لعل الزمن الدمنهوري هنا هو امتداد للزمن "الاسكندراني" على قول كاتبنا الكبير إدوار الخراط، غير أننا هنا إزاء بعث زمن بروائحه المندثرة وعلاماته، كذلك سياسته الخاصة، يكتب الراوي عن "شكري القوتلي" و"عبد الناصر" ودولة الوحدة، يدهشك استعادة ملامح امحت بانقضاء زمنها، دون الوقوع في فخاخ الحنين.

الزمنُ الدمنهُوريُّ

ذكرياتٌ تجاوزُ الذاتيَّ

رجب سعد السيّد

 

الزمنُ مستويات. إنه يمضي عند السواد الأعظم من الناس في مستوىً واحدٍ، تجرجر أيامُه بعضُها بعضاً، كمن يمشي على ساقين يزحفُ فيهما نملٌ. وقليلون هم من يحظون بأزمان متعددة المستويات، يعيشونها كما لو كانوا يتحركون على مسرحٍ خضعتْ خشبتُه لنفوذ مخرجٍ عبقريٍّ، تمكن من تحويل السطح الظاهري لتلك الخشبة إلى مستويات مادية، بوحدات ديكور أضافت إلى مساحة هذا السطح، رأسياً، وباستخدام مؤثرات صوتية وضوئية، تجسد أوهاماً مقبولة بأن ثمة مزيداً خافياً من أسطح أخرى، نفسية وفكرية.

والزمن الدمنهوري، الذي أحكي عنه الآن، هو من النوع الأخير. لم يستغرق سوى سنوات قليلة (1957/1960)، ولكنه اشتمل على كثير مما يُحكى، على المستوى الأُسري، وفيما يتصلُ بأحوال المجتمع والوطن.

ولا تستقيم الحكاية إلا بالإشارة إلى ملامح حياة طفولة عشتها قبل أن أدخل مسار ذلك الزمن...

بدأ ذلك الزمن في وقت كانت الدنيا في عينيَّ لا تزيد عن (شارع الريف)، حيث يقع بيتنا في (غيط العنب)، أقصى جنوب الإسكندرية، وكنتُ حين أفكرُ في التوسُّع أتحرك إلى كوبري راغب، القائم على ترعة المحمودية(*)، وهي حدود غيط العنب الشمالية. فلما جاء الزمن الدمنهوري، بارحتُ عالمي الضيِّقَ، وركبت القطار، لأول مرة في حياتي، مع أسرتي، في رحلة طويلة عجيبة، استغرقت نحو ساعةٍ كاملة، إلى محطة السكة الحديد بدمنهور، التي خرجنا منها (إلى أعلى) عبر كوبري بسلالم، أوصلنا إلى صفحة المدينة، خارج المحطة. فها أنا أرى (كوبري) من نوع آخر، مختلف عن كوبري راغب، ولا تجري تحته ترعة، وإنما قضبان سكة حديدية. والمؤكد أن ذلك المشهد الاستهلالي في الزمن الدمنهوري قد ترك في نفسي أثراً، وحفظته الذاكرة، فقد ظللت كلما سافرت إلى دمنهور، بعد أن كبرتُ، أقف وأنظر إلى الكوبري مبتسماً، ويشملني نطاقٌ من الطاقة الإيجابية.

وكانت بداية الزمن الدمنهوري إيذاناً بانعطافة كبيرة في مستهل حياتي، فقد كانت بداية خبرتي بالمدارس في مدرسة أهلية، إسمها مدرسة رياض، ومالكها، وناظرها، هو الأستاذ رياض، الذي لم يلبث جدي لأبي أن انقلب عليه، وطالب بإبعادي عن مدرسة ذلك (المسيحي)، علماً بأن جدي كان آخر من يهمهم الشأن الديني، فقد كنت أراه يشرب، كما سمعت عن علاقاته النسوية العديدة؛ وفيما بعد، علمت أنه من كوادر الحزب الشيوعي المصري. لكن رأيه كان بمثابة الفرمان، فانتقلتُ من مدرسة رياض المسيحي، إلى مدرسة أخرى، على النقيض تماماً، إسمها مدرسة الجمعية السنية لتحفيظ القرآن الكريم.

انتقلت من مدرسة فيها (أبله سميرة)، التي كانت ترتدي جونلات هفهافة، ويداعبها الأستاذ حلمي، السكرتير، بصوته وأصابعه، أمام أعيننا، خلف باب حجرة الدراسة، إلى مدرسة أقضي فيها 6 حصص، زمن كلٍّ منها ساعة، خمس منها قرآن كريم، والسادسة أي شيء آخر، ولا نرى طول اليوم إلا المدرس الوحيد، هو الشيخ الشورى، الذي ضبط وهو يلوط بأحد تلاميذه الأطفال، وقد لجأ إلى حيلة لتهيئة المجال لنشاطه، فاتفق مع الأطفال على (لعبة) أسماها (شمسٌ-قمرٌ)، فإن صاح (قمرٌ)، استخدموا أذرعتهم كوسائد يلقون فوقها رؤوسهم، بعيون مغمضة؛ ولما يصيح الشيخ (شمسٌ)، فإنه يدعوهم للاستيقاظ. وكان الأطفال يستغربون من مرات عديدة، يطول فيها الوقتُ بعد أن يصيح الشيخ (قمرٌ)، حتى أن بعضهم كان يستسلم لنعاس فعلي!.

وعاد جدي فاستبعد (مدرسة الشيوخ)، بعد أن أرعبته فضيحة الشيخ الشورى، وألحقني بمدرسة مسيحية أخرى في غيط العنب، كانت معروفة باسم (مدرسة عدلي عيَّاد)، فهي تحمل اسم مالكها، وناظرها.

وحلَّ الزمن الدمنهوري، لينقذني من هذا التخبط بين المدارس، فأنتسبُ لمدة سنتين إلى مدرسة مختلفة تماماً، هي مدرسة (الجيوشي) الابتدائية، في منطقة (شبرا)، بدمنهور، فكانت نقلة حقيقية، عشت فيها عالماً مختلفاً تماماً عن عالم مدارس رياض وعياد وشيخ قوم لوط!

وما كان الزمن الدمنهوري ليحلَّ إلاَّ بحصول أبي على وظيفة في مدينة دمنهور؛ فبعد أن حصل على شهادة (التوجيهية)، المعروفة الآن بالثانوية العامة، تقدم إلى مسابقة توظيف أعلنت عنها وزارة الداخلية، لشغل وظائف مدنية بها. ونجح في المسابقة، وتقرر توظيفه كاتباً بالدرجة السابعة، في ديوان مديرية الأمن بدمنهور. وكان ذلك، بالنسبة له، وبالنسبة للأسرة كلها، زمنا مختلفاً، فقد انتقل من كادر العمال، حيث كان يعمل في شركة الغزل القريبة من بيتنا في غيط العنب، في نوبات نهارية وأخرى ليلية، إلى كادر (الأفندية)، إذ أصبح يُنادى بـ (سعد أفندي). وأقبل على وظيفته الجديدة، أو زمنه الجديد، متحملاً ما كان يجده من رهق في الاستيقاظ المبكر، ليلحق بالقطار، ليصل إلى مقر عمله في (قلم التراخيص) بمديرية أمن دمنهور، في الثامنة صباحاً. ثم يعود ليستقل قطار العودة إلى الإسكندرية، بعد انتهاء الدوام الرسمي، والنهار يزحف إلى نهايته، لينام، ليستيقظ ويلحق بقطار دمنهور.

فكان قرار أن تنتقل الأسرة المكونة من أب وأم وأربعة أبناء، ليعيشوا مع الأب في موقع عمله، فبدأ الزمن الدمنهوري، بالنسبة لي أنا، على الأقل، وكما أسترجعه من خلال ذكريات الطفولة.

كان أول مسكن شغلناه في دمنهور مطلاً على شريط القطار، قريباً جداً من مزلقان يجاوره مقام شيخ اسمه الشيخ عدس، فسُمِّيَ مزلقان سيدي عدس. وكانت المسافة بين البيت ومدرسة الجيوشي الابتدائية قصيرة نسبياً، كنت أقطعها سيراً على قدميَّ بمحاذاة شريط السكة الحديدية.

وبدأت حياتي المدرسية، في الصف الخامس الابتدائي، كأنني ألتحق بمدرسة للمرة الأولى. كان التواجد في المدرسة حدثاً مبهجاً. وكنت أراها تسبح في أضواء، في اتساع يشغله هواء نقي منعش، بعد أن طال تخبطي في مدارس تبدو وكأنها توشك على السقوط، أو أخرى جهمة، تقبض الروح. والأعجب، ساحة المدرسة المتسعة، التي كنا نقضي فيها حصتين للألعاب الرياضية في الأسبوع، وهو أمر لم أعرفه من قبل في الإسكندرية. والغريب، هو أنني قضيت بعض الوقت متوجساً أن يدخل الشيخ الشورى ضارباً باب حجرة الدراسة بقدمه، كعادته!.

واكتشفتُ أن زملائي التلاميذ على درجة ملحوظة من النظافة وحسن الهندام، ولم يكن ثمة زيٌّ مُوَحَّد. كما تمكنت من مصادقة ثلاثة أولاد، أحدهم من كان يجاورني في المقعد الثنائي بحجرة الدراسة. وانتشر اسمي في حجرة الدراسة، وخارجها، واشتهرت بلقب (أبو اسكندر)!.

غير أن الفرحة الأكبر جاءت من تنوع الدروس التي كنت أتلقاها في مدرسة الجيوشي. كان هناك مدرس للعلوم، وكان مدهشاً في أسلوب شرحه للدروس، وربما يكون هو أول من غرس فيَّ ميولي العلمية، التي انتهت بالتحاقي بكلية العلوم فيما بعد. أما مُدرِّسة المواد الاجتماعية فقد كانت تجسيداً للرقة والبساطة، ذات جمال هادئ. ولست خبيراً بتعقيدات المشاعر في تلك السن، لكن المؤكد أنني أحببتها. وقد كدت أطير فرحاً حين طلبت منا أن نكتب سطوراً عن الوحدة بين مصر وسوريا، فاستجمعت أنا كل ما اختزنته من أخبار المذياع، ومن خطابات الرئيس جمال عبد الناصر، واخترتُ أن أكتب عن شكري القوتلي، المواطن العربي الأول، الذي آثر أن يتنازل عن الرئاسة طوعاً، ليصبح عبد الناصر أول رئيس للجمهورية العربية المتحدة.

وجاءت (أبلة إعتدال)، وهذا هو اسمها، في اليوم التالي، وأشادت بما كتبته، وطلبت مني أن أقرأه في حجرة الدراسة، وصفقت لي مع زملائي، الذين ارتفعت أسهم المودة بيني وبينهم بعد هذا الأمر.

ولا زلت أتذكر، حتى الآن، اسم الأستاذ (عبد الله الزرقا)، مدرس التربية الرياضية. كان شخصية ساحرة، متعددة المواهب. وكنا نلتقي به مرتين في الأسبوع، حسب جدول الحصص، ثم شاءت الظروف أن يتكون في المدرسة (تنظيم) اسمه (القسم المخصوص)، أشرف عليه الأستاذ الزرقا، وشاركت أنا في بعض أنشطته، أبرزها أوبريت .. نعم .. أوبريت؛ قام هو بتأليف كلماته، وتلحينها، وإخراجه مسرحياً!. وكان يحكي عن أعمال السخرة في حفر قناة السويس. ومن كلماته التي لا زلت أتذكرها (على فين مودِّينا .. يا سايق الأحرار؟. غريب في وادينا .. وبتحكموا بالنار). وقد وقع اختيار الأستاذ المخرج عليَّ لأقوم بدور شخصية أجنبية، تحمل طول الوقت سوطاً، تلوح به لتخيف عمال السخرة!

ثم حدث أن قرر أبي الانتقال إلى مسكن آخر، بعد أن أقنعه زميل له في المديرية بشقة مجاورة لمسكنه في منطقة (أبو الريش). ولم يكن انطباعي الأول عن ذلك الزميل طيباً. كان اسم عائلته (حنطور)، وقد ضحكت طويلا لما سمعته من أبي لأول مرة، فقد كان الحنطور، بالنسبة لي، طول الوقت، هو عربة نقل الركاب ذات الغطاء، التي يجرها حصان، فكيف يصير رجلٌ حنطوراً؟. وازداد نفوري من (حنطور) بعد أن ازدادت مشقة ذهابي وإيابي إلى، ومن، مدرسة الجيوشي، فقد كنت أقطع مسافة طويلة، مشياً، منها طريق مجاور لساحة هائلة إسمها (الجرن)، مليئة بأكوام القمامة، ويمتد موازياً له صف من مباني محالج القطن. غير أنني لم ألبث أن اعتدت ذلك الطريق، ووجدتُ عليه محطات للتأمل، وأنست لأصوات ماكينات الحليج، واكتشفت أن بالجرن مساحات مقسمة كملاعب لكرة القدم، كنت أقضي بعض الوقت، في طريق العودة، أشاهد جانبا من مبارياتها.

واكتشفت أيضاً أن بيتنا الجديد يقع إلى جوار محطة مياه الشرب (وابور المياه)، الذي كان محاطاً بسور حديدي وأشجار جميلة، وبشوارع مسفلتة دائمة النظافة. وقد شهدت هذه الشوارع النظيفة الهادئة تحولي إلى لاعب كرة قدم. فلم يحدث في غيط العنب أن لعبت (كرة شراب) أبداً. أما في شارع (بابور الميه) المجاور لبيتنا، فقد انضممت إلى مجموعة من الأولاد، يلتقون بعد العصر، كل يوم، ويمارسون كل فنون (الكرة الشراب). والعجيب أنني، وأخي (حسن)، رحمه الله، أصبحنا لاعبين أساسيين، إن غبنا يأتي الآخرون لبيتنا لاصطحابنا إلى (الملعب)، وكنا نجيد تسجيل الأهداف.

وكانت شقتنا في أبي الريش أوسع من شقة شبرا. وكانت مالكة المنزل أرملة إسمها (أم حمدي)، أتذكر أن أمي لم تكن تميل إليها، فقد كانت تكثر من الكلام مع أبي، وتتضاحك. ولكني أحببتها، فقد كانت بيضاء جميلة الملامح، وكانت تداعبني كلما رأتني. وكان بيتنا في (حارة سد)، ضيقة، ولم يكن الجيران يأبهون، فيتركون نوافذهم وأبواب شرفاتهم مفتوحة، وكانت أصوات أحاديثهم البيتية تصل إلينا، دون أي اعتبار لخصوصيتها. وقد أذهلني ذلك، فكنت أتسلى وقتاً طويلاً بمتابعة حوارات وعراكات أفراد الأسر المجاورة لنا. ولا زلت أتذكر أنني شاهدت، بالتفصيل، عملية وضع طفل. وأتذكر صرخات الأم، وكان اسمها (هنا)، وتشجيع أمها لها: (إحزجي يا بت .. خلاص يا هنا .. الراس ظهرت)!. ثم لم تلبث أن تصاعدت صرخات الوليد، الذي رأيت جدته ترفعه بيدها، وتلفه، وتتعامل معه بأسلوبها.

وأضاف الزمن الدمنهوري الكثيرَ إلى خبرات الأسرة كلها. فقد (فوجئنا) بأن لنا أقارباً يعيشون في قرية غير بعيدة عن دمنهور، إسمها (كفر بني هلال)، زرناها أكثر من مرة عن طريق قطار الضواحي الذي يصل بين دمنهور ودسوق. وكانت زيارة الريف، أو (الفلاحين)، حدثاً عظيماً، بالنسبة لي، فقد أنست إلى (انعدام الجدران)، حيث كنت أمضي طول وقت الزيارة منطلقاً في الحقول المحيطة ببيوت أقاربنا، ونشأت بيني و(التربة) علاقة مودة، واهتممت بجمع نماذج من النباتات البرية وقواقع دقيقة الحجم، احتفظت بها زمنا طويلاً. كما هالني وجود (الفرن) في بيوت الفلاحين، واستخدام أقراص مجففة من الفضلات الحيوانية (لها اسم شائع هو "الجِلَّة") كوقود، وإنتاج الخبز ذاتياً، بغير اعتماد على مخابز عامة، وبنوعية مغايرة، تجعله مقبولاً للأكل دون إضافات.

ولم نلبث أن اكتشفنا وجود (فرن خبيز)، مبني في كوخ صفيحي، أعلى بنايتنا، وكانت مالكة البيت تستخدمه وحدها، فلما طلبنا منها أن تسمح لنا باستخدامه وافقت، بل إنها علَّمت أمي طريقة إعداد (العجين)، كما عرفتنا على امرأة خبَّازة إسمها (جلاجل)، كنت أعد لها أكوابا من الشاي الغامق طوال وقت عملها، وكانت، في كل مرة، تُعدُّ لي نوعا من الأرغفة، اسمه (بكُّوم)، عبارة عن دقيق معجون بقليل من الماء، مع كثير من السمن البلدي والسكر، وتوصيني أن آكله وهو ساخن، فكنت أقبل عليه بشراهة، ولا ألبث أن أروح في سبات عميق، يمتد لساعات!.

وخُضتُ في دمنهور (امتحان القبول)، في نهاية المرحلة الابتدائية، وحققتُ نجاحاً كبيراً. وكانت فرحة الأسرة بنجاحي كبيرة، وامتدت إلى أقاربنا في كفر بني هلال، الذين حضر وفد منهم للتهنئة، ومعهم سلال بها ما لذ وطاب من خيرات الريف.

لكن فرحتنا بنجاحي لم تلبث أن انطفأت، إذ مرضتُ بحمى تيفودية، ولازمت الفراش طوال أسابيع الإجازة الصيفية، حتى منَّ الله عليَّ بالشفاء.

وتقرر إلحاقي بمدرسة إعدادية، إسمها (قرطسا)، لا أعرف معناه حتى الآن، ولم أسع لأن أعرفه، لأنني كرهتها من اليوم الأول، فقد كانت مختلفة تماماً عن مدرسة الجيوشي، وتقع في شارع ضيق، أو زقاق، شبه مظلم، وقاعاتها كابية.

والحمد لله أن تساوقت الظروف، فأبعدتني عن (قرطسا)، إذ تم قبول طلب أبي للانتقال إلى مديرية أمن الإسكندرية، وانتقلنا معه بطبيعة الحال، لينتهي ذلك الزمن الدمنهوري الجميل.

(*) أما الترعة، فقد تم ردمها في نهاية العقد الثاني من هذا القرن، وترتب على ردمها، بطبيعة الحال، إزالة الكوبري، وتغيرت ملامح منطقة غيط العنب تماماً.