (هيثم) لانتهاء عمليات النادي المثيرة ولاختفاء (سلمى) التي كانت تجمعه بها علاقةٌ خاصّة، وكذلك اكتئابُ (يُمنى) لفَقدِها (فَريدًا) إلى غيرِ رَجعةٍ بعد أن تعلَّقَت بوجودِه قُربَها. ينتحر هيثم ويُمنى في ذات اللحظة.

أخيرًا، يُلقَى القبضُ على (فكتور) نتيجةَ نَشاطِ جَمعِيته التي أسّسها كفرعٍ لنشاط النادي، والتي تهتمّ بتربية جيلٍ جديدٍ على مبادئ قَبول الانتحار والاستعداد له في أي وقت، وخلالَ رحلة نقلِه من الحَجز المؤقَّت إلى المعتقَل يُقابل (منصورًا) مقبوضًا عليه هو الآخَر، ويستطيعان الهرَبَ بعد تفجير العَرَبَة التي تُقِلُّهما، ويعيشان أيّامًا في شقّةٍ بحيّ شعبي، حيثُ يُخَطِّطانِ للسَّفَر إلى ألمانيا لإقامةِ جمعيّةٍ لِعبادةِ الشَّيطانِ هُناك. خلال ذلك يتواصَلُ (فريدٌ) مع (فكتور) عن طريق الشفرة، ويُطلِعه على ما توصّل إليه عن طريق سَيل المعلومات مِن زَيف العالَم. يشُكّ فكتور في الصحة العقلية لفريد، وينصحُه بمراجعة طبيب نفسي، وفي يومٍ تنقُلُ وسائلُ الإعلامِ خَبرَ وفاةِ طبيبٍ مصريٍّ يُدعَى (فريدًا) في حادثِ سَيرٍ في إيران.

في ألمانيا ينمو نشاط الجماعة الشيطانية الجديدة الذي يخلو من أي أعمال عنيفة أو إجرامية، ويؤلّف فكتور النَّصّ المقدّس لهذه الجماعة بعنوان (العهد الأخير)، بينما يَجمع (منصورٌ) أدبياتِ نادي الانتحار في كتابٍ يقرر إصدارَه عن طريق دار نشرٍ صغيرةٍ افتتحها فكتور، وتنتهي الرواية بتتابُعٍ من الأقوالِ المنثورةِ في حِوار الرواية بين أعضاءِ نادي الانتحار.

منهج القراءة:
تتذرع هذه القراءة بالمنهج التأويلي في فهم النص الروائي، حيث تستقرئ الجزئيات لتخرج منها بضوءٍ يمكن منه تكوينُ صورةٍ كُلّيّةٍ مبدئيّةٍ للنصّ، نرتدُّ منها إلى الجزئيات مرةً أخرى، وهكذا في ارتداداتٍ متلاحقةٍ تعيننا على فهم الكل من خلال أجزائه والأجزاء من خلال الكُلّ، مُكمِلين حلزون الإجراءات الهرمنوطيقية Hermeneutic Spiral كما وصفَها مُنَظِّرُو التأويل من (شلايرماخر) مرورًا بـ(فيلهلم دلتاي) و(هايدجر) و(جادامر) و(بول ريكور) ووصولاً إلى (لويس ألونسو شوكل)[1]. ويتفق الباحثُ مع (هايدجر) في أن تجنُّبَ الأحكام المسبَّقَة تمامًا مستحيلٌ في محاولةِ الفهمِ الهرمنيوطيقيّ، ويتفقُ مع (جادامر) على أنّ الفهمَ يتذرّعُ دائمًا بالأبنية اللُّغَوية التي لا مناصَ من استخدامها للتحاوُر مع النصوص التي نحاولُ فهمَها، ويجرُّنا هذا إلى موافقةِ التفكيكيين على أنّ محاولةَ الفهمِ هذه ما هي إلاّ توسُّطٌ بعلاماتٍ، للوصولِ إلى علاماتٍ غيرِها، وهكذا في إحالةٍ معرفيةٍ لا تكادُ تنتهي، لكن تبدو المثابرةُ الهرمنوطيقيةُ أفضل الطرُق المتاحة لفهم النص في رأي كاتب هذا المقال. 

أسماء الشخصيات:
في تقديري أنّ أسماء أبطال العمل السّردِيّ يُمكِن أن تأتِيَ عشوائيّةً غير مقصودة، ويُمكِن أن تُشَكِّلَ دَوالَّ بالِغَةَ العُمق على ما يكتنزُه النّصُّ من مَعانٍ، خاصّةً إذا كان مِن الواضِحِ أنّ نَسَقًا مُترابِطًا يَنتظِمُ هذه الأسماءَ، وإذا تضافَرَت ظَواهِرُ النّصِّ على أن تُلقِي في رُوع القارئِ أنّ النَّصَّ يُخفي داخِلَه مستوَياتٍ متبايِنَةَ العُمق من الرُّموز والإشارات. هذا التّقديمُ يَفتَرِضُ مِنّا أن نَبدأ ببَيانِ تِلك الظَّواهر التي نَزعُمُ أنها تضافرَت للإيحاء بهذا العُمق، لكنّ كاتبَ هذا المَقالِ يَعي أنّ الابتداءَ بأيٍّ من هذه الظّواهِر – سواءٌ تناصّاتُ الرِّواية أو لُغَتُها أو إحالاتُها المعرفيّةُ أو إيقاعُها أو غيرُ هذه - يُحِيلُه إلى ما سِواها للبرهنةِ على ما تحتملُه من عُمقٍ بدَورِها، وهكذا فيما يُشبِهُ الدَّورَ المَنطِقِيَّ الذي لا مَناصَ مِنه. ولِذا فقد قررتُ البدءَ بظاهرة أسماء الشخصياتِ، وعَزائي في تجاهُل ذلك الدَّور ما قامَ به هايدجر في كِتابِه (مَتاهات Holzwege) حِين اعترفَ في دراستِه للظاهرةِ الجَماليّة بأنّ دراسةَ الأعمال الفنّيّة تقتضي الاتّفاقَ على تعريفٍ للفَنّ، ودراسةَ الفَنّ تقتضي معرفةَ المُشتَرَك بين سائرِ الأعمال الفنّيّة، في دَورٍ منطقيٍّ آخَرَ، قرَّرَ هو الآخَرُ تجاهُلَه ونَفَذَ إلى المُشترَك بين تجلّيات الظاهرة الجَماليّة، رُبّما مُهتَدِيًا بما يُملِيهِ الحِسُّ المُشتَرَك[2].

لدينا سِتّ شخصيّات رئيسة، نكتشف قُربَ نهاية الرِّوايةِ سِتّ أسماء شَفريّةٍ سِرّيّةٍ لها، حيث يَتحوّل (هيثم) إلى (شاهين)، و(فريد) إلى (فرويد)، و(فكتور) إلى (مَلاك)، و(منصور) إلى (يُونج)، وتتحول (يُمنى) إلى (يُسرا)، و(سلمى) إلى (سالومي)[3]. تبدو الحمولة الرمزية بسيطةً مع (هيثم)، فالهيثم كما تُخبرُنا بذلك المَعاجِم هو فَرخُ العُقاب، فهو طائرٌ جارحٌ لا يَعرفُ الخَوفَ، وهو أحدُ سادَةِ السَّماء. ولعلّ هذا يتجاوبُ وما نراه من شخصيّة (هيثم)، فهو صاحبُ الشخصيّة المُسَيطِرة بين رِفاقِه، الأوسَعُ ثَراءً، والأكثرُ نُفوذًا بحُكم وُجود عددٍ من أقاربِه في أماكن مفصليّةٍ حسّاسةٍ في جهاز الدَّولة، وحِينَ يبدأ النادي عمليّاتِه نراه يَنجح في "إصابة ثلاثة من الأهداف في ليلةٍ واحدةٍ" بمسدَّسِه الكاتمِ للصَّوت. ويصفُه المؤلِّف في نفس الفقرة فيقول: "لقد كان هيثم يفضِّلُ العملَ بالجُملة. وكان تفسيرُه أنه يفكِّرُ بعقلية المُدمِن. إنه يُدمِن أيَّ شيءٍ من الشاي والقهوة مرورًا بالهيروين والكوكايين والفودو حتى القتل"[4] وكذلك الاسم الشفريُّ (شاهين) يُشيرُ إلى الصَّقر.

كذلك (يُمنَى)، تبدو في تضاعيفِ الرِّوايةِ العُضوَ الأقلَّ شراسةً بين أعضاء النّادي، فهي تُعامِلُ الباقين كما لو كانوا أبناءً لها أو إخوتَها الصِّغارَ، مِن مُنطلَق كونِها أكبرَهم سِنًّا بالفعل، ومن غريزةٍ أموميّةٍ غير متحققةٍ كذلك، حتى إنها حين تُحِبُّ أن تُنهِيَ حِوارًا عابثًا بينها وبين أحد الأعضاء لا تَجِدُ أفضلَ مِن جُملة "بَسَ يا واد"، وهي تنطوي على كثيرٍ من تمنّي الخَير للآخَرين إذا ما قِيسَت إليهم، فهي تتمنى أن يتقارَبَ منصورٌ وسلمى من البداية، وتثورُ على (فريد) حين تُدرِكُ أثَرَ كلامِه المُدمِّرَ على (منصور)، حيثُ حوَّلَه إلى قاتلٍ لأبيه، ثُمّ إنها تتجاوزُ نُفورَها الأوَّلَ مِن (فريد) لتقتربَ منه مُحاوِلَةً إذابةَ جَليد شخصيّته باحتضانِه في أُمومة. كلُّ هذا يَجعلُها (يُمنى) بالفعل إلى جوارِهم، لكنّها بالطبع تتحوّل في النظام الشفريّ القاسي الذي ابتكرَه (فريد) إلى (يُسرا)، فلا شَكَّ أنّ القَتلَ قد تركَ بصمتَه على تلك النَّفس التي كانت تحملُ من الخيرِ ما تَحمِل.

أمّا (سلمى) فهو ذلك الاسم العربيّ البريء القديمُ الذي يبدو مُحايِدًا لا يرتبطُ في وِجدان المتلقّي العربيّ إلاّ بالسَّلمَيات بَطلات قصص الحُبّ التي خلَّدَها شُعراء العربية الأقدمون ابتداءً من امرئ القيس، وهو ما يتجاوَبُ وتلك الطفولةَ المُدهشةَ التي تبدو على (سلمى) في الرواية، فهي تبدو منفصلةً عن الواقع تمامًا بعد حادث مُجنَّد الجيش الذي صدمَه فريدٌ وهي تُداعبُه في السيّارة، وحين تشرَبُ البيرةَ تبدو كما لو كانت طفلةً تَعُبُّ كُوبًا من الحليب، وهي تجلس في حِجر هيثم كما لو كانت طفلتَه، وهو يعاملُها هكذا بالفعلِ رغمَ انخراطِهما في علاقةٍ جسديّةٍ حميمة. وحتى حين تَقومُ بعمليتها الأولى في النادي، نراها تبكي بحُرقةٍ على ضحيّتها قائلةً في براءةٍ مجنونة: "حسّيت انّه غلبان. كان ولَد كويّس."

لكنّها في الشفرة تتحوّل إلى (سالومي)، وهو الاسم الذي يعبِّر خيرَ تعبيرٍ عن وجهها الآخَر القَتّال، فكما هو معلومٌ من حكاياتِ العهدِ الجديدِ تعزِّزُها رواية المؤرِّخ اليهوديّ (يوسِفوس)، فإنَّ (سالومي/ شلوميت) هي ابنةُ هيرودياس زوجة (هيرود الثاني)، التي رقصَت في عيد ميلاد هذا الأخير فأعجَبَته، حتى إنه وعدَها بتنفيذِ أيِّ مَطلَبٍ لها حتى ولو كان نصف مملكتِه، فما كان من (سالومي) إلاّ أن طلبَت رأسَ النبي يحيى/ يوحَنّا المعمدان على طبَقٍ، بإيعازٍ من أُمِّها، وذلك أنّ (يوحنّا) كان قد أعلنَ في وقتٍ سابقٍ بُطلانَ زواجِ هيرودياس من هيرود، وهو ما انتهى بالفعل بذبح يوحنّا وتقديم رأسه إلى سالومي[5].

هذا النموذج الإنجيليُّ المبكِّر للمرأة القاتلة Femme Fatale يتجسّد من جديدٍ في طريقة القتل التي ارتضَتها (سلمى) لضحاياها منذ العملية الأولى، فهي لا تقتلُ إلاّ أثناءَ ممارسة الجنس، وهي تقومُ بدورِها كامرأةٍ مُشتهاةٍ تمامًا مثل (سالومي)، ولا تقتلُ إلا مُستَخدِمةً السِّلاحَ الأبيضَ، ذابحةً ضحاياها دائما. ولعلّ التطابُق بين الشخصيّة والنموذج الإنجيليّ يَصِلُ إلى ذروتِه في الفصل الحادي عشر (الأرض) من الرواية، تحديدًا في الجزء الثاني منه، المعنوَن (رقصةَ الحُجُبِ السَّبعة Dance of The Seven Veils)، حيثُ ترقُصُ سلمى لمنصور على خلفيّة موسيقى (رقصة الحُجُب السبعة) وهو جزءٌ من أوپرا (سالومي) التي وضع موسيقاها رتشارد شتراوس على الترجمة الألمانية للمسرحية التي تحمل نفس الاسم لأوسكار وايلد. وينتهي رقصُها بممارسة الجنس مع منصور، ثم تراجُعها وهي ترى في عينيه عينَي (فريد)، ثم تهدده بالقتل بالسكّين، فينزوي ويقرر الانتحار بمسدَّسِه، لتقتحم خلوته بعد ذلك بدقائق محاولةً قتلَه من جديدٍ، فيوجِّه إليها المسدَّس ويقتلُها[6].

ننتقل إلى (فكتور المَلاكي) لنرى بوضوحٍ أنّ اسمَه يعني في بعض اللغات الأوربيّة (المنتصِر/ المنصور)، ولعلّ بقاءَه إلى النهاية وحَملَه لدعائمِ نادي الانتحار إلى ولاية (شمال الرّاين/ وستفاليا Nordrhein Westphalen) ليؤسس الجماعة الشيطانية يُعتَبَرُ مَظهرًا قويًّا من مَظاهِر انتصارِه. أمّا لقبُ عائلتِه (المَلاكيّ) فهو يَحمِلُ جَدَلاً متجذّرًا في شخصيّته الروائيّة، حيث هو ملاكٌ إذا ما أخذنا بعَين الاعتبار شاعريّته ومثاليّتَه الأولى إزاءَ قضايا المجتمع، وهو ملاكٌ من باب ما أرادَه له أبواه أستاذا اللاهوت اللذان هاجَرا إلى أمريكا. وفي النظام الشفريّ يتحوّل ببساطةٍ إلى (مَلاكٍ) فقط، لكنّه ليس مَلاكًا للسّماء، وإنما هو اللسان البشريُّ للشيطان، يصوغُ وحيَه في كتابه (العهد الأخير).

في (منصورٍ) نرى وجهًا مكافئًا لـ(فكتور)، فهو الآخَرُ يبقى إلى النهاية، وبينما يصوغ فكتور الكتاب المقدّس الشيطانيّ شِعرًا، نُفاجأ بأنّ (منصورًا) كان يسجِّلُ أوّلاً بأوّلٍ كُلّ ما يدور بين أعضاء النادي من حواراتٍ، ويسألُ حاضِرَهم عمّا قالَ غائبُهم، ليُخرِجَ لنا في النهاية كتابًا يحملُ أدبيات النادي كما يحملُ اسمَه (نادي الانتحار) عنوانا. والحَقُّ أنّ المَشهَدَ الأوّلَ لمنصور في الرواية يَحمل تأكيدًا على انتصارِه من قِبَل (فريد) مُنَظِّر النادي، الذي ما إن يُشاهِد آثارَ محاولاتِ (منصورٍ) السابقة للانتحار ماثِلةً في رُسغِه حتى يأخُذَه مِن يدِه متّجهًا إلى الرفاقِ قائلاً بالإنجليزية: "We got a Winner!"، وهو ما يكرره فريد حين يعود (منصور) مُعلِنًا اغتيالَه أباه، حيث يهمس فريد "عِدّة مراتٍ بصوتٍ غير مسموعٍ كأنما هو ممسوسٌ أو يتلو تعويذةً ما، لكنّ يُمنى قرأت شفتَيه Winner! Winner! Winner!"[7].

ويظهر (منصور) قُربَ النهايةِ واثقًا بنصرِه كشيطانيٍّ خليفةً لـ(فريد) وتلميذًا له، فهو يقول: "أنا أقوى من فريد في الواقع. أقصد على مستوى الصحة العامة. هو معلول الجسد ومريض نفسي إلى حدٍّ ما. لكن أنا قدرت أعمل كتير، أعتقد إنه كان يتمنى يعمله بنفسه."[8] ورجوعًا إلى علاقة فكتور بمنصور، يبدو أنّ اختيارَ المؤلِّف أن يجعلَ هاتين الشخصيتين بالتحديد قادمتَين من خلفيّة عائليّة متديّنة لم يجئ اعتباطًا، فوالدا فكتور أستاذا لاهوتٍ مسيحيٍّ كما أسلَفنا القول، ووالِد (منصور) مسلمٌ متدينٌ إسلاميّ الهوى، ربما ينتمي إلى جماعة الإخوان، وهو ما انعكس على العلاقة المتينة لمنصور بتنظيم الإخوان، ومعرفته بهيكله وبعض خَباياه.

هكذا تبدو الشخصيّتان الشيطانيتان المنتصرتان في النهاية نموذجًا لإنسانَين خارجَين من التقليد اليهودي المسيحي (فكتور) والتقليد الإسلامي (منصور) ليبشِّرا معًا بثورةٍ شاملةٍ على السماء وانتصارٍ للشيطان. وثمّ تقابُلٌ آخَر بين الشخصيّتين، وثيقُ الصِّلَةِ بهذا الوجه من أوجُههما، فبينما يَصوغُ (فكتور) كتابَه المقدّس (العهدَ الأخير) شِعريًّا، وفي الشِّعر ما نعرفُه مِن هضمٍ للخبرةِ الشُّعوريّةِ واسترجاعٍ وتمثُّلٍ لها بعد انقضائها الفِعليّ، يصوغُ (منصورٌ) كتابَ (نادي الانتحار) في صورةٍ أقربَ إلى العمل التوثيقيّ الحريصِ على تدوينِ ما كان وما قِيلَ بأمانةِ النّاقِل متى استطاعَ إليها سبيلا. وفي تقديري أنّ هذا يتّسِقُ والتقليدَ الدِّينيَّ الذي أتى منه كلٌّ من المنصورَين، فالمسيحيُّ (فكتور) شاعريٌّ يعمَدُ إلى كتابةٍ لاحِقَةٍ على الخبرة الأصليّة، كأنه يصوغُ رُؤَىً كرُؤى اللاهوتيِّين، أو يسترجعُ ما كان من أحداثِ حياة المسيح بعد صلبه وصعوده تبعًا لعقيدتِه، بينما المُسلِم (منصور) يصوغُ ذلك العمل التوثيقيَّ كأنه ينقُلُه بأمانةِ رِجال الحديث الذين نذروا أنفُسَهم لتمحيصِ ما يَرِدُ عليهم من أقوال نبي الإسلام ونقلِها إلى الناس على الوجهِ الأمثَل. وهكذا يُصادِر المؤلِّف طريقتَي المسيحية والإسلام في استرجاع الماضي لصالِح الجماعة الشيطانيّة الجديدة.

كذلك فيما يتعلّق بـ(منصور)، نَجِدُ أنّ تشَكُّلَه في نهاية الرواية منتصِرًا على نقاط الضعف البشريّة التي تعودُ إلى التشبُّثِ بالحياةِ والخوف من الموتِ والانقِيادِ للدِّينِ والعُرف المجتمعيِّ، هذا التشكُّل يستعيدُ بقوّةٍ مفهومَ (نيتشه) عن الإنسان الخارقِ Übermensch الذي يتخلّص من وعد الأديان بالعالَم الآخَر ليمنحَ نفسَه القوّة المُطلقةَ بالاستمتاع بهذا العالَم الأرضيّ، وهو ما يتجاوبُ مع ما يصرّح به (فكتور) لرفاقِه وهو يُفصِح عن أهدافِ جمعيته السّرّية التي كوّنها في مصر[9]. المهمُّ أنّ هذا التجسُّد النيتشويّ في (منصور) يتعرّض لاختبارٍ عنيفٍ قُربَ النهاية في الجزء المسمى (رقصة الحُجُب السبعة)، فهو بين الضعف أمام غرامِه بسلمى والاستجابة لداعي الكراهية والانتقام كإنسانٍ خارقٍ، وفي هذا الموقف تَبرُزُ (سالومي) الإنجيليّة كأنها أصبحَت (لُو سالومي Lou Salome) التي أحبَّها نيتشه وكثيرون غيرُه من صفوة العقول الأوربية في نهايات القرن التاسع عشر، والتي يُقالُ إنها أحد أسباب تدهور الصحّة العقلية لنيتشه[10]. وقد يبدو انتصار (منصور) على (سلمى) في هذا الموقف شكلاً من أشكال الانتقام لنيتشه الفيلسوف الذي بَلوَرَ واحدةً من أهمّ صِيَغ الثورة على السماء في الفلسفة الحديثة ثُمّ انتهى في مصحّةٍ عقليّة.

وأخيرًا، فإنّ الحُضور القويّ للمُقَدَّس الإسلاميّ في مَتن الرِّواية – وإن كان حُضورًا سالبًا يَعمَد الأبطالُ إلى الثورةِ عليه، أو الانفكاكِ منه أو مهاجمَته بطُرُقٍ شتّى – يَجعلُ من الجائزِ جِدًّا أن يتضمَّن اسمُ (منصور) إشارةً سالبةً إلى الآية الثالثة والثلاثين مِن سُورة (الإسراء): "ولا تَقتُلُوا النَّفسَ التي حَرَّمَ اللهُ إلاّ بالحَقِّ، ومَن قُتِلَ مَظلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا". في الآيةِ إهابَةٌ بوَلِيِّ الدَّمِ أن يقتصِرَ في القِصاصِ على القاتلِ لا غيرِه، أو نهيٌ عن أن يقتُلَ اثنين ليقتصَّ لقَتيلِه، أو نهيٌ عن أن يُمَثِّلَ بقاتلِه. كذا جاءَ مثَلاً في تفسيرِ القرطبيّ[11]. فإذا قارنّا هذا بحال (منصورٍ) في نادي الانتحار فسنَجِدُ أنّه مظلومٌ ببُنُوَّتِه لذلك الأب المتسلِّط القاسي بالتأكيد، لكنّ ما فعلَه بالضبط هو سلسلةٌ من جرائم القتل ربّما نعتبرُها بدأَت بقتلِ أبيه، وربّما نعتبرُها بدأَت بقَتل رُوحِه على سبيل المَجاز، استجابةً منه لسؤال (فريد) في البداية "هل قَتلتَ رُوحَك؟"، فهو قد قتلَها حِين قرّرَ بينه وبين نفسِه أن ينتقِم ذلك الانتقامَ المُوغِلَ في الدَّمَوِيَّة، ثم إنه استرسلَ فقتلَ الكثيرين بعد ذلك، كأنّ المؤلِّفَ قد تحرَّى أن يَسخَرَ (منصورٌ) من فَحوَى الآية، بمُقتضى اسمِه وحالِه في الرواية وأفعالِه.

نختمُ هذا المَدخَل باسمِ (فريد). وبينما يبدو واضحًا بِذاتِه مُشيرًا إلى فَرادَةِ الشخصيّة بين شخصيات الأبطال، نَجِدُ أنّ هناك طَيفًا في أصواتِ اسمِه يُحيلُنا إلى التُراث الفارسيّ الأسطوريّ، وهو ما يحملُ دلالةً خاصّةً بالنظر إلى مسألة انتماء فريد الإيرانيّ من ناحية أُمِّه. هذه الإحالةُ هي بالتحديدِ إلى شخصية (فريدون/ آفريدون) الملِك المنتمي إلى أُسرة پشداد الأسطوريّة المذكورة في (الشاهنامه) للفردوسيّ، و(الأبستاق Avesta) الكِتاب الزرادشتيّ المقدَّس. يَرمُز الملِك (فريدون) في هذا التراث إلى النَّصر، باعتبارِه مَن نجح في قتل أو سَجن التّنّين المسمَّى (الضّحّاك) ابن (أهريمَن) رمز الشّرّ، والعدُو الأوّل للإله الأعلى (أهورامازدا)[12]. هكذا يمثّل (الضحّاك) وأبوه (أهريمَن) في الزرادشتيّة مكافئًا فارسيًّا للشيطان كما يظهر في الديانات الإبراهيمية. لكننا نعرف أنّ (فريدًا) في الرواية يبشّر بثورةٍ على السّماء ونُصرةٍ للشيطان، وهو ما يبدو انقلابًا في دور (فريدون)، وهذا الانقلاب يتجاوبُ وما يؤكِّدُه (فريدٌ) عن نفسِه كُلَّ حِينٍ في ثنايا الرواية، مِن أنَّه "رسولٌ عكسيٌّ" لا يبحث عن الحقيقة وإنما يحاول أن يعود للبشَر بحقِّهم في ألاّ يتألَّمُوا.

في النظام الشفريّ يتحول (فريد) إلى (فرويد)، وهو لعبٌ واضحٌ على حروف اسمِه كذلك، إلاّ أنّه يَحمِلُ في طيّاتِه إيحاءً بِرَدّ (فريدٍ) أفعالَ القَتلِ في تشريع النادي إلى الدافع الشخصيّ البسيط (الكراهية والانتقام) المجرّد من الأيديولوجيا والأخلاق، تمامًا كما رَدّ (فرويد) كُلّ مظاهر الحياة النفسيّة فضلاً عن مظاهر الثقافة إلى أصلٍ وحيدٍ يتعلّقُ بالجِنس. ويحمل هذا الاسمُ كذلك إيحاءً بعُقدةٍ نفسيّةٍ دفينةٍ لدى (فريدٍ) هي سببُ جُمودِه العاطفيّ، لاسيّما ما يبدو منه أمام الجنس الآخَر، ويحمِلُ أخيرًا وليسَ آخِرًا إشارةً إلى علاقتِه المُلتبِسَةِ بوالِدَيه، فهو يتجنّبُ حتى تذكُّرَ أبيه، ولا يفعلُ إلا حِين يبلُغُه خبرُ وفاتِه، وحينئذٍ ينهارُ باكيًا متذكِّرًا لحظاتٍ حميمةً بينهما، ولا يمنحُنا (كريم الصيّاد) إشاراتٍ أفصحَ من هذه طيلةَ الرواية إلى ما بينَ (فريدٍ) وأبيه، ربما باستثناء حماس (فريدٍ) لقتل منصورٍ لأبيه ودفاعِه عن ذلك الفعل، حين يقول: "اللي قَتَلُه دا بَصَق عليه وهوّ لسّا طفل. دي بصقة على جبين البشرية كلّها."

 ربّما تعرّضَ (فريدٌ) لبصقةٍ أو تاريخٍ مماثلٍ من الإهانات من أبيه، ولعلّه فكّر في قتل أبيه ولم يستطع، ولعلّ (منصورًا) كان يشيرُ إلى ذلك وهو يقولُ إنه قد فعلَ ما تمنى فريدٌ أن يفعلَه. المهمُّ أنّ هذه العلاقة المتوتِّرة بالأب تُعيدُنا إلى عُقدة أوديپ، التي تُعَدُّ واحدةً من أشهر أفكار (فرويد)، وهي علاقةٌ تقفُ مقابلةً لعلاقة (فريدٍ) بأمِّه التي لا يذكرُها إلاّ قليلاً هي الأخرى، وإن كان يُخفي في قلبِه كُلّ تلك التعلُّقات بعالمِها الفارسيِّ – وهو محورٌ سنُطيل الحديثَ عنه لاحِقًا – وهو عالَمٌ يُطارِدُهُ إلى درجة تجنيدِه وربّما قتلِه في نهاية الرواية.

في مقابلِ تلك الرمزيّات لـ(فرويد)، يبدو الاسمُ الشفريُ لـ(منصور)/ (يُونج) تنويعًا بسيطًا، من مُنطلَق أنّ (يُونج) تلميذُ (فرويد) وأهمُّ اسمٍ في علم النفس التحليليِّ بعد وفاةِ أستاذه. لكن إضافةً إلى هذا، فـ(يُونج) قد خرجَ على تصوُّرات (فرويد) وأنشأ مدرستَه الخاصّةَ، كأنه قد قتلَ أباهُ العِلميّ (فرويد) كما قتلَ منصورٌ أباهُ الحقيقي.

مِن الإلحاد إلى مُصادَرَةِ الألوهية:
لا نكاد نصطدم في الرواية بحِوارٍ ليس أحد أطرافه شخصية من الشخصيات السِّتِّ للأبطال، إلاّ في الحِوارات بين (أدهم درويش) وقائدِه في مركز الڤاڤاك في مصر. ولعلّه الحِوار الوحيد الذي يُشير صراحةً إلى إلحاد كُلّ أعضاء نادي الانتحار، حيث يسأل القائد: "وكلّهم مُلحِدين أو مش مؤمنين؟"، فيجيب أدهم: "فعلاً، لكن أعتقد دي كذلك صُدفة."[13] أمّا بألسِنة الأبطال أنفسِهم، فتتناثَر الإشارات إلى الإلحاد في طُول الرواية، لكننا لا نَجِدُ مرّةً واحدةً يُثار فيها موضوع الإلحاد صراحةً مِن زاويةٍ عِلميّةٍ على غِرار الإلحاد الماركسيّ اللينينيّ الذي يُرجِع الدِّينَ إلى النظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ ويفسِّرُه بطريقةٍ مادّيّة بَحتة. هذا رغمَ انتماء (فكتور) مثَلاً إلى مظلّة الفكر الماركسيّ وإلى تيار الاشتراكيين الثوريين بالتحديد.

ولعلّ المَدخَل الإلحاديّ الأقربَ إلى حِواراتِ الأبطال هو الإلحاد الأخلاقيّ الذي ينعي على السماء – تبعًا لمزاعم المُلحِدين الأخلاقيين – تخلِّيَها عن المؤمنين وتركَها لهم فريسةً للاكتئاب والألَم. يَظهر هذا في جُزء Superpower من الفصل الثاني (المائدة) حيث يقول (فريد) مُرجِّحًا قَبول (منصور) للانضمام لنشاط القتل العلاجيّ: "الدِّين لم ينتصر يومًا على الاكتئاب"، فيردُّ (فكتور): "مع إن وظيفة الدين الأساسية هي منح الإنسان ملجأً وجوديًّا. يعني هي مسألة وقت. مع الوقت سيستنتج أن الدين لو كان حَقًّا، لكان قد نجح فعلاً في تحريره هو على الأقلّ من الاكتئاب، ثم سيعرف أنه لَكانَ – على الأقل أيضًا – قد استطاعَ وِقايتَه منه. يعني حيعرف إن مافيش عدالة أرضيّة." فيضيف (فريد): "وربما ولا سماويّة."[14]

في هذا الحِوار يُظهِرُنا استخدام (فريد) لمفردة (ربّما) على درجةٍ من درجات التَّرَدُّد واللاأدريّة في تعاطيه مع مشكلة وجود الله، أو على الأقلّ مع الاعتقاد في عدالة الله، فهو يطرح فكرة الإله الشّرّير دون أن يجزمَ بها. والإلحاد الأخلاقيّ يُهيبُ دائمًا بمشكلة الشّرّ الفلسفيّة المعروفة، ويَظهر هذا جليًّا في لوم السماء على وجود الألَم الذي حَدا بالمُقدِم على الانتحار إلى اتخاذ هذا القرار، وهذا في مونولوج قصير لـ(فريد) يقول فيه: "المكتئب مُعاق إعاقة مسببة للانتحار. مش من حق حد يحاسبك على أي فعل، ولا معنى هنا للأخلاق كلها أصلاً، لأنك لمّا تاخد قرار بالانتحار فانت إما مُختَلّ إلى حَدّ بالغ، أو مظلوم إلى أبعد مدى، وفي الحالتين لا مسئولية ولا حرَج عليك، واللي عاوز يحاسبك فالمفروض يحاسب اللي وصّلَك للمرحلة دي، مش أنت. اللي عاوز يحاسبك فين حسابه هو؟"[15].

رغم هذا نَجِدُ إشارةً إلى علاقةِ (هيثم) بالدِّين، ونكتشف أنها علاقةٌ لا يمكن وصفُها بالجفاف، وذلك حين يقول: "كلاّ بل لا تُكرمون اليتيم. ولا تحضُّون على طعام المسكين." يعني انت اللي المفروض تعدل الميزان"، ثم يعقّب المؤلِّف: "لم يكن هيثم متديِّنًا لكنه يؤمن بعظَمة القرآن، ويعتبره أبلَغَ الكتُب وأقيَمَها، وكثيرًا ما يستمع إلى التلاوات المصرية بمدارسها المختلفات."[16] هنا نشُكُّ في قوّة يقين هيثم في الإلحاد.

لكنّنا نصطدم بأعنف لحظات العلاقة السلبيّة بالسماء لدى (منصور). أوَّلُها وهو جالسٌ إلى مائدة العَشاء مع أبيه الذي قذف في وجهه ببعض فُتات الطَّعام بعد أن صاح فيه معنِّفًا: "انت حمار ما بتفهمش؟ هو دا أكل يتّاكل؟". ينتهي هذا المشهد كالتالي: "كان الأبُ قد نهضَ للصلاة، فتناول هو ملقاطَه المعدني المُلقى على طرف المائدة وحفرَ على سطحها عبارَتَين. تقول الأولى: يا سلمى أنا أُحبُّك. وتقول الثانية: يا رَبّ، يا أب، أنا أكفرُ بك."[17]واللحظة الثانية تأتي بعد أحداث ما اصطُلِح على تسميتِه (مذبحة ماسپيرو) وموت (مينا دانيال)، حين يقترح على أعضاء النادي قَبولَ العرض المقدَّم من (أدهم درويش) بالعمل لصالح المخابرات الإيرانية، حيث يقول "وهو ينظرُ إلى الأفُق البادي من الشُّرفة مرتجفًا بصوتٍ منخفضٍ مُدلَهِمّ: مش عايز أشوف للسما أي مكان على الأرض. مش عايز تبقى فيه أرض لسه بيتعبد فيها ربّنا".[18] هذه اللحظة تجسِّد مفهوم كراهية الإله Misotheism.

في مُقابلِ ذلك نَجِدُ لدى (فريد) تلك اللحظات التي يصرّح فيها بموقفِه من الألوهيّة، أو يتحدث عنه المؤلِّفُ كاشفًا عن وجهٍ من وجوه هذا الموقف. ولعلّ أهمّ تلك اللحظات ما يَرِد في جُزء (مقامات الحشيش الثلاثة) من الفصل الخامس، حيث يُفصِّل (فريدٌ) رؤيتَه لتدرُّجات تعاطي الحشيش، ويصدِّقُ (فكتور) على بعضها كالتالي: "تقوم المادّة الفعّالة في الحشيش [19]THC بتنشيط مراكز دماغيّة معينة تجعلك أكثر تركيزًا، وإن كان هذا يختلط ببعض الأفكار العشوائيّة. فيسأله (منصور): "وما الذي تشعُر به مع الهاي؟" فيُجيب: "هذا يتوقف على المَقام. أوَّلُ المَقامات هو الاندماج. ويَحدُثُ فيه السُّطَلُ أفُقِيًّا بمَعنى أنه يجعلُكَ أكثر اندماجًا مع الآخَرين المَسطُولِينَ مِثلَك، أو كأنَّ أفُقًا ما يَسبَحُ فوق رءوسِ الجميع. لكننا عن طريقِ الحَشيش نندمِجُ فيه، نتّصل، بحيث نصيرُ كُلاًّ واحدًا.

أما المرحلة التالية مع زيادة التعاطي فهي مقام العدالة. وتعني أن كل شيءٍ فيها متعادلٌ مع سواه. لا فارق بين مكانٍ وآخَر أو زمانٍ وغيرِه. لا خوف ولا أمل. استغناءٌ كامل. وشعورٌ بأنك فوق العالَم. (هاي) حرفيًّا. وهي غاية التحشيش الأساسية. وإذا كانت مرحلة الاندماج أفقية، فإن هذه المرحلة والتي تليها رأسية. المرحلة الثالثة تَحدث حين يَسلُك الحشيش مسلكًا خطأً في العقل. هذه المرحلة الأخيرة هي مقام الحقيقة، وفيها تعرف الحقيقة. ليس حقيقةَ شيءٍ ما، بل مجرد فعل المعرفة. فجأة تجدُ نفسَك تعرف وتعرف أكثر، وفي كل معرفةٍ انسلاخٌ، وفي كل انسلاخٍ ألَمٌ، وبالتالي فالحقيقةُ ألَمٌ لا مُتَناهٍ. عقليٌّ أو معرفيٌّ بَحت.

وهي مرحلةٌ بالغةُ السوء، ويحدث فيها فقدانٌ شبه كاملٍ للذاتيّة. بحيث لا تعود تحدد ذلك المركز الذي فيه تجتمع الإدراكات في شيءٍ اسمُه (أنا) أو (ذات) أو (نفس). هذا المركز يتلاشى أو يتحرك فلا يصير مركزًا. ذاتَ مَرّةٍ مِن مَرّاحل الحقيقة تبيَّنَ لي أنّ الله حقيقة، لأنه يُمكن لنا من حيثُ المبدأ معرفتُه. لكن الحَقُّ أمرٌ مختلِف. إنه شيءٌ نكسبُه أو نخسرُه. ثم تبيَّن لي أن هناك علاقةً بين الحقيقةِ والحَقّ. فالإنسانُ يُضحِّي بالحَقّ في سبيل الحقيقةِ على الدَّوام. إنه يفترض أنّ في نقائصِه وآلامِه في الدنيا حكمةً ما يَجهلُها، ولكنه يعتقد في وجود هذه الحكمة في سبيل الحقيقة، وفي سبيلِه إلى ذلك يَنسَى أو يتناسَى بحماقةٍ أنَّ له حَقًّا، وأبسطُ حَقٍّ ألاّ يتألَّم. فإنّ الفكرةَ الأساسيّة من هذا النادي هي استعادةُ هذا الحَقِّ، بدلاً من السعي غير مضمون النتائج إلى الحقيقة."

في هذا المونولوج يبدو موقف (فريد) أقربَ إلى الشَّيطانيّةِ مِن مُطلَق الإلحاد، فالإلحاد باختصارٍ شديدٍ – أو بتعبيرٍ أدَقّ: اللاإلهية – ينفي وجودَ إلهٍ، أمّا تيارات الشيطانيّة على اختلافِ مشاربِها ومذاهبِها فتلتفّ حول الشيطان باعتبارِه رمزًا مقدَّسًا جديرًا بالعبادة، إما في صورته الشخصيّة وإما في صورةِ مبادئَ مُستَقاةٍ من صورتِه في الديانات الإبراهيميّة. والمهم أنّ الشيطانيِّين الذين يؤلِّهون الشيطانَ في صورتِه الشخصيّة يتّخذون طريقًا بديلةً لطريقِ الدِّين التقليديّ، فهم بدلاً من المجاهدة للوصول إلى الحقيقة يقررون أن يأخذوا حقَّهم كاملاً في حياتهم الأرضيّة. وهم مختلفون عن النيتشويّة، فموتُ الإله عند نيتشه يُدرِجُ فلسفتَه في عَداد الفلسفات الإلحاديّة، بينما الشيطانيُّون المُشَخِّصُون لا ينكرون وجود الإله، لكنهم يكرهونَه ويُناصِبُونَه العَداء، وهذا ما يبدو لنا من مونولوج (فريدٍ) السابق.

ومن اللّافِت أنّ هذه اللحظة الوحيدة التي يعترفُ فيها (فريدٌ) بإدراكه لحقيقة الله لم يَصِل إليها إلاَ بِطَريق الحشيش، وأنّ وصفَه لمقامات الحشيش يكادُ يلتقي مع عُموميّاتِ وصفِ الصُّوفيَّة لمَدارِج السالِكين، أو حتى لمراحل الصُّعود الرُّوحِيّ في حلقات الذِّكر. فالبداية انسجامٌ واندماجٌ أفقيٌّ يَجمعُ الذّاكِرين في وحدةٍ تتمايلُ بالأرواح والأجساد، ثم يكون مَقامٌ عالٍ تتساوى فيه الموجوداتُ جميعًا ويشعُرُ المتصوِّفُ فيه أنه وحيدٌ في حضرةِ الله، ثم إنه يَعلو أخيرًا على هذا المَقام فتنتفي نفسُه ويُصبِحُ مُتأكِّدًا أن ليسَ ثَمَّ إلا الله ولا موجودَ بحَقٍّ سِواه. هكذا يعترفُ لنا (فريدٌ) أنه قد ذاقَ ألَمَ الاغترابِ الصُّوفيِّ عن النفسِ. إنه حتى يستخدِمُ تلك المُفردةَ التي يستخدمُها المتصوِّفة (الانسلاخ) لوصف ألَمِ المعرفةِ ومُعايَنَةِ الحقيقة. لكنّه يقرر أن يُعرِضَ عن هذه الحقيقةِ في سبيل حَقِّه الأرضيِّ المُهدَر، في اتِّساقٍ مع دورِه الذي يؤمنُ به كرَسولٍ عكسيّ.

وهنا ننتبهُ إلى التسميةِ التي يُطلِقُها أعضاء النادي على الحشيش (اللاهوت)، والتي يُخبرُنا المؤلِّفُ بأنّها صادرةٌ عن قصيدةٍ لـ(فكتور). هكذا يبدو الحشيشُ في البداية طريقًا لمعرفةِ الله، لكنّه بالتَّدَخُّل العقليِّ الصّارِم العنيد الذي يُبديه (فريدٌ) يتحولُ إلى طريقٍ لمُصادَرَة الألوهيّة لصالحِ أعضاء النادي. وتكتمل أركانُ هذه المُصادَرَة باصطلاحَين آخَرَين قادِمَين مِن أدبيّات الممارسة الدِّينيّة المسيحية والإسلاميّة. فحين يُهاتف (هيثم) تاجرَ المخدِّرات (إبراهيم) ليَجتلِبَ منه كمّيّةً مناسبةً من المخدِّرات، يسألُه: "انت في اللاهوت ولاّ في الناسوت؟" ويعلّق المؤلّف بأنّ (الناسوت) يعني أنّ معه امرأةً، فهو مشغولٌ بممارسة علاقةٍ جسديّةٍ حميمة. هكذا يتحول مفهوم الناسوت في نادي الانتحار من تجسُّد الإله في شخص المسيح إلى الاتّحاد الجسديّ بين رجُلٍ وامرأة. بهذا يستبعِدُ النّادِي أيّ حضورٍ ممكنٍ للإله، ويستعيضُ عنه في بساطةٍ بحُضورٍ بشريٍّ جسديٍّ خالِصٍ مُدَنَّس.

الاصطلاح الثالث والأخير هو "جَبَرُوت بدُون صوت"، وهو عنوان أول جزءٍ من الفصل الخامس، ونعرف أنَّ المُرادَ به المُسدَّس الكاتم للصَّوت. بهذا يُصادِر النادي صِفَةَ القوَّةِ الإلهيّة الجبّارة، فهم لا يحتاجون من صِفاتِ الإله في سعيِهم لاكتسابِ حقِّهم الأرضيِّ إلاّ هذه الصِّفة، ولِذا لا يُوجَد حَدٌّ رابعٌ مثلَ (الرَّحَمُوت) مثَلاً ضِمنَ اصطلاحاتِهم الخاصّة، فلا مكان للرحمة أو الشفَقة. بهذه الاصطلاحات الثلاثة يسير أعضاء النادي في طريق تأليه الذّات Egotheism المميِّز للتيارات الشيطانيّة، ولاسيّما عند كنيسة الشيطان Church of Satan.

وفي تقديري أنّ أكثر لحظات القتل في الرواية التصاقًا بمفهوم تأليه الذات هي اللحظة التي تَقتلُ فيها سلمى ضحيتها الأولى، الشابّ (مدحت الشرقاوي)، فمبجرّد إسلامِه الرُّوحَ "أزاحَته ليَهويَ أرضًا، ثم نهضَت. وأسرعَت إلى الحمّام لتغتسل. خامرَها شعورٌ بالضِّيق لأنها ستتخلّص من هذه الدِّماء الثمينة. هذه الدماء لها معنى وفيها حياة، وأُريقَت في سبيلِها هي دُونَ سِواها. إنه شهيدُها ولا يستحقُّ أن تضيعَ دماؤُه في المَجاري. للأسف لا يوجد حَلٌّ آخَر."[20] هنا يبدو أننا أمام قاتلةٍ تستكمِلُ تحقيقَ أُلوهيَّتِها بتقديم قُربانٍ بشَرِيٍّ لِذاتِها.

المفارقةُ أنّها لا تعرفُ لِمَ اختارَته، فحِينَ سُؤِلَت لم تكن لديها إجابةٌ، والواقعُ أنه أقربُ إلى أن يكون اختيارًا عشوائيًّا، قفزَ إلى ذهنِها بمحض الصُّدفةِ، كما يُمسِكُ الجزّارُ بقَرنَي أقربِ الكِباشِ إليه في الحظيرةِ تمهيدًا لذبحِه. وبينما نَصَّت قواعِدُ القتل التي وضعَها (فريدٌ) على ألاّ يكون هناك دافعٌ غير شخصيٍّ، نَجِدُ عمليةَ (سلمى) الأولى هذه تبدو للوهلة الأولى مفتقِرةً حتى إلى الدافع الشخصيّ، لكننا إن أمعنّا النظرَ رأينا الدافِعَ شخصيًّا يَهدُفُ إلى إتمام مُصادَرَة الألوهة بتقديم القُربان للذّات، لكنّ غياب الاختيار العاقل الواعي يُهَيِّءُ لنا غيابَ الدافع، وهو في الحقيقة موجودٌ لكنّه أقربُ إلى دافعٍ حيوانيٍّ لا أثرَ فيه لتوسُّط العقل.

الوجود والعدم/ القتل والانتحار:
لعلّ المشهدَ الأكثر مفصليّةً في مسار أحداث الرواية هو ذلك التالي للتخلُّص من جثّة المجنَّد الذي صدمَه فريد بالسيارة، والرفاق مجتمعون في بيت (هيثم). هنا لاحظ (فريد) أنّ اكتئابَه قد زالَ بفِعل القتل الخطأ الذي تورَّطَ فيه، وما استتبعَه من إثارةٍ خلال عملية التخلُّص من آثار الحادث. ويلخًص (فكتور) الموقِف بقولِه: "بدلاً من العدَم صِرنا نفكّر في الوجود، والوجود عذاب. لكنّ هذا يعني أنّ كُلاًّ من الوجود والعدَم فكرة. إذا فكّرتَ في الانتحار غِبتَ عن الوجود، وإذا عَدَلتَ عنه خَلقتَ نفسَكَ بيديك، أو أنّ قتلَ الأنا عدم، وقتل الآخَر وجود."[21] وفي موضعٍ آخر يناقش (فريد) الرفاقَ في أهمية بقاء الانتحار حَلاًّ مُحتملاً إذا ما وقعَ أحد أعضاء النادي في قبضة الشُّرطة، ويتوصل الرفاق إلى ضرورة امتلاك كُلٍّ منهم قِنّينةَ سُمٍّ، يحملُها كلٌّ منهم في ملابسِه باستمرار، بحيث تمثِّل نافذةً مفتوحةً على الانتحار/ العَدَم.

من المؤكَّد أنّ فكرةَ إرادة العدَم بصِفتها قوّةً خارقةً هي فكرةٌ صادمةٌ لأول وهلة، لكنّ (فريدًا) يقرّبها حين يناقشُها من زاوية رؤية بلطجيّة الشوارع، فالقادر على حَسم أي صراعٍ في الشارع هو مَن يتمتّع (بالاستبياع)، حيثُ لا دِيَةَ له عند نفسِه. المهمّ هنا أنّ أبطال نادي الانتحار يحاولون ممارسةَ وجودهم كما تمارس النارُ وجودَها، فالنار تأكلُ كُلَّ ما سِواها لتبقى موجودةً، وكذلك هُم، لا أملَ لهم في البقاء إلاّ بإزاحة الآخَرين. هكذا يوسعون دائرةَ حرّيّتهم في مطاردةٍ مستمرّةٍ للألوهيّة، على حساب دوائر حرّيّات الآخَرين الذين يزيحونَهم من الحياة، فإن بدا الاستمرار في هذا المسلَك مستحيلاً فلتَنتَهِ حياتُهم بالانتحار/ العدَم.

ومرَّةً أخرى تبدو طريقة (سلمى) في القتل هي الأكثر تعبيرًا عن الصِّراع من أجل الحُرّيّة والوجود، هذا إذا أخذنا رؤية سارتر للجنس في كتابه (الوجود والعدَم) بعين الاعتبار. يرى (سارتر) أنّ الإنسانَ في الجنس يطاردُ حالةً من التوافُق التامّ بين الوعي والوجود الجسديّ، وأنّ كُلاًّ من الشَّريكَين يحاول خلال العملية الجنسية أن يستحضر وعيَ الآخَر إلى سطح جسدِه من خلال المُداعبة، لكنّ هذا التوافُق محكومٌ عليه أصلاً بالفشل لأنه ينتهي بانتهاء هِزّة الجنس Orgasm. والحقيقةُ أنّ حُرية كلٍّ من الشريكين ووجودَه يصبحان في خطرٍ في لحظة الهِزَّة، من واقعِ كونِهما مُصادَرَين جزئيًّا لصالح الآخَر. هذا ما تَدَعُه (سلمى) يَحدث في كل مرّةٍ تقتلُ فيها ضحيّةً جديدةً، ثُمّ إنها تنتقم لحرّيّتها ووجودِها المُستَلَبَين انتقامًا موغلاً في الدمويّة في اللحظة التالية للهِزّة، كما لو كانت تُجَدِّدُ في كلّ قتلٍ جديدٍ شعورَها بالهبوط من علياء الآلهة ذوي الوجود والحرّيّة اللامحدودَين إلى عالَم البشَر المُستَلَبين لصالح شركائهم، ثُمّ ما تلبَثُ أن تستعيدَ عَلياءَ الآلهة بذلك الفعل الدمويّ. وهنا يبدو التعبير الذي يكرره المؤلّف في لحظات الجنس في الرواية "الصعود والهبوط" مُشيرًا إلى شيءٍ وراء محض الحركة الجسديّة للشريكَين، ونعني به ذلك التردُّد الذي تعيشُ به سلمى بين الوجود البشريّ الناقص وهي في غمرة الجنس، والوجود الإلهيّ اللامحدود وهي تتخلّص من شريكِها بالقتل.

نارٌ لا تُحرِق - الوجود والصَّيرُورة:
فيما يَظهر لي من استقراء النَّصّ، هناك خَيطٌ لطيفٌ يربط بين اختيار المؤلِّف لجهاز الاستخبارات الإيرانية بالتحديد ليقوم بدَور الجهة المستغلّة لنشاط النّادي ثُمّ يتّضِح لـ(فريد) أنه مركز من مراكز التجسُّس على عالَمِنا البشَريّ، واختيار ألمانيا - وبالتحديد ولاية (شَمال الرّاين/ وستفاليا)- لنقل نشاط (منصور) و(فكتور) إليها بعد وفاة الأعضاء الأربعة الآخَرين، والظُّهور الصّريح الخاطف لاسم (نيتشه) في حديث (فكتور) عن الجماعة التربويّة الانتحاريّة التي قرر تأسيسَها والتي بسببها اعتُقِلَ قبل أن ينجحَ في الهرَب، وظهور النّار في الأحلام المستقبليّة Future Dreams لـ(فريد)، باعتبارِها المُحَدِّدَ الأساسيَّ عندَه لصِدق هذه الأحلام، وبين كُلّ هذه الظّواهر من ناحيةٍ وارتباطِ ظهور أعراض ضلالة (تبدُّد الحقيقة Derealisation) بالسّماء الغائمة التي تبدو "كأنها مصباحُ نيون عملاقٌ بلا حرارة"[22]. للوهلةِ الأولى قد يبدو مِثلُ هذا الحديثِ أقربَ إلى قفزةٍ تأويليّة شاطحةٍ، ولا سبيل إلى دَفع شُبهة الشّطح فيها إلاّ بإنعام النَّظر إلى بعض المسائل في النَّصّ.

ولنبدأ بالنّار. تظهر النّار في حُلمين يراهما (فريدٌ)، الأوّل قبلَ أن تزورَه (سلمى): "كانت المدفأة الكهربائيّة تشتعل، كأنها تحوَّلَت إلى مدفأة تقليديّة، تشتعلُ بنارٍ زَرقاء، بَدَت له مُخِيفَةً لسببٍ مَجهُول."[23] والثاني قبلَ أن تبدأ عنده ضلالةُ تبدُّد الحقيقة، وهو الحُلم الذي تدور أحداثُه قُرب قصر الاتّحاديّة بينما المتظاهرون يهتفون ضدّ (محمد مرسي): "ثم فوجئ بانفجار زجاجة مولوتوف حولَه. بالأحرى انفجرَت فيه هو. لكنه لم يشعر بشيءٍ ولم يحترق. في الواقع لم تحرق النارُ أحدًا ولا شيئا."[24] وحين يفكر في الأمر لاحِقًا يُخبرُنا المؤلِّف: "هو يَعلَم معنى النار في الحُلم لكثرة ما مرّت به في منامِه: النار تعني أنّ كارثةً ما ستقع، فردية أو جماعية أو مجتمعية أو إنسانية، وتعني أنّ الحُلمَ حقيقي، أنه رؤية واضحة للمستقبَل. كلما ظهرَت النار في أحد أحلامِه تحقَّقَ دُونَ تأويل." وفي موضعٍ آخرَ يفكّر (فريد): "هل النار هي العنصر الوحيد الحقيقي في عالمِنا؟

لهذا هي علامةٌ على صدق الرؤيا؟ هل هي حقيقة لأنها تأكل كل حقيقة؟ هل يكتسب الشيء حقيقتَه حين يتغذى على حقيقة غيرِه؟ وفي حالتِنا: لِمَ لا نكسِبُ المزيدَ من الحقيقة حين نتغذّى على أرواحِ قَتلانا؟" وأخيرًا، حين يحكي (فريد) للرِّفاق حُلمَه مبرِّرًا به يقينَه من وصول الإخوان إلى الحُكم، تسأله (يُمنى): "وحضرتك مكشوف عنك الحِجاب؟" فيقولُ إنه رأى علامةً هي النار، وحين تتهكّم عليه (يُمنى) يردُّ: "بس مش أي نار. نار كأنها مش من عالَمنا. نار لا بتحرَق ولا بتسخَن" "ثُمّ أضافَ هامسًا في فحيحٍ وقد تحوَّلَ الخَوفُ في مُقلَتَيه إلى شَرٍّ غاضِبٍ دامِعٍ: نار مُخِيفَة!"

حين يتساءل (فريد) إن كانت النار هي العنصر الوحيد الحقيقيّ في عالَمنا ولذا تأتيه كعلامةٍ على صِدق الرؤيا، فإنّه يَستَدعي على الفور تُراثَ الفيلسوف اليوناني قبل السُّقراطيّ (هِرَقليطَس 535- 475 ق.م) الذي كان يعتقِدُ كذلك أنّ النّارَ هي أصلُ كُلِّ شيء. ونحن نعرفُ أنّ واحدةً من أبرز أفكار (هرقليطس) – الفيلسوف الباكي كما اصطُلِحَ على تسميتِه لمعاناتِه الاكتئابَ مثلَ أعضاء نادي الانتحار، في مقابل (ديمُقريطس) الفيلسوف الضاحك - مفادُها أنّ الصيرورة Becoming/ Change/ Process هي السِّمَةُ الأصيلةُ المميِّزةُ للعالَم. هكذا تبدو حرارةُ التغيُّر التي تدفَعُ عَجَلَةَ العالَم إلى الأمام خالِقَةً الأحداثَ مِن بعضِها هي المُعادِلَ المُجَرَّد لنارِ أحلامِ (فريدٍ) التي لا تحرق. لكنّنا نعرفُ كذلك أنّ (هرقليطس) قد وُلِدَ في (إفسوس) بتركيا الحاليّة، وهذه المدينة كانت جزءًا من الإمبراطورية الفارسيّة منذ عام 547 ق.م، أي أنّ (هرقليطس) قد وُلِدَ في ظِلّ السيادة الفارسيّة على مدينتِه، رغم ما منحه (قورش الأكبر) لأهلها من حقّ التمتُّع بالحُكم الذاتيّ. وقد أفاض الباحثون في مسألة احتمال تأثُّرِه بفلسفة غير اليونانيين، وتحديدًا الفُرس، كما ناقشوا تأثُّرَ (فيثاغورس) بزُرادشت إلى درجة الزَّعم بأنه تتلمذَ عليه في بابل.[25]

ينقلُنا هذا التتبُّع لنار هرقليطس إلى اختيار إيران بالذات لتكون استخباراتُها هي المؤسَّسة المستغِلّة لنادي الانتحار، ولتكون مركز التجسُّس على عالَمِنا. هناك بالطبع سبب أوَّلٌ لهذا الاختيار، يَكمُن في شيطنة إيران في سياسات العالَم العربيّ المعاصِر، وهي شيطنةٌ لها جذورُها في تاريخ العلاقة بين فارسٍ والعالَم العربيّ منذُ العهد الأخمينيّ، نظَرًا لسياسة الفُرس التوسُّعيّة وتأسيسِهم أوسعَ الإمبراطوريات القديمة على الإطلاق قبلَ مجيء الإسكندر الأكبر. لكنّ سببًا ثانيًا أعمقَ يتّصِلُ بارتباطِ إيران بالنّار في الوعي الجمعيّ العربيّ، من خلالِ الدِّيانة الزُرادشتيّة التي تقدّس النّار باعتبارِها أطهرَ العناصر.

فكما كانت النارُ في أحلامِ (فريدٍ) أقربَ إلى القوّة المحرّكة للأحداث وعلامةً على يقينِ تحقُّقِها، ظهرَت إيران على مسرحِ أحداثِ الرِّواية باعتبارِها القوّة الخفيّة التي دفعَت عجلةَ الأحداث السياسيّة في مصر في اتِّجاهِ سقوط تيّار الإخوان المُسلِمين. لقد أراد مؤلِّفُنا أن يخلُقَ مُعادِلاً سياسيًّا للنّار الوجوديّة اللطيفةِ المُخيفةِ في أحلام بطلِه (فريد)، خاصّةً أنّ أحداثَ الرواية تَدورُ على خلفيّةٍ سياسيّة مشتعلةٍ بالفِعل جعلَها المؤلِّفُ مُنطَلَقًا للمناقشات الفلسفيّة بين أبطالِه فضلاً عن مونولوجاتهم الداخليّة وتعليقاتِه عليهم. وهكذا خَلقَ حكايةً بديلةً لسُقوط نظام الإخوان في مصر، تُفسِحُ مكانًا لقوّةٍ ظلّت مختفيةً لا أحدَ يَعلَمُ عنها شيئًا رغمَ نفوذِها الجبّار.

ننتقل خطوةً أبعدَ في مناقشة ذلك الخيط اللطيف الرابط بين الظواهر المذكورةِ في بداية هذا القِسم من مقالِنا، لنرى أنّ (نيتشه) - بظُهورِه الصَّريحِ في حديثِ (فكتور) عن جماعتِه التربويّة، وظُهوراتِه الألطف في حديثِ (فريد) عن القوّة الخارقة المُكتَسَبَةِ مِن إرادة العَدَم، وعن عبثيّة الحُكم الأخلاقيّ في حالةِ المُقدِمِ على الانتحار- يتجاوبُ مع ما نعرفُه عنه مِن (إرادة القوّة) ومِن ازدرائه للأخلاق المسيحيّة باعتبارِها أخلاقَ العَبيد التي تقسّم الأفعالَ من حيث نتائجُها إلى طيّبةٍ وشرّيرة. والأهمّ أنّ (نيتشه) يُعيدُ الحياةَ إلى (زرادشت) نبيّ الفُرس ويُنطِقُه في كتابه (هكذا تكلَّمَ زرادشت Also sprach Zarathustra) بما يعتقِدُه هو بشأن العالَم، لاسيّما فكرةَ العَود الأبديّ Eternal Recurrence، كما يُصرّحُ بقرابتِه الفكريّة لهرقليطس في كتابه (هُوَ ذا الإنسان Ecce Homo) إذا يقول: "أشعرُ في معيّتِه بدفءٍ لا أشعرُ به في أي مكانٍ آخَر. تأكيدُه على الانقضاءِ والتدمير، وهو السِّمة المحدِّدة للفلسفة الديونيزيّة، وقولُه (نعَم) للمعارضة والحرب، والصَّيرورة، فضلاً عن رفضِه الجذريّ الباتِّ لمَحضِ مفهوم (الوُجود)، كلُّ هذا أقربُ إليَّ بوضوحٍ مِن أيّ أفكارٍ أخرى أنتجها العقلُ البشريُّ حتى هذه اللحظة."[26]

هكذا يثورُ سؤالُ (فريد) الذي ذكرناه آنِفًا: "هل يكتسب الشيء حقيقتَه حين يتغذى على حقيقة غيرِه؟ وفي حالتِنا: لِمَ لا نكسِبُ المزيدَ من الحقيقة حين نتغذّى على أرواحِ قَتلانا؟" من باطِن هذا الارتباطِ بين نارِ أحلامِه وإيرانِ الرواية ونيتشه وأفكارِه، فإذا كان لنا أن نُعلّق على هذا السؤال، فإنّ الإجابةَ تبدأ من ثنائيّة الوجود والصَّيرورة. الوجود بما هو مُعطَىً ثابتٌ أزليٌّ أبديٌّ، والصيرورةُ بما هي انتفاءٌ مستمِرٌّ وانعدامٌ للجَوهَر. رفعَ هرقليطس ونيتشه الصيرورةَ إلى مقامٍ تكادُ تُعبَدُ فيه، فهي الحقيقةُ الوحيدةُ، والنارُ تَجَسُّدُها العَينِيّ، ونَبَذَا مفهومَ الوجودِ تمامًا، لكنّ أعضاء نادي الانتحار يقتُلُون باستمرارٍ كما تفعلُ النّار، في محاولةٍ منهم لمَدّ وجودِهم على حساب الآخَرين، فجَلِيَّةُ الأمرِ أنّهم بذلك قلَبُوا الصَّيرُورةَ وُجودًا، أو ظَنُّوها كذلك، وهو ما يفسِّرُ تساؤلَ (فريدٍ) السابق.

أمّا عن اختيار ألمانيا بالذات لنقل نشاط (منصور) و(فكتور) إليها، فإنّ هناك سببًا يمنحُنا إيّاه النصُّ صراحةً حين يقول (منصور): "باشوفها الأرض المناسبة لعبادة الشيطان زي ما بتسمّيها. لاحظ إن الشيطانية في ألمانيا غير مُجَرَّمَة قانونًا."[27] لكنّ مجرد عدم التجريم القانونيّ ليس كُلَّ شيءٍ بالتأكيد، ولعلّنا نلتقطُ طرفَ الخيطِ مِن حديث (أدهم درويش) مع أعضاء النادي و(فريد) عن إيران: "إيران دولة عنصرية في الواقع. دي حقيقة مهمة في التعامل مع الحكومة الإيرانية بأجهزتها المختلفة، وفي التعامل مع الإيرانيين عمومًا، ونظرًا لأنك رُبع إيراني وبتعرف الفارسي فهم قرروا التعاوُن معاك." هكذا يمتدّ دَورُ الجنس الآريّ من إيران – حيث مركز العبادة القديمُ للنّارِ، التي تدفع صيرورةَ العالَم وتحرّك الأحداثَ في مصر – إلى (فريد) الرسول العكسيّ في نظرِ نفسِه، الثائر على السماء، إلى ألمانيا حيث ازدهرَ الاعتزاز بالانتماء إلى الجنس الآريّ، لاسيّما في العهد النازي الذي حرَّكَت فيه ألمانيا العالَمَ كُلَّه بنارِ الحرب، وحيثُ نشأ وعاشَ (نيتشه) أهمُّ فلاسفة الثورة على السّماء في تاريخ الفكر الحديثِ كُلِّه.

ونخطو خطوةً أبعَدَ، إلى اختيار ولاية شمال الرّاين-وِسْتْفَالْيَا، لنكتشفَ أنَّ عَلَمَ هذه الولاية هو نسخةٌ من العَلَم الإيرانيِّ ثلاثيّ الألوان الأفقية (أخضر- أبيض – أحمر)، منقوصًا لفظَ الجلالةِ الذي يتوسّطُ عَلَمَ إيران، وعبارةَ (اللهُ أكبَر) التي تزين حوافَ العلَم الإيراني بالخطّ الكوفيّ. هكذا يبدو أنّ ذلك الطابَعَ الإسلاميّ المتحفِّظَ الذي دفعَ قائدَ مركزِ الڤاڤاك في مصر إلى الثورة بشِدَّةٍ على استغلال (سلمى) لقدرتِها على الإغواء في قتل امرأةٍ انزلَقَت إلى ممارسة السِّحاقِ معها[28]، ذلك الطابَعَ بسبيلِه إلى الاختفاء تمامًا مع الهجرة إلى الولاية الألمانيّة المذكورة، لتَخلُصَ ممارساتُ الجماعة الوليدة للشَّيطان تماما.

أخيرًا، أزعُمُ أنَّ هذه الحَفنة من ظواهر هذا النّصّ الروائيّ ترتبطُ بظاهرةِ تسلُّل ضلالةِ تبدُّد الحقيقة – وربما هي حقيقةُ زَيفِ العالَم – إلى عقل (فريدٍ) حالَ رؤيتِه السَّماءَ التي تحجُبُ غيومُها حرارةَ الشَّمسِ دُونَ ضوئها. في الحقيقة، لدينا طرفُ خيطٍ آخَر نعثُر عليه في كلام (هيثم) مع (سلمى) عن الأعراض النفسيّة لانسحاب الهيروين من دَمِه: "أعراض زَوال عالَم كامل دقيق التفاصيل، وجميل زي لعب الأطفال. فجأة ينهار لمّا ينقطع المخدّر. وساعتها باحِسّ إنّي كوكب صغير أشرقت عليه شمس مفاجئة. الشمس دي هي الواقع نفسُه. باحسّ اني بادور حول نفسي قدّام الشمس دي، وإنها بتحرق كل ملليمتر في جسمي بضوء لاسع مُزعِج، وإنّي مضطَرّ كل يوم إني أكمل دورتي قدّامها، وهي تكمّل حرقي. باحسّ انّ فيه حدّ عمل الواقع دا بالعِند فيّا!"

هذا الحديثُ عن المخدِّر بصِفَتِه يَمنحُ مُتعاطِيَه عالَمًا بديلاً جميلاً يتجاوبُ مع وصفِ المخدِّرات باللاهوت، ويَخلَعُ على (هيثم) صِفَةَ الوجود الثابت المستقِرّ حالَ تعاطيه الهيروين. هذا في مُقابِلِ عالَم الواقع الذي لا تعرفُ صَيرُورَتُهُ رحمةً، كأنّها حرارةُ الشمس، ولا غَروَ، فما حرارةُ الشمسِ إلاّ نارٌ في التحليل الأخير. ربّما يثورُ اعتراضٌ على لجوئنا إلى حديثِ (هيثم) لتفسير ظاهرةٍ متعلقةٍ بـ(فريد)، إلاّ أنَّ وضوحَ اشتراكِ أعضاء النادي في الإخلاص لِما صاغَه (فريدٌ) من نظريّاتٍ تؤطِّرُ موقِفَ النادي من العالَم، فضلاً عن تقعيدِها لآليّاتِ تنفيذِه عمليّات القتل، هذا الوضوح يبرر لجوءَنا إلى الحديث السابق لـ(هيثم).

والشّاهِدُ أنّ مشهدَ السّماء التي يتسلل فيها ضوءُ الشمسِ عبرَ الغُيومِ دُونَ حرارةٍ، هذا المَشهد يُنَحِّي عُنصُرَ النّار جانبًا، وبالتّالي يُوقِفُ صَيرُورَةَ العالَم، على الأقلّ بالنسبة لذِهن (فريد). لكنّ توقُّفَ الصَّيرورَةِ القاسِيَةِ المهيمِنَةِ يُفتَرَضُ أن يَضَعَنا أمامَ الوُجود الذي تُنسينا إيّاه الصيرورةُ حالَ عملِها. لكنّ هذا الوُجودَ لم يُفصِح عن نفسِه لعَينَي بطلِنا، بل احتجَبَ بالغُيُوم وتوارى خلفَها، ومِن ثَمَّ أثارَ لديه ذلك الشُّعورَ بأنَّ كُلَّ ما يَراهُ بعينيه مُزَيَّفٌ، وأنّ عالَمَنا غيرُ حقيقي. وفي رأيي أنَّ الفقرات المتتالية من الجزء الأول (شكلٌ بدون جسم) من الفصل السابع (الشُّرفة) – تلك التي تعبِّر عن تفكيرِ (فريدٍ) في تاريخ فكرةِ أنّ عالَمَنا مُحاكاةٌ لعالَمٍ آخَرَ حقيقيٍّ – تمثِّلُ جزءًا مفصليًّا في فهمِنا لعقليّة (فريد) وتطوُّرِه الرُّوحِيّ في الرواية.

هذه الفقرات تستعرضُ الفكرةَ في أفلام الخيال العلميّ، ثم تعودُ بها إلى أفلاطون وعالَمِ المُثُل، ثم ترُدُّها أخيرًا إلى الأديان التوحيديّة والشِّركيّة، بدءًا من الديانة المصرية القديمة، مرورًا باليهوديّة والمسيحية وانتهاءً بالقرآن الذي يقولُ صراحةً: "إنَّما الحَياةُ الدُّنيا لَعِبٌ ولَهْوٌ"[29]. منذُ تلك اللحظة ظلَّ (فريدٌ) مشغولاً بنظريّة المُحاكاةِ هذه، إلى أن زارَه (سمير عيّاد/ أدهم درويش) في بيتِه وأطلَعَه على ما توصَّلَ إليه بخصوص سيل المعلومات، واستمرَّ انشغالُه بالأمر بعد هجرتِه إلى إيران، وهو ما ظهرَ في رسائله المشفَّرَة إلى (فكتور)، وبينها الرسالةُ التي يقولُ فيها: "أنا الرسولُ العكسيُّ الذي سينبئُ الناسَ بزَيفِ الحقيقة، وهذا في حدِّ ذاتِه حقيقة، لكنها حقيقةٌ معكوسةٌ كصورةٍ نيجاتيف لكلِّ الكَون.

الأمور معقدة، وعلى كل حالٍ فقد عرفتُ محطّاتٍ أعلى لنَقل السَّيل. أنا على بُعد محطّاتٍ معدودةٍ من الوصول إلى المتلقّي السماوي، المتلقي غير العاديّ. وفرضيّتي تقولُ إنّ الأديانَ ذاتُ أصلٍ عُلويٍّ فعلاً ممّا وراءَ عالَمِنا، وكذلك الرؤى والأحلام، لهذا كُنتُ أرى المستقبَل. هل تتذكر نبوءتي بأحداث الاتحادية؟ الأديان نفسها نتيجة صراعٍ في (السماء) بين تيّارٍ يريد للبشر معرفة الحقيقة تدريجيًّا، فأرسلَ لهم (وحيًا) بعالَمٍ آخَر، وتيّارٍ يُريدُ الإبقاءَ على جهلِهم. لقد كان معنا كلُّ الحَقِّ يا (ملاك) في قرارات الانتحار والتصفية والتدمير. هذا العالَم المزيَّف الذي يدّعي الحقيقةَ، ليس له الحَقُّ في البقاء. الحقيقةُ في عالَمِنا ليس لها حَقّ."[30]

ختامًا لهذا الجزء من المقال، تبدو هذه النار المُخيفةُ -التي تعبِّر عن الصيرورةِ ولا تحرق- معادلاً لطيفًا في الرّواية للشيطان، وذلك من واقع الارتباط بين الشيطان والنّار في المأثور الإسلامي، ومِن واقع تلك اللحظة في الرواية التي تَحمِلُ أكبرَ قدرٍ من الرُّعب الوجوديّ، حِين "يتحول الخوف في عينَي (فريد) إلى شَرٍّ غاضبٍ دامعٍ" وهو يتحدث عن النارِ في أحلامِه. وهذا يستتبعُ بدَورِه أن يكون للشيطان في النسَق الفكريِّ الحاكمِ للروايةِ دَورٌ في خَلقِ أحداثِ العالَم، باعتبارِه رُوحَ الصيرورةِ أو الكِيانَ الكامِنَ وراءَها. وإذا صَدَقَ حَدسُنا في هذه النُّقطة، فإنّ الشيطان يتمتّع في نسَق الرواية بمركز نصف الإله Demiurge كما في الأنظمة الغنوصيّة والأفلاطونيّة المُحدَثَة، أي أنه بشكلٍ ما هو خالِقُ العالَم المادّيّ بصيرورتِه الباطنة.

والحقيقةُ أنّ مشهد السماء الغائمة التي تبدو كمصباح نيون عملاق بلا حرارة يستدعي من المأثور الإسلاميّ –الحاضِر في مَتن الرواية بصُوَرٍ متفاوتةٍ- حديثًا نبويًّا عن علامات ليلةِ القَدر، هو ذلك المَرويّ عن أُبَيّ بن كعبٍ: "وَاللَّهِ الذي لا إلَهَ إلَّا هُوَ، إنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ، يَحْلِفُ ما يَسْتَثْنِي، وَوَاللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هي، هي اللَّيْلَةُ الَّتي أَمَرَنَا بهَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بقِيَامِهَا، هي لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَومِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لَهَا." وحديثًا آخرَ هو: "هِيَ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا يَفْضَحُ كَوَاكِبَهَا، لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يَخْرُجَ فَجْرُهَا". هكذا يتجذّر في المأثور الإسلاميّ أنّ تلك الليلةَ المقدَّسَةَ لا حَرّ فيها ولا حرّ في صبيحتِها للشمس. فإذا افترَضنا أنّ رمزيّة الحرارة والنار في هذا المأثور قريبةٌ من رمزيتهما في الرواية التي بين أيدينا، كانَ معنى هذا أنّ السماء في ليلة القدر، وصبيحتِها تُفصِحُ عن وجودٍ حقيقيٍّ مَحضٍ، لا تشوبُه صيرورةُ الحياةِ الدُّنيا.

والحَقُّ أنّ هذا النسَقَ يتجاوبُ والآية الخامسة والثلاثين من سورة النُّور: "اللهُ نُورُ السماواتِ والأرضِ" إلى آخِر الآية، فقد اختارَ القرآنُ لفظةَ (النُّور) حين أرادَ أن يُخبِرَ عن الله، وتركَ لفظةَ (الضِّياء) مثَلا. مع العلم بأنّه في موضعٍ آخرَ يقولُ: "هو الذي جعلَ الشمسَ ضِياءً والقمرَ نُورًا"، فالضياء مصحوبٌ بحرارةٍ أو انفجارٍ عنيفٍ مفاجئٍ كما في وصف القرآن للبرق، "كلما أضاءَ لهم مشَوا فيهِ وإذا أظلمَ عليهم قامُوا"، بينما النُّورُ غيرُ مصحوبٍ بهذه الحرارة. هكذا، يَظهرُ أنّ القرآنَ يجعلُ الوُجودَ الحَقَّ المنسوبَ للهِ وجودًا نورانيًّا لا حرارةَ فيه، أي لا أثرَ للصَّيرورة.

وعَودًا إلى روايتِنا، فالخلاصةُ أنّ السماء تبدو لعينَي (فريدٍ) كسماء ليلة القَدر، غيرَ أنّها ملبَّدَةٌ بالغُيوم، تُنفِذُ إليه فقط إيحاءً بالوجود الحقيقي دون أن تمنَحَه فرصةً لمعاينتِه. فكأنّه في رحلتِه الرُّوحيّة التاليةِ على تلك اللحظة يُوشِكُ أن يقولَ لسانُ حالِه: "يا رَبِّ أَرِنِي وَجهَكَ"، لكنه يرتبكُ ويتخبَّطُ إلى النهاية كما لو كان مُلاحَقًا بلَعنةٍ، أو كأنّه محجوبٌ عن هذه العبارة. ربما لأنه من البداية عاينَ الحقيقةَ ثمّ ضربَ عنها صَفحًا في سبيل أخذ حقِّه بيدَيه، كما تبيَّنَ لنا في حديثِه المذكورِ عن مقامات الحشيش الثلاثة.

التخييل في الرواية:
يتميّز كريم الصيّاد باستخدام صُوَرٍ بيانيّةٍ تنتمي إلى عالَم العِلم الحديث، فالفيزياء والفلَك والأحياء هي المنابع الرئيسةُ التي يستقي منها الحُدودَ التي يُشَبِّهُ بها ما يَصِفُه من مُعطَياتٍ في سَردِه الروائيّ. هكذا نصطدِم مثَلاً في الجزء الأوّل (عالَم فريد) من الفصل الثالث (الفِراش) بقولِه عن (فريد): "ربما لأن مشاعِرَه حين تتحرك بعد طول فترة تجميد، فإن حركتَها تكونُ مُفزِعَةً، كأنما هي ماموث دفينٌ في الأعماق المُثَلَّجَة، إذا دَبَّت فيه الحياة فجأةً بعد ملايين السنين من الكُمُون، وأحدثَ شَرخًا هائلاً وزلزالاً مُدَمِّرا."[31] هكذا تحوَّلَت المشاعرُ المكبوتةُ حين تتحرّكُ إلى حيوان الماموث المنقرِض وقد بُعِثَ مِن رقدتِه الطويلة.

كذلك في جُزء (الرقص على إشعاع هوكنج) من الفصل التاسع (الدوائر)، يجلس (فريد) مع (يمنى) بعد ذهاب الآخَرين للرقص، و(يُمنى): "تنفَثُ دُخانَها في خَيطٍ رفيعٍ أبيَض، جعلَته الإضاءةُ العارضةُ متوهِّجا. وحين وصلَ إلى وجه (فريد) قال متأفِّفًا في مُزاح: مش لازم إشعاع هوكنج دا"، ثم تسأله عن معنى هذا فيشرَح: "فيه ظاهرة كُموميّة اسمها Materialization بتحصل عند الثقوب السوداء. بينتج عنها إشعاع مُرَكَّز زي الدخان دا، اسمه إشعاع هوكنج." هذا التشبيه يُضَمِّن لونَ بشرة يُمنى الأسمر في مَتنِه كما تلاحِظُ (يُمنى) فتبتسِم، فكأنّها ثقبٌ أسود. المهمُّ أنّ الاختيارَ لا يبدو مجرَّدَ استعراضٍ للمعرفة العلميّة، فما يَحدثُ بعد هذا المشهد هو أنّ (فريدًا) و(يُمنى) يرقصان معًا، ومن الواضح أنّ مؤلِّفَنا يَخلَعُ على هذا الجزء من الحِوار مِحوَريّةً جَعَلته يسمّي هذا الجزءَ كُلَّه من الفصل بالاسم المذكور.

وفي تقديري أنّ هذه الجُملة العارضةَ تمثِّلُ شكلاً من أشكال الإنذار بأنّ علاقة يُمنى وفريد ستتطوّر تطوُّرًا مهمًّا، لتتحوّل إلى ما يشبه علاقة الثُّقب الأسود بجسمٍ يقتربُ منه. ما نعرفُه من الفيزياء النَّجميّة Astrophysics أنّ للثقوب السوداء كثافةً وجاذبيّةً هائلتين، وأنّها تبتلِعُ إلى داخِلِها أيَّ جِسمٍ يَمُرُّ قريبًا منها. وهذا ما حَدَثَ بالضَّبط حين تقارَبَ (فريدٌ) و(يُمنى). صحيحٌ أنها أرادَت أن تقومَ معه بدَور الأُمِّ وأن تغيِّرَه، لكنّ عالَمَه العقليَّ الصّارِمَ ودفاعاتِه أمامَ الإنسانيّة انهارَت حين واقَعَها، حتى إنه أخذ يبكي وينشج وهوى إلى الأرض وشعرَ أنَّ الوحشَ الذي يَسكُنُ داخِلَه قد غادرَه إلى غير رجعة[32].

وثَمّ وجهُ آخَر لابتلاع الثُّقب الأسود للأجسام، أنّ التكهُّنات تتكاثَر يومًا بعد يومٍ عن طبيعةِ ما يَحدثُ للجسمِ المُبتَلَع، هل يدخُلُ عالَمًا آخر؟ هل ينعكس الزمنُ داخِلَ الثقب الأسود؟ وكذلك ما يَحدثُ لـ(فريدٍ) بعد انخراطِه في العلاقة الحميمة مع (يُمنى)، بل لقد بدأ حدوثُه منذ اللحظة التي احتضنَته فيها من ظَهره وهما نائمان في ليلة زيارتِها له: "شعر كأنما ينسحبُ مِن ظهره، وأنه يغوصُ في كِيانٍ دافئٍ لَيّن، يغوص بعيدًا جِدًّا، إلى أبعادٍ لم يَزُرها مِن قبل، أو زارَها منذُ زَمَنٍ سَحِيقٍ، لم يَكُن فيهِ قد وُلِدَ بَعد."[33] هنا نحن إزاءَ عباراتٍ لا تُصَرِّحُ بشيءٍ، وإن كانت تُلمِحُ إلى مشاعر ممتزجةٍ مرتبكةٍ، فيها مِن النزعة الجَنينيّة والحَنين إلى رَحِمِ الأُمّ، وفيها مِن العودة بالزَّمَن، ربّما إلى ما يُعرَف في الاصطلاح الإسلاميّ بعالَم الذَّرِّ، وفيها حتى من اشتهاءِ الطِّفلِ لأمِّه، وهو ما يُعيدُنا إلى تحليل الاسم الشفريّ لـ(فريد/ فرويد).

وهناك وجهٌ ثالثٌ أخيرٌ في صورة يُمنى والثقب الأسود، فما لا يُخبرُنا به المؤلِّف لكنّ الفيزياء النجميّة تقولُه، هو أنّ إشعاعَ هوكنج ينتهي بالثُّقب الأسود إلى التبخُّر إن لم يكتسب المزيد من الكتلة بوسائل أخرى، وحرارةُ الإشعاع تتناسَبُ عكسيًّا مع حجم الثُّقب الأسود[34]. هكذا يبدو أنّ اقترابَ يُمنى من فريد لن يبتلعه فقط، وإنما سيقضي عليها هي الأخرى، وهو ما يَحدثُ بالفعل حين يقرر الهجرةَ إلى إيران، حيثُ تستسلم للاكتئاب وتنتحِر في شقة هيثم. هذا الإنذار العابرُ في عبارةِ (فريد) التي تحوَّلَت إلى عنوانٍ يمثِّلُ في تقديري تجديدًا كبيرًا في مبدأ (بندقيّة تشيخوف) السرديّ الشهير، والذي صاغَه القاصّ والكاتب المسرحي الروسي (أنطون تشيخوف) صياغاتٍ مختلفةً، منها قولُه: "على الكاتبِ أن يتجنَّبَ وضعَ بندقيّةٍ عامِرَةٍ على المسرح إن لم يكن يَنوي أن تجيءَ لحظةُ إطلاقِها. فمن الخطأ أن يُعطِي المرءُ وُعودًا لا ينوي أن يَفِيَ بها."[35]

الخُلاصةُ أنّ هذا الضَّبط العلميَّ في الحدود التي يستخدمها مؤلِّفُنا في تخييلاتِه يَشِي برؤيةٍ خاصّةٍ لشاعريّةِ العِلم، فالحقائقُ والنظريات والفُروض العلميّة حُبلى باحتمالاتِ التخييل التي يَغفُلُ عنها كثيرٌ من المُشتَغِلِين بالأدَب لضعف علاقتِهم بالثقافة العلميّة، لكنّها حاضرةٌ بقوّةٍ لدى كاتبِنا.

الموسيقى - مِن بيتهوفن إلى شفرةِ العدَم:
تلعب الموسيقى دورًا بالغ الأهمية في الرواية. فهناك أوّلاً تشبيهاتٌ لبعض الأبطال في هيئتِهم بموسيقيِّين مشاهير، فمن اللحظة الأولى التي يَظهَر فيها (فكتور) يقول عنه كاتبُنا: "عندئذٍ جاءَ فكتور بجسدِه الضخم وشَعره الطويل ولحيته المشعثة التي تجعلُه أشبهَ بكارل ماركس أو يوهانيز برامز". وفضلاً عن مَحض التشابُه الجسديِّ، فإنّ للتشبيهِ بماركس دلالةً لا تخلو من سُخريةٍ على انتماء (فكتور) إلى الفكر الماركسيّ، أمّا تشبيهه بـ(برامز) فيُعطينا إيحاءً بذلك الجانب الرومانسيّ الشاعريّ من (فكتور)، فلا تلبثُ عينُ خيالِ القارئِ العارفِ بموسيقى (برامز) تَرَى (فكتور) راقصًا على موسيقى رقصات (برامز) المجَريّة التي تَفيضُ اندفاعًا وحياة. أمّا (فريد)، فلا ننسى وصفَ الصُّورة الفوتوغرافيّة التي قدَّمَها (أدهم درويش) لقائدِه للرفاق الستة، حيث يصف كاتبُنا هيئة (فريد): "يدخّن ولا يبتسم، بل تبدو في نظرته تلك الدرجة من الريبة والشك، كأنه يرتابُ فيمَن التقطَ الصُّورة، أو في كُلِّ مَن يشاهدُها، النظرة نفسها التي تميّز صُوَرَ بيتهوفن بعدَ صَمَمِه."[36]

ثمّ إنّ صَمَمَ بيتهوفن يُستَحضَر ثانيةً في حديث (فكتور) معلِّقًا على كلام (فريد) عن العُري الوجودي بمواجهة الموت المعلوم التوقيت والكيفية، كما في قرارات الإعدام والانتحار المُخَطَّط له. يقول (فكتور): "بيتهوفن بدأ مشروعه الموسيقي الحقيقي بعد صَمَمه. لكن السبب في رأيي لم يكن الصَّمَم، بل قراره بالانتحار بعد استفحال حالة صممه. بالفعل اتخذ قرار التخلص من حياته، لكنه تراجع لسبب واحد: إنه اكتشف انّه برغم الصَّمَم ممكن ينجح كموسيقار"[37].

هذه الإهابةُ بشخصيّة بيتهوفن وصَمَمِه تقرِّبُ الموقفَ الوجوديّ للفنّ – الموسيقى تحديدًا – من الموقف الوجوديّ لنشاط القتل عند أعضاء النادي، وهو ما يلخصُه (فريد): "باختصار: التراجُع عن الانتحار إما بيكون لإيجاد الأنا، زي بتهوفن، أو إعدام الآخَر، زيّنا إحنا، بدرجات وأشكال مختلفة للوجود والعدَم."[38] وهو ما يُحيلُنا إلى رؤية (سارتر) لطبيعة العمل الفنّي وموقفِه من الواقعيّة، وهي رؤيةٌ يمكن إيجازُها بقَدرٍ من التبسيط المُخِلِّ في أنَّ المتأمِّلَ في لوحةٍ تشكيليّةٍ مثَلاً يرى أحبارًا وأصباغًا على لوحةٍ بيضاء، وكلُّها أشياء واقعيّة، لكنّ فكرةَ اللوحة نفسَها أو المنظر الذي يرتسِم عليها هو شيءٌ غيرُ واقعيٍّ، وهو بالتالي عَدَمٌ، ومِن ثَمَّ فاللوحة شُبّاكٌ على العَدَم، ويَصدُقُ الأمرُ على المستمِع إلى سيمفونيّة لبيتهوفن، حيثُ هو مُحاطٌ بالأشياء الواقعيّة من مسرحٍ وجوقةٍ وآلاتٍ وموجاتٍ صوتيّةٍ تشقُّ طريقَها إلى أذنيه عبرَ المادَّةِ، لكنّ فكرة السيمفونية نفسَها ومعناها المنفلِت من قبضةِ الإدراك الحِسّيّ هو أمرٌ غير واقعيٍّ، فهو الآخَر عَدَم[39].

وإذَن، فالفنّ عند سارتر كالانتحار والقتل لدى أبطال روايتِنا. يهربُ الفنّانُ من واقعِه في عملِه الإبداعيِّ، ويُطِلُّ مِن خلالِه على العدَم، ثُمّ يَعرِضُه على المُتلقّي الذي يجدُ فيه هو الآخر نافذةً على العدم، فكأنّ الفنان يَقتلُ مُتلقِّيَه بشكلٍ ما. وكذلك أعضاءُ النادي، أوجدوا لأنفسِهم نوافذ على العدم، وقتلوا أرواحَهم في البداية، ومِن ثَمَّ تحوَّلُوا إلى قَتَلَةٍ يُلقُون بالآخَرين في العَدَم. ومِن ثَمَّ يُمكِنُنا النظرُ إلى سيرة الرفاق السِّتّة باعتبارِها سيرةَ ستةٍ من الفنّانين المُخلِصِين للفَنّ، وهو ما يَفتَح البابَ واسِعًا لإعادة النظر إلى حديثِ (فريد) عن عبثيّة الحديث عن الأخلاق بالنسبة للمُنتحِر، باعتبارِه حديثًا عن عبثية الحُكم الأخلاقيّ حالَ النظرِ إلى الفنّ، فالانتحارُ والفنّ كلاهما نافذةٌ على العدَم طِبقًا لهذا التحليل.

كذلك يَبسُط لنا (فريد) شيئًا من نظريّته الجَماليّة خلالَ حديثِه مع (سلمى) حين تسأله "وانت بتنظر لي كجَسَد؟"، حيثُ يقول: "أنتِ فيكِ مجموعة من النقائض المتآلفة زي أي عمل فنّي فائق الجَمال. والجَمال الحقيقي مش هو القائم على التناسُب والتناظُر زي تماثيل الإغريق أو موسيقى موتسارت، لأنها بعد فترة قصيرة من التلقّي بتبقى مملّة ومكررة. الجَمال الأعمق هو المركَّب، وهو اللي بيتضمّن توفيق التناقُضات في وحدة أعلى، وبيفضل محور التأليف بين النقائض فيه دايمًا محَلّ للاكتشاف. أنا بانظُر لك كِدا، يعني مش بس جسَد."[40]

وفي هذا الحديث ما يُلمِحُ – أو هكذا نظُنُّ – إلى اتّجاهٍ شيطانيٍّ في الفنّ بدرجةٍ ما، فرغمَ أنّ توفيقَ التناقُضات في وحدةٍ أعلى هو عملٌ إلهيٌّ بالأساسِ يُمكنُ أن نشهَدَه في كثيرٍ مِن مَجالي الطبيعة، إلاّ أنّ الوعيَ الجمعيَّ الإنسانيَّ ينسُبُ عادةً إلى صنيعةِ اللهِ صِفاتِ التناسُب والتناظُر، ولعلّها ليسَت صُدفَةً أنّ جُمهورَ (ڤولفجانج موتسارت) قد سّمّاه (أماديوس Amadeus) أي عَطِيَّةَ الرَّبّ. وعلى كُلّ حالٍ فهذا المَلمَحُ الشيطانيُّ يتوافَقُ مع كُلّ ما أتى به (فريدٌ) من نظريّاتٍ تتعلّق بالثورة الرأسية على السّماء. لكنّ الدورَ الأكثرَ فَرادةً الذي تلعبُه الموسيقى في الرواية هو كونُها أساسَ الشفرة التي ابتكرَها (فريد) لتواصُل أعضاء نادي الانتحار، حيث يستعينُ ببرنامجٍ حاسوبيٍّ يحوّل الضغطة إلى نغمةٍ ثم إلى كلمات، معتمدًا على توقُّع هذا البرنامج لتطوُّر اللحن كما لو كان مؤلِّفُه هو (شوبرت). وبعد وصفٍ موغِلٍ في تفاصيل تقنية متعلقة بأنواع الشفرات وميزة هذه الشفرة تسأله (يُمنى): "كيف تعرفُ كلَّ هذا؟" فيجيبُها: "طوَّرتُ هذه الشفرةَ لكتابةِ أجزاءَ معينةٍ من مذكراتي"[41].

هنا نجِدُ أنفُسَنا إزاءَ نظامٍ شفريٍّ يستعينُ بالفنّ، ليخدُم جماعةً تمارسُ نشاطَ القتل وفي خلفيّة نشاطِها استعدادٌ دائمٌ للانتحار. أي أننا – بحسَب ما أسلَفنا ذِكرَه عن رؤية سارتر للعمل الفنّيّ- أمام شفرةٍ من العَدَم تَخدُمُ جماعةً مِن "رُوّاد العَدَم" حسبَ تعبير (فريد). والأهمُّ من ذلك أنّنا أمامَ إنسانٍ – فضلاً عن زُهدِه في الاجتماع البشريّ- هو مسكونٌ بالعَدَم، لدرجةِ أنّه يَكتُبُ جزءًا من مذكّراتِه بالموسيقى، أي أنه يكتبُها بالعَدَم!

لغة الحِوار في الرواية:
تميّز الحِوارُ بتأَرجُحِه المستمرّ بين الفصحى والعامّيّة بمستوياتِهما المختلفة. ولعلّ هذا واضحٌ في الفقرات التي اقتبسناها آنِفا. وهكذا، يمُدُّ كاتبُنا التبايُن اللسانيّ Heteroglossia الواضحَ في اختلاف طريقة كُلّ شخصيّةٍ في التعبير عن أفكارِها بالكلام، يمُدُّه إلى مستوى الجُملة الواحدةِ التي تَنطِقُها شخصيّةٌ واحدة. والتبايُن اللسانيّ مفهومٌ دفعَ به (ميخائيل باختين) في حديثِه عن الخطاب في الرواية، وعرَّفَه بأنّه "وجهاتُ نظرٍ محددةٌ مختلفةٌ إلى العالَم، وأشكالٌ من تصوُّر العالَم في كلماتٍ، يتميز كلٌّ منها بأشيائه ومعانيه وقِيَمِه الخاصّة."[42]

هكذا، هناك (لغةٌ) خاصّةٌ بـ(هيثم)، فيها تعبيراتُ أولاد البلَد، نجدُ ذلك حين يعلّق على حديث (فريد) عن ضلالة تبدُّد الحقيقة لأول مرّةٍ، فيقول: "الصلاة ع النبي!"[43] وهناك لغةٌ لـ(سلمى) تتميز باقتضابِها على طُول الخطّ، كأنها طفلةٌ لا تعرفُ كيفَ تركّبُ جُمَلاً أطول، فضلاً عن عباراتها المتكررة، مثل عبارة "ممكن أدخل؟" و"هوّ انا ممكن أبوسك؟"، كأنها تتسلل في نعومة أفعوانيّة إلى شركائها من الرِّجال، حتى تقتُلَهم أو يقتلوها (وهو ما حدث على يد منصور في النهاية). وهناك لغةٌ لـ(فريد)، يسترسلُ فيها طويلاً جِدًّا، ويقسّم موضوعاتِه إلى نقاطٍ محددةٍ تتميز بالترابُط المنطقيّ بدرجةٍ كبيرةٍ، كأنها لغة باحثٍ فلسفيٍّ لا يَصدُر في أقوالِه إلاّ عن طُول رَوِيَّة، وهكذا.

أمّا هذا التأرجُح بين الفصحى والعامّيّة، فهو في تقديري يبدو مُعادِلاً لغويًّا لذلك التأرجُح المستمرّ للأبطال بين الوجود والعدَم، فالعامّيّة هي وجودُهم الملموسُ الواقعيُّ الذي يصعُبُ أن يُنكِرَه الحِسُّ المُشترَك، والفُصحى هي المستوى اللغوي غير الواقعيّ، كأنها هي الأخرى عملٌ فنّيٌّ أو نافذةٌ على العَدَم كالانتحار الذي يحملونه في طوايا ثيابِهم، وخلفيّات أفكارِهم طِيلةَ الوقت. هكذا يخطو كريم الصيّاد خطوةً أوسَعَ بتوظيف التبايُن اللسانيّ ممّا اعتدناه في الأدَب.

تناصّات الرواية والميتاسَرد:

من السِّمات المعروفة للأدب المُحِيلِ إلى ذاتِه (الميتا-سَرد Metafiction) أنّه يشيع فيه التناصُّ Intertextuality بدرجةٍ كبيرة، وهي سِمَةٌ متحققةٌ هنا بقوّة. ولعلّ كثرةَ التناصّات تستدعي مقالاً منفصلاً أو دراسةً أطولَ بكثيرٍ للرواية، فالمؤلّف يتناصّ مع أفلام سينمائيّة ورواياتٍ وشِعرٍ وغير ذلك، كما يُحيلُنا إلى حقولٍ معرفيّةٍ عديدة. لكن، ربما أكثر التناصّات لفتًا للانتباه ذلك التناصُّ مع أمل دنقل في الجزء المعنوَن (تفكيك أمَل دنقُل) من الفصل التاسع (الدوائر)، تحديدًا مع (أوراق الغرفة رقم 8)، حيث يقول (فكتور) ضمن قصيدتِه التي تُعيدُ بناءَ قصيدة دنقل: "واحدٌ من جنودِكَ يا سيِّدي سوفَ يكفي الشياطِينَ فينا الكِفاحا" كما يقول: "فالمَلاكِيُّ يا سيِّدي يتَّقِي في الذي لَم يَكُنهُ اثنتَين: القصيدةَ ثُمَّ المُباحا!". ثم يعمد (فريد) إلى سطورٍ متفرقةٍ لدنقل ليكشِف عمّا يعبّر عنه بقولِه: "خطاب أمَل سياسي واضح، لكن مضمونه في رأيي عدَمي". ويقول: ""اغرِس السَّيفَ في جبهةِ الصحَراءِ إلى أن يُجِيبَ العَدَم" دا مشروع انتقام دمَوي، ماحدّش حيَبقَى في نهايته". ويعلّق (فكتور): "يعني بمصطلحاتنا: أمَل في الظاهر ثائر أُفُقي، لكنه في الحقيقة ثائر رأسي، معركته الأساسيّة مع السَّما. حتى بيقول "خُصُومَةُ قَلبي معَ اللهِ لَيسَ سِواهْ".[44]

يبدو لي أنّ هذه الرؤية لشِعر أمل دنقل هي الأجرأ على الإطلاق، وذلك أنّ انتشارَ تقدير شِعر (أمل دنقل) بين المثقَّفِين العرَب قد أتى في الظاهر على أرضيّةٍ من الاعتقادِ الواسعِ في ثوريِّتِه (الأفُقيّة) السياسيّة، مع تأويلِ تلك الإشاراتِ التي تحدَّثَ عنها (فريد) و(فكتور) بحيثُ لا تَخرُجُ عن لحظاتٍ من اليأس من إحداثِ تغييرٍ إيجابيٍّ في العالَم. أمّا هُنا، فقد نفذَ المؤلِّفُ عَبرَ بطلَيه إلى قلب العدَميّة/ الشيطانيّة الكامنة في مُنجَز (دنقل) الشِّعريّ. وهو يظلُّ الشاعرَ الأثيرَ لنادي الانتحار إلى النهاية، فنَجِدُ (منصورًا) يقول لـ(فكتور) قُربَ النهاية: "أنا قررت إنّ المَجد يكون للشيطان فعلاً. وها كوّن جماعة بهذا التوجُّه بعد سَفَرنا" متناصًّا مع سطر شِعري معروف لدنقل "المجدُ للشيطانِ مَعبُودِ الرِّياحْ. مَن قالَ لا في وَجهِ مَن قالُوا نَعَمْ".[45]

أمّا التناصّ الآخَر المهمُّ فهو مع قصيدة (روبرت فروست) المعنوَنة "الوقوفُ في الغابة في ليلةٍ ثلجيّة Stopping by Woods on a Snowy Evening"، وتحديدًا مع الأسطُر الأشهر منها:

The woods are lovely, dark and deep,
But I have promises to keep,
And miles to go before I sleep,
And miles to go before I sleep
.

تدخل (يُمنى) إلى مكتبة (فريد) لتجد على الحائط عبارةً منقوشةً على الجدار: "ولكنّ عندي كَونًا يَجِبُ أن يَنفَدَ، وقيامةً يَجِبُ أن أُنجِزَها، قبلَ أن أنامَ في العَوالِمِ الفارغة."[46]

هنا يحرِّفُ (فريد) الأسطُر الثلاثة الأخيرة من قصيدة (فروست) كما يقولُ بنفسِه. والمهمُّ أنّ جوّ قصيدة (فروست) الحالِمَ، الذي ينتزِعُ فيه الشاعرُ نفسَه بصعوبةٍ من مشهد الغابةِ الساحِرِ، إلى حيثُ ينبغي له أن يذهبَ مُنجِزًا وعودَه، يتحوّل مع (فريد) إلى وعدٍ دمويٍّ تدميريٍّ بالعَدَم، فهو يأخذُ على عاتقِه أن يُنفِدَ الكونَ ويُنجِزَ القيامةَ، في انسجامٍ مع دَورِه الذي يرى فيه نفسَه كرسولٍ عكسيّ. وحتى على مستوى الموسيقى، نَجِدُ أنّ قصيدةَ (فروست) على الوزن الإيامبيّ الرُّباعي Iambic Tetrameter بينما تأتي عبارةُ (فريد) نثريّةً مُخَلخَلَة. صحيحٌ أنه في الرواية ليس شاعِرًا، وإنما (فكتور) هو الشاعر، و(فكتور) هو مَن يصوغ القصيدة الموزونة كما يصوغ قصيدةَ النثر، إلاّ أنّ هذا في رأيي يندرِجُ ضِمنَ حِيَل السَّرد الظاهرة، وفي مستوىً أعمقَ من التلقّي يبدو الانحلالُ الإيقاعيُّ لعبارة فريد مُعادلاً إيقاعيًّا لرغبتِه في التدمير والإعدام، كأنه ينثُر قوالِبَ هذا البناء الشِّعريِّ في أركان الصفحة في عُنف. وهي ليست صُدفةً بالطبع أنّ المؤلّف اختارَ هذه العبارةَ لتكونَ أحدَ عبارَتَين صَدَّرَ بهما روايتَه.

أمّا العبارةُ الأخرى فهي مظهرٌ آخَر جليٌّ مِن مظاهر الميتا- سَرد، وتأتينا بين معقوفَتَين: "جميع الشخصيات والأحداث الواردة في هذا العمل محضُ خَيال، ولا علاقة لها بالواقع، وأي تشابُه مع الواقع هو مصادفة خالصة"! هذا التنويهُ مكتوبٌ بالنص ضمن حديث سمير عيّاد/ أدهم درويش إلى (فريد) عن بُرهان المُحاكاة، وهو يحاولُ إقناعَه بأنّه قد عَثَرَ على دليلٍ دامغٍ على زَيفِ عالَمِنا. وفي الحقيقة، فإنّ فكرة المُحاكاةِ تتراسَلُ وتلك الإحالات الميتا-سَردِيّة إلى مَتن الرواية لتقوِّيَ فكرةَ زَيفِ هذا العالَم، فكما أنَّ الروايةَ محضُ عَدَمٍ، فعالَمُنا على وجهِ الحقيقةِ هو الآخَرُ مَحضُ عَدَمٍ، ولعلّ الوجودَ الحَقيقيّ/ السماء الحقيقية محتجِبٌ في مكانٍ آخر. 

ختام: مكان الرواية في المُنجَز الأدبي لصاحبِها:
هذا المَدخَل هو الآخَر يقترحُ دراسةً طويلةً، نظَرًا للثَراء الاستثنائيّ لهذا العمل الأدبي ولما سَبَقَه من أعمالٍ أدبيةٍ لكاتبِنا. إلاّ أننا نكتفي بإيراد مقطوعةِ شِعرٍ من ديوانِه (الأمر)، وهو عمله الأدبيّ الأوّل: "أغرقُ في الماءْ. لَم يأتِ نَبيٌّ قَبلي إلا ومَشَى فوقَ الماءْ. لكن مُعجِزَتي غَرَقي. غَرَقي حتى عُنُقِي. لِيَعُودَ الماءُ شفيفًا، بصَفاءٍ، بصفاءٍ، بصفاءْ"[47]

هنا نجدُ بذرةً أولى لفكرةِ النبوّة المعكوسة، فبدلاً من المشي على الماء كما فعلَ أصحابُ الكرامات وخوارقِ العادات، يغرقُ شاعرُنا تماما. إنه لا يطمَحُ إلى أي شكلٍ من أشكال التعالي على الواقع، إلى وجودٍ ثابتٍ مُفارِقٍ لعالَم الصَّيرورة، وإنما يُلقي بنفسِه في خِضَمِّ هذه الصَّيرورة حتى تبتلعَه، ويعود الأمر بعد ذلك كأنّه لم يَكُن. ولعلّ هذا ما يَحدثُ بالضبطِ لـ(فريد) في هذه الرواية، فهو بعد أن اعترفَ بمعاينةِ الحقيقةِ المُطلَقَةِ والوجودِ التّامِ – خلالَ حديثِه عن المقام الأعلى من مقامات الحشيش- يَنكُصُ على عَقِبَيه، ويقررُ أنَّ مِن حَقِّه ألاّ يتألَّمَ هذا الألَمَ في معرفةِ الله والانسلاخِ من مراتب الوجود الزائف، فيُلقي بنفسِه في صيرورتِه الدمويّة المدمِّرة، ويأخذ بيَد الآخَرين حتى يفعلوا مثلَ ما فعل. وحِين يُخايِلُهُ الوجودُ الحقيقيُّ مِن وراء الغُيوم في بداية تبدُّد الحقيقة/ تبدُّد الزَّيف، يُطارِدُ هذا الوُجودَ مُستيئسًا، إلى أن يموت في حادثِ سَيرٍ في إيران، ولا نعلمُ من الروايةِ كيفَ انتهى، وهل هو حادثٌ فعلاً أم اغتيالٌ مُدَبَّر. إنه يختفي كما يختفي شاعرُ ديوانِ (الأمر)، لتعود الصيرورةُ مُسَيطِرَةً على العالَم، ويعود رفاقُه إلى عبادتِها متجسِّدةً في الشيطان.

 

[1]  Schokel, Luis Alonso and Jose Maria Bravo. A Manual of Hermeneutics (Biblical Seminar). Trans. Liliana M. Rosa. Brook W. R. Pearson (Ed.). Sheffield: Sheffield Academic Press, 1998

[2] فلسفة الفّن في الفكر المعاصر – د.زكريا إبراهيم – الفصل العاشر – ص 219-220- مكتبة مصر – طبعة سنة 1988.

[3] نادي الانتحار – كريم الصياد – ص 411- نيوبوك للنشر والتوزيع 2020.

[4] المصدر السابق – ص 140.

[5] The Bible – New International Version – The New Testament – Mark 6: 21-29, Mark 14: 6-11.

Josephus, Flavius (October 1, 2001). Antiquities of the Jews. Via Project Gutenberg.

[6] نادي الانتحار – ص 345-353.

[7] المصدر السابق ص 20، ص 79.

[8] المصدر السابق – ص 402.

[9] نادي الانتحار ص 384.

[10] Nietzsche: The Manand His Philosophy, by R.J. Hollingdale (Cambridge University Press 1999)

[11] تفسير القرطبي – سورة الإسراء – الآية 33 – quran.ksu.edu.sa

[12] Encyclopedia Iranica (Iranicaonline.org): Entry: Feredun.

[13] نادي الانتحار – ص 239.

[14] نادي الانتحار – ص 54 - 55

[15] المصدر السابق – ص 112.

[16] المصدر السابق – ص 55.

[17] المصدر السابق – ص 60.

[18] المصدر السابق – ص 187.

[19] Tetrahydrocannabinol

[20] نادي الانتحار – ص 125-126.

[21] نادي الانتحار – ص 73.

[22] نادي الانتحار – ص 165.

[23] نادي الانتحار – ص 64.

[24] نادي الانتحار – ص 163.

[25] Heraclitus and Iran – Jacques Duchesne-Guillemin – History of Religions – Volume 3, Number 1.

[26] Nietzsche - Ecce Homo, GT3

[27] نادي الانتحار – ص 407.

[28] نادي الانتحار – ص 274-275.

[29] نادي الانتحار – ص 170-171.

[30] نادي الانتحار – ص 413- 414.

[31] نادي الانتحار – ص 63.

[32] نادي الانتحار – ص 320.

[33] نادي الانتحار – ص 317.

[34] Hawking, S. W. (1974-03-01). "Black hole explosions?". Nature. 248 (5443): 30–31.

[35]Leah Goldberg (1976), Russian Literature in the Nineteenth Century: Essays, Magnes Press, Hebrew University, p. 163.

[36] نادي الانتحار – ص 238.

[37] نادي الانتحار – ص 330.

[38] نادي الانتحار – ص 331.

[39] فلسفة الفن في الفكر المعاصر – د.زكريا إبراهيم – الفصل التاسع – ص 194-215.

[40] نادي الانتحار – ص 206.

[41] نادي الانتحار – ص 99.

[42] Bakhtin, Mikhail; Emerson, Caryl (translator); Holquist, Michael (ed) (1981).The Dialogic Imagination: Four Essays by M.M. Bakhtin. Austin: University of Texas Press. p. 291

[43] نادي الانتحار – ص 192.

[44] نادي الانتحار – ص 258 – 263.

[45] نادي الانتحار – ص 407.

[46] نادي الانتحار – ص 311.

[47] ديوان (الأمر) – كريم الصياد – دار (اكتُب) – 2007.