الميراث الصوفي الإسلامي في شبه القارة الهندية خلفية لقصة حب بين شخصين تقاطع مصيريهما بسبب موجات الهجرة الحديثة من الشرق إلى الغرب. يخبر "القوال" الراوي-الدبلوماسي الأمريكي من أصل باكستاني-بمصيره المضمر في قلب الغيب، يشعر بالارتياح، فتتعجب صديقته من إيمانه المتعذر تفسيره؛ فهو غير متدين أصلا.

الصوفي الذي أنقذني

ضـياء أحـمـد

 

قال «القوال»: «تكلمت عنك...».

كنت مرتبكا. فقلت له: «عفوا؟».

فقال مبتسما: «.. مع نظام الدين... تكلمت عنك. أنت ستكون بخير، إن شاء الله».

شعرت بالغرابة. قد كانت حياتي حزينة منذ الطلاق لكني ظننت أنني بخير في تلك اللحظة. قد التحقت بوزارة الخارجية الأمريكية من أجل محاولة تكوين ذات جديدة. ونجحت إلى حد ما. بعثت بي الوزارة إلى باكستان (وهي مسقط رأسي) حيث كنت أجلس أمام المغني الشهير الذي كان بحاجة إلى تأشيرة أمريكية لإحياء حفلاته الموسيقية. «القوالي» هي نوع من أنواع الموسيقى الصوفية، كانت إرثه الثمين من سلالته العريقة التي امتدت عدة قرون.

لقد التقيت به قبل اسبوعين عندما أخبرني انه سيزور مدينة دلهي. وعدني بأنه سيصلي من أجلي في مزار نظام الدين الذي كان صوفيا هنديا عظيما عاش ومات في ضواحي العاصمة الهندية في القرن الرابع عشر. ومازال يعيش حيا في قلوب الشعب الذي لم ينس حكمته وشفقته وأخلاقه فضلا عن حكايات معجزاته التي أصبحت أساطيرا مدهشة. لقد أومأت برأسي. لم أعرف كيف يستطيع شخص غير متدين أن يرد على عرض سخي للمساعدة من الغيب.

والآن كان القوال جالسا أمامي. قال مرة ثانية: «ستكون بخير، إن شاء الله». ابتسم مرة ثانية وغادر من حياتي.

قاومت الرغبة في البكاء بدون سبب واضح.

* * *

التقينا، أنا وهي، في دكان قريب من مبنى السفارة الأمريكية. كنت أتمسك بزجاجة نبيذ أحمر. كانت تأكل قطعة شوكولاتة. حاولتُ نكتة سخيفة عن الاندماج المثالي بين الحلوى والمشروب. فشلتُ لكنها ضحكت. أعجبتني كثيرا. الوجه الذكي. قرطين فضيين. شعر كإشراق الخريف. اسمها: آنا.

في الأيام التالية بحثتُ عن فرص للكلام معها. دعوتُها لتناول العشاء في مطعم محلي. التمستُ منها أن ترافقني إلى حفلة في بيت زميلتي. طلبتُ منها الذهاب إلى مقهى شعبي قدم ألذ حلوى «سنداي» في المدينة. لم تقل لا أبدا.

خدمت آنا وطنها كدبلوماسية بامتياز. تكلمت عدة لغات من الدول التي قد عملت فيها. تحدثت عن وظيفتها في محكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا بشغف غير عادي. قالت لي: «تركتُ جزءً من قلبي في سراييفو». أما قلبي فدق دقة قوية جدا في تلك اللحظة.

صعدنا معا تلالا متواضعة شمال المدينة. رأينا قطارا قديما صُنع خلال عصر الاستعمار البريطاني. هربنا من ضجيج مغنيات «الجاز». وتكلمنا بلا نهاية عن الأدب الأمريكي والأطعمة العالمية ومستقبل الكون.

جاء عيد ميلادي. أهدتني قصائد بابلو نيرودا مكتوبة على أوراق ملونة. في الليل ذهبنا إلى مطعم لبناني. بعد أن تناولنا كنافة نابلسية لم أستطع أن أرفض الحقيقة أنني غارق في العشق.

قلت لها وكنا جالسين في سيارتي خارج بيتها: «أنت مثالية بالنسبة لي». كان الهواء مليء برائحة ياسمين من اسورة الزهور حول معصمها. ابتسمت بهدوء.

منذ أيام الطلاق قد أصبح التشاؤم استراتيجية حياتي. كنت أتوقع الأسوأ في كل حالة. لما غادرت آنا في رحلة عمل سقطتُ في اكتئاب عميق ومألوف. كنت مقتنعا أن الشجن لا مفر منه.

* * *

يوم من الأيام عانت مدينة دلهي من قسوة الطاغية الظالم الذي شعر بالحسد من شعبية الصوفي نظام الدين. فأرسل إليه تهديدا من ميدان الحرب: «غادر فورا من دلهي أو مت».

كان رفقاء ومريدي نظام الدين مضطربين. ولكن كان الشيخ مطمئنا تماما. قال بطريقة صوفية: «دلهي بعيدة الآن». لم يفهمه أحدا.

انقلبت خطة الطاغية، ففي طريقه إلى دلهي واجه فيلا مجنونا وفاضت روحه.

لقد أصبح قول نظام الدين «دلهي بعيدة الآن» مثل معروف ينبه الإنسان إلى خطر الثقة بالخطط حتى ولو كانت رغبته بسيطة وقابلة للاسترضاء.

في تلك الأيام بدت آنا بعيدة جدا عني.

* * *

أرسلتُ لها رسالة إلكترونية تحتوي على قصائد حب وحنين. ظننت أن سيساعدني شعراء المنفى. كتبت: «بغيابها كونتُ صورتها / أنا هنا أزن المدى بمعلقات الجاهليين». أضفت: «يبدو أن قد انتهى نهار الفراق».

التفاعل بين الوصل والفراق مفهوم شائع في شعر التصوف. مفهوم آخر هو الغموض المستمر بين المعشوق الأرضي والسماوي الذي استخدمه بعض المجددين كرمز للوطن. لم يكن هدفي وطن أو إله. أردتُها.

عادت آنا وأعطتني ثقة بالشعراء. قدمتُ لها طلب الزواج. فقبلته وجعلتني أتذكر أن القوال قد غنى: «يا نظام الدين! إنك تضيء العالم».

بزغ فجر يوم الزفاف. فعلا كان العالم مضيئا. أينما نظرنا وجدنا زهور وقناديل وقهقهات. رأينا ألوانا مبهرة. ارتدينا ملابس غير مريحة. تناولنا وجبات لا نهاية لها. من بين الضيوف كانت ثمة شخصيات معروفة في عالمنا الدبلوماسي لاسيما السفير الوسيم والسياسي الثرثار واللواء العظيم مع شاربه الأعظم. لم يرقص أي منهم.

شكرتُ القوال الكريم والصوفي الراحل على قسمتي غير المتوقعة وغير المستحقة.

* * *

تلقت آنا دعوة إلى مؤتمر في دلهي. فاقترحتُ عليها أنها تزور مزار نظام الدين للدعاء له.

قالت لي ضاحكة: «لم أتصور رجل غير متدين يؤمن بالخرافات».

الصوفيون كرماء حتى ولو ماتوا. كل يوم مزار نظام الدين مليء بالمساكين الذين يحتاجون إلى وظائف وصحة وأولاد. لم تكن وظائفنا الحكومية في خطر. لذلك قررنا أنها تطلب من نظام الدين طفل لنا والشفاء لخالتي التي كانت مريضة بالسرطان.

إذن، فعلت. فأخبرها ولي المزار ان نظام الدين يستمع إلى الجميع حتى لامرأة أمريكية فقدت إيمانها.

* * *

توفيت خالتي ذلك الصيف. كانت أخت أمي الصغرى وطفلة جيلها. انتهت معاناتها لكنها تركت على قيد الحياة أحبائها الذين مازالوا يعانون من غيابها.

في شارع مزدحم ومشمس أطلق شاب النار على القوال وقتله. حسب الأنباء كان متطرفا دينيا يعتبر سفك دم الصوفي واجب عليه. لم تذكر الجرائد إذا كان القاتل صائما عندما كسر سكينة رمضان وقام بتيتيم خمسة أطفال.

قلت بشدة الحزن والغضب: «لقد فشل نظام الدين. أين مولانا وقوته؟ والله، فشل».

رشفت آنا قهوتها. انتهى الكلام ولم يبق إلا الصمت.

* * *

«محظوظ هو الذي صبغ حجابه علي». هكذا ترنم القوال في أغنيته الروحانية الأخيرة. على رضي الله عنه محبوب ليس فقط في البلدان العربية بل أيضا في جميع أنحاء العالم الإسلامي بسبب شجاعته وكرمه وحكمته.

لم ازر أبدا مزار نظام الدين. إننا نعيش في لندن الآن. علي ابننا الوحيد ونور عيوننا.

 

* قاص ودبلوماسي أمريكي يقيم بمسقط سلطنة عمان