سرد مراوغ عن هوس الموظف الكهل بوقع خطوات مديرته، هو المغترب الذي لم يستقدم أسرته، يزيده ولعًا وحدته الليلة، يتابع ترددات (التك تاك) الأيروتيكية، لم تلتفت إلى مكتبه أبدا، وتتواصل معه عبر تعليمات صارمة؛ أخيرا نظرت إلى مكتبه ثم تلقى دعوة عزيزة لزيارتها. فاجأته بطلبها الغريب.

سبع عشرة خطوة

رجب سعد السيّد

 

نعم .. لا زالت أذناي تعرفان وقع خطواتها، يأتيني في مكتبي المفتوح، وهي مارةٌ به، متأنية تماماً، يوماً بعد يوم.

اعتدته لحد الإدمان، حتى أن أيام غيابها عن العمل تبدأ صباحاتها مرتبكة، وأمضي نهاري عاجزاً عن التفاعل مع الزملاء من موظفي الإدارة، ومع زائري مكتبي لشأن أو لآخر.

ولم يحدث معي، من قبل، ولا من بعد، أن توفرت لأذنيَّ تلك القدرة على تمييز خطوات، فأسمع خطواتها وأعرفها على الفور، من بين خطوات عشرات المارين بحجرة مكتبي، مهما تعددت مرات غدوها ورواحها في اليوم، ولم تستوقفني حالة الجنون التي تنتابني وأنا أحصي عدد خطواتها، منذ دخولها إلى الممر غير المتسع المفضي إلى مكتبها. لم تكن تكاد تتغير عن سبع عشرة خطوة.

الأكثر من ذلك، أن أصوات (تك/تاك) القليلة، التي لا تستمر إلا لثوانٍ معدودة، كانت تعود في أحيان كثيرة لتتجسد تردداتها في أذنيَّ، بعد مغادرتي محل العمل والعودة إلى السكن، الذي أقيم فيه وحيداً، فلم يكن في خططي استقدام أسرتي. ويجب أن أعترف بأن تلك الترددات التي أعرفها جيداً، كانت تطوف بأحلامي، التي كان الفراش الشاغر يغذيها.

ولم تكن هي تهتم بأن تلتفت إلى داخل مكتبي، أو أي مكتب آخر، في طريقها إلى مكتبها. كنت ألمح امتشاق هيئتها، برقبتها الطويلة المشرئبة دائماً، ولم تكن رؤيتي لجانب وجهها لتفعل إلا ارتفاع أوارٍ يعتريني.

وكانت علاقات العمل معها تمضي من خلال تعليمات وطلبات تجئ منها إليَّ، عبر آخرين، وأحياناً في مهاتفة سريعة، بكلمات مبسترة، يجيد المديرون تدبيجها.

ولكني، في ذلك الصباح، كنت شبه متأكد من أنها التفتت إليَّ من خلال باب مكتبي، وهي تمرُّ به. وتأكد لي ذلك عندما جاءني أحد خدمها يخبرني بأنها تطلب حضوري إلى مكتبها.

أسرعتُ إليها، بعد أن اطمأننتُ إلى سلامة مظهري العام، ملتقطاً دفتر ملاحظات صغيراً وقلماً.

فتح لي الخادم الباب، معلناً حضوري، فدخلتُ إليها. وجدتها تقف خلف مكتبها الفسيح، تنطق بكلمات ترحيب قليلة. وطلبت مني أن أجلس قبالتها، ففعلتُ.

بدأت بالسؤال عن أحوالي، وهل آكلُ جيداً، فابتسمتُ. قالت: أداؤك طيب، وزملاؤك يمتدحونك. واستطردت: أريد أن أتحدث معك في مسألة تبدو شخصية، وإن كانت وثيقة الصلة بالعمل. قلت: تحت أمرك.

وراحت تحدثني عن صديق لي، من كبار العاملين بالمؤسسة، هو من أشار عليها باستقدامي للعمل معها. وكانت بينهما صداقة قوية، لم تلبث لأسباب تبدو غير مفهومة أن فترت.

قالت لي: هو صديقك، أعرف، لكنني أطلب منك ألا يصل إليه، عبرك، أي أخبار متصلة بالعمل في مكتبي.

قلت: أمر مؤسف، حقاً. ولكنني أعدك ألا أنقل إليه، أو منه، أي معلومات. واسمحي لي أن أكون واضحاً وأقول إنني لا أستطيع قطع علاقتي به، فهو صديقي منذ سنوات طويلة.

قالت: لا يمكن أن أطلب منك ذلك. وأكتفي بوعدك.

وابتسمت وهي تدعوني لمشاركتها قهوة الصباح، فرحبتُ تماماً، وزغاريد تتعالي في داخلي، وكنت أرتشف من أروع فنجان قهوة ذقته في حياتي، بينما عيناي لا تكادان تفارقان صفحة وجهها، الذي كان يلتمع في حيوية بالغة، مغموراً بإشعاعات من شمس حانية، تتسلل إلينا من خلال زجاج نافذة عريضة خلفها.