تقترح فقرة ذاكرة الكلمة قصائد للشاعر يانيس ريتسوس، أحد الشعراء اليونانيين المرموقين في القرن العشرين، والذي سبق له التتويج بجائزة لينين للسلام والتي اعتبرها أهم من نوبل، الى جانب جائزة الإكليل الذهبي المقدونية، ترجمت قصائده الى العديد من اللغات ومنها العربية وترك خلفه إرثا إبداعيا غنيا ولعل الشاعر الكبير أراغون كان محقا حين تساءل "من أين يأتي هذا الشعر؟ من أين يأتي حس الرعشة هذا؟"، واصفا إياه بأحد كبار الشعراء النادرين.

قصائد

يانيس ريتسوس

 

تجارب

تهجرني الألوان، مع مرور السنين، وأهجرها

ويبدو لي الحجر الأبيض أكثر ملاءمة

أنحت بطرف أصابعي، بملء راحتي، بشفتي

جسماً أبيض، نقيضاً لليل، مجانساً لليل

يبرز جلياً في العتمة، يشع، أترك

بشهوة لساني في فم الرخام. من الآن فصاعداً

يحق لي أن أصمت، وأن أطبق أهدابي.

* * *

 

في الفراغ

سقوط الماء فوق الحجر.

صوت الماء في شمس الشتاء-

صوت

عصفور منفرد.

في السماء الفارغة

يبحث من جديد عنا

من جديد يضمر

(يضمر أي "نعم"؟)

يسقط من الأعلى

وفق الحافلات الواقفة

المليئة بالسائحين الموتى منذ عصور.

* * *

 

مشهد

أنظر، الآن. هنا ستعيش، قال، هنا.

ما يهم: هنا أو هناك؟

بعضهم يهبطون، يصعد آخرون السلم ذاته

ولا يتبادلون التحية. نافذة مغلقة. نافذة

أخرى تنفتح. المنظر هو نفسه: واد، رابية،

شيخ يتقدم في الغسق وحيداً مع عكازه،

زيتون، دوال، المشنوق، أشجار السرو

والحور، جرس، النهر، الكلب، الباص،

جرة، تماثيل، أجنحة كبيرة من الرخام

أتظن، حتماً لو أنها على كتفيك، انك قادر

على الطيران؟

* * *

 

بياض

وضع يده على الصفحة، لكي لا يرى الورقة

البيضاء، وعاش تحت يده العارية. حينذاك

أطبق أيضاً عينيه، وأصغى إلى بياض مكفن،

معتم، لا يوصف، يتصاعد في نفسه.

* * *

 

دقة

لم نكن نطيق الفراغ غير المسكون. كنا غالباً

نصطحب المرأة الكبيرة إلى الضفة النهر، أو

نضع كرسياً فوق شجرة. أحياناً، كنا على

العكس، ندخل شجرة كبيرة إلى غرفة الطعام

حينذاك نسمع الرصاص، وراء السياج،

متأخراً، مع هبوط المساء. ومع أننا كنا

نعرفه وننتظره، فقد كنا دائماً نفاجأ – كان

ذلك يؤكد لنا المكان الصحيح للكلمات.

* * *

 

 مكان مجهول

مضى بيتروس إلى الشرق، مضى الكسيس إلى

الغرب،

  • لم نعد نعرف شيئاً من أخبارهما، ولا نعرف

ماذا حدث لهما.

نجلس على هذا المفترق، نظمنا هذا المكان

وضعنا لافتات، كتبنا عليها أسماء.

يمر أصحاب العجلات، معهم أحيانا عنب،

أو برتقال، وأحياناً تفاح، يسألون:

" هل هذه طريق إسبارطة؟ ارغوس ؟ " نحرك

رؤوسنا أن " نعم " – لكي لا نخيل لهم أننا

نسينا منذ سنين

نصعّد الدخان من أنوفنا، كما لو أن نار

تشتعل فينا – ( أية نار وأية معرفة ؟) مع

ذلك، نعيش، ونتخلص منه،

أحياناً نبتسم، - حينذاك ننظف أسناننا الأمامية

بأظافرنا، لكي لا يبدو أننا لا نعرف أننا لم

نعرف أبداً. أم لعل ما لم نعترف به. ما يزال

يستبقينا في انتظار ساعة الاعتراف؟

* * *

 

بعد المطر

كان ثمة، بعد المطر، عصافير وغيوم صغيرة.

وجاء الغسق هادئاً ، بألوان كثيرة . الوردي

يرتعش في الماء إلى جوار البرتقالي . قال

غريب أن تكون ألوان، وأن نكون رأيناها.

تباع في مطعم الجند لفافات التبغ، وبطاقات

لعيد الميلاد، وقطع صغيرة من الشوكولاته.

المهم أن تنسى. الأضواء تتوقد. والمرضى

أصدقاء الغسق. تحت الأشجار مقعدان

وطاولة كبيرة للحراس. وقال: هناك جنس

غريب من السمك لا يتكلم.

* * *

 

الحاجة إلى التعبير

قال: الكلمات هي أيضاً تموت مع الزمن

والتعب. لم يبق شيء ليعبر عن أي شيء.

نحلت أصابعه. سقط خاتمه. يربطه بطرف

خيط ، يدليه في البئر، يسحبه، لا شيء.

لم يعد للخيط أي معنى. لكن ارتطام الخاتم

بالحجر بدا كأنه يقيس شيئاً ما، شيئاً كان لا

بد من قياسه لكي يصل مساء إلى الرقم المفرد

المنقوش وراء الباب.

* * *

صورة مكبرة

لم يكن لنا سند آخر.

هو، الجميل غير المهموم ، كان يتوسد حجراً

ويرقد على الأرض.

كنا نعرف: سكينه في جيبه، مطبقة،

تدفئها حرارة جسده، وبين أسنانه قشور

العنب.

الباقي، في الليل، كان أحمر اللون.

 

(مختار من مجموعتي الشاعر: الجدار في المرآة، وقبل الإنسان)