يستنتج الكاتب من بحثه أنّه من المضلل تصنيف الكوارث إلى طبيعيّة وأخرى يتسبب فيها الإنسان؛ إذ لا خط صريحاً يمكن رسمه بين نوعين متفاوتين تماماً؛ لأن العوامل السياسية والثقافية يمكن أن تحدد في كثير من الأحيان مدى الأثر الذي تتركه كارثة طبيعية ما وصيغة الاستجابة للتحديّات التي قد ترافقها، مما يجعلها عندئذ أقرب إلى الاصطفاف مع الأخطاء البشريّة بدل تحميل مسؤوليتها للأقدار الغاشمة.

«الأقدار الغاشمة»... تاريخ البشرية في إدارة الكوارث

نـدى حـطـيط

 

من زاوية معينة، فإن التاريخ أشبه بسجل ضخم لأرشفة الكوارث وإرث أخطاء البشريّة المتراكم في التعاطي معها. ويبدو أن نيال فيرغسون؛ المؤرخ الليبرالي الأكثر شعبيّة في الغرب قد ألهمته فترة عزلة «كوفيد19» الإجباريّة خلال عام 2020 للتّقليب في دفاتر الاستجابات البشريّة للكوارث ومحاولة استخلاص الدّروس التي يُمكن الاستفادة منها للتعامل مع مأزقنا الحالي، كما تلك المقبلة. نتاج العزلة هذا صدر في سفر ضخم (496 صفحة) بعنوان: «الأقدار الغاشمة: سياسات إدارة الكوارث*»، وقفز سريعاً إلى صدارة قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، ولا يزال لشهور العنوان الأول عالمياً على قائمة متجر «أمازون» الإلكتروني في فئة الفلسفة السياسيّة. لكن صدور الكتاب قبل أن ينحسر الوباء الحالي، ودون التوصل إلى استيعاب مختلف أبعاد التّجربة القاسية التي رافقته، قد يجعل منه عملاً غير مكتملٍ بشكل ما، وحججه منقوصة، واستنتاجاته غامضة، إلا إنّ الجزء التأريخي منه لا شكّ غني ومحكم ومتماسك.

قسّم فيرغسون نصّه أقساماً؛ يمثّل أولها الجزء الأكبر من «الأقدار الغاشمة» ويسترجع فيه خبرات البشريّة التاريخيّة مع الكوارث من عهود سحيقة إلى فترات قريبة من الذّاكرة الحديثة: المجاعات والأوبئة والزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير والحروب وحوادث القطارات وانخفاض أعداد السكّان والهجرات التي تؤدي إلى اضطرابات سياسيّة والأسلحة النوويّة... وما إلى ذلك. وبحسب الخبرة البشريّة عبر آلاف السنين، فإن الكوارث غالباً ما نسبت للطبيعة: استياء الآلهة أو اضطرابات الفلك أو سوء الطالع. ويستنتج الكاتب من بحثه أنّه من المضلل تصنيف الكوارث إلى طبيعيّة وأخرى يتسبب فيها الإنسان؛ إذ لا خط صريحاً يمكن رسمه بين نوعين متفاوتين تماماً؛ لأن العوامل السياسية والثقافية يمكن أن تحدد في كثير من الأحيان مدى الأثر الذي تتركه كارثة طبيعية ما وصيغة الاستجابة للتحديّات التي قد ترافقها، مما يجعلها عندئذ أقرب إلى الاصطفاف مع الأخطاء البشريّة بدل تحميل مسؤوليتها للأقدار الغاشمة. وبعبارة أخرى؛ فإن الكوارث ليست كوارث بمجرد حدوثها، بل بقدر التأثيرات التي تنشأ عنها وكيفيّة التعامل معها عندما تضرب المجتمعات وتزعزع نظمها واستقرارها. ويستعير فيرغسون هنا من تشبيهات وضعها كتّاب آخرون لوصف الكوارث، بأنواع حيوانات مثل «وحيد القرن الرّمادي» علماً على المصائب الظاهرة التي لها سوابق ونراها حين تقترب منا، و«البجعات السوداء» للأحداث التي تبدو بحكم تجربتنا المحدودة أقرب إلى الاستحالة، و«ملوك التنين» أي الكوارث الهائلة التي تقع خارج الظروف المعياريّة العادية، فيصف تاريخ البشريّة في مواجهة الكوارث كأنّه «حديقة الحيوان سيئة الإدارة» التي تجمع هذه المخلوقات معاً، مع بعض الأحداث المؤسفة غير المنطقيّة وسوء الحظ.

يحاكم فيرغسون في القسم الثاني ميلاً تقليديّاً إلى إلقاء اللّوم على القادة الأشخاص عند فشل الاستجابات المجتمعيّة أو قصورها عن التّعامل مع الكوارث، فينتقد نظريّة «الرجل العظيم» للتاريخ أو «مغالطة نابليون» التي تختصر الأحداث والتيارات الكبرى بأفرادٍ يديرون العالم بأيديهم بوصفها منهجيّة تفكير تبسيطيّة لا يمكن الدّفاع عنها، في الوقت الذي تكمن فيه الأسباب الأساسيّة لمثل تلك الإخفاقات غالباً في الاحتكاكات بين المستويات الدنيا والمتوسطة من التّسلسلات الهرميّة التنظيميّة للمجتمعات ونقاط ضعف أنظمتها الإداريّة أو غياب المساواة الاجتماعيّة، وأن أولئك القادة ليسوا في النهاية إلا عرضاً للأنظمة التي أنتجتهم. فقد أظهرت كارثة «تشيرنوبيل» مثلاً، جهل مشغلي المرفق وعقم بيروقراطية السلطات. وبينما كشفت مأساة «تشالنجر» كيف أدت سيطرة معايير التكلفة على عمليّات توريد المكوّنات إلى قبول مواد بكفاءة متوسطة وأقل أماناً لتتسبب قطعة صغيرة في انفجار المكوك. وعند انتشار وباء الكوليرا في هامبورغ عام 1892 كانت البنية الطبقية الصارمة في المدينة التي سمحت لملاك العقارات المؤجرة برفض تحسين شبكات المياه والصرف الصحي مسؤولة عن معدل الوفيات المرتفع نسبياً، والذي كان أعلى لدى الفقراء بـ13 مرّة مقارنة بالأغنياء. وفي سفينة «تايتانيك» الشهيرة، فإن التصميم الذي حكمته النظرة الطبقية جعل فرصة النجاة أعلى بـ50 في المائة على الأقل لدى ركّاب «الدرجة الأولى» من تلك الموجودة على الطوابق السّفلى.

ويُلمس من النصّ أن قدرة البشريّة على توقع الكارثة «الصحيحة» مسألة بعيدة المنال، حيث «نادراً ما نحصل على الكارثة التي نتوقعها»، من الصعب كذلك التنبؤ بالسرعة التي تحدث بها الكوارث؛ إذ يمكن أن تحدث كتفكك نظام معقد في وقت واحد، بسرعة مذهلة – كما كانت الحال في الانهيار السريع لحضارات العصر البرونزي - القرن الثاني عشر قبل الميلاد - أو يمكن أن تأخذ شكل انتقالات مرحلية متشنجة متتالية، كذلك الانحطاط التدريجي للإمبراطورية الرومانية.

ويستنتج فيرغسون من تجربة العالم مع «كوفيد19» أن الأنظمة مركزيّة القرار مثل الصين - وذلك بحكم فاعليّة تنفيذ التوجيهات التي تقيّد الحريات المدنية - أثبتت قدرة فائقة على إدارة الوباء من نظيرتها الأنظمة الديمقراطيّة التوافقيّة التي غالباً ما تتعارض فيها مصالح ورغبات مراكز القوى المتعددة، وتضعف من هامش سيطرتها على سلوك مواطنيها، وجعلت من الولايات المتحدّة - الدّولة الأعظم في العالم - موضع سخريّة دوليّة وتندّر فيما يتعلّق بمعدلات الإصابات والوفيّات بالفيروس، ورفعت من وتيرة القلق داخليّاً بشأن موثوقية القوة الاقتصادية الأميركية، وأخلاقيات قيادتها، وحتى قدرتها على البقاء، وهي مخاوف يتأكد دائماً أنها، كالعادة ووفق فيرغسون، سابقة لأوانها.

الفصول المخصصة لتجربة «كوفيد19» الحالية متخمة بكم هائل من المواد الأرشيفيّة: التقارير الصحافية، ومقالات الرأي، والأوراق العلمية، وخلاصات الكونغرس الأميركي، وهذه الببليوغرافيا الضخمة يوظّفها فيما يبدو لتخفيف حدّة النقد الذي استهدف القائدين: دونالد ترمب (الولايات المتحدّة)، وبوريس جونسون (بريطانيا)، في سياساتهما لإدارة الوباء القائمة على تقديم مصالح الاقتصاد على توفير حماية مثاليّة للجميع. وهذان؛ تحديداً، زعيما دولتين من المفترض أنّ إدارتهما الأزمة أفضل من الدّول الأخرى بكثير نظراً للقدرات التقنيّة والعلميّة والماديّة المتقدّمة. لكن أكوام الحقائق التي يجمعها صاحب الكتاب وتناقضها أحياناً لا يمنحان القارئ كبير ثقة فيما يذهب إليه، لا سيما أن انعكاسات الوباء ما زالت مستمرة إلى الآن، مما يصعّب الوصول إلى أحكام قاطعة بشأن أي شيء.

وأخيراً؛ فإن مجموعة موجزة من التكهنات حول المآسي المحتملة في المستقبل واحتمالات الاستجابات الكافية تكمل الكتاب. ولا يخفى هنا انحياز المؤرّخ؛ ليبرالي التوجهات ونجم نخبة واشنطن، ضد الصين وذلك بنقلنا إلى عالم ما بعد «كوفيد19» للتركيز على مصدر قلق مستقبلي من استراتيجية الصين بوصفها قوة عظمى لمنطقتها، وبحر الصين الجنوبي، بشكل عام، وكأنّ كل هموم العالم وشجونه قد حُلّت ولم يتبق سوى أن نحسم نطاق الحدود البحريّة للمياه الإقليميّة الصينيّة.

في الفصل الختامي من «الأقدار الغاشمة» يراهن المؤلف على الخيال؛ الذي يعرّفه ببراعة بأنه بمثابة «تأريخ للمستقبل»، ليمنحنا فرصة إلقاء نظرة على عالم قد نرغب في تجنبه، وأن خير ما نبدأ به للتعامل مع الكوارث المستقبليّة هو السعي جاهدين لتخيّلها أو تحليل العوامل الفاعلة في المؤكّد منها، وترسيم تأثيراتها المحتملة على المجتمع بشكل كلي، وربّما الشروع المبكّر في الإعداد لها. ومع ذلك؛ فإن الأفضل ألا ننسى يوماً نصيحة التاريخ للبشر: " المستقبل غير مؤكد... والنهاية قريبة دائما "
 
(الأقدار الغاشمة: سياسات إدارة الكوارث)
«Doom: The Politics of Catastrophe»
المؤلف: نيال فيرغسون
الناشر: ألان لين
مايو 2021

 

عن جريدة الشرق الأوسط