يعود الكاتب المصري هنا إلى مجموعة كبيرة من الكتابات المنسية لكاتبنا الكبير، وهي مقدماته لمجلة «المجلة» التي رأس تحريرها لسنوات طويلة، فيجد أنها مترعة بعطاء يستحق الأهتمام به، ولازال بعد مرور أكثر من نصف قرن على كتابة قادرا على كشف الكثير مما نعيشه الآن.

إبداع منسي للأديب الكبير يحيى حقي

مقدمات مجلة «المجلة»

صلاح معـاطي

 

بالنظر إلى إبداع كاتبنا الكبير الراحل الأستاذ يحيى حقي سنجده إنتاجا محدودا من حيث الكم، خلال رحلة حياته الطويلة التي تجاوزت السابعة والثمانين، فلم تزد عن ثمانية وعشرين كتابا فقط. لكن هذه الكتب تعتبر هي خلاصة الأدب والإبداع العربي، حيث نجد فيها القصة القصيرة كما في مجموعاته (دماء وطين) و(عنتر وجولييت) و(أم العواجز) و(الفراش الشاغ)ر، والرواية كما في روايات (قنديل أم هاشم) و(البوسطجي) و(صح النوم)، وروايته السيرية (خليها على الله)، والكتابات النقدية كما في كتابه القيم (خطوات في النقد)، ودراسات في القصة كما في كتب (فجر القصة المصرية) و(أنشودة للبساطة)، وعن السينما كتب كتابه (في السينما)، والمقالات المسرحية في مدرسة المسرح، وفي الشعر كتب (هذا الشعر)، وعن فن العمارة والفنون التشكيلية كتب في (محراب الفن)، وفي أدب الرحلات كتب (حقيبة في يد مسافر)، وعن الموسيقى كتب (تعال معي إلى الكونسير). وفي الفن الشعبي كتب (يا ليل يا عين). وفي التاريخ كتب (صفحات من تاريخ مصر). وفي الكتابات الدينية كتب (على فيض الكريم).

كل فرع من هذه الأفرع هي ساحة ممتدة من الإبداع ولجها كاتبنا الكبير بعمق ووبساطة في آن واحد. حتى في مقالاته التي تناول فيها الشخصيات والحياة كما في (ناس في الظل) و(كناسة الدكان) سنلاحظ أنها كتبت بأسلوب قصصي أسماه هو "اللوحة" تقترب مما يسميه البعض الآن ومضة، لكن لوحات يحيى حقي بلغت من العمق والصياغة والأسلوب واللغة ما تشبع نفس القارئ النهمة إلى المعرفة التمتع بجماليات الكتابة الأدبية.

فيحيي حقي المولود بدرب الميضة بالسيدة زينب. والذي تربى بين هؤلاء البسطاء والكادحين والأرزقية من أهالي هذا الحي العريق. المتجول في أنحاء الحي وعلى أعتاب المقام .. المتأمل لوجوه الناس الآتية والذاهبة يلتمسون الخير والبركة .. المتابع لأدعية زوار البيت وتمتماتهم وخزعبلاتهم وأحاجيهم ومعتقداتهم الموروثة. هذا يقصد البيت ليبتغي حجابا يحفظه من عيون الناس، وهذه تأتي إلى المقام لتتلمس طريق ابنها الغائب، والأخرى تأتي لتعمل عملا لا ينفك أثره لكي يعود بالوبال على زوجها الذي تزوج عليها، وجلب إلى الدار ضرة لتنكد عيشتها .. وهكذا. لقد تأثر يحيي حقي بهذا الجو الذي ارتبطت فيه الأسطورة بالموروث الشعبي ونشأ مشبعا بأريج المكان وعبقه، وصار في حياته مدفوعا بهذا العطر الذي جمع من حوله الأحباب.

ومن السيدة زينب بدروبها وأزقتها وحاراتها، انطلق يحيي حقي إلى أقصى الصعيد بقراه البعيدة، وأهله الفقراء يتجول في الطرقات فيرى وجوه الكادحين القانعين برحلة الحياة. تلك الوجوه التي لا تفارقها الابتسامة بالرغم من شظف العيش. فيعيش يحيي حقي بين الفلاحين فيأكل سريسهم ويشرب شايهم. يشاهد بعينيه الفقر وهو يتعانق مع الجهل والتخلف. ويستمع إلى أغانيهم ويستعذب ألحانهم ويتألم لألمهم ويتعرف على معتقداتهم وأفكارهم. لتتغلغل إلى نفسه موروثات وأساطير جديدة يصارعها بفكره وعقله وثقافته.

ويرتحل يحيي حقي من خلال عمله الدبلوماسي إلى بلاد أخرى أكثر تقدما ورقيا ومدنية. باريس وروما واستامبول. فيتجول في المعارض والمسارح، ودور السينما والأوبرا، ويلتقي بالموسيقى الصاخبة، والفنانين التشكيليين في الميادين العامة يعرضون لوحاتهم وتماثيلهم. لم يصدم يحيي حقي فطبيعة الحياة جعلته يتأمل فقط. يختزن ويقارن. فالصراع داخله لم يكن صراعا بين فقر وغنى، ولا بين تقدم وجهل، ولا بين علم و إيمان.

لم يتأثر برهبة التقدم والمعمار ولم يهزه بريق المدنية الحديثة، فالصراع الأزلي الذي كان يشغله هو صراع الإنسان مع غرائزه ورغباته المكبوتة ومغريات الحياة. فماذا يفعل هذا الصعيدي الفقير البسيط الذي يسعى من أجل سد رمقه لو وجد نفسه وسط باريس وشاهد بعينيه العمارات الفارهة السامقة. والأضواء المبهرة المنبعثة من المحلات. والنساء العاريات وصرخاتهن المثيرة. وصراع الإنسان مع غرائزه صراع أبدى ودائم. إنه صراع الحياة اليومية. هذا الصراع سوف يكشف لنا أشياء كثيرة لو تأملناه.

وأتذكر كلمات الأستاذ فؤاد دوارة عندما أخبرني أن هناك مقالات ليحيى حقي لم يتم العثور عليها ولم يضمنها في كتبه الثمانية والعشرين الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وبدأت أبحث في المجلات القديمة الصادرة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، كالسياسة، والمحاماة، ومجلة الجيل، وغيرها. حتى امتدت يدي إلى أعداد مجلة "المجلة" التي كان يرأس تحريرها الأستاذ يحيى حقي، كان لدي في مكتبتي بضعة أعداد منها، لكن لابد من باقي الأعداد، ذهبت إلى دار الكتب والوثائق القومية، وكنت أظن أنني اخترت الطريق السهل، لكن ما أصعبه، وأصعب ما فيه محاولة تحديد موعد مع مسؤول واللقاء به لإقناعه بإعطائك نسخة من أعداد مجلة المجلة، حتى عثرت على جميع أعداد المجلة، بل ومقالات في مجلات أخرى، وبدأت أقلب صفحاتها، بالرغم من بساطة غلافها الذي لم يزد عن اسم (المجلة) بالخط الأندلسي، لكنني انبهرت بالأسماء التي جاءت لتشارك بأقلامها:

الأستاذ فتحي رضوان وزير الثقافة في ذلك الوقت والمؤرخ حسين فوزي والناقد عبد الحميد يونس والفنان المصور أحمد نجيب والناقد الكبير محمد مندور والمعماري حسن فتحي والأستاذ المترجم عبد العزيز الأهواني والناقد الدكتور صبري حافظ الذي التقيت به ذات مرة في بيت يحيى حقي. وغيرهم. وبالطبع على رأس هؤلاء الأستاذ يحيى حقي. وبدأت أتابع مقالاته الواحدة تلو الأخرى.

أنا أمام كنز حقيقي من الأدب والثقافة والإبداع، فإذا كان الحديث عن القصة من ماضيها إلى مستقبلها، من زينب محمد حسين هيكل إلى محمد كامل حسين صاحب رواية (قرية ظالمة)، ثم يتحدث عن الجيل الحاضر يقصد عام 1957 فيقول: أما الجيل الحاضر فإني أراه أكثر منا وعيا وأشد اهتماما برسالته، فهذا الجيل يواجه مشكلة مزدوجة انتهاء عهد السطحية والثقافة الضحلة والأخذ من كل فن بطرف. وينظر يحيى حقي إلى أن الكاتب عليه أن يعيش في مستوى عالمي، وفي نفس الوقت لا يفقد صلته بوطنه وأهله، مع الاهتمام باللغة العربية والاتجاه نحو تجديد الأسلوب والبعد عن الهزل والغموض. ويطالب بالاهتمام بالشخصية المصرية في القصة والرواية. فقد رفض هذا الجيل رفضًا حاسمًا تقبل العامية، وتمسك بالفصحى وعمل على تطويعها لمطالب العصر الحديث. في ظل تجدد اللغة ازدهر الشعر من جديد واستقام لنثر أسلوب متحرر من الزخارف، ثم ظهر أدب مصري صميم يعبر عن ضمير الأمة.

ومن أقواله: من البديهيات المسلم بها أن اللغة هي وعاء الفكر، ولا نهضة للفكر إلا إذا سبقتها، أو على الأقل صحبتها نهضة للغة، وإلا تبدد كل تقدم وبقي شتاتًا لا ينبع من مصدر مترابط واحد، هو ضمير الأمة، وظل العلم عارية لا ملك اليد. حتى باب أسئلة القراء الذي كان يتندر به على (المقتطف)، فوجدت فيها قصصا لا تخلو من فكاهة وخفة ظل عن أصحاب الكرامات الذين يقبضون أيديهم في الهواء ويفتحونها محملة بما لذ وطاب، ثم يتحسر على حال (المقتطف) بعد أن شاخ وتدهورت حاله ولم تنفعه حقن تجديد الشباب.

ثم يستعرض يحيى حقي بعض المجلات الدينية في استشراف خارق لما يمكن أن يحدث مستقبلا عندما يتولى أمر هذه المجلات رجال لا يعرفون الفرق بين المذاهب الأربعة، ولا بين الألف والمئذنة، يعتمدون في عرض مادتهم على أنماط متشابهة من تفسير سطحي للآيات القرآنية وشرح للحديث ومتابعة السيرة النبوية. ولم ينس يحيى حقي باب أسئلة القراء في هذه المجلات أيضا، والتي اعتادت على عرض أسئلة من نوعية حد تحريم زواج الإخوة بالرضاعة، وهل هي رضعة واحدة أم اثنتان أم ثلاث؟ وكذلك مشكلات الميراث، والطلاق. وأنتقل إلى مجوهرات كاللآلئ ومنها مقالات عن القراءة وأهميتها وكيف ننمي عادة القراءة لدينا، ثم لمن يكتب الكاتب؟ وعن بعض كتاب القصة العربية وغيرها من المقالات المهمة لقارئ اليوم وغدا مثلما كانت مهمة لقارئ الأمس "عصر يحيى حقي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي".

وأتوقف عند مقالة تحمل عنوان "طلائع القصة القصيرة" يتحدث فيها عن جيل من الشباب من كتاب القصة القصيرة يفرد لهم عددا خاصا لنشر إبداعاتهم، وليس هذا فقط، بل ويكلف نقادا كبار لكي يكتبون عنهم وعن قصصهم، فمن يكونون هؤلاء الطلائع؟ الكاتب محفوظ عبد الرحمن، والطالب بالسنة الأولى الجامعية وحيد حامد، ومحمد حافظ رجب، ومحمد إبراهيم مبروك وعبد الحكيم قاسم وغيرهم. وعن شروط كتابة القصة يقول يحيى حقي: القصة التي تعلق بها قلبي هي التي:

  1. تضيف جديدًا بأن تكشف عن بعض جوانب النفس نحن في غفلة عنها، أو نراها ولا نفهمها، أو نفهمها ولا نستطيع التعبير عنها؛
  2. تنقلنا من الصورة الجزئية المباشرة إلى المعنى الكلي وراءها، هي التي تكشف سريرة الأشياء كما خلقها الله لا كما تبدو للعين فحسب؛
  3. ننفذ من خلالها إلى روح الكاتب نفسه لنعلم من أي معدن هي؛
  4. تأنف من الأنانية، فلا تكتفي بأن الإضافة للعلم غاية في ذاتها، يتم بها كيانها ونفعها وحقها في البقاء، بل لاتترك هذه الغاية معلقة في فراغ، ولكن تربطها بهموم مجتمعها؛
  5. تكون أنيقة مهذبة، فلا تكون عامية الذوق في اختيار مواضيعها وأسلوبها حتى في معالجتها لظواهر العامية ودلالاتها، بل حتى في وصفها ومحاولة اعطاء صورة صادقة لها؛
  6. تكون من حيث الصنعة متقنة، متوازنة، لها ايحاء يزيد ويعلو على جماع ألفاظها، وسنرى مطالب هذه الصفة فيما بعد.

حتى المقالات التي تتناول نكسة يونيو 67 كيف تلقاها يحيى حقي وكيف كتب عنها؟  خاصة وأنا عشتها ورأيتها رأي العين ولكن بعيني طفل صغير لم يتعد الثامنة من عمره. لكن أتاحت لي مقدمات مجلة (المجلة) معرفة ما كتب يحيى حقي في هذا الموضوع من خلال عدة مقالات وأتوقف عند جملة عبقرية ولها الكثير من المدلولات ويختلف عما كتب عن النكسة من قبل ومن بعد: أمتك الآن ليست في حاجة إلى زهرة في شجرة، بل إلى ظفر في مخلب، إلى ناب في فك.  ومن هنا أود أن أؤكد على الروح القومية والوطنية التي كان يتحلى بها الأستاذ يحيى حقي فيقول:

أصبحت مصر تلتفت للأمام وتمشي مع ركب الحضارة، بدأت عهد الانطلاق بعد التحول. اندفع تيار له هدير، يجذب ويجر إليه كل روافده. لن يغتاله من بعد مستنقع، يكفينا للاطمئنان عليه أن مصر عدلت عن الاكتفاء باستيراد الجهاز وحده إلى استيراد العلم الذي صنع هذا الجهاز، ثم إلى حيازة هذا العلم حيازة المالك المتصرف، لا المستعير، ستقود البلد عقلية علمية تظهر آثارها في جميع الميادين.

وعن العلاقة الغامضة بالولايات المتحدة وهتاف ثورة 19 باسم الرئيس ويلسون الذي أعلن مبادئه الـ14 التي أسست للمثالية ونبذ الحروب والعيش في سلام، ولكنه في نفس الوقت يؤكد الحماية البريطانية على مصر، ثم التعاطف غير المحدود مع الكيان الصهيوني. كنا نحسبها بفضل انتزاعها لاستقلالها من يد الاستعمار وتحللها من ارتباط أوربا بهذا الاستعمار أنها ستكون نصيرة للحرية والتقدم. كما نحسب أنها ستضرب المثل، بفضل رخائها المادي الهائل، لا على أن القوي هو الأقوى على الظلم، بل هو الأقوى على العدل، إذ لن يصيبه منه أذى أو ضرر، كنا نأمل في هذا الرخاء المادي- أي النجاة من العوز- أن يفسح المجال لنضوج روحي وخلقي تندب إليه بحبوحة من نعمتين، وفرة العلم ووفرة المال.

ولنختصر هذا التاريخ فنقفز إلى موقعنا معها بعد بدء الحرب الباردة، أيضًا وقفنا معها موقفًا شريفًا، انتهجنا سياسة الحياة الإيجابي، لم ننضم إلى كتلة خصومها، لم نمنحهم قاعدة حربية تستخدم ضد الولايات المتحدة، وبقاء على صداقتنا لها، فعلنا هذا وهي التي أقامت إسرائيل وسط أراضينا. لتكون حربًا علينا، تعرقل تقدمنا، أقامت الولايات المتحدة ميزانا- ويا شؤم هذا الميزان- ووضعت إسرائيل في كفة، والأمة العربية كلها في كفة، وليتها ابقت نوعًا من الاعتدال بين الكفتين، ولكن لا، شالت كفة وهبطت كفة، التأييد كل التأييد لإسرائيل.

وفي تحليله  لكتاب الحرب مع إسرائيل لفتحي رضوان يقول: ينصحنا المؤلف بأن نتزن فلا نستهين بإسرائيل ولا نبالغ في التهويل من شأنها، لذلك فهو يخشى من أن تؤدي حركة "اعرف عدوك" إذا لم توضع لها حدود حكيمة إلى تبدل شعور العرب من الكراهية إلى الألفة والقبول.

ونلاحظ أن جميع المقالات، يغلب عليها الطابع القصصي ولا سيما رسم الشخصيات فيقوم برسمها بحرفية داخل المقال مع خفة الظل وروح المرح والكوميديا الغالبة على المقال. ابتسامه ناقد: سألته ذات يوم بعد قراءتي لكتابه (خطوات في النقد)

* ألاحظ في معظم أعمال يحيى حقي إن لم كن كلها أنها يغلب عليها طابع الابتسام..

رد علي بابتسامة:

  • هل هناك أجمل من الابتسامة .. الحقيقة أن الإنسان لما ينقد إنسانا هل يجرحه؟ مهمة النقد في نظري أن يلتحم النقاد بالعمل الذي ينقده، ويقال أن كل ناقد إذا تحدث عن إنسان إنما يتحدث أيضا عن نفسه أولا. لأنه يعكس في مقالته النقدية مزاجه الشخصي فهو في الحقيقة يتعرى أمامنا «أي الناقد» قبل أن يعرى الشخص الذي ينقده. وأنا أميل إلى الابتسام وأحب أن تكون مقالاتي النقدية غير مؤلمة وغير جارحة. وقد وصف محمد مندور بعض نقدي بأنه دبلوماسي. وكلمة دبلوماسي يعني رياء. فأرجو أن يؤخذ هذا الكلام على المحمل الأحسن.

من أروع ما قرأت في هذه المقدمات حديث يحيى حقي عن الناقد الكبير أنور المعداوي. فما وصل إلي عن هذا الناقد الكبير لم يكن كثيرا، ليس أكثر من معاركه الأدبية مع العقاد وطه حسين وسلامة موسى وعلاقته الأدبية بالشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، لكن الجوانب الإنسانية التي أشار لها يحيى حقي في تأبينه لأنور المعداوي يكشف بالمقابل جوانب لم نكن ندركها عن الناقد الكبير فيقول:

لا تزال ضحكته تدوي في أذني، وما كان أحبه إلى قلبي وهو يضحك، ضحكة صافية مبرأة من لذعة السخرية، وسماجة الافتعال، ورفسة الاقتصاص، طليقة غير مقاسة، ومع ذلك يحكمها اعتدال مبعثه فرط الحياء، فلا هي مجلجلة تتوقح، ولا هي غمغمة المتكتم البخيل العسير على غلظته الاهتزاز. ضحكة رجل سمح نشأ وعاش سيدًا كريمًا معتزًا بأصله وعرقه وأريحيته، يترنح لها عطفه، وتزر عيناه وربما ترقرقت فيهما شبهة من دمعة، يتهلل وجهه فتنطق وسامته وتستبين حقيقتها وتبلغ كمالها.

وزاد من الود إعجابي به، كان صريحًا لا يهاب الإدلاء برأيه في وجه مخاطبه مهما يكن مقامه أو معزته عنده. في وقت سادت فيه المجاملة الباطلة، وغلب الاعتقاد بأن في المداراة راحة ونجاة، وأن الكناية ليست أفضل من القول المباشر فحسب، بل هي أيضًا دليل الذكاء والبراعة. ثم هو لا يغضب إذا لم تقره على رأيه، كان إمامًا يحتذي في التفريق بين التعنت والاعتزاز بالرأي، لأنه غير صادر عن هوى، وفي الإيمان بأن الفن لا يقطع فيه برأي فرد لا ثاني له. وكان من لزماته جملة يكررها على سمعي كل يوم أكثر من مرة "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية".

أتوقف عند إحدى المقالات يتحدث فيها عن مهنة المعلم فيؤكد يحيى حقي على القيمة والمثل العليا لهذه المهنة العظيمة: ما أخطر وظيفة المعلم، لا أدري لماذا أشعر أننا في هذه الأيام في حاجة لأن نلفت الأنظار إليه ونتحدث عنه، ليس المطلوب منه حين يقف أمام تلاميذه هو حشو أدمغتهم بالمعارف، ولكن ليقول لهم دون أن يفتح فمه "أنا قدوتكم فاقتدوا بي" يالها من مسؤولية جسيمة!

هل اللغة عند يحيى حقي هي مزج بي الفصحى والعامية، أم أنها فقط الاعتماد على بعض الألفاظ العامية التي لا تجد مقابلا لها في الفصحى. مثال على ذلك كلمة فِـزّ بكسر الفاء تأمل الكلمة وابحث عن كلمة بديلة لها لتعبر عن الحالة الوجدانية والنفسية التي كان يعيشها من عاشوا تلك الفترة الداكنة من تاريخنا. "فِزّ" من مخدعك وانتفض من شكك واخرج هائمًا لتكون واحدًا من هؤلاء الدعاة الذين يجوبون العمار وحتى البراري، بلد يشيلهم وبلد يحطهم، كأنما تطاردهم الوحوش الضارية ولا يطاون الا على الجمر، ليست لهم الا صرخة واحدة تصدها جنبات الجبال فيتجاوب صداها مجلجلًا عبر الوديان: البدار! البدار!

أما عن جوائز الدولة فيقول: منحت الجائزة هذا العام لنجيب محفوظ، شعرنا جميعا ونحن نصوت له بأن الجائزة عدلت نظرتها هذه المرة إلى أمام، الماضي غني ولكنها واثقة أن المستقبل أغنى، ليس في منحها له أية شبهة وداع، بل حث صريح صارخ على المضي، على التعاهد بأن يظل موضع اهتمام، أن تعلق به الأبصار دائمًا، الجائزة لهفة على المزيد من الإرتواء، لهذا كان الفرح بنجاحه خالصًا صافيًا يرطب القلب. ليس الوثوق بامتداد فيضه فحسب بل بقدرته – كما أثبت في الماضي دلالة على الحياة والنمو – على التطور، أنه كاتبنا الوحيد الذي سيلحق به دائمًا علمة استفهام: وماذا بعد؟

كما يتحدث عن توفيق الحكيم فيقول: أحب أن أشهد أن توفيق الحكيم قد امتاز وحده، ولعل هذا سر مكانته، بجمعه بين العقل والقلب؛ فمسرحياته الكبرى ذهنية، ومسرحياته الشعبية، ومنها عودة الروح قلبية. ومن أجل هذا نأمل أن يجمع بين الاتنين في قصة واحدة، يكتب لها الخلود، لا في مصر وحدها، بل في الأدب العالمي.

عندما وقعت تحت يدي مقدمات مجلة المجلة في الفترة التي رأس تحريرها الأستاذ يحيى حقي ستلاحظ أنها لا تخلو من هذا التنوع الجمالي، ففيها كل ما سبق من أدب وفكر وإبداع وفن، وعندما فكرت في مقدمات مجلة المجلة التي كتبها يحيى حقي في فترة الستينيات كان ظني أن أغازله بكتابات مضى عليها ما يقرب من ستين عاما، فإذا به يغازلنا بها لنكتشف أنه سبقنا بسنوات عديدة فيتحدث عن خطورة العبث باللغة العربية وتفضيل العامية عليها، بل وينبه إلى ضوابط وشروط استخدام العامية. وإذا كنا نعاني من الإسفاف على كافة مستوياته، يوجهنا يحيى حقي إلى ما يحافظ إبداعنا من هذا الإسفاف الممجوج.

حتى عندما يتحدث عن بعض القضايا السياسية والوطنية نجده يبتعد عن السياق العام الذي اعتاد معظم الكتاب الكتابة فيه، ويلجأ يحيى حقي إلى بساطته المعروفة وعمقه المعهود. حقيقة سنكتشف ونحن نتصفح مقدمات مجلة المجلة حينما كان يرأس تحريرها يحيى حقي أننا أمام كنز حقيقي من الأدب والإبداع، لا يتناول فقط الفترة التي كتبها فيها في فترة الستينيات إنما هي ممتدة وباقية لعصور قادمة.