يفترض الكتاب أن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولوجيات شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد، غلب عليها الاحتجاج وافتقدت إلى بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها.

هشام جعفر يفكك سرديات الحراك العربي

والمعوقات التي واجهته

عـلي عـطا

 

في كتابه "سردية الربيع العربي ورهانات الواقع" (دار مرايا للإنتاج الثقافي)، يطرح الباحث المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية هشام جعفر، مدخلاً يؤكد ضرورة الانطلاق مِن فهم أعمق لحقبة الربيع العربي وما خلَّفته من تداعيات وما أثارته مِن قضايا، وأنه من دون الوصول إلى هذا الفهم مع السعي إلى التعبير عنه وصياغته في مشاريع لإعادة بناء الدولة العربية المأزومة، فسيظل ما يحكم نظرة الفواعل الدولية للمنطقة هو: "الحد من الآثار السلبية لمشكلات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مناطق أخرى مِن العالم".

وهو في هذا السياق يجادل بأن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولوجيات شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد، فقد غلب عليها الاحتجاج وافتقدت بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها.

وعبر تأمل ما جرى منذ عام 2011، وحتى الوقت الراهن خلال موجتين من الانتفاض، يشدد هشام جعفر على ضرورة التمييز بين جوهر الربيع العربي، وبين عدم القدرة على إدارة مقتضيات الفترات الانتقالية... "وأزعم أن الدول التي استطاعت أن تحقق قدراً من الاستقرار مثل المغرب وتونس، اتبعت استراتيجيات مختلفة في هذا الصدد، فالأولى دمجت عدداً من المطالب الإصلاحية في النظام القائم، إلا أنه لا يمكن المراهنة على تعميق الاستقرار على المدى الطويل من دون استيعاب أكثر اتساعاً للمطالب الاجتماعية في بنية النظام. أما تونس فقد مرَّت تجربتها بمرحلتين والثالثة تعيد طرح سؤال الاستقرار مرة أخرى: الأولى بنيت على توافق بين قوى التغيير الأساسية، قومية وإسلامية ويسارية، والثانية على اتفاق بين المعتدلين من النظام القديم والقوى الإسلامية الأساسية ممثَّلة في حزب النهضة".

مباراة صفرية

أما دول الموجة الثانية - يقول هشام جعفر - فلم تستطع أن تصل حتى الآن إلى صيغ توافقية بين القديم والجديد، ولا يزال التجاذب بينهما يحكمه منطق المباراة الصفرية؛ وإن بدا غير ذلك كما في السودان، أو الالتفاف على مطالب الإصلاح في الجزائر والعراق، أو صم الآذان كما في لبنان.

منذ 2011 تواجه المنطقة حقبة جديدة معلنةً نهاية القديم، وإن استمر معنا لبعض الوقت. الدورة التاريخية الجديدة، ترجح أنه لا نجاح لها من دون مراجعات كبرى فقد تخلخلت أركان القديم وشرعيته، وانفتحت أمامنا آفاق حقبة تاريخية جديدة. وبحسب المؤلف كذلك، فإن المراجعات الكبرى تستدعي أرضية الثقافي والقيمي لتجعلهما في قلب السياسة... "وهنا يحسن أن أؤكد أنه بالثقافي والقيمي يمكن أن تكون مراجعاتنا الكبرى متسقة مع الطبيعة اللاأيديولوجية لثوراتنا، فثورات الربيع العربي تصدر عن نموذج معرفي ونسق قيمي جديدين، ولكنها ليست ذات طبيعة أيديولوجية بل متجاوزة لها".

ويضيف: "ولا يفهم البعض أني أقصد بالثقافي والقيمي جدالات الهوية التي انبعثت في الموجة الأولى من الربيع العربي وظهرت ذروتها في معارك صياغة الدساتير، بل إني أحذر من جدالات الهوية وأمثالها، فقد أضرتنا، وخبَّأت الحوارات التي كان يجب أن تدور حول ما عبَّرت هذه الثورات عنه من نموذج معرفي وقيم جديدة، كانت يجب أن تسعى إلى مأسستها. وعدم القطع مع ممارسات ما قبل الثورة جلب عدم تطوير الحركات السياسية الإسلامية لموقفها من الديمقراطية، ومن جانب آخر نظرة القوى المدنية لها باعتبارها لا تزال حركات محظورة؛ ليس من حقها الفوز في انتخابات نزيهة".

صيغ جديدة  

يفترض الكتاب، الذي جاء في 217 صفحة من القطع المتوسط، أن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولوجيات شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد، غلب عليها الاحتجاج وافتقدت إلى بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها، وإن اتخذت مظاهر قيمية وثقافية عميقة، فما ظهر بشكل ملموس هو عجز الحركات الاجتماعية عن تحقيق ما تصبو إليه.

وعلى رغم محاولات البعض إلصاق عدم الاستقرار وتصاعد الصراعات في حقبة الربيع العربي، ففي رأيهم أنه قوَّض الاستقرار السياسي والاقتصادي في عدد من الدول، وأشعل حتى الآن ثلاث حروب أهلية، وترك 10 ملايين لاجئ معظمهم في سوريا ولبنان والأردن وتركيا، إلا أن الكاتب يلفت إلى ضرورة التمييز بين جوهر الربيع العربي وبين عدم القدرة على إدارة مقتضيات الفترات الانتقالية من ناحية، وإلى عدم إدراك طبيعة الفترات الانتقالية وما يسودها من هواجس ومخاوف تعوق قدرتها على بناء التوافقات المرحلية أو القطع مع الممارسات السياسية التي سبقت التغيير من ناحية أخرى.

وهنا، يخلص الكاتب إلى أهمية وجود مرصد عربي للتعامل مع تحديات ونزاعات الفترات الانتقالية، هدفه تمكين وتقوية أصحاب المصلحة والفواعل السياسية والاجتماعية من إدارة الزمن الانتقالي بغية تحقيق السلم الأهلي المستدام؛ بتجنب العنف، وبناء نظام ديمقراطي تعددي تشاركي/ غير إقصائي.

ويؤكد كذلك أهمية وجود دليل للتعامل مع الفترات الانتقالية على غرار دليل النقد الذاتي، "الذي طورناه للكيانات السياسية، وصدر في جزءين: الأول عن المركز الإقليمي للوساطة والحوار عام 2015، وحمل عنوان "دليل تشغيلي لعملية النقد الذاتي للأحزاب والكيانات السياسية"، والثاني صدر في 2017 بالتعاون مع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بعنوان "الإشكاليات والفرص المتاحة للأحزاب السياسية المصرية: تقرير من منظور النقد الذاتي"، فلا عبور لهذا الزمن من دون مراجعات كبرى في الثقافة والسياسة".

الديمقراطية وأنماط التدين

ويذكر هشام جعفر أن هدف هذه المراجعات ينبغي أن يكون بناء توافقات تنسجم مع الأفق الذي رسمته ثورات المنطقة، والاتفاق على أهداف مرحلية محددة، وصوغ حوكمة للإجراءات التي تمكن من تنفيذ ما تم التوافق بشأنه، في تطلع للقطع التام مع النظام والممارسات السابقة.

وإذا كان المكون الأول للاستقرار طويل المدى هو إدراك طبيعة الطور الانتقالي بالوصول إلى صيغ توافقية بين القديم والجديد لإعادة بناء الدولة، فإن المكون الثاني - بحسب جعفر - هو دمج الديمقراطية في المطالب الاجتماعية لجمهور المواطنين، فهذا الدمج هو مكون أساسي للشرعية كما طرحته الانتفاضات العربية. وهنا نقطة جديرة بالنقاش هي أن تحقيق الأمن من دون النمو الاقتصادي قد يؤدي إلى نوع من الاستقرار على المدى القصير فقط، ولكنه لن يعالج المطالب الشعبية بالحصول على الفرص الاقتصادية والكرامة وعلى العكس من ذلك، فإنه من دون ضمان الأمن تكون المبادرات الاقتصادية للحكومة عرضة لتهديدات متزايدة من العنف خارج نطاق القانون، وليبيا مثال على ذلك، على حد تعبير المؤلف.

وينبغي الانتباه – يقول جعفر - إلى أن أحد أهم الصراعات الدائرة في المنطقة هي الصراع حول أنماط التدين المتعددة، "ولكنه صراع سياسي بامتياز يتلبس بلبوس ديني أو باستخدام ديباجات دينية، بعبارة أكثر وضوحاً: السياسي اخترق الديني ليعيد إنتاجه تعبيراً عن مصالح من يقف وراءه، وما نشهده هو أزمات وصراعات سياسية ذات أبعاد دينية وثقافية تختبر أطرافها المختلفة فيها توازنات القوى والمصالح في ما بينها في ظل امتزاج شديد للمصالح بالمشاعر الدينية".

ويلاحظ جعفر في هذا الصدد أنه مع غلبة السياسي وتغوله يتم استدعاء الجميع على أرضيته وهو ما يشعل خطوط التماس، ومن ثم فمن الضروري التمييز بين المستويات المتعددة وبخاصة بين السياسي وبين الديني والثقافي، مع إدراك أرضية السياسي التي يتحرك عليها الديني.

وعند هذه النقطة يبرز مأزق المؤسسات الدينية ومشاريع تجديد الخطاب الديني، فهذه المؤسسات تتعامل مع المكون الفكري فقط لظاهرة التطرف العنيف، وقد أجمعت كثير من الدراسات التي تناولت "الجهاديين الجدد"، أن الظاهرة تحرَّكت على أرضية المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ بل والشخصية - بخاصة بعد انكسار وكسر الموجة الأولى من الانتفاضات العربية– وتم استدعاء الفكري تالياً لإعطاء مبرر لاختيار الرد العنيف على هذه المظالم.

وتقدم لنا تجربة ماليزيا- يقول جعفر- نموذجاً على أنه في بيئة تعترف فيها الدولة بمجال ديني تعددي حر، لا تجد سردية "داعش" قبولاً اجتماعياً، بل تلقى التهميش. وفي الخبرة الماليزية أيضاً مثال على لماذا فشلت أيديولوجية "داعش" المتطرفة في حشد دعم إسلامي كبير؛ "لأنها تتعارض مع الإجماع السياسي الحالي في ماليزيا– حتى لو كان هشاً ومتوتراً في بعض الأحيان– بشأن احترام سيادة القانون ونظام الحكم. هذا الإجماع بين المسلمين والمسلمين، وغير المسلمين (الذين يشكلون حوالي 40 في المئة من إجمالي السكان) الذي تمَّ تشكيله على مدى عقود عدة من القومية، يتعارض مع أيديولوجية داعش في عدم التسامح مع غير المسلمين، والمسلمين الذين يعارضونها، لجهة مواقفها حول الحكم والانتخابات والحريات المدنية".

وتجدر الإشارة إلى أن هشام جعفر، باحث متخصص في شؤون الحركات الإسلامية، ومستشار لعدد من المؤسسات الدولية في حل النزاعات، وهو مؤسس "المركز الإقليمي للوساطة والحوار".

 

اندبندنت عربية