يكتب محرر باب سرد بـ(الكلمة) هنا تلك اللحظات العابرة المثقلة بالكثير من الرؤى والكشوف، والتناصات الخصبة. لحظات كثيفة تنبض الكلمات فيها بطبقات من المعاني والرؤى والدلالات، التي تتراكب وتتفاعل في محاولة مستمرة لإدخال القارئ في شبكة تلك الرواية الواحدة التي يتكلم عنها بورخيس.

لحظات عابرة

أحمد زغلول الشيطي

 

يشتمل العالم على ...
أدهشني زعم الكاتب الأرجنتيني: بورخيس «أن كل روائيي العالم إنما يكتبون رواية واحدة» منذ نشأة الرواية حتى الآن، ويأتي الكُتاب الجدد ليسهم كل منهم فيها بدوره، رواية واحدة هي رواية العالم، وكل رواية جديدة هي إسهام في هذا النص الكوني غير المتناهي، مثل خريطة تفصيلية بحجم العالم، خريطة للحظات الكونية، لقصة الإنسان على الأرض، تشتمل على جميع اللغات والنبرات والأماكن والأصوات والوجوه والحبكات والتوقعات والكوارث والأحلام والكوابيس والحروب والموت والحب والجغرافيا والتاريخ والقرى والمدن والشوارع والأديان والسياسيين والعاهرات والعربجية والمدرسين وسائقي الحناطير والقطارات والأنفاق والإمبراطوريات والعبيد والثوار والقواميس والتجار والفلاحين والممثلات والخونة والرهبان والتجار والسينمائيين والمقاولين وأصحاب البيوت ذات الأرقام الفردية وكذا البيوت ذات الأرقام الزوجية والبيوت التي بلا أرقام وسكان الخيام وصانعي الطائرات ومكفني الأموات والروائيين وبناة القبور وذوي العاهات والرحالة والمسافرين في قطارات ليلية وفي جميع المواعيد وراكبي التوك توك ومغتصبي النساء والممثلين وعازفي الكمنجات والظلال ومحصلي التذاكر والتائهين في الصحراء وبناة السدود والمغتربين في اللغة والغزاة والمحتلين والأيتام وساكني القصور وأهل الميت وكتاب القصة القصيرة والذين يعانون من القذف السريع والنجارين والجراحين وكتاب السيرة الذاتية والخرتية ومرتادي الطرق السريعة والحوامل في الشهر السابع وأصحاب القبلة الأولى والمناصرين للقضايا العادلة والقضايا الخلافية والأزهريين وخريجي هارفارد ومستوردي الأبلكاش والمنقبين عن البترول والصحفيين وكُتاب الأعمدة والرياح والمواسم والبحار ومساحي الأراضي والفضائيين ومدرسات أولى ابتدائي وصباغي الملابس والبرجوازيات الملولات ومناصري غزة والمنسيين في صحاري الحروب وكارهي البشر وأكلة لحوم البشر والأنهار وجيمس جويس والخيال الروائي وسكان السيدة زينب ودار السلام وعزبة «5» والمحامين ونجوم السينما ومشاهدي الأفلام وممارسي العادة السرية ومباحث الآداب والأمريكان من أصل مصري والمعاقين وعربات تكريم الإنسان والبارات الفقيرة وزائري الموتى والأعراس والمهاجرين إلى السودان والعائدين من أمريكا وفرانز كافكا والسياح وفصول محو الأمية والصيادين وأصحاب الشفاه الغليظة والشهداء والمحتجزين والمختونين والأفاقين ولاعبي السيرك والعوانس والأرامل ومصارعي الثيران والنساء المرتديات الملاية اللف والمنقبات ومرتديات البكيني والعاريات والمتبولين إلى جوار الحائط وفي المراحيض العمومية والموروطين والذين يسيرون بسوستة مفتوحة ومؤلفي الأدب الساخر والعائدين من كل مكان والذاهبين إلى مناطق مجهولة وشعراء العامية وأدباء الأقاليم وأسامة بن لادن وبيوت المغتربات والمسافرين إلى اليمن وزارعي الكبد والذين يبدأ اسمهم بحرف الدال ومواليد برج العقرب والمترجمين ومزوري الانتخابات والقضاة ولجان التحكيم والفائزين بالجوائز ومن استبعدوا في اللحظات الأخيرة والخارجين على التاريخ وممثلي التراجيديا وأطباء الأمراض النفسية والممرضات وأصحاب السيارات الخضراء والغرقى ومحدثي النعمة وكتاب السيناريو ومؤلفي الكتب الدراسية ومحترفي الشطرنج والنائمين في الفنادق ويوم «3» فبراير في جميع الأعوام وقارئي الكف والسحرة والانقلابيين وسارقي الدراجات والمحكوم عليهم بالإعدام وصوت سيلين ديون وكوبري عباس لأحمد عدوية وعم أحمد في شارع قصر النيل ومحبي أدب نجيب محفوظ وزوجات السفراء وتوت عنخ آمون والمايا والأزتيك والمراهقات في أولى ثانوي والمنتظرين والمرخص لهم وأطفال الشوارع والمسافرين إلى الهند وشاربي الكحول ومدخني السجائر المارلبورو الأحمر ومذيعات التليفزيون والملك عشية إعلان الجمهورية ومغتصبي الأطفال والناس ذوي الذيول وشعراء قصيدة النثر وحزب الله وماكدونالدز والسوريين في أمريكا اللاتينية وشفيقة ومتولي وصدام حسين وفتيات المغرب والباحثين عن الزئبق الأحمر وخليل حنا تادرس والأمازيغ وصدر إليسا وموت سعاد حسني والكافيهات ورواد المولات وديستويفسكي وعلي عزت بيجوفيتش والمرضى في معهد السرطان والشيخ إمام والأب الروحي وسينما اللبان والمتحدثين بالسريانية ونكسة 1967 ووعد بلفور وأنا حين كنت مقيدًا بما يمكنني أن أعرف، أيضًا، حين لم أجد نهاية ممكنة لهذا النص.

 

زاهية

فاجأته يد تلمس خصره من الخلف، التفت، كانت فتاة في نحو السادسة، تقضم من رغيف ملفوف في يدها، وباليد الأخرى تطلب حسنة، أخرج عملة معدنية كيفما اتفق.

كان قد وصل، رأى بناية مستجدة إلى جوار البيت القديم، الباقي في مكانه على ناصية «حارة نعيم». لا بد أن عائلة الرمالي قد هدمت البيت وأعادت بناءه، أو أن أحد الورثة انفرد بالبيت وحوله إلى عمارة من الخرسانة والزجاج. لماذا جئت الآن؟ أنت غادرت بملء إرادتك إلى القاهرة، وتركت الجميع لمصائرهم، أردت أن تصنع لنفسك مصيرًا مختلفًا، لماذا عدت بعد هذه السنوات من القطيعة؟

أتعلم أن معظم من تعرف إما أنه مات، أو قعيد في البيت مصابًا بأمراض الشيخوخة. أتعلم أن «زاهية» نفسها قد ماتت، هي التي ترددت على المعهد القومي للأورام لسنوات، ولم تفكر أن تتصل بك مرة واحدة، وكان بينها وبينك عدة محطات بالأتوبيس أو المترو، هل رأت أنك غادرت كمن باع؟ أم أرادت أن تبقى صورتها القديمة محفوظة في خيالك، بعد أن هزمها المرض؟ أتعلم أنها فقدت وزنها وراحت وهي بوزن طفلة في الخامسة. نامت في غرفتهم الوحيدة المجاورة لبئر الصرف الصحي الحكومي. كنت تعلم أنك على الرغم من افتتانك بها لن تتزوجها، كان آخر ما نطقت به هو اسم أمها، لعلك تعلم، أنها متلازمة للعذاب تورَّث جيلًا بعد جيل.

سار خطوات قليلة إلى حيث منزل طفولته، كان كما هو، فيما عدا أعمدة استجدت لتحمل الهيكل المتداعي، وفرشاة جير بيضاء أعادت طلاء الطوب الأحمر، هبت نسمة صيفية، لفحته رائحة لا تنسى، لطعامه ما بعد الفطام، أمام الشيش المغلق، طعم اللبن الساخن المسكوب، لماذا لا تكف الذكرى عن القدوم بإلحاح، هل مات جميع من صنعوا جميع الأصوات والروائح والضحكات، هل بدأ الجيل الثاني في الرحيل تباعًا؟

تتباعد الأيام. على خلاف زيارة قديمة، لم يصادف أحدًا يعرفه، تلك النظرة المرتبكة التي تستعيد من الذاكرة، ملامح الوجه القديم، حين كان في العشرين، قبل أن يغادر، هربًا من المصائر المحتومة، ما حدث صار مجرد صورة بعيدة غائرة، يحتمل أن تكون مجرد خطأ من أخطاء الذاكرة، غير أن ذكرى اللبن المسكوب لا تكف عن شق الماضي إليه، يلسع اللبن الساخن الجلد العاري لطفل في نحو الثالثة من العمر، يجلس وحيدًا مع أمه في حجرة بها سرير حديدي يشغل معظم المساحة، مرفوع على أعمدة تطاول الإطار الأعلى للنافذة التي يتدفق منها الهواء وشمس صباحية تفرش على الأشياء لونًا أبيض مشعًّا.

الآن، وهو على وشك إتمام عقده السادس، يدرك الأثر الخاطف للإحساس بفوات الوقت، وتشبث الذكرى بالسنة الثالثة للميلاد، والسؤال الذي يقف في الحلق كحجر، عما حدث لهؤلاء الذين رحلوا، ولم يدركوا ما آل إليه كل شيء، يغمضون أعينهم عادة وقد تصالحوا مع كل شيء ما بين السماء والأرض، فقد بدأت رحلتهم إلى الخلود، إلى العالم الآخر الذي لا تفض أسراره.

هل تذكر «زاهية» التي تزوجت ولم تنجب، يوم فتحت له الباب الخشبي المتهالك لتريه جمال نهديها؟ لتتركه يدفن وجهه بينهما؟ هل بالت على نفسها قبيل الرحيل؟ يذكر أن والده قد بدأ رحلة الأبدية بابتسامة لم تغادر وجهه حتى بعد نقله من مستشفى الحميات، يدرك الوخز المؤلم للحقائق الأولى في حارة نعيم، على تخوم مخيمات الغجر، وعلى مقربة من حارة معري، لن يكون هناك من معنى خارج المكان وإلى أي عائلة تنتمي.

يفاجئه من الذاكرة صوت أخيه الراحل، «بنيت لنفسك مقبرة حيث رحلت، هل ستستأجر مشيعين ومعزين يا ابن أمي؟». بدلًا من مقابر الصدقة ستكون لك مقبرة برخامة؟ محفور عليها الآيات إلى جوار اسمك، وهل هذا قليل؟ الموت السعيد، هو مقبرة تليق، مبكرًا جدًّا أدرك عدوه الذي سيرافقه مرافقة لصيقة في الحياة والموت، حتى مشارف الأبدية، فالطبقات هي المحطة الأكثر قداسة في رحلة الجنون والألم والغربة، لتكن مطمئنًّا، سوف تولد ومعك عدوك، من حسن الحظ يمكنك تغيير العدو، يمكنك أن تصبح عدوًّا بدورك.

غادر وقفته أمام البيت متأهبًا للذهاب، فوجئ أن الفتاة كانت تتبعه، ولا زالت تأكل من الرغيف الملفوف، وجد نفسه يسألها بينما يعلو وجهه شبح ابتسامة: «اسمك إيه؟».

ابتلعت لقمة تمضغها وأجابت ضاحكة: زاهية.

 

بينما أتقلبُ في نومي

أعرفُ الساعة بدقةٍ دون أن أفتح عينيَّ في ظلامِ الحجرةِ، يخبرني صوتُ حركة السيارات في الشارعِ الرئيسي المزدوجِ، في أي لحظةٍ من الليلِ نحن، أصواتُ سياراتِ أول الليلِ غير سياراتِ آخره، الأبواق النزقة، الغاضبة، المصابة بلوثة جنون تأتي ما بعد الخامسة مساءً، وتستمر إلى نحو الحادية عشرة، الكلاكسات المتقطعة المتباعدة التي يعلو صوتها بالكاد - كأنها متأخرة عن مواعيد لن تلحق بها أبدًا - تتوالى بتدرج لا يخطئ، من الحادية عشرة إلى ساعة الفجر. تعيشُ المدينةُ في حجرةِ نومي، المدينة حيث ولدت، لأب يبتسم ابتسامة أبقاها الأبيض والأسود - ربما بطلب من المصور - مجرد محاولة خجلى، هل كانت ابتسامة هازئة؟ وأم ينسدل شعرها الأسود الفاحم على ظهرها وجانبي وجهها.

بعد الانتقال إلى مصر الجديدة، أعلم أني سوف أرحل مثلما فعل أبي وأمي، لقد تركا ابتسامتيهما في صور الأبيض والأسود، وركب كل منهما منفردًا بتذكرة ذهاب قطار الدلتا الخشبي المتهالك، تركت أمي طرحتها الشيفون السوداء الشفافة خلفها على مقعد لم يكن مريحًا في الليالي المؤرقة، وترك أبي بالطو أسود صغرته أمي ليكون على مقاسي، اعتادت «ياسمين» جدتي لأبي أن تنظر إليه ساهمة وتهمس «من ريحة المرحوم».

بينما أتقلب في نومي، من جانبي الأيسر إلى جانبي الأيمن، يغمرني الفخر الزائل إذا ما تحسست الآلة بين فخذي ترفع القماش بعناد، أتغاضى بتسامح عن أن هذا مجرد امتلاء للمثانة، أضع يدي كوسادة على السيراميك لأسند رأسي عليها بينما أفرغ الماء الثقيل في قاعدة الحمام الوردية، تيار غليظ من الماء الدافئ يرتطم بمائها ويغير لونه، لقد قيل دائمًا إن القاعدة معمل تحليل بول مجاني، يكشف عن اللون، وما إذا كان داكنًا أو أصفر، مدممًا أم صافيًا؟ لم تعد هناك فرصة لتبديل العينة، بعد وضع أكواد على الأوعية البلاستيكية، لن تتملص مما اقترفه جسمك، فرصة إبدال النتائج معدومة، هل يضعون أكوادًا للأطفال المبتسرين في الحضانات حرصًا على عدم إبدالهم، بعد انفصالهم عن أمهاتهم؟ أنقبض من إفادات معامل التحليل، أتحاشى معرفة ما بها من نتائج، كأنها سوف تخبرني بالتاريخ المتوقع لموتي، أو ضرورة مراجعتي لطبيب أورام، أنظر إلى وجه الطبيب بينما يقرأ النتيجة، متوسلًا أن يخدعني، ألا يذكر أية مصيبة قد ينطوي عليها جسمي، يذكرني وجهه بوجه الطبيب في فيلم «مقتل غزال مقدس»، يدان طاهرتان، نقيض للجسد المدنس بالمرض، الجسد المتداعي، الآخذ في الفناء، عبر عملية تفسخ معقدة، يدان تستحقان التقبيل بعناية، بريئتان من المرض، أترك العينة في كوب على الرف المعقم في الحمَّام، فأشعر بالرضا أن العينة وفيرة للغاية، لا بد أن مستلمة العينة ذات البالطو الأبيض، والأظافر الفضية، ستكون راضية أيضًا.

هل صار الأمر يتعلق بمدد متتالية؟ نظير مدفوعات متنوعة؟ أبواق أخرى تتدافع حتى سور المدرسة الابتدائية الغارقة في سباتها الليلي، مصباح وحيد يضيء بقعة أمام البوابة المغلقة، ثلاث سيارات خاصة تتنافس على أن تقل أنثى عشرينية، أيدٍ تلوح عبر نوافذ السيارات، ثم صيحات غاضبة، يبدو أن الفتاة تفكر - بينما تؤرجح حقيبتها بدلال مصطنع - أي السيارات الثلاث تركب، المبتدئات يفضلن صاحب السيارة الوحيد، على الرغم من عدم وجود ضمان يبقيه وحيدًا إلى النهاية.

بينما أتقلب في نومي، تتقلب المدينة في يقظتها نظير كروت مدفوعة مقدمًا، يواتيني الإدراك، أنها مسألة وقت.

 

مسافر
علمت مصادفة بهذه الواقعة في العام 2012، بينما كنت أحاول شراء جاكت جلدي رخيص من سوق «ليفربول» التي تنعقد يوم السبت من كل أسبوع في مدينة لندن العظيمة، لقد نقلها إليَّ رجل خمسيني، وكان قد خمن بفطنة مذهلة من لهجتي إلى أي دولة أنتمي وبأي منطقة ولدت بها وعشت، وأنا أستفهم منه بإنجليزية المبتدئين عن بضاعته، قال دون أن أبادره بالسؤال بالعامية المصرية الصريحة: إنه في العام 1981، أدار مراسل جريدة المساء قرص التليفون مرات عديدة، منتظرًا بنفاد صبر أن يرد عليه أحد المحررين ، كان يتصل من تليفون صيدلية «مختار» الشهيرة التي يعمل بها صديقه الصيدلي تحت التمرين، كانت المراوح تعمل بقوة دون جدوى، فقد كان أغسطس يتمطى بكسل في شوارع المدينة الساحلية، كانت الرطوبة قد ضيقت الخناق عليه ونشرت اللزوجة على الجلد، كان يرغب في إملاء واقعة انهيار المنزل الملاصق لقسم الشرطة، ووفاة امرأة أربعينية، بعد نقلها إلى المستشفى العام، كانت هذه فرصته لعمل مكالمة تليفونية مباشرة إلى مقر الجريدة بالقاهرة قبل أن يأتي صاحب الصيدلية المتجهم عادة، إلا أن المحرر اختار الرد مع قدوم صاحب الصيدلية الذي راح يستمع بغيظ إلى فحوى الخبر الذي يُملى على محرر الجريدة. لقد تنبه إلى أنه يعرف هذه السيدة التي سقط السقف على ظهرها، وتساءل أليست هي التي تبيع ملابس وأقمشة بالتقسيط؟ أجاب المراسل مؤيدًا. قال الدكتور صاحب الصيدلية وهو يطمئن المتمرن، لقد ورثت مهنة زوجها المُتوفى، وكانت قبل ذلك مجرد ست بيت من أصل ريفي. كان المتمرن يستمع باحترام للدكتور الصيدلي متسائلًا وهل تعرف زوجها الراحل؟ قال إنه يعرفه وإنه كان يجلس وسط حلقة من رواد المقهى ويراهن على من يكسبه في لعبة «الكُنكان» وأنه كان نزيهًا يرتدي نظارات الشمس الغالية والمعاطف الصوفية في الشتاء والمعاطف البيضاء في الصيف، وكان مغرمًا بلعبة الورق والطعام الجيد، وأن زوجته من قرية قريبة من مدينة «فارسكور». نظرت إليه وقد تركت الجاكت الجلدي على طاولة العرض، واصل حديثه مستفهمًا دون انتظار إجابة. طبعًا أنت تتساءل لماذا أحكي لك الحكاية؟ ابتسم ابتسامة خفيفة. الأمر بسيط، لكن قل لي لماذا أنت هنا في لندن؟ هجرة؟ قلت بضيق: لا، جئت لأتعلم اللغة. نظر إليَّ باندهاش حقيقي: ألست كبيرًا على التعلم؟ لم ينتظر إجابة ثم أوقعني في الذهول حين سألني: وكيف حال أختك؟ بدا الأمر كما لو كنت في حلم بينما تزداد عزلتي وحيرتي في السوق التي بدأت في الازدحام. عاجلني بإجابة سريعة قائلًا: الصيدلي تحت التمرين هو شقيقي «محسن»، وكان يرغب في الارتباط بأختك الصغرى «حياة». كنت لا أصدق أني أقف في السوق، تحت سماء لندن المتجهمة، ولا كم من الوقت قد مضى. بدا أن الساعة المحددة لإغلاق السوق قد أزفت، والمخالف يوقع عليه أشد العقاب، كانت قد بدأت تمطر، لا بد أن الرجل قد اختفى فجأة حاملًا طاولته كيفما اتفق. شددت السوستة وأغلقتها حتى الرقبة، غادرت السوق دون شراء الجاكت، وتوجهت إلى محطة الأندرجراوند المتألقة بألوان الويك إند البهيجة وصخب الأطفال مع ذويهم، حصلت على كوب قهوة وجلست إلى جوار تمثال الطفلة التي فقدت أهلها أثناء الحرب، وأنا أتذكر صحيفة المساء، المطوية والمخبأة بعناية منذ سنين طويلة في حقيبة خاصة، دون جرأة على إعادة قراءة الخبر بعنوانه الغريب، ذي الرطانة عديمة المعنى، متناولًا خبر وفاة أمي: «مصرع سيدة في انهيار منزل».