لعلنا إزاء نص سؤال، يصنع شعريته من إجابة "نسيم جرجس" - المناضل السياسى العجوز معتقل سجن الواحات الشهير- أن أفضل أوقات السجن هي "الفجر" فيدخلنا إلى عالم متعدد المستويات يمتد بين جيلين من الحكام والمحكومين وينتهي بحيرة الراوى حول المقصود من كلمة "الفجر" في ضوء تحولات الزمن.

قصة الفجر

عادل عصمت

 

سأل عم "نسيم جرجس" رفاقه في الزنزانة:

"ما هي أصعب لحظة في السجن؟"

قال واحد:

"أول يوم".

قال آخر:

"بعد الزيارة"

قال آخر:

"حفلات التعذيب"

قال آخر:

"جلسات التحقيق"

صمتوا جميعا، وتطلعوا إليه منتظرين.

قال عم نسيم:

"الفجر"

حكى عم "نسيم" لي هذه الحكاية عشرات المرات. كان يجلس على حجر بجانب بائعة الجرائد على ناصية شارع بطرس. يقرأ الجرائد ويتحدث مع الناس. لم يعد يذهب، في الفترة الأخيرة، إلى مكتب المحاماة. يتابع من بعيد المحامين الشباب يديرون المكتب، لكنه ينتفض عندما يعرف أن عاملا فُصل من عمله، أو تعرض لظلم. يرتدي حلته الكاملة ويشذب شاربه الكث، ويحلق ذقنه، ويتوجه إلى المحكمة بنفسه.

ظننت أنه يختلق مناسبة لكي يحكى لي "قصة الفجر"، وخيل إلي أنه ينظر إلى هذه القصة على أنها جوهر حياته. كان يعتبر الفترة التي قضاها في السجن من عام 1959 إلى 1964 أفضل سنوات عمره. كيف شكلوا في السجن "جامعة". كان معهم أهم مفكري البلد. أساتذة في الإقتصاد والعلوم والآداب. ويتوقف طويلا عند غناء "محمد حمام". يصفه كأنه خيط نور بعد إحدى جلسات التعذيب. كانوا عرايا بالكامل في برد ليلة صحراوية، يطاردهم الجلادون بالخيول والكرابيج في حوش سجن الواحات. يومها في الفجر، طلع صوت "محمد حمام"، بأغنية لا يمكن نسيانها:

يا خُضرة منبّتة

جوه شقوق الروح

يا أمه

أمايا يا أمه

ياتوبي

ولحمي

وستري

وغطايا

يا أمه

أمايا

يومها عرف أن الغناء هبة سماوية، يمكن أن تمسد الجراح فتصبح محتملة.

حكايات كثيرة سمعتها من عم نسيم، وهو يسير معي قليلا في شارع بطرس المشمس في الصباح باتجاه الإدارة التعليمية، أو أثناء عودتي من العمل باتجاه شارع سعيد. أو عندما توطدت علاقتي به وأصر أن أصحبه لأتناول فنجان قهوة في بيته.

كانت شقته بسيطة بها مكتبة وحس بالدفء ورائحة البن تسيل في الجو. تعرفت على زوجته، وقدمني لها باعتباري ابن خالة "محمود الدمرداش" أحد أبطال الحركة الطلابية في السبعينيات. ارتحت لجو البيت وحسه المغاير لبيوتنا والود الطيب الذي يغمر أجوائه.

كانت حكايات عم نسيم طيبة، لكنه كان يحكيها لي كأني عضو في أحد التنظيمات اليسارية، وكنت أريد أن أقول له إنني لم اهتم أبدا بتلك الأمور وإنني مجرد موظف. كل ما في الأمر أن ابن خالتي سجن معه عام 1977، ولا تجعل منى هذه القرابة واحدا من أعضاء التنظيم. لقد ظل قلقي من النبرة التي يحدثني بها عم نسيم خفيا حتى كان ذلك اليوم الذي كنت عائدا فيه من العمل، مرهقا من المتاهة الإدارية التي دخلت فيها بسبب ضياع أحد الملفات، وغاضبا من التحقيق معي في النيابة الإدارية، ومتعبا من منظر وكيل النيابة السمين، التي خلت عيناه من أي فهم. يومها أوقفني عم نسيم. كان حليق الذقن ومتهللا وحكى لي الحكاية. لقد استدعوه إلى أمن الدولة مرة أخرى. ذلك الاستدعاء الدوري كما قال. حدثني بلهجة انتصار بأنه أخبر الضابط بأن عليهم أن يغيروا الكشوف التي يتم بناء عليها استدعاء الناس. لابد أن هناك أجيالا أخرى. "أما نحن فقد راحت علينا، يدوب نحمل حكايات ونجلس بها على النواصي".

أخبرني بأنه عاد متعبا من ركود الأوضاع وكاد أن يدخل في دور اكتئاب، لولا الست زهيرة، زوجته التي تقود حياته كما يقول. أجبرته على أن يأخذ حماما، ويحلق ذقنه، وعندما كان يمشط شاربه أمام المرآة، وجد نفسه وقد عاد ثلاثين عاما إلى الوراء، فيه عافية، ويمكنه أن يعيد سيرة حياته مرة أخرى، ويقوم بأول عمل تحريضي له، مثلما حدث في نهاية الأربعينيات، عندما ذهب إلى الجامع الأحمدي، وصلى الجمعة مع الناس، ومن الشرفة العلوية للجامع بعد الصلاة، نثر المنشورات على رؤوس المصليين. تلهي الناس في الأوراق الهابطة من السماء، تعوم في فضاء الجامع المشع بالشمس، وتوارى هو وسط الخارجين.

سمعت حكاياته في ذلك اليوم بقلق. لو أنه صمت واكتفي بحكاية تعلمه صلاة المسلمين لكي يصلي الجمعة معهم في الجامع، لمر اللقاء ببساطة. لكنه استعاد السجن، وقصة الفجر. وقال مرة أخرى إنها كانت أفضل سنوات حياته. عندها وجدت نفسي أسأل، بطريقة لم أعتدتها في الحديث معه:

"كيف يكون السجن أفضل سنوات العمر؟"

نظر إلي بوحهه النحيل وشعره الأبيض، ومسد بخفة على شاربه، وأدرك أنني لم أفهم الأمر برمته، ولاحت في عينيه نظرة يقظة، كأنه يراني لأول مرة. كان الصمت قلقا ومفتوحا كأنه ورطة لكلينا. أخيرا اضطر "عم نسيم" إلى الكلام، فقال: "لقد كانت فعلا أفضل سنوات العمر." لكنه لاحظ أنني أسأل بجدية وبشيء من التحفز، فقال إنها السنوات التي تشعر بأنك تفعل شيئا، وأن لحياتك معنى. ما معنى أن تعيش وتموت، مثل أي شيء؟

قلت بعصبية: "إنها سنة الحياة، ولماذ يختلف المرء عن كائنات أخرى؟" ثم أكملت بحماقة: "أنا لا أختلف عن أي كائن على ظهر الأرض، أنا مثل الشجرة والحشرة والحمار". اندهش عم نسيم من عصبيتي، وقال متسائلا:

"لا تشعر بأي فرق بينك وبين الحمار؟"

قلت:

"لا أشعر بأي فرق، بل أحسد الكائنات الاخرى، لأنها لاتشعر بالقلق."

ثم قلت بيقين عبيط: "الحمار أحسن حالا مني."

كنت أتكلم جادا مُنَغصا من تلك المتاهة من الحياة الإدارية والمشاكل التي تسلبني حياتي. يومها تركني عم نسيم على الناصية وقال:

"سلم لي على ابن خالتك."

قلت له، ربما، إمعانا في التعذيب:

"ابن خالتي يعيش في مطروح، وقد أصبح من أثرياء الساحل الشمالي، لم يزرنا منذ عشر سنوات."

بعد ذلك لم يعد عم نسيم يحكي لي الحكاية. عندما أصادفه جالسا على الحجر أمام بائعة الجرائد، يتحدث معي عن الأحوال، بطريقته البشوشة، لكنها أصبحت خالية من الود. بعد تلك المناقشة، لم أسمع حكاياته مرة أخرى، وندمت على حماقتي. ورغم ذلك كان لابد أن أوقف هذا الوهم المقلق، الذي كان يطاردني خلف نبرته الودودة أثناء سرده لحكاياته، كأنه يخصني وحدي بتلك الثروة، كأنني أحد رفاقه في التنظيمات اليسارية. ثم أنني لم أفهم أبدا مغزي قصة الفجر. ماذا يعني الفجر في تلك الحكاية؟ لو سألني أي لحظات السجن أصعب، سوف أقول جلسات التحقيق. فكم هو مهين أن يجلس المرء أمام إنسان مثله، ولمجرد أنه عين بوساطة والده في النيابة، يستدعيني إلى مكتب، يقف حارس عند بابه، ويعلق الجاكيت على ظهر الكرسي، وتصبح له سطلة استجوابي، ومعاملتي على أنني أدنى منه، وتفحص كلماتي متشككا في صدقي ومفترضا بشكل ما أنني مجرم. من أعطاه الحق، وهو إنسان مثلي، أن يعاملني بسطوة من يمكنه في أي لحظة أن يسلبني حياتي ويضعني بجرة قلم في السجن؟

بعد ذلك أصبحت مرات جلوس عم نسيم أمام بائعة الجريدة قليلة. سألت عنه "أم سيد" فقالت إنه مريض. "الست زهيرة هي التي تجيء لتأخذ الجرائد." واعتبرتي أحد أقاربه فقالت:

"طمنا عليه".

شجعني كلام "أم السيد" أن أفكر في زيارته. في مساء اليوم التالي ذهبت إلى بيته. استقبلني باسما، كأنه نسي أمر المناقشة العاصفة التي كشفتني أمامه. جاءت زوجته وجلست معنا قليلا، ثم قامت لتعد لنا القهوة. تبادلنا الأخبار، وتحدثنا عن أحوال البلاد، لكنه لم يأت على ذكر حكاية الفجر، ولم يسأل عن ابن خالتي، وحكى لي بعضا من طرائف الحياة بينه وبين زوجته.

كان الطبيب قد منعه من التدخين لأن الرئة تهالكت. امتنع عدة أسابيع عن التدخين لكنه تعب. بدأ يطلب من حفيده سيجارة ومن زوج ابنته واحدة أخرى، وأخرى، ويخفيها في علبة فارغة يدسها بين أكوام الجرائد والمجلات. عندما تنزل الست "زهيرة" إلى السوق، يُخرج العلبة بفرح ويدخن. لكن الحزن قد بدأ عندما لاحظ أنه ينتظر نزولها إلى السوق، وأصبح وجودها عبئا عليه، لايمكن أن يدع رغبته في التدخين تقضى على حبه لوجود "زهيرة". وقع في حيرة شديدة، خاصة أنه يريد أن يدخن، بنفس القوة التي يريد بها ألا يفرط في وجود زوجته. وأخيرا وجد الحل. ذات يوم نزلت إلى السوق. أخرج علبة السجائر ووضعها أمامه وانتظر حتى عادت. عندما أعدت القهوة، وجاءت لتجلس معه في غرفة المكتبة، فتح العلبة وأخرج السيجارة. رفعت وجهها إليه وقالت:

"أعرف أنك تدخن من ورائي. سيجارة واحدة في اليوم. اتفقنا؟"

كان يحكي الحكاية بسرعة وتوتر حتى ينتهي منها قبلما تعود الست زهيرة من المطبخ. عندما جاءت ابتسم لي بفرح. جلست في المقعد المجاور له بشعرها المقصوص الفضي وفستانها المنزلي القصير، تنصت إليه وقد راح يتحدث بحماسته المعتادة، عن أحوال البلاد، وكيف أن الأوضاع أصبحت لا تُحتمل وأن الظلمات أصبحت كثيفة ومادامت قد أصبحت كثيفة فإن الفجر لابد قادم. كانت تحدق في فنجان القهوة، تتابع ما رسمته خيوط البن من أشكال، فلم تتغير ملامح وجهها، كأنها هي الأخرى حفظت هذه الأفكار والحكايات عن ظهر قلب، وأصبحت جزءا من جو البيت.

وعدته أن أزوره مرة أخرى، لكن الظروف لم تسمح بذلك، فقد مات عم نسيم بعد أيام.

انقضت فترة طويلة حتى تعودت على ناصية شارع بطرس بدون عم نسيم يجلس على قطعة من الحجر أمام بائعة الجرائد، يقرأ الأخبار ويتحدث مع الناس، وكلما فكرت في ذلك اليوم العصيب، أشعر بحماقتي، ويراودني حس غامض بالذنب، لأنني ناقشته بتلك الطريقة العصبية، وأحزن لأنني خيبت ظنه. لم أكن أهلا لهذه الثقة سواء في تفهم حكايته أو الظهور بمظهر شخص سيكمل المشوار الذي ضحى بسنين عمره من أجله. لقد حرمت نفسي من ذلك الود الذي خصني به، خاصة أن تلك المناقشة لم تثمر فهما للغز الفجر الذي ظل عم نسيم يطاردني به.

حتى الآن لا أفهم ماذا كان يعني بتلك الحكاية؟ هل كان يتركها لي كأنها لغز علي أن أحله؟ كثيرا ما أجد نفسي أفكر في الأمر. ماذا كان يقصد بالفحر؟ هل هي مجرد تقاليد تفكير قديمة، كانت سائدة في بداية القرن، عندما استخدم الكتّاب فترات النهار كاستعارة: "فجر القصة المصرية"، "فجر الإسلام"، أم هي تقاليد الستينيات، وأغاني عبدالحليم: "عدى النهار" وغيرها من تلك الرموز؟

لا يمكنني الآن، بعد رحيل عم نسيم، أن أحسم الأمر، وربما لن أتمكن أبدا، على الرغم من أنني أخمن أحيانا، عندما أستعيد ملامحه وهو يحكي الحكاية، أنه كان يقصد أن الفجر يلوح جميلا ومؤلما من نافذة زنزانة، وأنه لولا السجن لما عرف المرء معنى الفجر.