ينطلق الباحث المغربي من أن الفكرة المسيطرة على القراءات القديمة للوحي تروم تفسيرا نهائيا يمكن تطبيقه في كل زمان ومكان، مما أتاح للبنية الكلامية الفقهية أن تظل سيدة الموقف ومحتكرة للتعاليم القرآنية. ويسعى لإبراز قراءات تحكّم العقل، قراءات تجديدية نقدية تربط النص بشروطه التاريخية واللغوية والثقافية وبالواقع ومتغيراته.

ظاهرة الوحي: هشام جعيط وحسن حنفي نموذجا

المصطفى عبدون

مقدمة
شكلت ظاهرة الوحي الحدث التاريخي الجوهري في تاريخ الإسلام حيث أدت إلى انبثاق القرآن كنص تأسيسي للفكر العربي الإسلامي، إلا أن البعد القدسي والميتافيزيقي كان العائق الأساسي دون إخضاع ظاهرة الوحي للدراسة المنهجية والعلمية، فتعالي المقدس كان هو الحائل دون البحث في حقيقة الوحي. فقد كان الدين هو هذا الجانب القدسي الذي أضفي عليه نوع من الخفاء والسمو جعله بمعزل عن كل تفكير وبحث في أصله وحقيقته. تناول الفكر المعاصر بالنقد القراءات التراثية للنص الديني على اعتبار أنها انطلقت من مسلمات لاهوتية أدت إلى أسطرة القرآن برفع عباراته إلى التعالي المقدس، واضعة إطارا اجتهاديا لا يخرج عن منظومة النص والانتظام وراءه، هذا بالإضافة إلى أن الفكرة المسيطرة على هذه القراءات هي إمكانية تفسير القرآن تفسيرا نهائيا وصحيحا، يمكن تطبيقه في كل زمان ومكان، وفي هذا ضرب من التقديس للتراث التفسيري، أتاح للبنية الكلامية الفقهية أن تظل سيدة الموقف ومحتكرة للتعاليم القرآنية.

وهكذا، ظهرت في مقابل ذلك، قراءات تجديدية نقدية تسعى إلى تجاوز طابع التقديس عن النص القرآني، وربطه بشروطه التاريخية واللغوية والثقافية، تهدف إلى نزع كل خطاب إيديولوجي عن كل تركيباته الفكرية والعقائدية، وتأخذ بعين الاعتبار الواقع ومتغيراته، وتستلهم العلوم الاجتماعية والإنسانية، وعلم الأديان المقارن، والأنثروبولوجيا الدينية كمناهج علمية.  فهذه القراءة ترفض المصادرة التقليدية بصدد وحدة النص والمعنى مؤكدة على التفاعل الجدلي بين النص والقارئ، آخذة بعين الاعتبار أفق انتظاره، فهي عملية نقدية تروم تحليل المعرفة وفحص أسس التفكير وآلياته وبحثا في كيفية إنتاج المعنى وقواعد تشكيل الخطاب، عبر منهج تفكيكي حفري في طبقاته الرسوبية يخترق مناطق محرمة ويزحزح قارات باتت منسية عبر فعل التأويل لإرجاع غرابة المعنى إلى الألفة ودس الغرابة في الألفة.

يغدو النص الديني حسب التيار التحديثي، ممارسة خطابية خاضعة لآليات التأويل القائمة على التفكيك لأجل فهمه ليؤكد على ضرورة النظر إلى النص على أنه مجموعة متراكمة ومتلاحقة من العصور والحقب الزمنية كطبقات الأرض الجيولوجية. ولا يمكن أن نتوصل إلى فهم حقيقة عمق هذه الطبقات إلى القرون التأسيسية الأولى إلا باختراق الطبقات السطحية والوسطى رجوعا في الزمن إلى الوراء. والتفكيك يمثل آلية مهمة لاختراق وتعرية طبقات النص، التي حاولت أن تختفي من وراء النظريات المختلفة، والتشكيلات الإيديولوجية المتنوعة، لأجل نزع البداهة ورداء القداسة على النص.

تنحو هذه الدراسة إلى الاقتراب من إحدى أهم الإشكاليات الفكرية التي هيمنت على تاريخ الفكر الإسلامي قديما وحديثا، أعني بذلك مسألة التعامل مع الوحي في ضوء مقتضيات العقل والعقلانية. وقد شغلت هذه المشكلة المفكرين والفلاسفة والأصولييـن في حقب متلاحقة من التاريخ الإسلامي، وتم التعاطي معها بأساليب مختلفة وزوايا متباينة، تبعا لملابسات المرحلة التاريخية ومعطياتها الثقافية.  وإذ نعود إلى مطارحة هذه الإشكالية، فإننا لا نروم مقاربتها من منطلق أصولي– ديني أو فقهي، يعنى بالقواعد والنظريات، وإنما نحاول دراستها في بعدها الفكري الخالص، منطلقين من آراء وأطروحات بعض المفكرين العرب المعاصرين الذين اهتموا بالتفكير في النزعة العقلية بوصفها نزعة أصيلة في الإسلام والثقافة الإسلامية، فضلا عن كونها ذات بعد إنساني وكوني. 

تمّ إثراء المكتبة العربية خلال السنوات الأخيرة بمؤلفات عديدة تناولت بالدرس قضايا هامّة تتصل بالمسألة الدينية، وقد تزايدت تلك الإصدارات في علاقة وثيقة بتنامي الدعوات إلى دراسة المقدس الإسلامي وفق مقاربات منهجييه جديدة متنوعة، تتطرق إلى هذه المواضيع دون السقوط في التكرار واجترار الاجترار. فهي تتوسل الانفتاح على المناهج الحديثة وتهتدي بهدي علم التاريخ، والأنثروبولوجيا، والفلسفة وعلم الأديان. غاية هذه الدراسات هي ولوج المناطق المحظورة على التفكير، إذ تمثل مناسبة لتطارح تلك القضايا من جديد، فالخوض في ذلك لم تـخل منه الثقافة العربية، وقد نكون اليوم في حاجة إلى استلهام الجرأة والخصب اللذين ناقش بـهما المفكرون العرب الأوائل تلك المواضيع. فمن شأن هذه الدراسات رفع العديد من الالتباسات بشأن ما علق بمفهوم "الوحي" من غموض وأسطرة ولبوسات خارقة.

وإن كانت حركة التأليف هذه لتعد إيجابية في حدّ ذاتها بغضّ النظر عن المضامين التي يحتويها هذا الكتاب أو ذاك، من حيث كونها تدفع بالحوار حول المسألة الدينية ولواحقها إلى السطح وتساهم بالتالي في كسر طوق التحريم الذي أحاط بتناول إحدى المسائل التي ظلّ يلفّها الغموض المقصود ويتعلق الأمر بظاهرة الوحي. فلا شكّ أنّ إخضاع تلك المؤلفات للنقد سوف يساهم في التأسيس لطروحات عقلانية. وفي هذا السياق سنتوقف عند بعض الأطروحات العربية المعاصرة في هذا الشأن، لنستجلي الأسس العقلية التي انطلق منها أصحابها في محاولة فهم ظاهرة الوحي حيث سيتم التطرق لها وفق مقاربات مختلفة ويتعلق الأمر بكل من: هشام جعيط (الوحي وفق منهجية تفهمية) وحسن حنفي (الوحي مسار تطوري نحو اكتمال العقل).

أولا: هشام جعيط: الوحي وفق منهجية تفهمية
لعل ما يهمنا من مقاربة هشام جعيط هو الوقوف على بعض عناصر فهم الوحي وتاريخيته من خلال التطرق لإشكالات ذات الصلة بالقرآن والدين الإسلامي والنبوة والمعجزة وغيرها من القضايا التي عالجها ضمن كتابه (في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوة)[1]، ومن ثمّة فإنّ التفكير في قضايا مثل الوحي هي مساءلة تاريخه في بداهاته ومسبقاته، فهو تفكير فيما نعتقد أننا نعرفه بداهة على حد تعبير مارتن هايدغر. فالمواضيع التي تطرق إليها هشام جعيّط في كتابه تعدّ في حدّ ذاتها وبغض النظر عن مضامينها، أمر على جانب كبير من الأهمية، فهو لم يكتب عن شخصية النبي، ولا عن الرسالة التي حملها، ولا عن الأمة التي حملت تلك الرسالة منذ المبعث، بل سيقرأ "الوحي والقرآن والنبوة" وفق قراءة تفهميه.

  1.  جعيط وقضايا المنهج

النقطة الأساسية التي يحوم حولها النزاع بين المثقفين العلمانيين، من مؤرخين وفلاسفة، وبين جميع أطياف الكتاب المسلمين، تتلخص في الموقف المنهجي الذي يختاره الباحث في دراسة الوحي والقرآن والنبوّة: موقف تقديسي أو دنيوي. ومن هنا الصراع بين العقلانية والتاريخية، التي تضع الدين في مجرى التاريخ، وبين مطلقية الدين والمعتقد كحقيقة فوق التاريخ، أي كحقيقة لا زمنية. في مقدمة كتابه "الوحي والقرآن والنبوّة" يقول المفكر التونسي هشام جعيط بأنه يرغب في إعادة كتابة السيرة النبوية بطريقة علمية مغايرة لكل السّير التي كُتبت قديما أو حديثا وفق منهج مغاير وبديل لتواريخ السيرة المكرّرة دون ملل عبر الأجيال. "فهذا الكتاب وما سيتبعه من أجزاء، كتابٌ علمي وليس بالدراسة الفلسفية، ومعطياته هي لبّ الدين الإسلامي: الوحي، الإيمان، والبعث... ومحوره هو الوحي والقرآن والنبوة، لأنّ الوحي والقرآن والنبوة هي أصل كل شيء، وقد بقيت العمود الفقري للحضارة الإسلامية على طول الزمن التاريخي".[2]

يؤكد جعيط أن تناوله للمسائل التي عرض لها في كتابه يتصف بفرادته إذ لم يسبقه إلى ذلك أي من الباحثين المسلمين وغير المسلمين، قديما و حديثا، و يصف المنهج الذي اعتمده في البحث بأنه "عقلاني تفهمّي، معتمدا على مستجدات البحث العلمي خاصة على مستوى التاريخ المقارن للأديان قصد المساهمة في "خروج العرب والمسلمين من تقوقعهم وضيق أفقهم الفكري"[3] وذلك "فالحقيقة الدينية لا يكمن مقاربتها إلا بحس رهيف وعقلانية تفهمية ومعرفة دقيقة"[4]، مشيرا إلى أن هذا المنهج من إبداعه واستنباطه، حيث يقول: "وقد حاولنا في هذا الكتاب الاعتماد على المعرفة واستنباط منهج عقلاني تفهمي. لم نجده لا عند المسلمين القدامى من أهل السير والتاريخ والحديث ولا عند المسلمين المعاصرين، وأكثر من ذلك إن المستشرقين على سعة اطلاعهم لم يأتوا ببحث يـذكر في هـذا الميـدان. وتبقى دراساتهم هزيلة، مقارنة بفحول الفكر والتاريخ في الغرب".[5]

هذا من حيث المنهج أما من حيث الأسلوب فإنه يَعِد القارئ باتّباع "الدّقة وجزالة الخطاب" ويؤكد على هذا النهج غير ما مرّة قائلا: "ابتعدتُ عن الأسلوب الوهّاج المَشوب دوما بالضبابية" [6]. لقد جعل المؤرخ التونسي من مثاله الأعلى ونموذجه، في أسلوب الكتابة، نص القرآن، والسبب الأساسي أنّ القرآن هو النص الوحيد الذي: جمع بين دقّة التعبير والكلمة المثيرة والعمق الكوسمي والوضوح الكامل البين، وهذا من أهمّ خصائصه، بالإضافة إلى كون القرآن مرجع أوّلي من حيث الأسلوب والإثارة والعمق.

يستثمر جعيط آخر ما توصلت إليه أدبيات التاريخ المقارن للأديان ومناهج التأويل الحديث. ويبدو، أن غرضه يكمن أساسا في تحصين أعماله من أي منعرج إيماني قد يؤدي به إلى التنازل أمام أطروحات الإيديولوجيا الدينية التبريرية. وهذه العملية الوقائية لها أبعاد معرفية إيجابية لأنها تفتح باب البحث العلمي وتشجّع على التحرّي وتقصي الأسباب الموضوعية للأحداث التاريخية. ولكن ما هو هذا المنهج الذي يستعمله المؤلف؟ يقول جعيط: "سيتجه مجهودنا إلى مقاربة تاريخية معتمدة على النصوص، وعلى المقارنة، وإلى مقاربة ظواهرية"[7]. ويفهم المقاربة التاريخية على النحو التالي: "ولا يعنى التاريخ هنا تقديم الظروف الخارجية لنزول الوحي كما ورد ذلك في السير والتواريخ بل استقراء القرآن أساسا، عندما يذكر ويصف تجربة الوحي لدى النبي، والقرآن هو المصدر التاريخي المعتمد الصحيح، لأنه يرمز إلى ماهية الوحي والظروف التي حفت ببدئه، وتواصله، ولا يدخل في التفاصيل الدنيوية الفارغة".[8]

ما يريد المؤلف استبعاده هو تأثير الظروف الخارجية و"التفاصيل الدنيوية الفارغة" في نزول الوحي، باعتبارها عائقا يحول دون فهم الإشكاليات التي ينصب عليها بحثه والاستعاضة عن ذلك كله بالقرآن ذاته، أي بالنص الذي يمكن استنطاقه هو دون سواه في سبيل الظفر بالحقيقة. معتبرا أن ذلك هو الضمان الذي يكفل الإفلات من قبضة التأويلات التي لا علاقة لها بالعلم، جعيط حريص على إثبات أنه لا يقدم لنا تأويلات وإنما حقائق لا تخالطها الريبة وذلك أن "القرآن يتكلم الكثير عن ذاته ويدقق هويته ويتكلم عن الوحي كما يكشف لنا لحظة التجلي، وهو يسلط أضواء قوية وساطعة."[9]

ولتوضيح توجهه المنهجي ينبئنا أنه يتوخى المقاربة الفينومنولوجية تحديدا بقوله: "التاريخية الفعلية تلعب دورا مهما في بروز الدين وتشكله وتغلغله في الأعماق البشرية ومنحه جزءا من شرعيته. فهمنا هنا لا ينحصر في المنهجية التاريخية المقارنة، بقدر ما يتجه على استقراء القرآن بمنهج ظاهري كما يعطي نفسه للقراء بدون تأول وإسقاط."[10] "فالقرآن ليس فقط وثيقة تاريخية بالنسبة للمؤرخ، والكلام المقدس الحق بالنسبة للمؤمن، بل هو ما –يجب-أن-ينصت-إليه في الأساسي والجوهري."[11]

2- انطلاق الوحي والنبوة وتنزيل القرآن
كلمة "وحي" موجودة في عديد من المرات في القرآن لوصف ماهية الخطاب القرآني وعلاقة الله بالنبي محمد والإلهامات الموجهة إلى الأنبياء من قبله، "إن الوحي هو ما يأتي بعد التجلي الذي هو إدراك من جهة، وانكشاف من جهة أخرى وحدث فقناعة."[12]  فالتكشف يبدو في المسار النبوي، حدث الانطلاق الاستثنائي والوحي سيأتي بانتظام. فكيف تمت عملية الانطلاق من خلال التكشُّف والتجلّي والتلاقي مع الماورائي للنبي وتنزيل القرآن؟

يتعرض جعيط بالنفي القاطع لمسألتين: حديث بدء الوحي في الغار والتشكيك في أمية النبي بهدف تخليص ظاهرة الوحي من كل مظاهر الأسطورة وربطها بالاستعدادات النفسية لشخص محمد. يرفض هشام جعيط "حديث الغار لثلاثة أسباب: أنه خبرٌ مُسند، وهو لا يرى أنّ الخبر التاريخي مقبولٌ إذا جاء مُسنداً. والسبب الثاني أنّ القرآن يتجنب التعبيرات التوراتية التجسيميةً. إن قصة الغار تشبه خبر التوراة عن صراع يعقوب[13] مع "إيل" أو "يهوه"، فالنبي محمد "تصارع" مع جبريل عندما قال له: اقرأ، فأجابه: ما أنا بقارئ، مرتين أو ثلاثاً بحسب الروايات. وهذا مُشعِرٌ بأن النبي أرغم على تقبّل الوحي، وكان يعاني من ذلك شدّة. فقد تلقى النبي الوحي بلهفة ومحبة وثقة كاملة وبسعادة نتيجة الإحساس بالقرب من الجلال الإلهي. فلحظة التلاقي والتجلي والوحي حصلت كما ورد في سورتي النجم والتكوير واضحة مفصلة. ويضيف جعيط سبباً ثالثاً للتنكّر لحديث الغار: ان نفرة النبي من المَلك في الحديث المراد بها الإشعار بأنه ما كان متوقعاً للوحي والنبوة والاصطفاء الإلهي الخالص. وبالتالي فإن قصة غار حراء وما تبعها اختلاق بحت.

أما عن مسألة أميّة النبي التي يثور حولها جدلٌ كثيرٌ منذ أكثر من مائة عام بعد أن أعاد طرحها المستشرقون، فإن هشام جعيط يرى أنّ النبي موصوف فعلا في القرآن بأنه "النبي الأمي" (الأعراف157) وبأنه نبي الأميين، "بعث في الأميين رسولا" (الجمعة،2) واعتبر المسلمون أن المقصود بذلك جهل القراءة والكتابة. إلا أنه ليس في القرآن ما يدل على عدم معرفته القراءة والكتابة. إن معنى الأميّ، والأميين: النبي غير اليهودي، والأمم غير الكتابية، لأن النبوة كانت حتى ذلك الحين في بني إسرائيل "وهذا منعرجٌ خطيرٌ جداً في مجرى التوحيدية السامية لأنه أخرج العلاقة بالإله الحق عن سُلالة الشعب المختار وتراثه مع الاعتراف بهذا التراث."[14]

كما يذكر أن لكلمة "أمّي وأميين مقابلاً بالعبرية، وهو "أمم عُلام" أي أمَم العالمين من غير بني إسرائيل."[15] وهو لا ينكر أن معنى الأميّ بالعربية مَنْ يجهل القراءة والكتابة، لكن المقصود في السياق الذي ذكره جعيط واضح وهو أنه نبيٌّ من غير بني إسرائيل، ومبعوثٌ للناس كافة أي الذين كان اليهود يسمونهم بالأميين، بمعنى غير ذوي الدين أو الوثنيين. فالأمية هنا ليست جهل الكتابة، بل جهل الكتاب المقدّس. فمن الواضح، حسب هشام جعيط أن في الزمن والوسط الذي عاش فيه، كان النبي يحسن القراءة والكتابة وأنه كان يتمتع بأوصاف النبوغ والحافظة والذكاء الوقاد. وبالتالي كان بالضرورة عالما وموهوبا حتى يفهم ما يوحى إليه ويعلم من حوله الكتاب والحكمة. فلا نبوة بدون رؤية/رؤيا ولا وحي وإلا بات علما وفلسفة.

إن القرآن يريد أن يصف التجربة الأولى كما برزت للنبي في شيء من الغموض لأنها فعلاً مباغتة وأولية. "إنّ تكشف شخصية ماورائية للنبي وانطلاقة الوحي في الوقت نفسه مذكور بصفة واضحة في القرآن في سورتي التكوير[16] والنجم[17]. وسورة التكوير أقدم من الثانية، ويبدو هذا في أسلوبها على أنها دقيقة في وصفها: فالوحي قول من (رسول كريم) أرسله الله وليس بالتالي قول الله مباشرة. وهذا الرسول (ذو قوة)، وأخيراً فإن النبي رآه (بالأفق المبين). والأرجح أن هذه الرؤية تمت في الأول، وأن قول هذا الرسول المبلغ الأمين هو الوحي القرآني، المهم هنا أن الشخص الميتافيزيقي ليس الله ذاته وإنما مبعوث منه، وأن محمداً رآه، وأن القرآن قوله لكن من عند الله.  ففي أولى الآيات تصريح أنّه بلّغه الوحي عن طريق "رسول كريم" و"مطاع ثم أمين" أي أنه مؤتمن على ما يبلّغ. وفي الثانية ليس هناك إيهامٌ في قوله "فأوحى الى عبده ما أوحى" فالضمير في "أوحى" وفي "عبده" يعود إلى الله المُوحي، وليس إلى جبريل، بل الملك هو الواسطة. فالوحي وإن كان مصدره الله المتعالي، فإن الناقل له هو مبعوث شخصية ماورائية.

هذا المقطع أساسي لأنه يبيّن بكل نصاعة لحظة تجلي المفارق لمحمد التي تلتها فوراً لحظة الوحي، ثم تتلوها رؤية ثانية. وهنا استعمل كلمة (رؤية) وليس (رؤيا) فالقرآن لا يقصد رؤيا في المنام ولا حتى في حالة خاصة من انخطاف وغير ذلك، بل رؤية بالبصر يصدقها العقل ولا تخدع الخيال. رؤيتان في الواقع الفضائي ـ الزمني بيّنتان واضحتان تمام الوضوح وبالوعي الكامل. فهي ليست بالرؤية العادية وإن جرت في اليقظة وبكامل الوعي والهدوء النفسي ـ خلافاً لما ذُكر في السير. هي رؤيا لا بمعني الحلم لكن "بمعنى إدراك ما لا يُدرك عامةً وعادةً"[18]، أي أنا هنا ندخل في واقع لا إنساني وحقيقة تفوق الإنسانية.

ورجوعاً إلى التجلي الأولي والثاني، بعد كل هذا التحليل يؤكد جعيط بكامل القناعة عدة أمور: رؤية محمد لجبرائيل ليست من الخيال في اللقاء مع الماورائي وأكثر بكثير من السمع الخارجي وتلقّي الصوت الداخلي ليست رؤيا في المنام بل رؤية بعين الرأس. فالمشاهدة هنا مشاهدة حسّية، واقعية لكيان متموضع في المكان والزمان. فهي تكشف عن الحقيقة الماورائية مكتسبة حسب القرآن لكل شروط المصداقية. تم انطلاق الوحي عن طريق هذا الكائن الماورائي، فأوحى إليه بالأصوات المسموعة المحسوسة. إن القرآن ليس من قول محمد وإنما أتى من رسول عن الله كيفما كانت الصفة. وإذ يذكر القرآن أن التنزيل وحي وأن الوحي يجري في داخل الضمير، أي باختراق للنفس النبوية.

وقد نزه القرآن الله بصفة فريدة وجعله متعاليا بحيث لا يشاء أن يجعله هو الموحي مباشرة للنبي، فالقرآن تنزيل وقد (نزله جبريل على قلبك). ومن هذه النظرة القرآنية إلى الشخصية الإلهية المتقدمة على الأديان السابقة، يبدو من المستحيل أن يكون الله ذاته قد تجلى للنبي أو أن النبي اتصل به مباشرة في المعراج. ورجوعاً إلى مشكلة التجلي، فإن كل منطق القرآن ضد فكرة تجلي الله ذاته، وما وجد في النص المقدس من تأكيدات على كلام الله لموسى أو جدال الله لإبراهيم بخصوص قوم لوط، إنما هو استرجاع للتراث اليهودي القديم حيث كانت الأنتروبومرفيا طاغية. وقد أراد القرآن اعتماد استمرارية التوحيدية حتى تصل إلى فترة التنزيه القرآني الأسمى وعمق النظرة إلى الشخصية الإلهية وكنه الوجود. فالله هو الروح الأسمى التي تتجاوز الإنسان.  كذلك نفى القرآن بكل قوة التشخيص الإلهي في المسيح وكفر من قال بالتثليث. منطق القرآن العميق هو الرفض لكل تجسيد لأنه متقدم في العقلانية. وهذا كله يمنح رسالة محمد وجاهةً كبيرةً، وهذه حجة قاطعة بأن الله ذاته لم يتجل لمحمد في رؤيتيه. فالله لا يمكن أن يتجاوز هويته ولا أن يزيح حكمته ولا قوته ونواميسه الكونية. فالإسلام طور التوحيدية نحو روحانية أقوى وتنزيه أكبر للإله.

يعتبر هشام جعيط أنه يتوجب علينا أن نميز بين القرآن والوحي ومفاهيم أخرى أساسية أدلى بها القرآن وأولاها كلمة "تنزيل". فهناك الوحي الذي يندرج في الفضاء، وهناك التنزيل الذي يرمز إلى الفضائي الزمني من الأعلى إلى "التحت". أما المفاهيم الأخرى، مثل "كتاب" و"حكمة" و"ذكر" فتهدف إلى وصف القرآن في علاقته بالماضي التوحيدي أو البشر المعاصرين والآتين."[19] القرآن، كخطاب ورسالة دينية، مرتبط بالوحي، فما العلاقة بين هذه المفاهيم؟ هل كل قرآن وحي وكل وحي قرآن أم يتعلق الأمر بمفهومين متمايزين؟

القرآن بالنسبة لهشام جعيط هو: "نتيجة الوحي ومضمونه، والقرآن كمعان وألفاظ من هذا العالم المندرجة في الفضائي-الزمني يدرك بالإدراك الحسي والذهني، ليس إلا نسخة من "الأركتيب" الأصلي الإلهي وهذه مسألة كلامية. وليس هو الوحي بذاته، إذ الوحي هو العملية التي تم بها التبليغ إلى الرسول والتجربة التي عاشها".[20] فالوحي يجسد العلاقة الفريدة بين الله خالق كل شيء وبين البشر عبر النبي. فالنبوة هي استجابة إلى النداء الداخلي حتى ينبلج الوحي باعتباره تعريف الله بذاته، وإنذار الإنسانية باليوم الآخر عن طريق النبي يدخله في عالم روحاني هو عالم آخر تماما لكي يرجع إلى الناس ويبلغهم هذا التكشف، إذ لا يكلم البشر إلا البشر. فهو بشير ونذير وداع إلى أمر إلى الله بأمره.

يعتبر هشام جعيط أن النبي بعث للناس كافة كما أراد ذلك القرآن، يتميز بكونه يمتلك قوة استثنائية تمنحه ثقة كاملة تجعله يتلقى الوحي بلهفة ومحبة، ويعرف حق المعرفة من هو مصدره ويأتمر به، إذ الوحي تعليم وأمر آمر. ما يجعل النبي نبيا هو كونه قويا بقوة قناعته، يؤمن بالرعاية الإلهية لشخصه ومتواضعا أمام الوحي وعدم ادعائه أي معجزة ولا مقدرة ولا وضعية خاصة، فقد كان صبورا في فترات الوحي وشدة وطأتها على النفس، وتحمله الأذى أمام رفض وتعنت معارضي رسالته.

3- بين قطعيّة الأحكام وريبيّة المواقف
إن النص القرآني يتجاوز ما هو عقلي إلى ما هو فوق عقلي، ففي أحيان كثيرة نجد النص القرآني متضمنا لقضايا تتجاوز دائرة التمثل العقلي إلى دائرة الإيمان بما هو خارق. وبالتالي فإن الخطاب المبثوث في ثنايا كتاب جعيط خطاب سيكون لا محالة مشوبا بالتردّد، تخترقه كثير من التناقضات، فهو يتمسك أحيانا بمواقف إيمانية وأحيانا أخرى بمواقف تتوخى العقلانية والموضوعية.

إن المؤلف يبدو في تناوله لبعض المواضع من كتابه عقلانيا بل وعلمانيا لا يتوانى في إنكار كل ما لا يقبل التفسير العقلي السليم، مثل اعتباره قصة غار حراء قصة مختلقة، وإنكاره المعجزات، إلا أننا نراه ينزع في بعض المواضع إلى تفسير القضايا تفسيرا إيمانيا ليست له أية علاقة بالعلم و مناهجه، حين يعتبر أن الفضاء الذي ظهر فيه القرآن "اتسم بالإقناع العقلاني وابتعد عن الخوارق لأنها مستحيلة في ذاتها ومستحيل الإيمان بها في هذا الوسط، فمعجزات الأنبياء من قبل لم توجد فعلا، وإنما روي بعدهم أنها وجدت، وسرت القصة عبر التاريخ على أنها واقعة جرت، وإن المعجزة إنما حديث عن المعجزة."[21]

إن آلية الدفاع عن النص القرآني عبر تمجيد طابعه العقلاني، واستبعاد المسائل التي يثير تمثلها العقلي مشكلات تستعصي على الحل، مثلما فعل بإنكار مسألة المعجزات، كالحديث عن إنجاب العذراء دون اتصال جنسي وشق موسى البحر بعصاه وعدم احتراق إبراهيم في النار. وهذه المعجزات من صميم النص القرآني وليست مجرد حديث عن معجزات وردت في نصوص دينية أخرى. فالقرآن يقرّها وكل إنكار لها إنما يعني إنكارا للنص القرآني ذاته.

وفيما يتعلق بالصلة بين ما هو "منهج" وما هو "إيمان"، فإن جعيط يتخذ مواقف يشوبها نوع من الغموض قد تؤدي بذلك إلى تهديم المنحنى العقلاني الذي ينحو إليه، فهو يكتب قائلا: "أعجب من بعض المستشرقين. وليس كلهم الذين ليسوا بمسلمين وبالتالي نظروا إلى الإسلام والقرآن نظرة خارجية مجردة من كلّ إيمان، فاعتبروه أثرا من محمد... كل هذا طبعا في إطار نظرة وضعية غير إيمانية لنبوة النبي وإلهية القرآن"([22]).

إن المستشرقين قد جردوا محمد من كل إيمان ولم ينظروا إلى الوحي كظاهرة إيمانية. فهل يطلب المؤلف من المستشرقين أن يعتنقوا الإسلام؟ ماذا لو طالبنا المسيحيين أن نكون على دينهم إذا أردنا الخوض في المسيحية، والبوذيين أن نكون بوذيين وهكذا؟ كيف يحتج على هؤلاء وهو الذي يريد لكتابه أن يكون كتابا علميا بأنهم ليسوا "إيمانيين" وإنما "وضعيين" ويضيف: "أما بالنسبة إلينا كمسلمين معاصرين فلا تضارب بين صفة الموحى إليه -أي محمد -وحقيقة الوحي وبين صفته كشخصية فذة من طراز أعظم مؤسسي الأديان، وفي رأيي الخاص أكبرهم قامة."[23]

وإذا كان المؤلف يذهب إلى الاعتقاد أن القرآن قد ابتعد عن كل ما هو لا عقلي بخصوص شخصية محمد فذلك يعني أنه لم ينتبه إلى جوهر النبوة فهو بقوله إنّ المصداقية التاريخية للقرآن هي الابتعاد عن كل عنصر لاعقلاني بخصوص النبي بالذات، قد أغفل أن النبوة ذاتها تقع خارج فضاء العقل فهي من حيث الأساس الذي ترتكز عليه ونعني اصطفاء الله لشخص بعينه ومن شعب بعينه، لا يمكن أن تستوعب عقليا وإنما إيمانيا، و هذا ما نبّه إليه أبو بكر الرازي عندما رفض فكرة النبوة و اعتبر أن الله في غير حاجة إلى أنبياء لكي يبلغ ما يريده إلى عباده.[24]

ثم يضيف "إن لب الإسلام هو الدين، ولم يكن النبي يصبو إلى السياسة و التسلط، و الوحي و القرآن و النبوة هي أصل كل شيء"[25]، مغيّبا بذلك الوقائع الاجتماعية و السياسية التي حفت بظهور الدين الإسلامي، منكرا أن يكون لمحمد أي هدف سياسي، ثم يقوم بنقض هذه الفكرة فيكتب في موضع آخر"أما الإسلام المحمدي و قد جاء في فترة عمّت المسيحية فيها على المشرق برعاية الدولة، و كذلك المزدكية في إيران برعاية الدولة أيضا فقد كان مدينا بنجاحه الفوري تقريبا لتهميش الجزيرة العربية، و لغياب الدولة القمعية بالضرورة، لكن أساسا لتكوين جماعة مسلحة فنواة دولة، فالسياسة بكل ما تعنيه من ديبلوماسية و سلطة و حرب فمصالحة، هي التي أكسبته النجاح و الاعتراف به في الحجاز."[26]

إنه يؤكد من ناحية أن النبي لم يكن يصبو إلى السياسة وإنما فرضت عليه فرضا فخاض حروبا وعقد تحالفات وبني دولة، بل إنه يرى أن هذه الأداة الدنيوية [يقصد الدولة] بقيت تشتغل بعده عبر إطفاء الرّدة ثم انطلاق الفتوحات فصارت الدولة الإمبراطورية بعد عشر سنوات من موت محمد، أي إننا إزاء تأكيد الفكرة ونقيضها في نفس الوقت. غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ إذ يعود جعيط من جديد لكي ينسف هذه التأكيدات على الجانب السياسي من أساسها من كتابه يذهب إلى التشديد على نقيضها، فرفض الملأ المكي لمحمد لم يكن لأسباب سياسية وإنما لأسباب دينية، يقول: "إن الذي لقيه النبي من قومه ليس معارضة بالمعنى الحديث لأنه لم يكن رجل سياسة وإنما رفض وتعجيز، ورمي بأمور مشينة وحطّ من قيمة الوحي أو تكذيب."[27]

إن الرفض لم يكن فقط لأسباب دينية بشكل جوهري وإنما لأسباب أخرى اقتصادية وسياسية حيث كان ردّ الفعل سريعا. فالدراسات التي تفصل بين المسائل التراثية وسياقاتها الاجتماعية السياسية فهي دراسات تضليلية. ثم إن القول أن لمحمد هدفا سياسيا لا يحط من شأنه أو استنقاصا من قيمته كما قد يعتقد، ولا يعني كذلك طمس الأبعاد الأخرى في شخصيته، و بالتالي الأهداف الدينية و الأخلاقية و سواها. ومن ثمة فان التركيز على هذا البعد أو ذلك، وإغفال الأبعاد الأخرى، والتردد بين الأخذ بهذه الفكرة أو تلك بخصوص شخصية النبي، يعد بترا للعناصر المختلفة المتداخلة في تكوينها، وهو لا يساعد البتة على الإحاطة بها من مختلف جوانبها.

أمّا عندما نقرأ ما كتبه جعيط حول "جبرائيل"، فهو يثبت بكامل القناعة عدّة أمور: رأى محمد جبرائيل أي قوة الله بالعبرية ولذا نعت بـ" ذي قوة "و" شديد القوى" ككيان يدركه الحس معلقا في الهواء أي كشخص هوائي ورآه ثانية بـ"البصر" والأمر واضح فهي ليست رؤيا في المنام بل الرؤية بعين الرأس. ثم يسترسل في هذه الإثباتات الإيمانية والتفسيرات المطمئنة لذاتها باعتبارها قناعة لا يرقى إليها الشك فيؤوّل الكلمات القرآنية التي تتحدث عن اقتراب جبريل من محمد "وكان قاب قوسين أو أدنى" بقوله: والمقصود في رأيي مسافة رميتين وعن المكان الذي تجلى فيه جبريل يكتب قائلا: فقد ظهر بالأفق الأعلى أي في كبد السماء. هل هذه الحقائق وردت في روايات السيرة النبوية أم تفسيرات وتأويلات؟

يرى جعيط أن الجزيرة العربية لم تعرف ظاهرة النبوة قبل محمد كما لم تعرف مفهوم الإله الأوحد بقوله: في الجزيرة العربية لم يوجد أي نبي قبل محمد، هنا إذن انعدام للتقليد في هذا الميدان، كما انعدام لمفهوم الإله الأوحد، غير أنه لا يلبث أن ينفي جانبا كبيرا من هذا الكلام، فبخصوص الله مثلا نراه يقول عنه: وهو إلاه معترف به من لدن قريش كخالق للكون والمعروف كذلك أن الأحناف قد دعوا إلى عبادة إله واحد قبل محمد كمــا أن (الله) كلمة عربية تدل على إلاه قد تكـون مؤلفة من "أل" و لفظه "أله" أو منحدرة من اللفظة الآرامية "ألاها" أو "آلوهو"، واسم الله و دلالته على الإله الأوحد سابقان على الإسلام، فقد كان في البلاد العربية قبل الإسلام مفهوم مبهم بعض الشيء عن إله قدير هو الإله الأعلى إن لم يكن الأوحد. كان مركز عبادة "الله"  قبل الإسلام في جنوب الجزيرة العربية و في الحجاز.

أما فيما يخص موضوع الوحي، يُردّد جعيط نفس مقولات التراث الإسلامي والاختلاف بينهما هو في التسمية فقط: لقد غيّر كلمة "اللوح المحفوظ" بكلمة "الأركيتيب (Archétype) الأصلي الإلهي". ويضيف "الوحي لـه ضمان فـي تاريخية الروح التي ليست كأية تاريخية ففي مجال التوحيدية وحسب التقليد مرت أربعة قرون بين إبراهيم وموسى، وأكثر من عشرة قرون بيـن موسى وعيسى، وستة قرون بيـن عيـسى ومحمد، وكأن القرآن يلمح إلى ضـرورة مبعث جديد ومجدد، وأن الوقت حان لبزوغ نبوة محمد طوال هذه الزمنية، فالروح تتطلب مخاضا طويلا وسندا في الماضي يعتمد عليه ويحصل تجاوزه، وهذا شأن كل التقاليد الكبيرة".[28] إننا إزاء تفسير هيغلي للتاريخ لا يتوانى عن الإفصاح عن ذاته، فأية علاقة بين ذلك وبين المنهج الفينمنولوجي؟ أية علاقة بين الإقرار الإيماني وبين العلم؟ ألسنا هنا أمام مجرد تأويل للتاريخ أي أننا بالضبط أمام استحضار لفلسفة التاريخ الهيغلية؟

مشروع جعيط يبدو أنه مشروع جديد في مجال الدراسات العربية الإسلامية، ومنهجه العلمي المسنود بتاريخ الأديان وبالعلوم الإنسانية الغربية، لا بتواريخ المستشرقين، محاولة جادة لتقليب رفوف التراث ونقده وَنزع عنه حجاب أفكاره المسبقة. وهو عمل جريء يفتح الطريق لاستخدام العقل لمساءلة الماضي وثوابته، الأمر الذي قد يؤدّي إلى مراجعة شاملة للتاريخ الإسلامي وبالأخص لتاريخ المدوّنة القرآنية والبعثة النبوّية، وإلى هَدمٍ لمقدّسات راسخة وتَعريةٍ لخلفياتها الأسطورية وزيفها التاريخي.

إلا أنه وحسب علي حرب، أن في كلا الموقفين، أي لدى الواقعيين واللاهوتيين، لا يعترف للنص بحقيقته. بكلام آخر في كلا الموقفين تقوم الحقيقة خارج النص بمعزل عن الخطاب. مع الفارق أن النص في المذهب الواقعي يرتبط بواقع نسبي متغير غير منزه، ولهذا يكون قابلا للنقض على أساس معيار يفرق بين الحقيقي وغير الحقيقي أو بين العلمي والخرافي، في حين أن النص في المذهب اللاهوتي يصدر عن واقع مفارق ثابت منزه، ولهذا يتم تقديسه ويتحول إلى رمز يحجب ذاته وحقيقته. وهكذا يتردد النص في المذهبين بين الواقع والرمز. فإذا كان الرمز حجابا يحجب كينونة النص، فإن إحالة النص إلى الواقع هي نفي لواقعية النص. والمقصود بالواقعية أن النص يشكل في حد ذاتة واقعة تفرض نفسها على القارئ. ومن هنا قوة النص وصموده بل حضوره. والنص يحضر بقدر ما يشكل بؤرة للمعنى أو مدارا للقول أو بيئة للفهم أو ملتقى الحقائق.

ثانيا: حسن حنفي الوحي مسار تطوري نحو اكتمال العقل

إن اتفاق الدارسين المعاصرين على قدسية النص القرآني أمر لا جدال حوله لكن ما تعنيه هذه القدسية-المرجعية عند البعض لا تعنيه عند البعض الآخر، حسب اختلاف المنهج. يعتبر التراثيون عموما أن مرجعية النص تعني فهمه حسب المعاني التي ضبطت زمن نزوله وما تلا ذلك بقرنين وهذا يعني تقيد الفهم بالمستوى الذهني والمعرفي الذي كان عليه المسلمون في تلك الفترة. مؤدي هذا الفهم وسعوا من دلالة القدسية بحيث جعلوها تشمل النص الأول والثقافة المرجعية للنصوص الثانية.  في المقابل سعى التيار الحديث إلى تكوين مرجعية جديدة للنص مدخلا لاكتشافه من جديد من خلال الجدل معه، هو الجدل المفضي إلى "استمرارية الوحي" أي الارتقاء في فهم الدين باعتماد المعرفة بمجالاتها الجديدة وما يطرحه الواقع من معضلات. ينتج عن هذه الرؤية أن في كل عصر يتم فهم الماضي فهما جديدا. فالقراءة الحداثية جعلت المعنى غير ثابت فهو متغير بحسب اللحظة التاريخية وتطور المعارف ونمو التجارب الحياتية، ومن تم لا يكون المعنى شيئا موضوعيا تماما ولا ذاتيا، إنه في حالة تغير مستمر وأن التأويل "علم مفتوح".

كثر الحديث عن التراث أو الموروث أو الماضي أو التاريخ في المجتمعات البشرية، لأن التراث يشكل فيها عنصراً حيّاً تقوم عليه حياتها في الحاضر ويستمر في المستقبل، دون التجرد منه أو تجاوزه في كل الظروف والأحوال. اهتمت كتب الفكر العربي الإسلامي بالموروث الثقافي والحضاري من أجل دراسته وتحليله ونقده من منظور معاصر يحرص على ضمان ملاءمته مع المتغيّرات والمستجدات التي يشهدها العالم المعاصر. تصدّى لهذه المهمة العديد من المفكرين خاصة دعاة التجديد وأصحاب المشاريع الفكرية في العالم العربي بمشرقه ومغربه، ومن هؤلاء الباحث والمفكر "حسن حنفي" صاحب مشروع "التراث والتجديد" وهو مشروع يتصدّر الواجهة في الساحة الفكرية والثقافية العربية والإسلامية المعاصرة. فثنائية التراث والواقع أو الماضي والحاضر تدخل في المنظومة الإبستيمية والفكرية التي تؤسس لمشروعه النهضوي.

1- الثرات والتجديد، تحويل الوحي إلى علم إنساني
تمثل الفلسفة التي انبثق منها مشروع "التراث والتجديد" مبادرة جادة وجريئة، تتحدد معالمها بمواقف صاحبها تجاه قضايا وهموم ومشكلات عصره، موقفه من الأصالة والمعاصرة، والتقليد والتجديد، والعقل والنقل، والواقع وفلسفة السياسة، والتاريخ وأزمة الإبداع، وجدلية الأنا والآخر، والثورة والتثوير وهي منظومة مفاهيمية وفكرية تؤسس لمشروع في جانب التراث من حيث مفهومه ومستوياته، وفي جانب التجديد من حيث مدلوله والحاجة إليه باعتباره المشكلة الجوهر.

بدأ كتابه "التراث والتجديد" بسؤال: ماذا يعني ''التراث والتجديد''[29] كمشروع حضاري قومي. فالتراث عنده "كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة. فهو إذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات."[30] المسألة ليست تجديد التراث مادام التراث نقطة الانطلاق من خلال الوعي الكامل بالمسؤولية القومية والثقافية وما دامت الأصالة تؤسس للمعاصرة والغاية تتحقق بالوسيلة والجديد يأتي بعد القديم. فالتراث ليس مطلوباً في ذاته بل هو وسيلة لتفسير الواقع وتطويره فهو "نظرية للعمل وموجه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض وهما حجرا العثرة اللّتان تتحطم عليها كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية. "التراث والتجديد" إذن يحاول تأسيس قضايا التغيير الاجتماعي على نحو طبيعي وفي منظور تاريخي، يبدأ بالأساس والشرط قبل المؤسس والمشروط."[31]

التراث ليس هو مجرد مخزون مادي ولا مجرد كيان صوري نظري قائم بذاته، فالتراث هنا بمستويين مادي وصوري وهو في حقيقته مخزون لدى الجماهير. "فالتراث والتجديد" انطلاقاً من معنى التراث يدل على "موقف طبيعي للغاية، فالماضي والحاضر كلاهما معاشان في الشعور، ووصف الشعور هو في نفس الوقت وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الواقع الحاضر إسقاطاً من الماضي أو رؤية للحاضر، فتحليل التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في نفس الوقت تحليل للتراث... فالتراث والتجديد يؤسسان معاً علماً جديداً وهو وصف الحاضر وكأنه ماض يتحرك، ووصف الماضي على أنه حاضر معاش... يمثلان عملية حضارية هي اكتشاف التاريخ وهو حاجة ملحّة ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر."[32]

فقراءة التراث ونقده وإعادة صياغته ومحاولة إعادة بنائه وفق ما تتطلبه حاجات العصر هو الكفيل الوحيد بتوظيف التراث إيجابياً وبفعّالية في بناء الحاضر والتطلع للمستقبل، وهي مهمة مشروع "التراث والتجديد" متجاوزا النمط التراثي والنموذج اللاتّراثي. "التراث والتجديد" هو مشروع الأصالة والمعاصرة التي لم نستطع أن نحققها حتى الآن، وبعد توالي الهزائم، ولم نكن نلمسها إلا دعاية أو ادّعاء. ويشمل "التراث والتجديد" ثلاثة أقسام، تعبر عن موقفنا الحضاري الحالي الذي يحدد اتجاهات الدراسة والبحث."[33] الأقسام الثلاثة التي يتكون منها مشروع "التراث والتجديد" والتي تمثل الجبهات الثلاث، الموقف من التراث القديم، والموقف من التراث الغربي، الموقف من الواقع أو نظرية التفسير، كل قسم منها له أجزاء يكون على النحو الآتي:

التراث والتجديد

  • موقفنا من التراث القديم
  • موقفنا من التراث الغربي
  • موقفنا من الواقع
  • من العقيدة إلى الثورة.
  • من النقل إلى الابداع.
  • من الفناء إلى البقاء.
  • من النص إلى الواقع.
  • من النقل إلى العقل.
  • العقل والطبيعة.
  • الإنسان والتاريخ.
  • مصادر الوعي الأوروبي.
  • بداية الوعي الأوروبي
  • نهاية الوعي الأوروبي.

 

  • المناهج.
  • العهد الجديد.
  • العهد القديم

 

في كتابه "التراث والتجديد" يؤسس حسن حنفي نظريته الفكرية الحضارية على الأصول الأولى في الوحي والكتب المقدسة، أي ما يعادل "علوم القرآن" في تراثنا القديم، وغايته في ذلك إمكانية تحويل الوحي إلى علم إنساني شامل، لتحقيق الوحي في التاريخ، من مراحل الوحي السابقة على الإسلام (العهد القديم والعهد الجديد) مروراً بالإسلام، وانتهاءً بالعصور الحديثة. وبما أن الوحي موضوع مادي فإنه قد يتغير من كونه مادة لاهوتية إلى مادة اجتماعية، ومن علاقات غيبية إلى علاقات مرئية، والخلاصة أن" الوحي مجموعة مواقف إنسانية نموذجية تتكرر في كل زمان ومكان"[34].

يرى حنفي أن علم أصول الدين هو الكفيل بتحريك هذا الواقع، والسبب واضح في فكره؛ فعلم أصول الدين هو الذي حرك الأمة في قرونها السبعة الأولى (من القرن الأول إلى السابع)، وهو الذي جمدها في السبعة التالية (من السابع إلى الرابع عشر)، وهو الذي يمكنه إعادة تحريكها وبعثها من جديد في قرون سبعة لم تأت بعد، خاصة أن علم أصول الدين هو العلم النظري الموجه للواقع.  يبدأ حسن حنفي في حركته المتجهة بعلم أصول الدين نحو الثورة، بنقد هذا العلم، وأول نقد وجهه إليه هو تركيزه على قطبين من أقطاب الفكرة الدينية، وهما: الله والرسول، في حين غياب العنصر الأهم ألا وهو الإنسان، "فغياب المرسل إليهم كلية في هذه العلاقة الثنائية، وهم الناس والشعب والأمة وكأن هذا الطرف الثالث لا وجود له كمحور في العقائد كما لا وجود له في حياتنا السياسية المعاصرة."[35]

فالمرسل إليهم والمضمون العملي للرسالة، يشكلان المحور الأساسي لعلم أصول الدين، والرسول ليس له الأهمية التي تجعله محورا من محاور العلم مع الله، وهو لا يعدو كونه واسطة بين الله والعبد، أي أنه وسيلة للبلاغ والتبليغ، وهكذا حسب حنفي "يتحول علم أصول الدين إلى علم أصول الفقه ويصب فيه، وتعود إلى علم الأصول وحدته المفقودة بين النظر والعمل. وعلى هذا النحو لا يصبح موضوع النبوة من الموضوعات المتعالية بل يكون مسار الرسالة في التاريخ."[36]

إن مهمة الوحي تربوية محضة والغاية منه تربية الإنسانية وليس إعطاء عقائد أو إقامة شعائر أو تشييد مؤسسات. فالوحي وسيلة لا غاية. إذا تحققت الغاية أدّت الوسيلة المطلوب منها. وليس الوحي ثابتًا لا يتغير ولا يتبدل بل يتطور بتطور الزمان والمكان؛ لأنه ليس خارجًا عنهما، من اليهودية إلى النصرانية ثم إلى الإسلام، والحقيقة أن النسخ في القرآن يدل على وجود الوحي في الزمان وتغيره طبقًا للأهلية والقدرة وتبعيته لمدى الرقي الفردي والاجتماعي في التاريخ. الوحي ليس خارج الزمان، ثابتًا لا يتغير بل داخل الزمان يتطور بتطوره، وبالتالي يكون العقل عنده حاكمًا على النقل ومهيمنًا عليه، "ومن هنا يكون العقل أساس النقل ليس فقط من حيث قصد الوحي بل أيضًا من حيث مضمون الوحي والتصديق به وصدقه في الواقع"[37].

فمهمة مشروع "التراث والتجديد"، تحويل اللاهوت إلى أنثروبولوجيا، والإلهيات إلى إنسانيات، فالإلهيات عنده إنسانية، وهي وصف للإنسان الكامل ذاتًا وصفاتا وأفعالا على اعتبار "أن الوحي ليس دينًا بل هو البناء المثالي للعالم"[38]، وأنه مجرد مشروع عمل لا علاقة له بالسماء، والعمل وحي متحقق. الوحي إمكانية تحولت إلى الواقع، والواقع هو تحقيق فعلي لإمكانية الوحي. إنّ الغاية النهائية للوعي الإنساني الجديد هو تحويل الوحي إلى علم إنساني شامل وإيجاد موقف من الواقع الذي يفتقد إلى نظرية التفسير، وقيامها في المشروع يجمع بين الوحي والواقع، بين التراث وقيّم العصر، بين الدين والدنيا، وبين الله والإنسان، والنضال في جبهة الواقع غرضه تحويل التراث إلى علوم إنسانية والربط بين الواقع والوحي في وحدة عضوية داخل الإنسان وفي سلوكه الفردي والاجتماعي، وذلك "لأن الوحي بمجرد نزوله يصبح علمًا إنسانيًّا، ويتحول بمجرد قراءته وفهمه إلى علوم إنسانية".[39]

2- النبوة، مكانها، موضوعاتها، ومعناها
يأتي كتاب "من العقيدة إلى الثورة" ضمن سلسلة "من التراث إلى التجديد" ويتضمن هذا الكتاب، خمسة مجلدات تتجزأ إلى الآتي:

  • المقدمات النظرية، وتتضمن الجهاز المفاهيمي، في الجزء الأول.
  • الإنسان الكامل، ويتضمن موضوع التوحيد، في الجزء الثاني.
  • الإنسان المتعين، ويتطرق إلى موضوع العدل، في الجزء الثالث.
  • التاريخ العام، ويشمل النبوة والمعاد، في الجزء الرابع.
  • التاريخ المتعين، ويعالج محور الإمامة أي الإيمان والعمل، الجزء الخامس.

يتناول حسن حنفي موضوع النبوة والمعاد[40] في سياق استكمال المشروع العقلاني الذي بدأه علماء أصول الدين، والذي تحدثوا فيه عن محور التوحيد والعدل وبقي الفراغ سيد الموقف في مجال النبوة والمعاد، لتكون بذلك مساهمة حسن حنفي تتمة لصرح فكري تاريخي ضخم حيث يطرح نفسه في هذا المشروع، عالما وفقيها ومجددا ومجتهدا. فحركته الفكرية هذه هي تجديد من داخل الدين وليست خارجه.

يعتمد مبدأ التطور كقانون وناموس كوني، دائما يستعمل عبارة "من" "إلى": من العقيدة إلى الثورة، من الفكر إلى الواقع، من النقل إلى العقل، من النقل إلى الإبداع. يرى حسن حنفي أن الوحي لم يظهر مرة واحدة، بل على مراحل، لا توجد إذن نبوة واحدة، بل عدة نبوات متتالية منذ أول الأنبياء، وهو أول البشر آدم إلى آخر الأنبياء دون أن يكون آخر البشر، وهو محمد. يوظف حنفي هذه المقدمة للوصول إلى فكرة يرصدها العقل في ظاهرة النبوة؛ أي الحركة التي تؤدي إلى التطور، الحركة ضد السكون والتطور ضد الثبات، فالتطور والحركة هي السمة الغالبة على حركة النبوة منذ فجر التاريخ، فلماذا تتوقف هذه الحركية فجأة في المرحلة التي تسمى ختم النبوة؟

بنى حسن حنفي تصوره لموضوع النبوة بالتمييز بين العقليات والسمعيات "إذا كان الإيمان بالله يدخل في العقليات في أصل التوحيد، والقضاء والقدر في أصل العدل، واليوم الآخر في المعاد، والرسل في النبوة، لم يبق إلا الكتب وهي الموضوع الحسي الوحيد المنقول من جيل إلى جيل... الإيمان بالكتب إذن هو أقرب الموضوعات إلى الحس وأبعدها عن الغيب، كتب الوحي أو كتب التاريخ والآثار... والكتاب في متناول الإنسان. يمسكه بيده، ويقرؤه بلغته، ويفهمه بعقله، ويحققه بفعله. الكتاب إذن هو مضمون النبوة الحسي العملي. وهو مجرد وسيلة وليس غاية، مجرد أداة وليس هدفًا."[41] تشكل العقليات الشق الأول من علوم أصول الدين من موضوعة الذات الإلهية، والموقف منها إلى نظرية الصفات والذات، إلى الأفعال المطلقة والإرادية، والعقل والنقل، والخير والشر، والحُسن والقبح... وتدخل هذه الموضوعات ضمن الإلهيات التي تشمل نظريتي التوحيد (الذات والصفات)، والعدل (خلق الأفعال والحسن والقبح) أو ضمن العقليات وهي الأمور التي يمكن الوصول فيها إلى يقين عقلي والتي تعتمد على برهان عقلي بالإضافة إلى برهان النقل.

أما الموضوعات الأربع التالية (النبوة والمعاد والأسماء والأحكام)، فإنها تدخل في نطاق السمعيات التي لا يمكن الوصول فيها إلى يقين عقلي والتي لا تعتمد إلا على النقل وحده ومن ثم فهي ظنية لا يكفر منكروها. النبوة إذن موضوع في السمعيات تشير إلى تطور الوحي في الماضي، والوحي هو التاريخ، والمعاد يشير إلى تاريخ الإنسانية في المستقبل. فالنبوة أبعد الموضوعات عن التجريدات العقلية والمقولات الفلسفية وأقربها إلى اللغة الشائعة. وهي أكثر الموضوعات اعتمادا على النص والأخبار تواترا وآحادا. لذلك كان موضوع الإخبار جزءا منها. فمهمة العقل تقتصر على الدفاع عن مسلمات الإيمان وأخبار السمع. ونظرا لأهمية النبوة فإنها تخرج أحيانا من البناء النظري للعلم ومكانها الطبيعي بين التوحيد والعدل وبين الإيمان والعمل والمعاد والإمامة وتدخل في المقدمات النظرية الأولى بعد نظرية العلم ونظرية الوجود. كما تظهر لأهميتها في المقدمات إثباتا لإمكانها ضد منكري النبوة أو مثبتي استمرارها وشمولها للطبيعة.

يعتبر حسن حنفي أن النبوة تعني الخبر أو الإخبار، فالوحي يأتي من الخبر والخبر مصدر الوحي. الخبر هو الدال والوحي هو المبادئ العامة في المعرفة الإنسانية لا شخص النبي، وموضوعه حياة البشر وصالح الناس وليس شخص المرسل أو الرسول. تعطي النبوة إذن معارف وأخبارا، فهي جانب من المعرفة من أجل توجيه السلوك. وليست وظيفة النبوة الإخبار بالمستقبل، فالمعنى في ختم النبوة هو تحليل الحاضر أما المستقبل فمرهون بفعل الحاضر ومشروط باستمرارية الماضي في الحاضر، فالماضي هو مستقبل الحاضر ومستقبل المستقبل، وبذلك فالنبوة هي تحليل للحاضر لمعرفة جدل الماضي والمستقبل فيه.

هناك معان زائدة في النبوة تتحدث عن كيفية المعرفة وحدوث الوحي: إعلام الله للأنبياء إما بكتاب أو برسالة ملك أو بمنام أو بإلهام. فالوحي للتشريع وليس فقط للمعارف النظرية. لذلك قد يجيء الوحي بمعنى الأمر وبمعنى التسخير. ويكون الإلهام بمعنى الهداية والإشارة. وهذه المعاني يصعب تأصيلها عقليا وتبقى سمعية. فطريق النبوة جزء زائد على تعريفها وخارج حقيقتها، ما يهمنا هي الرسالة ذاتها التي بها صلاح العباد. وتتضمن النبوة كرسالة أربعة أطراف: مرسل وهو الله، ومرسل إليه وهو النبي، ومرسل إليهم ومرسل (بفتح السين). فالمرسل هو الوعي الخالص والمرسل (بفتح السين) هو الرسالة. وأهم طرف من هذه الأطراف الأربعة ليس هو المرسل أي الوعي الخالص فذلك موضوع التوحيد (باب العقليات)، الشق الأول في علم أصول الدين، وليس المرسل إليه أي شخص النبي فهو رسول لإيصال الرسالة، فأهم طرف في المعادلة الرباعية هي الرسالة أي التكليف والمرسل إليهم أي البشر في التاريخ.

 شخص النبي ليس أحد موضوعات النبوة ومعنى زائد في تعريفها. النبي مجرد واسطة لإيصال الرسالة من المرسل إلى المرسل إليهم. وليس جزءا من النبوة بشخصه. فشروط النبوة إذا ما توفرت عند أي إنسان يكون هو النبي. ترجع النبوة إلى الرسالة والمرسل إليهم حتى ولو كان مجهولا، وكأن المرسل إليه غائب بشخصه، اختفى بعد إيصال الرسالة وأداء الأمانة ذلك أن "مضمون الوحي توجيهات للإنسان في صيغ الكلام... هذا الكلام الحسي المقروء المكتوب المفهوم المحفوظ المحرك لسلوك الأفراد والجماعات"[42]، ولهذا تبقى الرسالة طالما بقي المرسل إليهم يحملونها عبر الأجيال ويحققونها في التاريخ، فمحور الرسالة هو البشر، فالإنسان هو الحقيقة، والله مجاز، الصفات تعود للإنسان حقيقة، وتنسب إلى الله مجازاً، لأنها في الواقع الإنساني حقيقة ثابتة.

ولكن هناك فرق بين النبي والرسول، الفرق هو بين التصور والنظام، بين العقيدة والشريعة، بين النظر والعمل. يأتي النبي بالنظر والتصور والعقيدة ولا يأتي بالضرورة بنظام أو شريعة أو يبني مجتمعا ويؤسس دولة، في حين أن الرسول هو الذي يولد النظام من التصور، ويحقق الشريعة من العقيدة، ويحول النظر إلى العمل. كما يشير النبي إلى البعد الرأسي فقط، الصلة بينه وبين الله، في حين أن الرسول يشير إلى البعد الأفقي أيضا أي الصلة بينه وبين الناس في التبليغ وحمل الرسالة وأداء الأمانة. ومن هنا أتت صفات الرسول الأربعة: الصدق والأمانة والتبليغ والفطنة. لفظ الرسول يشير ضرورة إلى الأطراف الأربعة: المرسل، والمرسل إليه، والمرسل إليهم، والرسالة. في حين لفظ النبي لا يشير إلى الأطراف الأربعة، يطالب بالتصديق فحسب بينما يطالب الرسول بالتصديق والعمل. الإيمان عند النبي مجرد إقرار وتصديق في حين عند الرسول إقرار وتصديق ونظر وعمل. فإذا كان دور النبي الشهادة على العصر بحيث قد لا ينجح في النبوة، فإن الرسول مطالب بالنجاح وبناء المجتمع والدولة والأخذ بأسباب القوة بغية الانتصار.

  1. نقد أدلة وقوع النبوة

استعمل حسن حنفي لفظ "الوحي" كشيء مادي صرف أي المدون في كتاب معين وهو القرآن، ومن ثم فهو موجود. ليس في حاجة إلى إثبات وهو بخلاف نظرية النبوة.[43]" في الفصل التاسع، يتناول حسن حنفي حدث وقوع النبوة بنفس المنهج التطوري الذي يعتقده، والذي يعبر عنه بصيغة "من، إلى"؛ حيث سينتقل من إمكانية وقوع النبوة، إلى الوقوع بالفعل. وسيدلل على هذا الأمر أي وقوعه بتفسيرات وتأويلات عقلانية، تقبل بالحدث، وترفض المتخيل التاريخي الذي يحيط به. إن النبوة التي يقصدها حسن حنفي، ليست تلك التي يعتقد فيها عامة المسلمين، وإنما هي نبوة أنتجها الإنسان وصنعها عقله المبدع. لقد عاش الإنسان تحت الحاجة والضرورة إلى النبوة عبر التاريخ؛ وأمام عجز العقل البشري على تفسير وتبرير اختياراته أو فرضها أو إقناع الناس بها، امتطى عباقرة التاريخ سفينة النبوة، ودعوا الناس لركوبها، هروبا من أمواج الواقع العاتية.

إن الأنبياء بعبقرية عقولهم، يلجؤون إلى سلطة السماء، كسلطة محايدة، لتفصل في قضايا الأرض التي ألفها الناس، وأخطرها الخضوع للبشر من الحكام، والقابلية للاستبعاد. إن النبوة هي صنيعة عقلية، لجأ إليها العقل في مهده وطفولته. النبوة في أصالتها عقل محض، لم ترم ربط الإنسان بالسماء، بل كانت غايتها تغيير الواقع، وذلك ما حدث ويشهد به التاريخ.  ولما كان الوحي في نظره يتطور مرحلة بعد مرحلة، فإنه يمكن الاستغناء عنه بالكلية، وذلك حينما تبلغ البشرية مرحلة النضج العقلي، يستقل الوعي البشري عقلًا وإرادة، ويصبح الدين تعبيرًا عن الفطرة، والوحي مطابقًا للواقع، فلا يحتاج إلى إله يتدخل في إرادته، ولا إلى وحي يوجهه، ولا إلى نبي يعلمه. يؤكد حسن حنفي في كل خطوات بحثه أن النبوة هي طريق لإيصال الوحي، والوحي هو العقل، ولا حاجة إلى دليل لإثبات النبوة أو إثبات صدق النبي، إلا اتفاق الرسالة مع العقل. وبالتالي، فإن كل ما يتعارض مع العقل، هو من أفاعيل الأساطير وتأثيرات الخيال. فإن وقوع حدث النبوة، يكتسي إمكانيته نظرية جلية، كما أن استحالته عقلا مرفوضة، فإمكانية وقوع النبوة ممكنة عقلا ونظرا.

لكن الإشكال الذي يعترض حسن حنفي وهو يدلل على إمكانية وقوع النبوة نظرا وعقلا، هو ما الذي يبرر تعاقب النبوات، وما الذي دعا إلى استكمالها وختمها؟ يعتبر حسن حنفي أن عجز العقل عن الإحاطة بالعلم الكافي حول ظواهر اجتماعية ما أو سياسية، كانت تدفع العقل دفعا إلى التنبؤ بظهور نبوءات جديدة، قادرة على الإجابة والتجاوب.  وهذا في نظر الكاتب استنباط عقلي محض، يتماشى ونظرية التطور الحتمية التي يندرج في سياقها حدث النبوة. أما استكمال النبوة وختمها فهو إيذان باستكمال العقل وانتهاء الحاجة إلى الخارج، هو عودة إلى نقطة البداية، حيث مصدر الوحي ومنبعه وهو العقل، لكن في حالة نضجه وتمامه واكتماله، يقول "ولا يعني اكتمال الوحي إلغاء الرسالات وإعدام الأنبياء، بل يعني أن العقل وريث الوحي، وأن الوحي قد أكمله وبه استقل الشعور."[44] بعد تدليل حسن حنفي على إمكانية وقوع النبوة نظريا وعقليا، سينتقل إلى الوقوع الفعلي لهذه النبوة، والتي تَمْثُل أمامنا كأحداث تاريخية ومنقولات نصية. إن هذا الطابع للنبوة، دفع الكاتب إلى الوقوف على أمرين: الأول وهو الجانب التاريخي لحدث النبوة. والثاني هو صحة المنقولات والروايات. واعتبارا لذلك سيفند حنفي أربع أدلة تقليدية على وقوع النبوة، متوخيا بذلك تخليص الدليل العقلي وجعله فوق كل الاعتبارات النقلية. وهذه الأدلة هي:

  •  أخبار الكتب السابقة.
  •  أحوال النبي قبل البعثة.
  •  المعجزات المصاحبة للنبوة.
  •  الإعجاز بالمعنى الجديد.

تطبيقا لقاعدة الإرجاع العقلي في حدث النبوة، سيعتبر حسن حنفي أخبار الأنبياء السابقين، مسألة طبيعية؛ ذلك أن كل مرحلة هي حتما تخبر عن مرحلة لاحقة، وهذا بديهي للعقل، فالوسيلة تتوخى الغاية، والعلة تتغيى المعلول، والمقدمة تتجه نحو النتيجة، والافتراض يسير نحو القانون. أما ما يتعلق بتفصيل الأخبار في الكتب السابقة عن أوصاف النبي وزمن نبوته فهو ضرب من ضروب الإيهام على الصحة التاريخية للحدث، أي شكل من أشكال إضفاء المصداقية عليه.  ثم ينبه حنفي إلى أن الأخبار السابقة هي مجرد إسقاط على واقعة ما وليست إشارة مباشرة إليها. كما لو قال لك شخص سوف يحصل لك حدث مهم، فإنك سَتُسْقِطُ الإخبار على حدث ما وتجعله ينطبق عليه، ثم تقول ذاك رجل صدقت فراسته أو نبوءته. دون أن يغفل حنفي، عن الإشارة إلى أن النص المخبر عن النبوة سابقا، قابل للوضع، والتأويل، والتزييف، والكذب، فهو نص عديم الدلالة، إنما نحن الذين نضفي عليه دلالة ما.

وخلاصة القول، فإن الإخبار حسب حنفي، ليس بمعجزة، وليس خرقا للقانون الطبيعي، ولا نقضا لمجرى العادات، فهو لا ينطلي، ولا يقنع إلا أصحاب العقول البسيطة، وفي أقصى الحالات، أصحاب الديانة المعنية بتلك النبوة. أما الذين لا صلة لهم بالكتب السابقة ولا يؤمنون بها، فلا تعني لهم أخبارها شيئا. وبالتالي كيف يمكن اعتبار الأخبار السابقة إعجازا، وهي لا تعني جمهورا عريضا عن الناس. لكن يبقى لب النقد للإخبارات عند حنفي، كونها نقول ظنية يغيب عنها اليقين العقلي.

أما الدليل الثاني على النبوة، والمتمثل في أحوال النبي قبل بعثته فهو دليل مردود حسب حنفي من أصله، إذ أن تلك الفترة لا يمكن الاعتداد بها أو الاعتماد عليها وهي خارجة عن زمن النبوة. إذ كيف سندلل على النبوة بوقائع خارجة عن زمانها. كما أن ما يتحدث عنه الناس بعد النبوة من إرهاصات وعلامات وبوادر كانت منذ الصبا والشباب، إما أن تكون، بغرض التعظيم أو تكريس فكرة الاصطفاء، والكون فوق البشر، وإما أن تكون من القواسم المشتركة بين العباقرة، الذين غالبا ما يلجأ الناس إلى التدليل على نبوغهم منذ الصغر. عليه فإن حنفي يرفض كل معجزة إلا إذا كانت مصاحبة للنبوة.

أما الرسول قبل نبوته فقد كان إنسانا عاديا. ولو جاز الأخذ بما حدث للنبي قبل بعثته أنه معجزة، لسمح لنا حسب حنفي أن نعتبر كل كرامات الأولياء علامة على النبوة. ثم يعرض حنفي الأحوال المستدل بها قبل النبوة، والتي تشمل: ذات النبي، وصفاته، وما حدث له من وقائع. فالنبي كان نورا متنقلا بين أصلاب أجداده، وقد ولد وهو يضع يدا على عينيه والأخرى على سوأته، والخاتم على ظهره. كما أنه كان يتصف بالصدق والشجاعة والأمانة، فاعتبر حنفي أن هذه الصفات تنم وتعبر عن قضايا كانت تشعل المجتمع، وكذلك أوصاف الفروسية التي كانت مشتركة بين كل الناس. أما ما حدث من شق الصدر وتطهير القلب، فهي أحداث وروايات رمزية تروم ترسيخ العصمة.

وينتقل حنفي بعدها إلى الدليل الثالث، والمتعلق بحدوث معجزات النبي، ويرى أن الحديث عن المعجزات، يتناقض ومرحلة ختم النبوة، وهي مرحلة اكتمال العقل الذي لم يعد بحاجة إلى خرق القوانين الطبيعية، بقدر ما يحتاج إلى فهمها وتفسيرها. فالإسلام في نظر حنفي هو دين العقل والحرية، والنبوة هي طريق الوحي، والوحي هو العقل. وبالتالي لا مكان للمعجزة باعتبارها خرقا لقوانين الطبيعة، لأن هذا الخرق يعني هدم قوانين العقل. ولا دليل حسب الكاتب على صدق النبوة إلا اتفاقها مع العقل.

هكذا يكون حنفي قد انتقل من نقد ونقض السند إلى هدم المتن، عن طريق رفضه لأي حجة تتعارض في مضمونها مع العقل. وهكذا سيفصل حنفي بين إنكار المعجزة وإنكار النبوة. فما دامت مسلمات العقل وبديهياته هي ذاتها حقائق للوحي، وما دامت النبوة مصدرها العقل فهي لا تحتاج إلى صدق خارجي، وإنما إلى صدق داخلي وهو العقل. كما أن الاعتماد على المعجزة هو رجوع إلى الوراء، يسير ضدا على مجرى التاريخ وحتميته المتمثلة في التقدم والتطور. كما أن هذا الاستناد إلى المعجزات قد يكون مرده إلى أصحاب الديانات السابقة، الذين يحاولون الإبقاء على حظوظهم في الواقع؛ إذ أن حرية العقل واستقلال الإرادة، يدفع الإنسان إلى تجاوز المنقولات واعتماد المعقولات فقط.

أما فيما يخص الدليل الرابع، والمتمثل في اجتماع كل المعجزات في شخص النبي باعتباره، خاتم الأنبياء، فهذا ناتج عن المنافسة بين الديانات خصوصا بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية، من جهة، واعتناق أصحاب الديانات الأخرى للإسلام من جهة أخرى. فهؤلاء كانوا بحاجة إلى معجزات شبيهة بالتي كانوا يعتقدونها. كما أن بسطاء المسلمين كانوا يحاولون بيان أحقية النبي لختم الرسالات من خلال تكديس المعجزات في شخصه.  وبعد طول الإقامة، في رحاب أفكار حسن حنفي، والاقتراب منها ومحاولة استيعابها، تعاطفا وفهما، يمكن الآن، أن نأخذ مسافة، ونعيد النظر، فيما قرأناه وناقشناه، ونطرح السؤال: هل كان حنفي محقا في كل ما قال؟ أم أن هناك ملاحظات حول أفكاره المعروضة، والتي لم تعد ملكا خالصا له، بل أضحت ملكا مشاعا لكل قارئ؟

يؤكد حنفي على عدم التسليم بالوقائع في قالبها النقلي والنصي، لكنه في الآن ذاته، يوظفها تفسيرا وتأويلا، ويتخذ منها قالبا وقناة لتمرير وتوصيل أفكاره العقلية، هكذا تصبح المنقولات مرفوضة مضمونا، ومقبولة شكلا، وهذا فيه انتقائية داخل نفس المنهج غايتها الإقرار بأصل الوحي وهو العقل. ينطلق حنفي في بناءاته الاستدلالية على مسلمات تكاد تكون ذاتية خاصة عندما يؤولها، ويعتقد أن كل قارئ سوف يسلم معه بها، ويسافر معه إلى النتيجة. والحقيقة أن ثمة مسلمات غير مقبولة ومنها: "مسلمة أن الوحي أصله العقل". كيف نسلم مع حنفي أن النبوة كان مصدرها العقل وكانت تحتاج إلى معجزات خارجية، ولم تستغن عن هذه الحاجة إلا في لحظة الختم، لحظة اكتمال العقل.

قد يجوز أن ننعت حسن حنفي بازدواجية العقل: فتارة يشهر عقل الفقيه الغارق في النقل والقدامة، وتارة أخرى يستل عقل الفيلسوف المنغمس في العقلانية والحداثة. هذه الازدواجية معادلة صعبة، إذ كيف يمكن أن نفهم منقولا موروثا، بعقل حداثي نشأ في شروط وبنية مخالفة. وأيا تكن مؤاخذاتنا على حسن حنفي، فإنه تجرأ على موضوع غاية في الجلل والخطورة، فهي منطقة مقدسة ملغومة، يشفع له خاصة ما يتعلق بالنبوة والمعاد على اعتبار أن تراثنا يحتاج إلى تغريب شامل، كي نفهم من خلال العلوم المعاصرة حقيقة وقائع النبوة والوحي؛ أي إيجاد تأويلات توائم العقل وتناسب روح العصر. فالعقل وريث شرعي للنبوة (من المنقول إلى المعقول) ويجزم باستحالة تغيير الواقع بفعل خارجي (الله، المعجزة)، ويؤكد أن التغيير هو فعل إرادي إنساني محض، وبالتالي القطع مع الذهنية الانتظارية.

بدأ مشروع المفكر حسن حنفي مع ترجمته لكتاب سبينوزا "رسالة في اللاهوت والسياسة"، ولعل أعظم ما أسهم به سبينوزا هو فصل العقل عن النقل، واستبعاد كل التفسيرات الغيبية عن التفكير الفلسفي، وهذا ما يِؤكده حنفي بالقول أن علم النقد التاريخي للكتب المقدسة أحد المناهج العلمية التي وضعتها الفلسفة الحديثة، يُعتبر من أهم مكاسب الحضارة الأوربية بالنسبة لدراسة التوراة والإنجيل في القرن السابع عشر، قرن سبينوزا، لا فرق بين الظاهرة الطبيعية والنص الديني كلاهما يخضع للعقل وقواعده. [45]

كما قام الإصلاح الديني في الغرب على البروتستانتية، كشرعية لاهوتية تحريرية، تقوم على مبدأ الوجود في العالم، والعودة إلى الطبيعة، والنزعة الإنسانية (أصالة الإنسان) وما حملته من أخلاقية جديدة تقوم على العلم والعمل، والمبادرة والريادة والتفسير الوجودي (الزمني) لعلاقة اللاهوت بالناسوت، فنحن بحاجة إلى لاهوت تحرير، أو "بروتستانتية" إسلامية تقودنا إلى استعادة نهائية وكلية للواقع والإنسان على اعتبار أنه حر ومستقل وغير محدود.

خاتمة

وضعتنا هذه المشاريع الفكرية أمام التعبئة اللامنقطعة للاكتشاف والبحث عن أسرار الفكر الإسلامي، مشاريع تروم التغيير، وتجاوز المألوف حيث استطاعت أن تحرك من جديد إشكاليات الوحي والنص الديني الكلاسيكية، برؤية أكثر حداثية قصد كشف وتعرية ذلك الذي لا يعبر عنه، ولا يقوله، أو يمتنع عن قوله عبر آليات الهدم والاختراق والحفر والتفكيك من أجل فهم إخفاءات وبواطن تراثنا المعرفي. لا شك أن الخطاب القرآني بطبيعته منفتح على التأويلات الثقافية والاجتماعية والحضارية، فبفضل القراءات المتعددة وآلياتها نصبح أمام نص منفتح على الدوام إلى اللانهاية، يحتضن العديد من الاحتمالات. إن هذه القراءات تستثمر إمكانات النص وتعيد إنتاجه، فتحوله من معرفة جامدة إلى معرفة حية، بالتعامل معه كرأسمال ثقافي يمكن تحويله وصرفه، أو كحقل دلالي ثمة حاجة إلى نبشه أو كبنية لامعقولة ينبغي تفكيكها وجعلها معقولة. فالقراءة فعل سحري بسيط يلغي المادة المكتوبة ليتمكن من روح النص، وسماع صوته، إنها بمثابة عملية تقوم بفك الشفرات، وكشف الأسرار، وتعرية الرموز. لا يمكن لأي نص أن يكون نصا إلا بفعل القراءة التي يمكن أن تخصب التأويلات.

فإذا شئنا أن نقارن أوضاعنا اليوم بالماضي الكلاسيكي، نجد أن المسلمين في عصر توسعهم كانوا أكثر انفتاحا وتقبلا للنقد، ولو كان هذا النقد يتعلق بالرموز والمقدسات، فالعصر كان يتيح يومئذ للرازي أن يدافع عن أطروحته المضادة لدعوى النبوة، ويتيح للمعري أن يقول "لا إمام ولا نبي سوى العقل"، ويسمح لابن الروندي بإنكار النبوة (كتاب الزمرد) حيث تم الرد عليه من طرف الخياط المعتزلي بكتاب (الانتصار) ونقد ابن الروندي للمعتزلة (فضيحة المعتزلة)، فكان رد الجاحظ بكتاب (فضيلة المعتزلة).

في أي حال، إن العالم يتغير، ولم يعد يكفي أن نقرأ النص الديني بلغة العقل الحديث الذي تتكشف مفرداته وأدواته ومثالاته عن قصورها في تشخيص الواقع ومجابهة تحدياته. فالتنوير ليس مكسبا نهائيا بل هو كشف لا يتوقف، يحتاج دوما إلى الفحص والنقد والمساءلة. والعقلانية ليست عقلا صافيا بل هي نقد مستمر لما يدور في باطن العقل من الآليات اللامعقولة، إنها نقد ونقد النقد، كما أن مقولة العلم لم تعد تستعمل على نحو يقيني دوغمائي، فالفكر الحديث غادر منطقة اليقينيات وأخذ يتحرر من الأنساق المقفلة والمذاهب الشاملة.

وبعيدا عن كل هذه المناكفات المنهجية والتأويلية، يطل علينا ميرسيا إلياد معتبرا أن الثابت هو أن الإنسان كائن ديني، فبغض النظر عن وجود نص أو عدم وجوده، فهو يحيا ويعيش ويتحرك بمعزل عن النص الديني، داخل منظومة رمزية تؤطره وترسم ماهيته، و هو له نزوع وميل أكثر للعيش في المقدس، ويرجع ذلك حسب ميرسيا إلياد، إلى كون المقدس يعادل القوة وفي النهاية يمثل الحقيقة بامتياز، لكونه مشبع بالكينونة، فقوة مقدسة تعني في آن واحد حقيقة وخلودا وفاعلية، ولذلك فالإنسان المتدين لا يستطيع أن يعيش إلا في مناخ مشبع بالقداسة، بعبارة أخرى، إن الفرد له ميل دائم نحو الحقيقة المثالية المطلقة، والتي يمثلها المقدس السماوي. إن الإنسان المتدين متعطش للكينونة، ويرعبه السديم الذي يحيط بعالمه كامتداد لا شكل له. فبدون مقدس يشعر بنفسه مفرغا من الداخل، كما لو أنه ذاب في السديم وانتهى. حتى الإنسان الدنيوي فهو سليل الإنسان المتدين ولا يستطيع إلغاء تاريخه الخاص، أي سلوكات أجداده المتدينين، الذين كونوه كما هو عليه الآن.

وحسب ميرسيا إلياد دائما، لا يستطيع الإنسان المتدين العيش إلا في عالم مقدس، لأن هذا العالم وحده يساهم في البناء، ويوجد واقعيا، فالإنسان المتدين له حنين عميق بأن يسكن "عالما إلهيا"، أن يعيش في كون طاهر مقدس كما كان في البداية، عندما خرج من بين يدي الخالق. فظهور المقدس في المكان والزمان له قيمة كونية، فكل تقديس مكاني أو كل تكريس لمجال يعادل بناء العالم، فالعطش الأنطولوجي جعل الإنسان المتدين يرغب في أن يقيم في قلب العالم لكي يكون قريبا من المتعالي وفي اتصال بالسموات.  المطلوب بالذات هي فاعلية نقدية مفتوحة تتوجه بالأساس الى نقد "خطاب الحداثة النقدي"، كنقد مضاد وخاصة فيما يتعلق "بلاهوت التنوير" بجعله مادة للخلخلة والتفكيك وذلك من أجل تغيير خارطة المفاهيم وإعادة ترتيب العلاقة بالتدين والنص الديني بالواقع والفكر، على نحو يسمح بإعادة تشكيل مفاهيم الحرية والمعرفة والسلطة والابتعاد عن الثنائيات الضدية الحادة التي تمنح للعقل اللاهوتي شرعيته.

كما أن المطلوب أيضا هو استقصاء ما هو كائن، وما يمكن قوله في هذا الصدد أن القدسي هو نمط لوجود الإنسان، إنه شكل أو بعد من الدنيوي، وهذا ما أثبتته التجارب في المجتمعات المعاصرة للدور السري الذي تلعبه في حياتنا الجوانب الأسطورية والغيبية والقدسية، ومن ثمة يجعلنا هذا البحث أمام طرح مسألة تجاوز إشكالية القراءة وتأويل النص الديني في الفكر العربي المعاصر نحو تناول ومعالجة إشكالية أشمل وأوسع وأعمق، تتصل على الخصوص بالمسألة الدينية في الفكر الحديث والمعاصر باعتبارها ظاهرة كونية، وما ترتب عنها من مواقف عربية وإسلامية ويمكن تحديدها في: موقف الدفاع، وموقف النقد، وموقف الرفض، وموقف التجاوز، وموقف الانتقاء، وموقف التقارب، ويتعلق الأمر هنا بأوجه تفاعل الفكر العربي مع الفكر النقدي الغربي للدين.

 

باحث بمركز الدراسات في الدكتوراه كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن طفيل– القنيطرة-المغرب

 

 

[1]- هشام جعيط، في السيرة النبوية، بيروت، دار الطليعة، الطبعة الأولى 1999.

[2]- هشام جعيط، المرجع نفسه، ص8.

[3]- المرجع نفسه، ص12.

[4] - المرجع نفسه، ص7.

[5]- المرجع نفسه، ص7.

[6]- المرجع نفسه، ص7.

[7]- هشام جعيط، المرجع نفسه، ص18.

[8]- المرجع نفسه، ص26.

[9]- المرجع نفسه، ص26.

[10]- المرجع نفسه، ص27.

[11]- المرجع نفسه، ص26.

[12]- المرجع نفسه، ص22.

[13]- بخصوص صراع يعقوب (تكوين، 23، 32)، لقد حصل بالليل مع رجل تبين أنه "إيل" ذاته لأنه لا يحتمل النهار والنور، وهو الذي سماه إسرا-إيل لأنه تصارع مع الله ومع الناس وغلب. وقد رفض الإله أن يكشف عن إسمه.

[14]- هشام جعيط، في السيرة النبوية، بيروت، دار الطليعة، ص44.

[15] المرجع نفسه، ص43.

[16]- إنه لقول رسول كريم (1) ذي قوة عند ذي العرش مكين (2) مطاع ثم أمين (3) وما صاحبكم بمجنون (4) ولقد رآه بالأفق المبين (5) وما على الغيب بضنن (6) وما هو بقول شيكان رجيم."

[17]- "والنجم إذا هوى (1). ما ضلّ صاحبكم وما غوى (2). وما ينطق عن الهوى (3). إن هو إلا وحي يوحى (4). علّمه شديد القوى (5). ذو مرة فاستوى (6). وهو بالأفق الأعلى (7). ثم دنا فتدلى (8). فكان قاب قوسين أو أدنى (9). فأوحى إلى عبده ما أوحى (10). ما كذب الفؤاد ما رأى (11). أفتمارونه على ما يرى (12). ولقد رآه نزلة أخرى (13). عند سدرة المنتهى (14). عندها جنّة المأوى (15). إذ يغشى السدرة ما يغشى (16). ما زاغ البصر وما طغى (17). لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)".

[18]- هشام جعيط، في السيرة النبوية، بيروت، دار الطليعة، ص57.

[19]- هشام جعيط، في السيرة النبويةـ بيروت، دار الطليعة، ص17.

[20]- المرجع نفسه، ص17-18.

[21]-  هشام جعيط، في السيرة النبويةـ بيروت، دار الطليعة، ص29.

[22]- المرجع نفسه، ص47.

[23]- هشام جعيط، المرجع نفسه، ص47.

[24]- يقول الرازي "من أين أوجبتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم، وفضلهم على الناس وجعلهم أدلة وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ذلك ويشلي بعضهم على بعض، ويؤكد بينهم العداوات ويكثر المحاربات ويهلك بذلك الناس". انظر، من تاريخ الإلحاد في الإسلام، عبد الرحمن بدوي، مركز ع الرحمان بدوي للإبداع، ط.،1 القاهرة، 1945، ص.189 .

[25]- هشام جعيط، في السيرة النبويةـ، بيروت، دار الطليعة، ص9.

[26]- المرجع نفسه، ص11.

[27]- المرجع نفسه، ص85.

[28]- هشام جعيط، في السيرة النبوية، ـ بيروت، دار الطليعة، ص12.

[29]- حسن حنفي: التراث والتجديد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة 5، سنة 2002، ص13.

[30]- المرجع نفسه: ص13.

[31]- المرجع نفسه: ص ص13-14.

[32]- حسن حنفي: التراث والتجديد، المرجع نفسه، ص ص19-20.

[33]- المرجع نفسه، ص176.

[34]-حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة(1/86،87)، دار التنوير، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1988.

[35]- حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة (1/88).

[36]- المرجع نفسه (4/279)

[37]- حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة (1/368)

[38]- حسن حنفي، التراث والتجديد (101 )

[39]- حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة (1/262)

[40]- حسن حنفي، الفصل التاسع من العقيدة الى الثورة، المجلد الرابع النبوة-المعاد ص108.

[41]- حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة (4/279)

[42]- حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة (2/477)

[43]- حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة (1/539)

[44]- حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة (4/124)

[45]- باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، مؤسسة هنداوي، 2020.