تنطوي أوراق محمود الورداني على سيرة التحرر من الماضي وصيغه المستنفدة، والتحول باتجاه رؤية جديدة للعالم، تؤسس لوعي مغاير بالفن وجماليات التغيير، كما يشير إليه العنوان الدال على الحلم بتحقيق ما يعتبره البعض مستحيلاً والإصرار على ذلك.

محمود الورداني يعيش هاجس هزائم الستينيات العربية

عـلي عـطا

 

في كتابه "الإمساك بالقمر... فصول من سيرة زماننا"، يستعيد محمود الورداني حقبة زمنية "زاخرة بالوعود والانكسارات"، طارحاً همومه الأدبية التي شغلته ورفاق جيله الذين اكتووا بنار هزيمة 1967، التي "هُزِمت معها أحلام وآمال وأيام ومستقبل جيل الستينيات، وما تلاها من موجات، من بينها موجة السبعينيات التي أنتمي إليها، في رهاناتها الواقعية للتقدم وتحدياته واتجاهاته.

غير أننا لا نقرأ فيها تأريخاً ولا سيرة ذاتية ولا سيرة لجيل، بل هي ذلك كله، مضفوراً بالبدايات الباكرة والتشكل والمعارك والأحلام والتجارب الكبرى والدور الذي لعبته السياسة تحديداً. لا نزال حتى الآن نعيش تداعيات تلك الهزيمة المروعة، وما زالت الأسباب التي أدّت إليها مستمرة، وما زالت النظم التي كانت تحكم آنذاك، بعد مرور أكثر من نصف قرن هي ذاتها، حتى مع حقيقة أن حكام الهزيمة قد رحلوا.

يعتبر الكاتب نفسه من موجة انبثقت من جيل الستينيات يسمّيها موجة السبعينيات. صاحب رواية "نوبة رجوع" انطلق من تلقّيه خبر وفاة المخرج السينمائي محمد كامل القليوبي الذي شهد منزله أول اجتماع خلية سرية حضره الورداني في بدايات 1970. وحين شرع في الكتابة، لاحظ كم أن جرح هزيمة 1967 كان غائراً، ومن ثم وجد نفسه متجهاً إلى تلمّس مناخ الهزيمة وتداعياته، خصوصاً على المستوى الإبداعي. ويقول: "سيجد القارئ أن التجارب الكبرى التي أتيحت لي، مثل مشاركتي في الحركة الطلابية عام 1972، ثم في حرب 1973، ونفيي إلى الوادي الجديد (جنوب مصر) منذ عام 1978 وحتى صيف 1980، لا ترِد بوصفها تجارب شخصية فقط، بل أيضاً بوصفها تجربة أبناء السبعينيات الذين انتميتُ لهم في تجربتي الأدبية"

هناك أيضاً عدد من البورتريهات التي رسمها الورداني في هذا الكتاب "لمن عرفتهم وأتصور أنهم كانوا مؤثرين على نحو خاص، ووقائع أتمنى ألا أكون قد نسيت بعضها، إلى جانب طرف من وقائع انتمائي السياسي الذي قادني لفترات من الهروب أو السجن، على مدى سنوات عدة تبدأ بعد الهزيمة وتتوقف بعد خروجي من السجن عام 1982".

مرحلة البدايات

يبدأ محمود الورداني كتابه بفصل عنوانه "دنيا عبد الفتاح الجمل"، ويعود فيه إلى بداية تبلور أفكاره "الناصرية"، عندما كان في الـ17 من عمره، وقد تزامن ذلك مع وقوع هزيمة 1967، ومن ثم مع ولادة علاقة الورداني بالسياسة والكتابة على حد سواء. وفي تلك الحقبة الزمنية، نمت بذرة تأثر الورداني بخاله الشاعر فتحي سعيد، وكان مشهوراً في ذلك الوقت، وقد أتاح له الاطلاع على ما تحتويه مكتبته، فضلاً عن أنه اطلع على تجاربه الأولى في الكتابة. وظهر في تلك البدايات تأثر الورداني كذلك بشقيقه الأكبر الصحافي عبد العظيم الورداني الذي كان يطلع صديقه الكاتب خيري شلبي، على ما يكتبه الأخ الأصغر وهو بعد في السنة النهائية من مرحلة الدراسة الثانوية.

أما عبد الفتاح الجمل الذي ورد اسمه في عنوان ذلك الفصل، فهو الصحافي الذي يدين له كثير من شباب كتاب تلك الفترة بمساندته لهم عبر نشر إنتاجهم في الملحق الأدبي لجريدة "المساء". يقول الورداني: "لا أتذكر الملابسات التي قادتني لمكتب الجمل، وما أتذكره جيداً أن أصدقاء عبد العظيم (يقصد أخاه الأكبر) أعجبتهم قصة كتبتها، فرشحوها للنشر في الملحق الذي يشرف عليه الجمل، وبالفعل نشرها، بتاريخ 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1968 وذهبت لأشكره على ذلك وأعرّفه بنفسي". كان الورداني في تلك اللحظة قد أنهى دراسته الثانوية والتحق للتو بمعهد الخدمة الاجتماعية. ويرى الورداني أن الجمل "استطاع بالمساحة المحدودة التي كان يتحرك فيها أن يحوّل ذلك المكان إلى معطف خرجت منه التجارب الجديدة في القصة القصيرة والقصيدة، خصوصاً قصيدة النثر التي لم تكُن تلقى اهتماماً في سائر المنابر"، ص 20.

في الفصول التالية، يواصل محمود الورداني سرد محطات مهمة في حياته ومنها الانتماء إلى تنظيم يساري سري، رابطاً إياها بأحداث صاخبة شهدتها مصر منذ هزيمة 1967، منها ما أسماه السادات "ثورة التصحيح" وحرب 1973 وانتفاضة الخبز عام 1977 وزيارة القدس وإبرام معاهدة السلام مع إسرائيل، وصولاً إلى اغتيال السادات على يد تنظيم ديني / عسكري متطرف في خريف عام 1981، وتولّي حسني مبارك الحكم خلفاً له

إنها كما يقول الورداني نفسه "سنوات التطاحن بين منظمات اليسار السرية". وهي أيضاً الأعوام ذاتها التي شهدت - للمفارقة - ازدهار الحركات الإسلامية التي خرج معظمها من عباءة جماعة الإخوان المسلمين، واتحد اثنان منها على فكرة اغتيال رئيس الدولة، ومن ثم الاستيلاء على الحكم

الحرب وما تلاها

وتخللت تلك الأعوام فترة التحاق الورداني بالخدمة العسكرية عام 1972، التي تناول جوانب من خبرته خلالها في مجموعته القصصية الأولى "السير في الحديقة ليلاً"، وروايتيه "نوبة رجوع" و"بيت النار". وأثناء تلك الخدمة، شهد الورداني حرب 1973، ولكن في خطوطها الخلفية البعيدة نسبياً من جبهات القتال. كانت مهمته أثناء الحرب تنحصر في تولّيه مع زملاء له نقل جثامين الشهداء إلى المقابر لدفنها. هذه الحرب وما تلاها من خطوات نحو ما يُسمّى بـ"السلام" مع إسرائيل، أوقعت الورداني وجيله في تناقض مذهل، بتعبيره. يقول: "عشنا أقصى ما يمكن من الاضطراب والحيرة، بسبب تلك النتائج الهزيلة لحرب بدا أننا قد انتصرنا فيها بالفعل، وبسبب الانحراف المخيف في مسار البلد بعد انتهاء تلك الحرب". ومن مظاهر ذلك "الانحراف"، استخدام جماعات الإسلام السياسي وتمويلها وتسليحها لتصفية المعارضة اليسارية، بحسب الورداني، من ناحية، وشن حملات دورية لاعتقال رموز تلك المعارضة وغالبيتهم مثقفون بارزون، ومنهم المخرج السينمائي محمد كامل القليوبي والفنان التشكيلي عز الدين نجيب والصحافي صلاح عيسى والشاعر أحمد فؤاد نجم والملحن والمغني إمام عيسى.

بعد انقضاء مدة خدمته العسكرية التي بلغت نحو أربع سنوات، عاد الورداني إلى النشاط اليساري السري، وقد تزامن ذلك مع تعيينه اختصاصياً اجتماعياً في مدرسة إعدادية. وفي تلك الأثناء، كان قد أصبح أكثر وعياً بجذور انسداد الأفق السياسي في البلاد. يقول الورداني في الفصل العاشر من الكتاب: "العلاقة بين المثقفين والنظام السياسي ازدادت تعقيداً بعد هزيمة 67، لكن جذور المشكلة تعود إلى أن نظام يوليو (تموز) سعى منذ وقت مبكر للسيطرة، وبادر بتأميم الصحافة، بل إن عضوية الاتحاد الاشتراكي، وهو التنظيم السياسي الوحيد، كانت الشرط الأساسي لتولّي أي منصب طوال الحقبة الناصرية. جوهر ذلك لم يتغير في عهد السادات في ظل استمرار تأميم الصحافة وإحكام السيطرة على السينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون"، ص 150. وسرعان ما سيترك الورداني الوظيفة الحكومية، ليلتحق بالعمل في مؤسسة "أخبار اليوم" الصحافية، ويشارك لاحقاً في العمل ضمن فريق جريدة "أخبار الأدب" منذ بدايات ظهورها، وهو إلى الآن يكتب فيها مقالاً أسبوعياً

وفي الخلاصة، يقدم هذا الكتاب نموذجاً لمبدع لم يسجن نفسه يوماً في قوالب تجاوزها الزمن، بل ظل مؤمناً برحابة الحرية في تطوير المجتمع وابتكار الجديد

 تنطوي أوراق محمود الورداني "الإمساك بالقمر"، على سيرة التحرر من الماضي وصيغه المستنفدة، والتحول باتجاه رؤية جديدة للعالم، تؤسس لوعي مغاير بالفن وجماليات التغيير، كما يشير إليه العنوان الدال على الحلم بتحقيق ما يعتبره البعض مستحيلاً والإصرار على ذلك، ومن ثم، فإن من المتوقع أن يواصل الورداني سرد ما عاشه بعد عام 1982 في كتب لاحقة.

وجدير بالذكر أن من أعمال محمود الورداني (1950) الإبداعية: "السير في الحديقة ليلاً"، "نوبة رجوع"، "رائحة البرتقال"، "الروض العاطر"، "النجوم العالية"، "في الظل والشمس"، "طعم الحريق"، "أوان القطاف"، "موسيقى المول"، "الحفل الصباحي"، "بيت النار"، "البحث عن دينا"، و"باب الخيمة"، و"صمت الرمال". وله أيضا كتاب بعنوان "حدتو: سيرة ذاتية لمنظمة شيوعية"، وكتاب بعنوان "ما يمكن قوله - أوراق ليست شخصية"، وكتاب عنوانه "حكايات الحرية.

 

اندبندنت عربية